بدایه الوصول فی شرح کفایه الاصول المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين.

و بعد: فقد رتبته على مقدمة، و مقاصد، و خاتمة.

أما المقدمة، ففي بيان أمور:

الاول: إن موضوع كل علم: و هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية: أي بلا واسطة في العروض (1) هو نفس موضوعات مسائله عينا

______________________________

المقدمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على محمد و آله الطاهرين

الاول: تعريف علم الاصول و موضوعه

اشارة

(1) قد تعارف عند المصنفين ذكر أمور قبل الشروع في العلم:

منها بيان موضوع العلم، و تعريف العلم، و بيان الحاجة اليه، و ذكر مبادئه التصديقية: و هي التي يتوقف عليها التصديق بمسائل العلم، كعدم إمكان اجتماع الضدين- مثلا- التي يتوقف عليها التصديق بعدم جواز اجتماع الأمر و النهي في واحد.

و حيث إن مبادئ علم الاصول قد ذكرت مبرهنا عليها في علوم تكفلتها لم يذكرها المصنف.

و أما بيان الحاجة اليه نتركه، لوضوح توقف الاستنباط و الفقه على علم الاصول- فشرع في بيان موضوع العلم و عقبه بتعريفه.

و قبل الشروع في موضوع علم الاصول ذكر موضوع كل علم، فعرفه: «بأنه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية: أي بلا واسطة في العروض».

فلا بد من بيان العوارض الذاتية التي لا واسطة في العروض فيها.

و المراد من العرض الذاتي ليس هو خصوص العرض الذاتي المنتزع عن مقام الذات، المصطلح عليه بالخارج المحمول، كالامكان و الزوجية، لأن جلّ محمولات

ص: 1

.....

______________________________

مسائل العلم ليس من قبيل الإمكان و الزوجية، فالمراد من العرض الذاتي ليس هذا، بل المراد منه ما هو أعم من ذلك.

و توضيح ذلك: ان العارض على أقسام تسعة:

لأنه إما أن يعرض بلا واسطة، و هو ثلاثة: لأنه إما ان يكون مساويا في الصدق مع معروضه و قد مثلوا له بالتعجب العارض على الانسان بلا واسطة، و هو مساو في الصدق للانسان. و إما ان يكون أعم كعروض الحيوان على الناطق، او يكون أخص كعروض الناطق على الحيوان، فإن أجزاء الماهية الموجودة بوجود واحد لا بد من عروض بعضها على بعض.

و إما أن يعرض مع الواسطة، و الواسطة إما داخلية، أو خارجية، و ما يعرض بواسطة داخلية اثنان: و هو ما يعرض النوع بواسطة جزئه الاعم، كعروض الحركة بالارادة على الانسان بواسطة الحيوان الذي هو جزؤه الاعم، أو بواسطة جزئه المساوي، كادراك الكليات العارضة للانسان بواسطة الناطق.

و من هنا يتضح: أن الواسطة الداخلية تنحصر في الاثنين المذكورين، لعدم إمكان وجود واسطة داخلية أخص، لعدم معقولية تركب الذات مما هو أخص منها.

و أما الواسطة الخارجية فأربعة: لأنها إما ان تكون مساوية، كعروض الضحك على الانسان بواسطة التعجب الخارج عن حقيقة الانسان المساوي في الصدق له، أو أعم كعروض التمييز على البياض بواسطة الجسم، أو أخص كعروض التكلم على الحيوان بواسطة كونه ناطقا، أو مباينا كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار.

و أما الذاتية التي وقعت وصفا للعوارض، فإن المراد بها: هي التي يكون عروضها للشي ء من غير واسطة في العروض، لوضوح انه ليس المراد من الذاتي: هو الذات و الذاتيات، فانها في قبال العارض فكيف تكون وصفا لها، لأن الذي يبحث عنه هو العوارض التي تعرض على الذات، فوصفها بكونها ذاتية بهذا المعنى خلف واضح، و أيضا ليس المراد من الذاتي هو ما لا ينفك عن ماهية الشي ء، كالزوجية

ص: 2

.....

______________________________

بالنسبة الى الاربعة، لأن جملة العوارض التي تعرض موضوعات العلوم المبحوث عنها ليست كالزوجية بالنسبة الى الاربعة. فان الاحكام- مثلا- هي العوارض التي تعرض موضوع علم الفقه، و هو فعل المكلف و ليست هي كالزوجية بالنسبة الى الاربعة. فالوجوب- مثلا- ليس كالزوجية بالنسبة الى الاربعة، بل المراد من الذاتية التي وقعت وصفا للعوارض هي التي لا تكون نسبتها الى الموضوع بالعروض و المجاز، و هو المراد من قوله: «بلا واسطة في العروض».

فان الواسطة ثلاثة: واسطة في الثبوت، و واسطة في الاثبات، و واسطة في العروض.

و الواسطة في الثبوت: هي العلة في ثبوت الشي ء، او في ثبوت شي ء لشي ء، كالاقتداح بالنسبة الى ايجاد النار، و كالنار بالنسبة الى ايجاد الحرارة للماء.

و قد يقال: إن العلة التي توجب ثبوت العرض لمعروضه تارة واجدة للعرض، كالنار الموجبة لثبوت الحرارة للماء، فانها واجدة للحرارة بنفسها. و اخرى تكون فاقدة لها، كالحركة الموجبة لعروض الحرارة للجسم، فان الحركة غير واجدة بنفسها للحرارة، الّا انه قد ثبت في محله ان المعلول رشح من العلة، و ان العلة هي الوجود الكامل للمعلول، و لذا يقال: إن فاقد الشي ء لا يعطيه. و اما المثال الذي ذكر و هناك أمثلة اخرى، كالبناء و البناء فهي من الخلط بين المعدّ و العلة، بل الحركة معدّ لأن يهيج الجسم حرارته الكامنة، أو تعدّه لان يأخذ الحرارة من الجو مثلا- أو من شي ء آخر.

و الثانية: هي الواسطة في الاثبات: و هي التي يكون العلم بها سببا للعلم بشي ء آخر، كالعلم بالصغرى و الكبرى الموجب للعلم بالنتيجة، و لا اختصاص لها بالعلة، بل كما انه يكون العلم بالعلة سببا للعلم بالمعلول كذلك يكون العلم بالمعلول سببا للعلم بالعلة.

و الثالثة: و هي الواسطة في العروض: و هي كون نسبة العرض الى المعروض بحسب النظر العرفي بالعرض و المجاز، و المسامحة، و العناية، و من قبيل وصف الشي ء

ص: 3

.....

______________________________

بحال متعلقه، لا بحال نفسه، كنسبة عروض الجريان على الميزاب، فانه يقال: الميزاب جار، أو جرى الميزاب، كما يقال: الماء جار في الميزاب، و جرى الماء في الميزاب، إلا ان الجريان لم يعرض الميزاب حقيقة، و إنما عرض للماء حقيقة، و وصف الميزاب به من باب وصف الشي ء بحال متعلقه و بالمسامحة و العناية.

إذا عرفت هذا اتضح: ان مراد الماتن من العرض الذاتي المبحوث عنه في العلوم و الذي هو عرض ذاتي لموضوع المسألة و لموضوع العلم: هو العرض الذي لا يكون عروضه لموضوع العلم بالعرض و المجاز و من باب الوصف بحال المتعلق بحسب النظر العرفي. و قد اشار بهذا الى رد المشهور، فانهم التزموا: بان العرض الذاتي ينحصر في ثلاثة:

- العارض للشي ء بلا واسطة، كما مثلوا له بالتعجب العارض للانسان لذاته و بلا واسطة.

- و بالعارض بواسطة جزئه المساوي، كالتكلم العارض للانسان بواسطة الناطق.

- و بالعارض بواسطة الخارج المساوي، كالضحك العارض على الانسان بواسطة التعجب.

و بقية العوارض من العرض الغريب. و هي العارض للشي ء بواسطة جزئه الاعم، كالحركة بالارادة العارضة على الانسان بواسطة الحيوان.

و ما يعرضه بواسطة الخارج الاعم كالحركة بالارادة ايضا العارضة على الناطق بواسطة الحيوان، فان الحيوان خارج عن الناطق و اعم منه.

و ما يعرضه بواسطة الخارج الاخص، كعروض التكلم على الحيوان بواسطة الناطق.

و ما يعرضه بواسطة الخارج المباين، كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار.

و قد خالفهم جمع من المتأخرين، فالتزموا: بان العارض بواسطة الجزء الاعم ايضا ذاتي.

ص: 4

.....

______________________________

و الذي يراه الماتن: ان هذه العوارض كلها ذاتية، لأنها جميعا ليست نسبتها إلى العروض بحسب النظر العرفي بالعرض و المجاز، كنسبة الجريان إلى الميزاب، و انها منسوبة اليه بحال متعلقه لا بحال نفسه. كيف و الحرارة تعرض على نفس الماء حقيقة و الحيوان الموجود في ضمن الانسان متكلم حقيقة ايضا، و الناطق متحرك بالارادة حقيقة.

و مما يدل على ما ادعاه (قدس سره): ان الوجوب و الحرمة العارضين للصلاة و لشرب الخمر في علم الفقه قد عرضا عليهما بواسطة المصالح و المفاسد- كما هو رأي مشهور العدلية- مع ان المصالح و المفاسد مباينان لهما. و على ما التزم به المشهور في العرض الذاتي تكون اعراضا غريبة، و الالتزام بكونها غريبة غريب جدا، إلّا أن يلتزموا: بان الموضوع ليس هو فعل المكلف مطلقا، بل المتغير بالمصلحة أو المفسدة، و الحال لم يصرح احد بهذا القيد.

و الذي يزيد المسألة اشكالا: ان اهل المعقول فسروا العرض الذاتي بما فسره الماتن، و مع ذلك التزموا: بان العارض للشي ء بواسطة امر أعم أو اخص داخليا كان أو خارجيا عرض غريب، لأن مرادهم من الواسطة في العروض المقابلة للعرض الذاتي ما كانت بحسب النظر الدقي لا العرفي، فان النظر العرفي يرى: ان الوصف وصف له بحال نفسه لا بحال متعلقه. فعروض الضحك- مثلا- للحيوان الذي هو جزء من الانسان ليس بحسب النظر العرفي وصفا له بحال متعلقه، و ليس هو عندهم كوصف الجريان للنهر، و ليس هذا من الواسطة في العروض. نعم بحسب النظر الدقي ليس عرضا ذاتيا، اما بحسب العرف فهو عرض ذاتي، و لذلك لو كان بحسب النظر الدقي للزم خروج جملة من العوارض المبحوث عنها في هذا العلم و غيره عن كونها اعراضا لموضوع العلم. فالرفع المبحوث عنه في باب الفاعل يعرض موضوع علم النحو و هو الكلمة و الكلام بواسطة الفاعلية و هي اخص من الكلمة و الكلام، و مثل مقدمة الواجب المبحوث عن الملازمة فيها في علم الاصول، فانها إنما يعرضها

ص: 5

.....

______________________________

الوجوب، أو عدم الوجوب لكونها مقدمة واجب، لا لكونها مستفادة من خصوص الادلة الاربعة، فالوجوب يعرضها بواسطة أمر أعم، فتكون من الاعراض الغريبة.

فتكلفوا في الجواب بتكلفات، منها تقيد الموضوع بالحيثيات بنحو الاستعداد لا بنحو التقييد بالاعراب أو البناء، لئلا يلزم عروض الشي ء على نفسه، فان المتقيد بالاعراب لا يعقل عروض الاعراب عليه. و بالاخرة الملتزم الاستاذ(1) (قدس سره) بان الالتزام:

بان لا يكون العرض غريبا بالنسبة الى موضوع العلم من باب لزوم ما لا يلزم، و اللازم من العرض ان لا يكون غريبا بالنسبة الى موضوع المسألة.

بقي في المقام شي ء: و هو ان النسبة بين الواسطة في الثبوت، و الواسطة في العروض: هي التباين، فان العرض الذي يثبت لموضوعه بواسطة علة من العلل يثبت له حقيقة، و لا يعقل ان يكون نسبته اليه بالعرض و المجاز، و إلا لم يكن ثابتا له حقيقة، و العرض الذي يكون ثبوته لموضوعه بالعرض و المجاز لا يعقل ان يكون ثابتا له حقيقة و وصفا له بحال نفسه و إلا لزم الخلف في الفرض. نعم، ربما يكون عرضا بالنسبة الى معروضين جامعا للعروض الحقيقي و للواسطة في العروض، كالجريان بالنسبة الى الماء و الميزاب فان له عروضا حقيقيا بالنسبة الى الماء، و عروضا بالمجاز بالنسبة الى الميزاب.

و بعبارة اخرى: ان الواسطة في الثبوت من صفات سبب العارض لا نفس العارض، و الثبوت من صفاته، و الواسطة في العروض من صفات نفس العارض، فلا محالة يكونان من المتباينين.

اما الواسطة في الاثبات: فهي أعم من الواسطة في الثبوت، لانه كما يكون العلم بالعلة واسطة في العلم بالمعلول، كذلك يكون العلم بالمعلول واسطة في العلم بالعلة

ص: 6


1- 4. ( 1) و هو العلامة المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني( قدس سره)، نهاية الدراية: ج 1، ص 4 حجري.

و ما يتحد معها خارجا، و ان كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي و مصاديقه، و الطبيعي و أفراده (1).

______________________________

و أعم من الواسطة في العروض، لان العرض الذي يكون نسبته الى المعروض بالعرض و المجاز يكون العلم به سببا للعلم بالمعروض و بالعكس أيضا.

(1) أي ان موضوع العلم كلي و موضوعات المسائل افراده، فنسبته اليها نسبة الطبيعي و الفرد فهو عطف تفسير، و قد اشار بقوله: «ان موضوع العلم هو نفس موضوعات مسائله» الى رد ما ذكروه في خاتمة علم الميزان: من ان موضوع المسألة ربما يكون نفس موضوع العلم، و ربما يكون مغايرا له. و قد استدل لعدم مغايرة موضوع العلم لموضوع المسائل بوجهين:

الاول: انه لا شبهة في أن محمولات مسائل العلم عوارض ذاتية لموضوعاتها، فلو كان موضوع العلم مغايرا لموضوع المسألة لكان عروض هذه المحمولات على موضوع العلم من العرض الغريب، فلم يكن البحث في العلم عن العوارض الذاتية.

و هذا الاستدلال إنما يصح جدلا على مذهب المشهور القائلين: بأن العارض بواسطة الخارج الاعم أو الاخص غريب، لا على مذاقه: من كون هذه العوارض كلها ذاتية، فانه لو فرض ان نسبة موضوع العلم الى موضوع المسألة كنسبة الحيوان و الناطق، فان العارض على الحيوان بواسطة الناطق ليس بغريب عنده مع أن مبدأ الحيوان مغاير لمبدأ الناطق، فانهما جزءان لماهية الانسان، و مبادئ لأجزاء متغايرة.

الثاني: انه لا شك ان الغرض هو الجامع لمسائل العلم و جاعلها علما واحدا و هو واحد، و لا ريب ان المسائل متشتتة و متغايرة، فان باب الفاعل- مثلا- غير باب الفعل، و الغرض الواحد لا يعقل ان يترتب على المتغاير و المتعدد بما هو متغاير و متعدد، لأن الواحد لا يصدر إلا عن الواحد، و لا يعقل ان يستند الى الكثير، فلا بد و أن يكون هناك جامع واحد لهذه المتعددات و المتغايرات يترتب هذا الاثر الواحد عليها لاجله و هو موضوع العلم الذي تكون هذه المحمولات أعراضا ذاتية له، و على

ص: 7

و المسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة (1) جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم (2)، فلذا قد يتداخل بعض

______________________________

هذا الجامع الواحد يترتب اثر واحد. فهذه المسائل إنما تؤثر أثرا واحدا، و يترتب عليها غرض واحد لانطباق الجامع الواحد عليها، و لو اثرت بنفسها بلا جامع للزم ان يترتب الواحد على الكثير بما هو كثير، و لو كان موضوع العلم مغايرا لموضوع المسألة لكانت هذه المسائل بنفسها هي المؤثرة لذلك الاثر الواحد و هو غير معقول.

يرد عليه: ان قاعدة الواحد لا يصدر الّا عن الواحد إنما هي في الواحد الشخصي، لا الواحد النوعي، و الاثر الموحد للعلم هو واحد نوعي، و بالعنوان لا واحد بالشخص، كالاستنباط- مثلا- فانه واحد بالعنوان لا بالشخص، و صدور الكثير من الواحد بالنوع لا اشكال فيه، فان الواحد النوعي و الواحد بالعنوان كثير في مقام الوجود و التشخص فلا مانع من صدور الكثير عنه.

(1) يظهر من هذا: أن العلم هو نفس هذه المسائل، فأسامي العلوم أسام لنفس هذه المسائل لا للعلم بها، و يدل على ذلك: ان العلم هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، و لا شبهة ان الرفع- مثلا- المبحوث عنه في باب الفاعل من علم النحو إنما يعرض نفس الفاعل، لا الفاعل المعلوم. فهذه العوارض عوارض لنفس موضوعات المسائل المنطبق عليها موضوع العلم، و لازم ذلك أن يكون العلم هو نفس المسائل، و اسمه اسما لهذه المجموعة، لا العلم المتعلق بها. فالنحو- مثلا- اسم لهذه المسائل المدونة في النحو لا العلم بها، هذا اولا.

ثانيا: أن العلم و الجهل يردان على مسميات هذه العلوم، فيقال: فلان عالم بالنحو أو جاهل به، و عالم بالاصول، أو جاهل به. و لو كان مسمى هذه الأسماء هو العلم لما صح هذا الاطلاق، لأن المقابل لا يقبل المقابل، فالعلم لا يعقل أن يكون جهلا بالجهل، فالجهل لا يرد على العلم و إنما يرد على متعلق العلم، و كذلك العلم

ص: 8

العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين لأجل كل منهما دون علم على حدة فيصير من مسائل العلمين (1).

______________________________

لا يرد على العلم. فاتضح ان تفسيرهم العلوم بالادراكات و الملكات من باب المسامحة.

(2) يشير بهذا الى ان الموحد للعلم و المفرد له بالتدوين: هو الغرض دون الموضوع، لأن الذي دلنا على وجود الموضوع الجامع و وحدته هو الاثر. فاذا قد عرفنا قبل معرفة الموضوع ان لنا علما له اثر، و لازم هذا ان يكون الموحد للعلم و الجامع له هو الاثر، إذ الموحد للعلم إما الموضوع، او الغرض، و حيث لا يكون الموحد هو الموضوع فلا بد و ان يتعين الغرض. هذا اذا قلنا: بانه لا بد لكل علم من موضوع جامع، و أما إذا لم نلتزم بالموضوع الواحد الجامع إذ لا برهان عليه، و لا داعي للالتزام: بان لكل علم موضوعا يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، بل هناك مسائل متشتتة إنما جمعت و افردت بالتدوين لترتب غرض واحد عليها، فانحصار الموحد للعلم بالغرض لا مناص عنه. و بناء على هذا من كون الموحد للعلم هو الغرض و هو جامعه و مفرده بالتدوين- يتضح ان المميز للعلوم هي الاغراض أيضا، دون الموضوعات، لهذا قال بعد ذلك: «و قد انقدح بما ذكرنا ان تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض الداعية الى التدوين».

(1) هذا تفريع على كون الجامع و المميز للعلم هو الغرض، فانه اذا كان المميز للعلوم هو الغرض يصح ان يتداخل علمان في مسألة واحدة لترتيب غرضين عليها. فهي بحسب الغرضين تكون من مسائل العلمين و يتداخل العلمان في هذه المسألة، بخلاف ما اذا كان المميز هو نفس المسائل، فانه اذا اختلفت المسائل كان هناك علمان، و اذا اتحدت المسائل لا يكون هناك علمان حتى يقال: انهما تداخلا، فان تداخل العلمين فرع كونهما علمين حتى يتداخلا، و متى اتحدت المسائل لا يكون هناك علمان حتى يتداخلا.

ص: 9

لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما (1).

______________________________

(1) حاصله: انه إذا كان المميز و المفرد بالتدوين للعلم هو الغرض يمكن ان يترتب على جملة من المسائل المتحدة موضوعا و محمولا غرضان، كمسألة مقدمة الواجب، و مسألة اجتماع الامر و النهي- مثلا- فانه يترتب عليهما غرض علم الكلام، و غرض علم الاصول، فان علم الكلام يبحث عن اصول المبدأ و المعاد، و الامر و النهي من احوال المبدأ، و يترتب عليهما استنباط حكم مقدمة الواجب من حيث الوجوب و عدمه، و صحة الصلاة في الدار المغصوبة، بناء على جواز الاجتماع و عدمه، فالغرض المترتب عليها في علم الكلام هو نفس صحة اجتماع الامر بالصلاة و النهي عن الغصب فيمن صلى في الدار المغصوبة، فيكون مطيعا و عاصيا بشي ء واحد، بناء على جواز الاجتماع، و عدم صحة توجه الامر و النهي اليه، بناء على الامتناع.

و الغرض المترتب عليها في علم الاصول هو صحة الصلاة و انها مسقطه للقضاء و الاعادة، بناء على الاجتماع، و عدم صحة الصلاة و لا بد من القضاء أو الاعادة، بناء على الامتناع. فلو كان هناك جملة من المسائل كهاتين المسألتين يترتب عليهما غرضان فهي بحسب كل غرض علم على حدة، فلازم ذلك تدوينها في محلين، و صحة البحث عنها في مقامين، و عدم صحة افرادها بالتدوين، و البحث عنها في مقامين مما لا شبهة في قبحه عند العقلاء، بل محاليته، للزوم تحصيل الحاصل فانه بالبحث عنه في مقام واحد يحصل الغرضان، لأن المفروض ترتبهما على نفس المسائل، و بعد حصول الغرض لا وجه للتدوين و البحث عنه في مقام آخر. و من الواضح ان هذا الاشكال:

و هو جواز التداخل في جميع المسائل إنما يرد اذا كان المميز للعلم هو الغرض، و أما إذا كان المميز هو نفس المسائل فلا يرد، لانه لا يكون هناك علمان ليتداخلا فيرد الاشكال، بل هو علم واحد يترتب عليه غرضان.

ص: 10

فانّه يقال: مضافا الى بعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين و تسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمّين و اخرى لاحدهما. و هذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فان حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسالة او ازيد في جملة من مسائلهما المختلفة لأجل مهمّين ممّا لا يخفى (1).

و قد انقدح بما ذكرنا: انّ تمايز العلوم انّما هو باختلاف الأغراض الدّاعية الى التدوين، لا الموضوعات و لا المحمولات، و الّا كان كل باب، بل كل مسألة، من كلّ علم علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له ادنى تأمل. فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع او المحمول موجبا للتعدّد (2)،

______________________________

(1) يجيب (قدس سره) عن هذا الاشكال بجوابين:

الاول: إن تداخل علمين في جميع مسائلهما بعيد جدا، بل لم نجد حتى الآن على ما في العالم من العلوم الكثيرة جدا علمين منها قد تداخلا في جميع مسائلهما، و هذا هو مراده من الامتناع عادة، فان الممتنع العادي هو الذي لم يقع مع طول الدهر و كثرة العلوم، لا الذي لا يجوز وقوعه.

الثاني: ان الإفراد بالتدوين و التسمية باسمين ليس علته التامة هو تعدد الغرض فقط، بل له شرط آخر ينضم الى تعدد الغرض و هو حسنه عند العقلاء، و المسائل المتحدة المترتب عليها غرضان لا يصح تدوينها عند العقلاء في مقامين، و لا يحسن عندهم تسميتها باسمين، و هذا ليس التزاما بالاشكال، لأن دعوانا: هو ان العلوم بعد كونها علوما عند العقلاء مفردة بالتدوين و مسماة باسمائها المميز لها و المسبب لجعل كل علم منهما علما على حدة: هو الغرض، لا نفس المسائل.

(2) قد عرفت وجه الانقداح فيما سبق في ان الغرض هو الموحّد للعلم و الجامع له و كان هو المميز له دون الموضوعات او المحمولات، و ان كان لم يدع احد: أن المميز هو المحمولات، و إنما قال بعضهم، و قيل انه المشهور: ان تمايز العلم بالموضوعات،

ص: 11

.....

______________________________

و اشكل عليهم الامر في علوم العربية، فان الموضوع فيها جميعا الكلام و الكلمة، و اجاب بعضهم: بان الموضوع فيها ليس هو الكلام العربي، بل المتقيد بحيثية الاعراب و البناء هو موضوع علم النحو، و المتقيد بحيثية الصحة و الاعلال هو موضوع علم الصرف، و هكذا في ساير علوم العربية.

و يرد عليهم: ان الاعراب إنما يرد على نفس الكلمة، لا على الكلمة المقيدة بحيثية الاعراب، فانه يلزم عروض الشي ء على نفسه. و لا يندفع الايراد بالتزام كون التقيّد داخلا و القيد خارجا، فان نفس التقيّد لا يكون إلا بعد مقيد و قيد، فيعود الاشكال من لزوم عروض الشي ء لنفسه.

نعم، يمكن الالتزام: بان الحيثية اللاحقة للكلمة و الكلام هي الحيثية الاستعدادية:

و هي كون الكلمة مستعدة لان يلحقها الاعراب و البناء، لوضوح ان استعداد الكلمة لان يلحقها الاعراب غير تقييدها بالاعراب، و هذا و ان كان تكلفا إلا انه دفع اتحاد الموضوع في هذه العلوم.

إلّا انه يرد عليهم- ما ذكره في المتن-: من لزوم كون كل باب، بل كل مسألة من كل علم علما على حدة، فان المفروض كون المميز للعلوم هو الموضوعات، مع الغض عن لحاظ الغرض. و من الواضح ان لكل مسألة موضوعا على حدة غير موضوع المسألة الاخرى به تمتاز عنها. فلازم ذلك أن تكون كل مسألة علما على حدة، فضلا عن ابواب العلم، و لا يمكن الجواب عن هذا الاشكال: بان الغرض الكاشف عن الموضوع الجامع يدل على موضوع واحد للعلم به يحصل التمييز عن العلم الآخر، فان فساد هذا الجواب واضح، لانا قد فرضنا كون الموضوع مميزا و مع الاغماض عن الغرض، و الّا كان الغرض الكاشف مميزا قبل ان يكون المنكشف به مميزا.

و يمكن ان يقال: ان الغرض المترتب على العلم لو كان واحدا شخصيا لا ينبغي الاشكال بمن يدعي التمييز بالموضوعات، و أما لو كان الغرض واحدا نوعيا فهناك

ص: 12

كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد (1).

______________________________

اغراض متعددة يجمعها نوع، فحينئذ يرد الاشكال: بلزوم تعدد العلم الواحد لو كان الغرض هو المميز، فان كل غرض من افراد هذه الاغراض هو غرض على حدة غير الغرض الآخر، فيصلح ان يكون مميزا لما يترتب عليه و يجعله علما على حدة، فيعود المحذور الذي أورده على كون المميز هو الموضوع، فانه كما ان باب الفاعل غير باب المفعول كذلك الغرض المترتب على باب الفاعل غير الغرض المترتب على باب المفعول، و كون هذه الاغراض تجتمع تحت موضوع واحد، فالموضوعات أيضا تجتمع تحت جامع واحد و هو موضوع العلم. فكون المميز هو الغرض الجامع دون الموضوع الجامع تحكم.

إلا أن يقال: انه و ان ترتب على كل مسألة من مسائل العلم غرض غير الغرض المترتب على المسألة الاخرى، إلا ان المدار على ما هو الموحد للعلم و جاعله علما واحدا، و بعد ان كانت مسائل العلم تجتمع تحت غرض عام لا يوجد ذلك في مسائل علوم اخرى، فهذا الغرض العام هو الموحد للعلم و الجاعل له علما واحدا، و لا ينافي ذلك ترتب اغراض متعددة على ابواب العلم و مسائله، فان المفرد للعلم و الموحّد له هو الغرض العام الذي لا يكون مترتبا على مسائل العلوم الاخرى، و لا محالة يكون ذلك الغرض العام الموحد للعلم هو المميز له.

و لا يقال: إن موضوع العلم ايضا كذلك، فانه عام ينطبق على موضوعات المسائل كانطباق الغرض العام على اغراض الابواب و المسائل.

فانه يقال: إنه بعد ان جمع العلم و وحّده الغرض لا يبقى مجال لان يميزه الموضوع، لان الموحّد للعلم لا محالة يكون مميزا له، و لا تمييز بعد التمييز.

(1) أي كما لا يكون الاختلاف في الموضوعات و المحمولات موجبا للتعدد و إلّا لزم الايراد المذكور: من كون كل باب، بل كل مسألة علما على حدة، كذلك لا تكون وحدتهما: أي وحدة الموضوعات و المحمولات في البابين من علمين موجبة لكونهما

ص: 13

ثم انه ربما لا يكون لموضوع العلم، و هو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص و اسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته اصلا (1).

و قد انقدح بذلك: ان موضوع علم الاصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة (2)، لا خصوص الادلة الأربعة بما هي ادلة، بل و لا بما هي هي، ضرورة ان البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها، و هو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم، او فعله، او تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم

______________________________

علما واحدا، و إنما كان مرجع الضمير في وحدتهما الى البابين من علمين، لا الى العلمين لما تقدم منه: ان المركب الاعتباري الذي تتحد موضوعات مسائله و محمولاتها و يترتب عليه غرضان، لا يصح ان يدون علمين و يسمى باسمين.

(1)

موضوع علم الاصول

بعد ان كان الاثر كاشفا عن الموضوع، فاذا تكون دخالته في العلم واقعية و لا تحتاج الى معرفته لأجل التمييز، فان المميز هو الاثر فلا مانع من انه لا يكون له عنوان خاص، و لا اسم مخصوص، فان عدم معرفته باسمه و عنوانه لا يقدح في دخالته في العلم واقعا. نعم مع عدم معرفته لا يمكن التمييز به، و لا تعريف العلم به بوجه، فان المجهول لا يميز و لا يعرف، و هذا لا يقدح في موضوعيته، و بعد ان ثبت لكل علم موضوع يتحد مع موضوعات مسائله اتحاد الكلي مع مصاديقه فيصح ان يعبر عنه بكل ما يدل عليه.

(2) وجه هذا الانقداح يظهر مما مضى و يأتي، فانه بعد ان ثبت فيما مضى انه لا بد لكل علم من موضوع لكشف وحدة الاثر عنه، و انه لا يقدح في موضوعيته ان لا يعرف باسمه و عنوانه، و يأتي ان الموضوع الذي ذكر لعلم الاصول و هو الادلة الاربعة لا يصح أن يكون موضوعا. ينقدح من مجموع هذا: ان موضوع علم الاصول كلي ينطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص الادلة الأربعة.

ص: 14

البحث في كثير من مباحثها المهمّة، كعمدة مباحث التعادل و الترّجيح، بل و مسألة حجية الخبر الواحد، لا عنها و لا عن سائر الادلة (1) و رجوع

______________________________

(1) المراد من الادلة الاربعة هي: العقل، و الاجماع، و الكتاب، و السنة. و هي اصطلاحا: قول المعصوم، و فعله، و تقريره، و لا وجه لان تكون الادلة الاربعة بما هي موضوعا لعلم الاصول، اي: بان يكون ذوات الادلة الاربعة، لا بما هي ادلة موضوعا، فانه لو كان الكتاب- مثلا- موضوعا لعلم الاصول بما هو هو، لا بما هو دليل و حجة، لدخل في علم الاصول علم التفسير، و كذلك السنة فانها لو كانت بما هي هي، لا بما هي دليل و حجة موضوعا لعلم الاصول لدخل في علم الاصول علم الحديث، فان علماء التفسير و الحديث يبحثون عن احوال ذات ما هو كتاب و سنة، لا عنهما بما هما دليلان و حجتان، و ايضا يرد على اخذ الادلة بما هي، لا بما هي ادلة ما يرد على اخذ الادلة بما هي ادلة: من لزوم الاستطراد في مهمات علم الاصول.

و الظاهر انه لم يدع احد: ان موضوع الاصول هو ذوات الادلة، لا بما هي ادلة.

و اما اذا اخذت الادلة بما هي ادلة موضوعا لعلم الاصول يلزم خروج عمدة مباحث علم الاصول التي دونت فيه، و بحث فيها عن علم الاصول، و تكون استطرادية، كمسألة تعارض الخبرين، و أن الاصل فيهما هو التساقط، او الترجيح، او التخيير، و هي عمدة مباحث التعادل و التراجيح، و يبقى منها مشمولا للموضوع، بناء على كونه هو الادلة بما هي ادلة تعارض الآيات المتواترة، و لذلك عبّر (قدس سره) بالعمدة، و كذلك يخرج عن علم الاصول ايضا، مسألة حجية الخبر الواحد، فان الذي يمكن أن يدعى كونه موضوعا فيها من الادلة هي السنة، لوضوح ان الاخبار ليست عقلا، و لا اجماعا، و لا كتابا، و لكنه بعد ما عرفت ان السنة اصطلاحا: هي قول المعصوم، و فعله، و تقريره، و ان الموضوع ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، و ان المبحوث عنه في هاتين المسألتين هو حجية احد الخبرين، او تساقطهما من باب التعادل، و حجية نفس الخبر في باب الخبر الواحد- يتضح ان

ص: 15

البحث فيهما في الحقيقة الى البحث عن ثبوت السنة بالخبر الواحد في مسألة حجية الخبر- كما افيد- و بأي الخبرين في باب التعارض، فانه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال، غير مفيد (1)، فان البحث

______________________________

البحث فيها ليس بحثا عن عوارض السنة، فان حجية السنة ثابتة في غير علم الاصول، و لا يبحث عن حجيتها في علم الاصول، و كيف يبحث عن حجيتها في علم الاصول و قد جعلت بما هي حجة موضوعا لعلم الاصول، فان البحث عن الحجية في هاتين المسألتين ليس بحثا عن عوارض السنة، لان البحث عن دليلية الدليل بحث عن ذات الدليل لا عن عوارض الدليل.

و يرد على جعل الادلة الاربعة موضوعا، مضافا الى ما ذكره الماتن (قدس سره):

انهما اذا كان كل واحد منهما بنفسه موضوعا لجملة من المسائل المرتبطة به دون جامع يجمعها، لزم ان يكون علم الاصول علوما أربعة، و اذا لم يكن كل واحد منها موضوعا بنفسه، بل يكون موضوعا لانه مصداق لجامع يجمع هذه الاربعة، فحينئذ يكون الجامع لهذه الادلة الاربعة هذا الموضوع، لا خصوص الادلة الاربعة. و لعل تعبيرهم: بان الموضوع هو الادلة الاربعة سببه هو انحصار الجامع فيها و هو الحجة اعم من كونها عقلية بحتة أو نقلية.

(1) رجوع البحث مبتدأ، و خبره غير مفيد.

و حاصله: التعرض لجواب الشيخ الاعظم (قدس سره) عن الاشكال المتقدم: من كون البحث في المسألتين ليس بحثا عن عوارض السنة.

و ملخص جواب الشيخ: ان معنى كون الخبر حجة، أو أي الخبرين حجة يرجع الى ان السنة الواقعية التي هي قول المعصوم، أو فعله، او تقريره المعلومة الحجية هل تثبت بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر الواحد ام لا؟ و هل تثبت باي الخبرين في باب التعادل ام لا تثبت؟ فمعنى البحث عن حجية الخبر يرجع الى البحث عن ان

ص: 16

عن ثبوت الموضوع و ما هو مفاد (كان) التامة ليس بحثا عن عوارضه، فانها مفاد (كان) الناقصة (1).

______________________________

السنة الواقعية هل تثبت به ام لا؟ و اذا آل الامر الى البحث عن ثبوت السنة بالخبر كان بحثا عن عوارضها. هذا الجواب غير مفيد في دفع الاشكال المتقدم.

(1) بيان لعدم تمامية الجواب المزبور.

و حاصله: انه بعد ما عرفت ان العلم ما يبحث فيه عن عوارض الموضوع الذاتية، فلا بد و ان يكون ثبوت الموضوع مفروغا عنه، و اذا بحث عن ثبوت نفس الموضوع لم يكن ذلك البحث من مسائل العلم، لان العلم بعد ان كان هو البحث عن العوارض، يكون معناه هو البحث عن ثبوت العارض للموضوع، فهو بحث عن ثبوت شي ء لشي ء، و هو مفاد كان الناقصة، و اذا كان البحث عن ثبوت نفس الموضوع كان بحثا عن ثبوت نفس الشي ء، و هو مفاد كان التامة. و لاجل ذلك كانت كان الناقصة تحتاج الى مبتدأ و خبر، و كان التامة تكتفي بالفاعل، لان كان الناقصة تفيد ثبوت شي ء لشي ء، كقولك: كان زيد عالما، و ثبوت شي ء لشي ء، كالعلم لزيد- مثلا- فرع ثبوت نفس الشي ء: أي زيد، و اذا كان العلم ما يبحث فيه عن العوارض الذاتية يكون البحث عن ثبوت الموضوع ليس من مسائله.

فاتضح بما ذكرنا: أن البحث عن ان السنة هل تثبت بالخبر ام لا؟ بحث عن ثبوت الموضوع، فلا يكون من مسائل علم الاصول الذي فرض ان موضوعه نفس السنة.

لا يقال: ان البحث ان كان عن ثبوت الموضوع فقط لم يكن من مسائل العلم و مفاد كان التامة(1)، لكن البحث عن ان الموضوع هل يثبت بهذا الشي ء ام لا يثبت بحث عن ثبوت شي ء لشي ء و مفاد كان الناقصة و من مسائل العلم، و البحث هنا بحث

ص: 17


1- 5. ( 1) الظاهر انها كان الناقصة، و إلّا فحق العبارة- بحسب نظري القاصر- ان يكون( لا يقال ان البحث ان كان عن ثبوت الموضوع فقط و مفاد كان التامة لم يكن من مسائل العلم).

لا يقال: هذا في الثبوت الواقعي. و أما الثبوت التعبدي- كما هو المهم في هذه المباحث- فهو في الحقيقة يكون مفاد (كان) الناقصة (1).

______________________________

عن ثبوت السنة بالخبر، لا عن ثبوت السنة فقط، فان البحث عن ثبوت السنة بالخبر يرجع إما إلى ان السنة هل تنكشف بالخبر، ام لا؟ و البحث عن انكشاف شي ء بشي ء ليس بحثا عن اصل ثبوته، و إما ان يرجع الى ان السنة هل تكون معلولة للخبر ام لا؟، و هو ليس بحثا عن اصل ثبوتها، فان ثبوت شي ء بشي ء عن 6] ثبوته.

لانا نقول: إن الخبر لا يعقل ان يكون كاشفا عن حقيقة السنة، فان الخبر يحتمل الصدق و الكذب، و ما يحتمل الصدق و الكذب لا يعقل ان يكون من الكواشف الحقيقية. فاذا كان المراد من حجية الخبر هذا المعنى لزم أن يكون عدم حجيته من الامور التي قياساتها معها. و دعوى حجيته بهذا المعنى من الامور الواضحة البطلان، مع ان المتأخرين، بل المتقدمين- أيضا- متفقون على حجيته، كما ان كون الخبر ليس من علل وجود السنة أوضح، لان الخبر متأخر وجودا عن وجود السنة، لانه يحكي و الحاكي متأخر عن المحكي، فكيف يكون من علل وجوده.

فاتضح، ان ما يرد على جواب الشيخ: ان الخبر لا يعقل أن يكون موجبا لاثبات السنة: بأن يكون كاشفا عن ثبوتها في مرحلة الاثبات، لأن الخبر يحتمل الصدق و الكذب، و السنة لا تحتمل الكذب، و لا يعقل ان يكون الخبر علة لثبوت السنة واقعا، فان معنى ذلك كونه من علل وجودها، و الخبر متأخر بالوجود عنها، و لا يعقل أن يكون المتأخر وجودا من علل وجود الشي ء السابق عليه بالوجود.

(1) حاصل لا يقال: ان الاشكال على جواب الشيخ و انه بحث عن ثبوت الموضوع، و ليس بحثا عن عوارضه انما يتم حيث يكون المراد بثبوت السنة بالخبر ثبوتها به واقعا.

و أما إذا كان المراد ثبوتها به تعبدا، فانه كما يكون للشي ء ثبوت واقعي، يكون له

ص: 18

فانه يقال: نعم، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها. فان الثبوت التعبدي يرجع الى وجوب العمل على طبق الخبر، كالسنة المحكية به، و هذا من عوارضه، لا عوارضها، كما لا يخفى.

و بالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، و التعبدي و ان كان منها، إلّا انه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيدا (1).

______________________________

ثبوت تنزيلي تعبدي، و البحث عن ثبوتها التنزيلي بحث عن عوارضها، فان جعلها ثابتة تنزيلا صفة تعرضها، فيكون بحثا عن عوارضها كما لا يخفى.

(1) حاصل ما اورده على الثبوت التعبدي: ان معنى جعل حجية الخبر هو جعل ما ادى اليه الخبر واجب العمل: أي جعل الحكم على طبق مؤدى الخبر، كالسنة الواقعية المحكية بالخبر، و الحجية بهذا المعنى من عوارض الخبر، لا من عوارض السنة. هذا بناء على ان مرجع الحجية الى جعل الحكم على طبق المؤدى. و أما بناء على ان مرجع الحجية الى جعل الطريقية، فهو أيضا من عوارض الخبر، لأن معناه ان الخبر الواصل هل يثبت الحكم الواقعي، كما ان السنة الواقعية الواصلة تثبته؟

و يمكن أن يقال: ان السنة متكررة بين المشبه و المشبه به، فهي كما انها توجب ثبوت صفة للمشبه، كذلك توجب ثبوت صفة للمشبه به. و حاصله انه اذا جعل الوصول للخبر تنزيلا له منزلة السنة الواصلة فقد جعل ايضا للسنة وصولا تنزيليا بالخبر.

و الذي ينبغي ان يورد به على دعوى الثبوت التعبدي: هو ان المراد من مسائل العلم عنوان البحث، و العنوان المبحوث عنه في هذه المسائل هو الخبر دون السنة، و لا ينفع انه يمكن ان يكون بحثا عن السنة، فان صرف الامكان لا يجدي بعد ان كان العنوان المبحوث عنه هو الخبر دون السنة.

ص: 19

و أما اذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها، فلأن البحث في تلك المباحث و ان كان عن احوال السنة بهذا المعنى (1)، إلّا ان البحث في غير

______________________________

(1) توضيحة، انه قد تقدم: ان الظاهر من السنة الواردة في كلماتهم هي: السنة الواقعية، و لكن يمكن ان يراد بالسنة الاعم من وجودها الواقعي و وجودها الحكائي، لانه يمكن ان يكون للماهية انحاء: من الوجود الخارجي، و الوجود الذهني، و الوجود اللفظي، و الوجود الكتبي، كذلك في المقام، فان للسنة وجودا خارجيا:

هو نفس قول المعصوم، أو تقريره، او فعله، و وجودا حكائيا بالخبر المتلفظ به، و المكتوب. و حينئذ فوجودها الحكائي هو وجود نفس الخبر و هو ثابت، و المبحوث عنه حجية هذا الوجود الحكائي كالوجود الواقعي. و حينئذ يكون البحث عن عوارضها.

و يرد عليه، ما اوردناه سابقا: من ان عنوان البحث مختص بالخبر، لان الخبر و الوجود الحكائي للسنة ليسا من قبيل المترادفين ليكون البحث عن احدهما بحثا عن الآخر.

و لكن لا يرد عليه: انه بحث عن ثبوت الموضوع، لا عن عوارضه بعد ثبوته بأن يقال: انه اذا كان الموضوع هو السنة، بما أنها دليل، لا ذات السنة، فلا بد و ان يكون الوجود الحكائي للسنة بعد كونه دليلا موضوعا للعلم، و البحث عن حجية الوجود الحكائي بحث عن دليليته، فيكون بحثا عن الموضوع لا عن عوارضه.

فان الجواب عنه ما تقدم، و حاصله: ان الوجود الحكائي للسنة إنما يثبت فيما اذا ان الحاكي مثبتا للمحكي قطعا كما في المتواتر، لا فيما مثل الخبر، فانه انما يكون وجودا حكائيا قطعيا فيما اذا ثبت اعتبار مطابقته، فحينئذ، يصح ان يقال: ان الوجود الحكائي للسنة هل يثبت بالخبر ام لا؟

ص: 20

واحد من مسائلها- كمباحث الالفاظ و جملة من غيرها- لا يخص الادلة، بل يعم غيرها، و ان كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى (1).

و يؤيد ذلك تعريف الاصول: بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية (2).

______________________________

(1) و حاصله: انه اذا امكن ارجاع البحث في هاتين المسألتين الى البحث عن عوارض الادلة، و لو بنحو ارادة الوجود العام للسنة، و لو بنحو الحكاية، إلّا انه بناء على كون الموضوع هو الادلة، يلزم كون البحث في جملة من مباحث الالفاظ ليس بحثا عن عوارض الادلة الذاتية. فان البحث في ان الامر هل يفيد الوجوب لا يخص كون الامر واردا في كتاب، أو سنة، و انما يفيد الوجوب لكونه امرا صادرا من مولى الى عبد. فاذا الوجوب يعرض السنة و الكتاب بواسطة امر اعم، و هو كونه امرا، لا لأنه في كتاب او سنة، و العارض بواسطة امر أعم عرض غريب.

لا يقال: إن هذا انما يتم على مذاق المشهور في العرض الذاتي و الغريب، لا على مذاقه (قدس سره)، فانه عنده من العوارض الذاتية، و لكنه انما اورده عليهم لان المشهور القائلين: بان العارض بواسطة امر أعم عرض غريب، هم القائلون: بان موضوع العلم هو الادلة الاربعة.

لانا نقول: إن الالتزام في العرض الذاتي بأن لا يكون بنحو الواسطة في العروض، انما هو بالنسبة الى موضوع العلم، لا موضوع مسائل العلم، فان البحث فيها لا بد و أن يكون من عوارضها الذاتية، و العارض بواسطة امر أعم ليس عرضا ذاتيا لموضوع المسألة. و في المقام المبحوث عنه في العناوين الموجودة، هو كون الامر دالا على الوجوب، لانه صادر من المولى الى العبد، و الذي يترتب عليه الغرض: هو الامر الوارد في خصوص الكتاب و السنة لا مطلق الامر.

(2) حاصل هذا التأييد: انهم عرفوا علم الاصول: بانه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية، فعلم الاصول عندهم هو كل قاعدة يترتب عليها

ص: 21

و ان كان الاولى تعريفه: بانه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، او التي ينتهي اليها في مقام العمل، بناء على ان مسألة حجية الظن على الحكومة، و مسائل الاصول العملية (2) في

______________________________

الاستنباط- فتكون من علم الاصول- و ان لم يكن موضوعها الادلة الاربعة، و يستفاد هذا العموم من القواعد التي هي جمع محلى بالالف و اللام، و هو من صيغ العموم. فهذا التعريف ينطبق على ما اخترناه: من ان موضوع علم الاصول اعم من الادلة الاربعة. و انما ذكره تأييدا، لا دليلا، لان مذاقه في التعاريف كونها تعاريف لفظية لشرح الاسم، ليست بالحد و الرسم كما سيأتي التصريح منه في غير مورد من الكتاب.

(2) و ما ذكرناه، هو السبب في تعبيره بالاولى، دون الصواب و امثاله. و اما السبب في عدوله عن تعريف المشهور هو ما يرد عليهم بوجوه من الايراد:

- منها، تعريفهم له: بانه العلم، و قد عرفت ان علم الاصول و ساير العلوم هي نفس المسائل التي جمعها الغرض دون العلم بها.

- و منها، انه لا وجه لتقييد القواعد بالممهدة، بل علم الاصول هو القواعد التي تقع في طريق الاستنباط، سواء مهدت ام لا.

- و منها، ان مسائل علم الاصول لو كانت منحصرة فيما قالوا: و هي القواعد التي تقع في طريق استنباط الاحكام الشرعية، للزم ان يكون حجية الظن الانسدادي- على الحكومة- خارجة عن مسائل علم الاصول، لأن معنى الحكومة انه بعد تمامية مقدمات الانسداد يحكم العقل: بان الظن كالقطع ينجز لو اصاب، و يعذر لو خالف، فحجيته عقلية لا شرعية حتى تكون مجعولة، فلا يكون هناك جعل شرعي، لا للحكم، و لا لطريق الحكم، و يلزم ايضا خروج الاصول العملية في الشبهات الحكمية، لان العقلية منها كقبح العقاب بلا بيان، و هي البراءة العقلية لا تنتهي الى حكم شرعي، بل الى المعذرية و رفع العقوبة عند العقل، و كذلك الاحتياط العقلي، فان مفاده حكم

ص: 22

.....

______________________________

عقلي يرتب العقوبة على عدم الاحتياط لو لم يصادف الواقع، و ليس هذا بحكم شرعي.

و اما الاصول العملية النقلية، فهي بنفسها احكام شرعية، لا انها توصل إلى استنباط حكم شرعي، فان ما يستنبط منه الحكم الشرعي، لا بد و أن لا يكون بنفسه حكما مستنبطا. فلذلك كله، عدل عن تعريف المشهور إلى تعريفه: بانه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الاحكام، او التي ينتهى اليها في مقام العمل، ليعم على الاصول ما يستنبط به الحكم و ما لا يستنبط به حكم، و لكن اليه ينتهي الفاحص عن دليل الحكم بعد عدم الدليل على حكم سواء كان معذرا، أم منجزا.

و لكن يرد على تعريفه ايرادان ايضا:

الاول: ان علم الاصول نفس القواعد التي بها يتمكن من الاستنباط، لا انه الذي يعرف به القواعد التي يمكن ان تقع في طريق الاستنباط.

الثاني: ان علم الاصول اذا كان المترتب عليه الاستنباط و الانتهاء في مقام العمل يلزم أن لا يكون الغرض المترتب على مسائل علم الاصول واحدا، بل متعددا، و تعدد الغرض يوجب تعدد العلم، فلازمه ان يكون علم الاصول علمين.

ثم انه لا وجه لاختصاص الخروج بالظن الانسدادي على الحكومة و الاصول العملية، فان مسألة حجية الخبر الواحد تكون خارجة عن تعريف المشهور، لان الحجية إما بمعنى جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى الخبر سواء كان نفسيا، ام طريقيا، فهو بنفسه حكم مجعول شرعي، لا انه يستنبط به حكم شرعي، و اما بمعنى جعل المنجزية و المعذرية فهي ايضا مجعول شرعي و ان لم يكن الجعل من جعل الحكم المماثل لمؤدى الخبر.

ص: 23

الشبهات الحكمية من الاصول كما هو كذلك، ضرورة انه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات (1).

الأمر الثاني- الوضع: هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى و ارتباط خاصّ بينهما، ناشئ من تخصيصه به تارة، و من كثرة استعماله فيه أخرى. و بهذا المعنى صح تقسيمه الى التّعييني و التّعيّني، كما لا يخفى (2).

______________________________

(1) لان الشبهات الحكمية: هي التي لا يرجع فيها الى الاصول العملية الّا بعد الفحص و اليأس عن الدليل، بخلاف الشبهات الموضوعية، فان الرجوع الى الاصول فيها غير منوط بالفحص و اليأس، و لذلك كانت الشبهات الحكمية مما تختص بالمجتهد، بخلاف الموضوعية، فانها مما تعم المجتهد و المقلد، و لذلك كانت الشبهات الحكمية مما يبحث عن المرجع فيها في علم الاصول، دون الشبهات الموضوعية.

الثانى تعريف الوضع و اقسامه

اشارة

(2) لا يخفى ان المحتملات في الوضع ثلاثة:

الاول: ان يكون امرا مباشريا للواضع، و هو نفس اعتبار كون اللفظ حاكيا عن المعنى و وجودا تنزيليا له، فيكون وجود اللفظ وجودا بالذات لنفسه، و وجودا ثانويا و تنزيليا للمعنى، و هذا أمر متقوم بنفس المعتبر. و على هذا فالوضع: هو تخصيص اللفظ بالمعنى.

الثاني: ما اختاره الماتن، و هو كون الوضع: هو الاختصاص و الارتباط بين اللفظ و المعنى سواء حصل الاختصاص من وضع الواضع و انشائه للوضع و تخصيصه اللفظ بالمعنى، ام حصل من كثرة الاستعمال بحيث صار للفظ ارتباط خاص بالمعنى يوجب حضوره عند حضور اللفظ.

و بالمعنى الاول، لا ينقسم الى التعييني و التعيني، لانه اذا كان هو نفس اعتبار المعتبر لا يعقل ان يحصل من كثرة الاستعمال، لانه يحتاج الى معتبر يعتبره، و كثرة الاستعمال لا يقوم بها الاعتبار. نعم، بالمعنى الثاني حيث انه نفس الارتباط و الاختصاص، فهو كما يحصل من اعتبار الواضع يحصل من كثرة الاستعمال، و لذا

ص: 24

ثم ان الملحوظ حال الوضع اما يكون معنى عاما فيوضع اللفظ له تارة و لأفراده و مصاديقه اخرى، و إما يكون معنى خاصا لا يكاد يصح الّا

______________________________

اشار الى انه ينقسم الى تعييني و تعيّني. و على الثاني ايضا لا يكون امرا مباشريا للواضع، بل هو يتسبب اليه بانشائه.

الثالث: ان الوضع: هو تعهد الواضع باظهار المعنى و ابرازه بهذا اللفظ عند ارادة احضاره، و لا يخفى بعد الاخير:

- لأن اللفظ بعد وضعه للمعنى يراه الشخص انه هو المعنى، لا أنه شي ء قد تعهد بابراز المعنى به.

- و ثانيا: انه يلزم ان يكون وضع جميع الالفاظ عاما و الموضوع له فيها خاصا، لان الموضوع له ليس هو نفس المعنى، بل هو المتعهد بابرازه باللفظ، و قد صرح القائل بالالتزام به.

- و ثالثا: انه لا ينقسم الى تعييني و تعيّني، إذ ليس في التعيّني تعهد من الواضع.

و لا يخفى انه على الاحتمال الثاني في الوضع: و هو كونه نحو اختصاص بين اللفظ و المعنى بحيث يوجب خطور المعنى بواسطة اللفظ من دون قرينة. فالمعنى الحقيقي يكون أعم مما حصلت العلقة بين اللفظ و المعنى من اعتبار الواضع، او من كثرة الاستعمال، لانه لا اشكال في انه بعد كثرة الاستعمال تحصل علقة بين اللفظ و المعنى توجب كون اللفظ بحيث متى حضر يحضر المعنى به من دون قرينة اصلا.

و هذا هو معنى كونه حقيقة فيه.

ثم ان الفرق بين الاختصاص و التخصيص، هو الفرق بين الايجاد و الوجود، فان هذه العلقة باعتبار كونها صادرة من المعتبر تكون ايجادا و تخصيصا، و باعتبار حصولها بنفسها بعد الاعتبار تكون اختصاصا، فلا داعي لان يكون الوضع مختصا بالعلقة بما انها صادرة من الواضع، بل تكون نفس العلقة هي الوضع ليعم الوضع التعيّني ايضا.

ص: 25

وضع اللفظ له دون العام، فيكون الاقسام ثلاثة. و ذلك لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ افراده و مصاديقه بما هو كذلك، فانه من وجوهها، و معرفة وجه الشي ء معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فانه بما هو خاص لا يكون وجها للعام، و لا لسائر الافراد، فلا يكون معرفته و تصوره معرفة له و لا لها أصلا، و لو بوجه.

نعم، ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عاما كما كان الموضوع له عاما. و هذا بخلاف ما في وضع العام و الموضوع له الخاص، فان الموضوع له- و هي الافراد- لا يكون متصورا الّا بوجهه و عنوانه، و هو العام. و فرق واضح بين تصور الشي ء بوجهه، و تصوره بنفسه، و لو كان بسبب تصور امر آخر (1).

______________________________

أقسام الوضع

(1) هذا تقسيم للوضع في مرحلة الامكان و سيأتي الكلام فيه في مرحلة الوقوع.

اما الكلام في المرحلة الاولى، فهو أن الوضع في مرحلة التصور بدوا أربعة:

- الوضع العام و الموضوع له العام

- و الوضع العام و الموضوع له الخاص

- و الوضع الخاص و الموضوع له الخاص

- و الوضع الخاص و الموضوع له العام

الّا ان هذا تصور بدوي، و بعد التأمل يقضي البرهان محالية القسم الرابع. أما إمكان الاقسام الثلاثة فواضح، لان الملحوظ للواضع إما ان يكون امرا عاما، أو خاصا.

و على الاول، فاما ان يضع الواضع اللفظ بازاء ذلك المعنى العام الذي تصوره فيحصل القسم الاول، و اما أن لا يكون غرضه من تصور هذا المعنى العام الوضع له بخصوصه، بل انما لحظه، لان الذي يريد الوضع له لا يمكن ان يتصوره، فان غرض الواضع ان يدل اللفظ على معنونات ذلك العنوان العام، و حيث ان المعنونات

ص: 26

و لعل خفاء ذلك على بعض الاعلام و عدم تميزه بينهما، كان موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع- و هو ان يكون الوضع خاصا مع كون الموضوع له عاما- مع انه واضح لمن كان له ادنى تأمل (1).

______________________________

لا يمكن ان تتصور بانفسها لعدم انتهائها بالنسبة الى الممكن، لذلك يتصورها بوجهها العام، و هو عنوانها و يضع اللفظ بازاء معنوناتها فيحصل القسم الثاني.

و على الثاني، و هو ان يكون الملحوظ خاصا و يوضع اللفظ بازاء ذلك الخاص المتصور للواضع، كوضع الاعلام، و وقوعه فضلا عن امكانه واضح.

و اما القسم الرابع، فهو أن يتصور المعنى الخاص و يجعله وجها و عنوانا للمعنى العام: بأن لا يكون العام مرئيا بنفسه اصلا، و انما يرى بوجهه و هو الخاص، و اما اذا كان تصور الخاص سببا لان يتصور العام بنفسه، فهو خلاف الفرض، بل الفرض ان لا يكون الموضوع له متصورا اصلا، الّا بالوجه و العنوان، لا بنفسه، كما في الوضع العام و الموضوع له الخاص، فان الخاص لم يتصور بنفسه اصلا، و انما يصوّر بوجهه و عنوانه، و هو العام.

فاذا تبين هذا، ظهر محاليّة هذا القسم، لان الوجه و العنوان، و هو مرآة المرئي به لا يعقل ان يكون اضيق من المرئي به، فان المحكي اذا كان اوسع من الحاكي فالزائد على الحاكي ان وضع له بلا وجه، و لا حكاية فهو خلف، و ان فرضت الحكاية فهو خلف واضح ايضا.

و بعبارة اخرى: ان الخاص هو الحصة و التشخص، و الحصة جزئي من جزئيات الكلي، و التشخص مما يخص فردية الخاص و لا ربط له بالكلي.

(1) و حاصله: انه نشأ توهم امكان القسم الرابع، من الخلط بين كون الخاص وجها للعام، و بين كونه موجبا للانتقال و لتصور العام بنفسه، فان الخاص، هو عبارة عن الحصة الخصوصية الفردية، و لا شبهة ان الخصوصية الفردية ليست وجها للعام، و أما الحصة فلا تحكي الّا عن نفسها لا عن العام و لا عن حصة اخرى.

ص: 27

ثم انه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كوضع الاعلام. و كذا الوضع العام و الموضوع له العام، كوضع اسماء الاجناس.

و أما الوضع العام و الموضوع له الخاص (1)، فقد توهم انه وضع الحروف

______________________________

نعم لو كان العام و الكلي الطبيعي نسبته الى الافراد نسبة الاب الواحد و الاولاد- كما يدعيه الرجل الهمداني- لامكن ان تكون الحصة وجها للعام، و لكن قد ثبت ان نسبة الكلي و الافراد نسبة الآباء و الاولاد، فكل حصة تحكي عن ابيها، لا عن كل الآباء و هو العام و الكلي كما هو واضح.

(1) بعد أن فرغ عن مرحلة الامكان، شرع في مرحلة الوقوع، و لا اشكال في وقوع القسم الاول؛ و هو الوضع العام و الموضوع له العام، كوضع اسماء الاجناس و غيرها من الطبائع و الماهيات الكلية. و في القسم الثالث: و هو الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كوضع الاعلام و سائر الجزئيات الخارجية. و اما القسم الثاني: و هو الوضع العام و الموضوع له الخاص فقد ذهب المشهور إلى وقوعه، و انه وضع الحروف و اسماء الاشارة و الموصولات و غيرها، و انكره الماتن، وفاقا لما ينسب لبعض القدماء:

من ان الموضوع له في الحروف و غيرها عام كالوضع و حالها حال اسماء الاجناس، و انه لا فرق بين (من) و (في) و (الابتداء) و (الظرفية)، و ان الموضوع له في الكل واحد من حيث ذاته و ماهيته. سوى ان الفرق بينهما: ان الواضع اشترط في مقام الوضع ان ماهية الظرفية إن اريد احضارها بنحو الاستقلال، و لم تكن منظورة بنحو الآلية، فالموضوع لها لفظ الظرفية. و إن لوحظت آلة و متعلقة بالغير، و انها امر واقع بين الكوز و الماء- مثلا-، فالموضوع لها لفظ (في)، و هكذا في ساير ما ادعي انه موضوع بالوضع العام و الموضوع له خاص، فانه خلط نشأ بين الآلية و الاستقلالية، و توهم سببه تخيل ان الآلية في معاني الحروف موجبة لاختلاف ماهية الحروف عن سائر الاسماء العامة، و البرهان يقضي بان الماهية و الذات في كليهما واحدة، و ان الآلية لا يعقل ان توجب اختلافا في ذات ما هو الموضوع له. نعم، لا يجوز استعمال

ص: 28

و ما الحق بها من الاسماء، كما توهم أيضا ان المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاما (1).

و التحقيق- حسبما يؤدي اليه النظر الدقيق- ان حال المستعمل فيه و الموضوع له فيها حالهما في الاسماء، و ذلك لأن الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح ان كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك، بل كليا، و لذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا اضافيا، و هو كما ترى، و ان كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث انه لا يكاد يكون المعنى حرفيا الّا اذا لوحظ حالة لمعنى آخر و من خصوصياته القائمة به، و يكون حاله كحال العرض، فكما لا يكون في الخارج الّا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن الّا في مفهوم آخر، و لذا قيل في تعريفه: بأنه «ما دل على معنى في غيره»، فالمعنى و ان كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ، بحيث يباينه اذا لوحظ ثانيا كما لوحظ اولا، و لو كان اللاحظ واحدا. الّا ان هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه، و الّا فلا بد من لحاظ آخر

______________________________

الموضوع في احدهما في الموضوع له في الآخر، لان الواضع بعد اشتراط شرطه في مقام الوضع قسم الماهية العامة الى قسمين بمميز خارج عن مقام ذات الماهية، فلذلك لا يجوز استعمال (في)- مثلا- في مقام (الظرفية)، و لا (الظرفية)، في مقام (في). أما نفس المعنى و الماهية ففي كليهما واحد لم يختلف اصلا، لعدم معقولية اختلافه، كما سيأتي البرهان عليه.

(1)

تحقيق المعنى الحرفي

لا يخفى انه اذا كان الموضوع له في الحروف خاصا، فلا بد و ان يكون المستعمل فيه فيها ايضا خاصا، و اذا كان الموضوع له فيها عاما فدعوى ان المستعمل فيه فيها خاص واضحة البطلان، لعدم داع معقول لأن يضع الواضع اللفظ لمعنى عام و يستعمله دائما في الخاص.

ص: 29

متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة ان تصور المستعمل فيه مما لا بد منه في استعمال الالفاظ، و هو كما ترى، مع انه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات (1)، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها حيث لا موطن له الّا

______________________________

(1) و حاصله، بتلخيص: ان كل ممكن موجود لا بد و ان يكون فردا لمقولة من المقولات العشرة، و الفرد عبارة عن الحصة من النوع مع خصوصية الفردية. و قد حقق في محله:

ان المعاني من حيث ذاتها كلية، و انما تكون جزئية بالتشخص، و هو الوجود، فلفظ (من)- مثلا- بعد ان كان معناه العام هو الابتداء الذي كان وجها له بالوضع، و ان الموضوع له كما يدعيه المدعي: هو المعنى الخاص الجزئي لهذا المعنى العام، و جزئية هذا المعنى العام، اما للوجود الخارجي، او للوجود الذهني، و كلا من هذين لا يعقل ان يكون هو الموضوع له، او المستعمل فيه الحرف.

أما الجزئي الخارجي، فلوضوح ان المستعمل فيه لفظ (من) كثيرا ما يكون كليا، فان الآمر اذا قال لعبده: سر من البصرة الى كذا، فان العبد يمكنه ان يوجد الابتداء من البصرة من أي نقطة من نقاطها، و يكون ممتثلا لامر المولى و موجدا للمأمور به، فلا بد و ان يكون المأمور به كليا له افراد متعددة، كل واحد منها مصداق المأمور به، كسائر الطبائع العامة المأمور بها، و ليس هذا الاستعمال مجازيا من استعمال اللفظ الموضوع للفرد الخاص في كليّه، لانا لا نرى في هذا الاستعمال لحاظ علاقة اصلا، و لاجل هذا التجأ بعض الفحول- و هو صاحب الهداية- الى تأويل كلامهم، و ان مرادهم: ان الموضوع له في الحرف ليس هو الجزئي الخارجي الحقيقي، بل مرادهم الجزئي الاضافي.

و أما ان تكون الجزئية في المعنى الحرفي، هي الجزئية الذهنية لان المعنى كلي، و اذا قيد بالوجود الذهني و تشخص به يكون جزئيا، كما يكون جزئيا لو تشخص بالوجود الخارجي، فان التشخص كما حقق في محله بنفس الوجود، لا بعوارض الموجود، و اذا كانت الجزئية المدعاة: بان الحرف موضوع لها هي هذه، و ان الموضوع له في

ص: 30

.....

______________________________

الحرف هو الجزئي الذهني، لانه بالتصور يوجد فاذا وجد فهو جزئي، لما عرفت: من ان التشخص يساوق الوجود.

فنقول: ان اللحاظ الذي اوجب جزئية هذا المعنى الكلي، إما ان يكون هو اللحاظ الاستعمالي، او لحاظ غيره، فان كان الاول، فيلزم الخلف على التحقيق، و الدور على المشهور.

و توضيح ذلك: ان اللحاظ الاستعمالي متعلق بالمعنى الذي اريد استعمال اللفظ فيه و كل متعلق- بالكسر- متأخر بالطبع عن المتعلق- بالفتح-، فهذا اللحاظ الاستعمالي بما انه متعلق يكون متأخرا، و بما انه المعنى المستعمل فيه او قيده فهو مقوّم له ينبغي ان يكون متقدما، لانه متعلق، و المتعلق متقدم كما عرفت.

و بعبارة اخرى: ان اللحاظ الاستعمالي بما انه امر تعلقي، فهو يحتاج الى ما يتعلق به، و هو المستعمل فيه، فوجود اللحاظ و الاستعمال متوقف على المستعمل فيه، فلا بد و أن يتأخر بالطبع عنه، و حيث ان هذا اللحاظ قد فرض كونه مقوما للمستعمل فيه، فلا بد و ان يكون متقدما لتقدم المستعمل فيه بالطبع على اللحاظ و الاستعمال، فيلزم ان يكون شي ء واحد متقدما و متأخرا، و هذا هو الخلف.

و أما انه ليس بدور، لان الدور: هو فرض موجود متوقفا على موجود، و ذلك الموجود المتوقف عليه يكون ايضا هو متوقفا على هذا الذي توقف عليه، و في المقام ليس كذلك، بل هو موجود واحد، و هو اللحاظ الاستعمالي بما انه متعلق ينبغي ان يتأخر، و بما انه متعلق ينبغي ان يتقدم، و ليس في المقام موجودان كل واحد منهما متوقف على الآخر. و قد اشار الى هذا المحذور بقوله: «إلّا ان هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه» هذا اذا قلنا: بانه ليس الّا لحاظ واحد، و هو اللحاظ الاستعمالي. و ما اذا قلنا: بان اللحاظ الذي هو داخل في الموضوع له، او المستعمل فيه ليس هو اللحاظ الاستعمالي، فلا بد و ان يكون لنا حال الاستعمال لحاظان: اللحاظ الذي هو داخل في الموضوع له، او المستعمل فيه، و اللحاظ الاستعمالي.

ص: 31

الذهن (1) فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد و الغاء الخصوصية (2) هذا مع انه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف، الّا كلحاظه في نفسه في الاسماء. و كما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

و بالجملة: ليس المعنى في كلمة (من)، و لفظ الابتداء- مثلا- الّا الابتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه و مستقلا، كذلك لا يعتبر

______________________________

ففيه، اولا: انه خلاف الوجدان، لانا لا نجد في انفسنا لحاظين حال الاستعمال، و قد اشار الى هذا في المتن بقوله: «و هو كما ترى».

و ثانيا: انه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات، لان الماهية التي يكون وجودها و فعليتها بالتشخص الذهني، غير الماهية التي يكون تشخصها و فعليتها بالوجود الخارجي، و هما متباينان، و لا يصدق المباين على المباين، فان كل فعلية تأبى عن الفعلية الاخرى، و اما التي لا تأبى الصدق على الخارج و الذهن فهي الماهية نفسها من غير تقييد، فلا بد في مقام الاستعمال، بناء على التقييد بالذهن من التجريد و الغاء خصوصية الذهن لتبقى الماهية بنفسها، فتصدق على الخارج، فأي داع للواضع ان يضع اللفظ لمعنى مقيد بما لا بد من تجريده عنه في مقام الاستعمال؟. و هذا الايراد الثاني كما يرد لو تعدد اللحاظ، كذلك يرد ما لو كان اللحاظ واحدا، فان المقيد بالذهن لا يصدق على الخارج. و الى هذا اشار بقوله: «مع انه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات».

(1) لا يخفى ان الاصطلاح في الكلي العقلي: هو المعنى المتقيد بالكلية، لا كل معنى تقيد بأمر ذهني هو كلي عقلي، و لكن الماتن جعل كل متقيد بالذهنية كليا عقليا.

(2) لوضوح، ان المطلوب للامر هو ايجاد الابتداء الخارجي، لا ايجاد الابتداء الذي تصوره الامر نفسه، فانه غير مقدور للمكلف، و على فرض كونه مقدورا، فان الغرض لم يتعلق به، فلا بد من التجريد و الغاء الخصوصية الذهنية.

ص: 32

في معناها لحاظه في غيرها و آلة. و كما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته، فليكن كذلك فيها (1).

ان قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم و الحرف في المعنى، و لزم كون مثل كلمة (من)، و لفظ الابتداء مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الآخر، و هكذا سائر الحروف مع الاسماء الموضوعة لمعانيها، و هو باطل بالضرورة، كما هو واضح.

قلت: الفرق بينهما، انما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو و في نفسه، و الحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره- كما مرت الاشارة اليه غير مرة.

فالاختلاف بين الاسم و الحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال احدهما في موضع الآخر، و ان اتفقا فيما له الوضع. و قد عرفت

______________________________

(1) هذا الايراد الثالث، و هو ايضا غير مختص بتعدد اللحاظ، بل يرد حتى مع عدم التعدد، و حاصله: انه كما ان المعنى اذا كان آليا و حرفيا لا بد من لحاظه، كذلك فيما كان استقلاليا و اسميا لا بد من لحاظه، فاذا كان لحاظه في مقام الآلية موجبا لجزئيته فليكن لحاظه في مقام الاستقلالية موجبا لجزئيته، لوضوح انه ما لم يلحظ المعنى لا يعقل ان يتحقق استعمال اصلا، فاذا كان اللحاظ في الآلية موجبا للجزئية، فليكن اللحاظ في الاستقلالية موجبا لذلك ايضا. و لا ريب عندهم في عدم دخول اللحاظ في مقام الاستقلالية في المعنى الموضوع له و المستعمل فيه. و قد صرحوا: بأن الوضع في الابتداء عام و الموضوع له عام، و لكن الوضع في (من) عام و الموضوع له خاص، و لم يعرف و يتضح السبب من جزئية المعنى الحرفي دون الاسمي، و لذا قال (قدس سره):

«و بالجملة ليس المعنى في كلمة (من) و لفظ الابتداء الى آخره فليكن كذلك فيها».

ص: 33

بما لا مزيد عليه: ان نحو ارادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته و مقوماته (1).

______________________________

(1) قد تقدم: الفرق بين المعنى الحرفي و المعنى الاسمي عند المصنف، و ان السبب في عدم صحة استعمال احدهما في الآخر مخالفة شرط الواضع، و ان عدم صحة استعمال لفظ موضوع لمعنى في معنى آخر تارة يكون لتباين ذات المعنيين، و اخرى لمخالفة شرط الواضع، و بسبب هذا الشرط لا يكون لفظ (من) و الابتداء من المترادفين. هذا غاية تقريب ما أراده المصنف.

و لكن يمكن ان يقال: ان مقالة المشهور: من كون الوضع في الحروف و بعض الاسماء عاما، و الموضوع له خاصا فيهما غير خال عن وجه وجيه، و ان المعنى الاسمي و الحرفي متباينان ذاتا، و ليس عدم صحة استعمال احدهما في الآخر لمخالفة شرط الواضع، بل الفرق بينهما: ان المعنى الحرفي غير قابل لان يكون الوضع فيه عاما و الموضوع له عاما، و لا بد ان يكون الموضوع له فيه خاصا و الوضع عاما لا من حيث انه جزئي خارجي، و لا من حيث كونه جزئيا ذهنيا، و ليس حاله حال العرض الذي يحتاج في وجوده الى الغير لا في ماهيته و ذاته، فان العرض هو الماهية التي اذا وجدت تكون في الموضوع، اما في نفس ذاته و ماهيته فليس محتاجا الى الموضوع، بل حال المعنى الحرفي حال الوجود الرابط الذي في اصل ذاته و حقيقته محتاج الى الطرفين.

و توضيح ذلك: ان نسبة المعاني الى ما في الخارج على نحوين: فانها تارة تكون نسبة الطبيعي و الفرد، و اخرى تكون نسبة العنوان الى المعنون و الفرق بينهما: ان الطبيعي نفسه موجود في ضمن الفرد، و هو عبارة عن الحصة المضافة، كما قال السبزواري:

و الحصة الكلي مقيدا يجى ءتقيد جزء و قيد خارجي 7]

ص: 34

.....

______________________________

و اخرى لا يكون المعنى له هذه النسبة، بل تكون نسبته الى الخارج نسبة العنوان الى المعنون، و يكون الموجود في الخارج معنون ذلك العنوان لا نفسه. و المعنى الحرفي من قبيل الثاني، لا الاول، لان مدلول لفظ (من) أو (في) هو النسبة الواقعة بين المبتدأ به و هو السير، و المبتدأ من عنده و هو البصرة، و النسبة الواقعة بين الظرف و هو الكوز، و المظروف و هو الماء، و ليس مدلول (من) و (في) مفهوم الابتداء و مفهوم الظرفية حتى يكون الفرق بينهما بالاستقلالية و الآلية، و حيث ان مدلول الحرف هو النسبة و هي بذاتها و ماهيتها تعلقيّة، و لا يعقل تصور ماهيتها إلّا بالطرفين. فاذا ماهيتها و ذاتها تعلقية و ليس حالها حال العرض الذي يحتاج في وجوده لا في ماهيته الى الغير، فانهم قسموا الموجود الى اربعة اقسام:

- الموجود في نفسه، بنفسه: و هو الواجب 8].

- الموجود في نفسه، بنفسه، لغيره: و هو الموجود الجوهري 9].

- الموجود في نفسه، بغيره: و هو العرض 10].

- الموجود لا في نفسه، في غيره، لغيره: و هو الوجود الرابط، كوجود النسب التي هي المعاني الحرفية.

و لا يخفى أن ما ليس له ماهية يمكن تصورها بنفسها لا يكون له طبيعي نسبته اليه نسبة الطبيعي الى الفرد، بل يكون له دائما عنوان يمكن ان يرى بذلك العنوان، لوضوح ان الطبيعي هو الذي يمكن لحاظه بنفسه من دون أي فرد من افراده. و المعنى الحرفي لا يعقل فيه ذلك، لانه ان لم يتصور طرفاه لا يمكن ان تحصل ذاته، لانها بحقيقتها امر تعلقي، و ان تصور الطرفان كان جزئيا ذهنيا، بل لانه ليس له طبيعي عام يكون نسبته اليه نسبة الطبيعي و الفرد، بل المتصور دائما عنوانه و الموضوع له المعنون.

و اتضح ايضا: ان سعة المعنى الحرفي و حقيقته انما هو بحسب طرفيه، فربما يكون له افراد متعددة، و ربما لا يكون له الّا فرد واحد، و لعل هذا مراد من قال: ان المعنى الحرفي جزئي اضافي.

ص: 35

ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر و الانشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، و الانشاء ليستعمل في قصد تحققه و ثبوته، و ان اتفقا فيما استعملا فيه فتأمل (1).

______________________________

فان قلت: ان الطبيعي لمعنى (من)- مثلا- هو الابتداء، و نسبة الابتداء الى (من) نسبة الطبيعي الى الفرد.

قلت: الابتداء ليس هو الطبيعي ل (من)، لان (من) موضوعة لتدل على النسبة القائمة بين المبتدأ به، و المبتدأ من عنده، و المتحمل لمبدأ ما به الابتداء هو السير، و هو من مقولة الحركة، و المتحمل لمبدأ ما منه الابتداء، هو البصرة، و (من) مدلولها النسبة القائمة بين ما به الابتداء، و ما منه الابتداء.

(1)

الخبر و الانشاء

توضيح المطلب: ان الجمل على ثلاثة انواع:

- منها ما يختص بالاخبار، و لا يستعمل في الانشاء ابدا، كضرب زيد، و زيد قائم.

- و منها ما يختص بالانشاء، و لا يستعمل في الاخبار ابدا، كصيغتي الامر و النهي.

- و منها ما يستعمل تارة في الاخبار، و اخرى في الانشاء، كبعت، و ملكت فانها تستعمل في الاخبار عن وقوع البيع و التمليك، و اخرى في انشاء البيع و التمليك، و مثل ايدك اللّه، فانها تستعمل للاخبار عن تأييد اللّه، و تستعمل للانشاء بقصد الدعاء. و هذه الثالثة هي محل الكلام.

ثم لا يخفى ان الاحتمالات في المقام ثلاثة:

الاول: دخول قصد الحكائية و الانشائية في الموضوع له.

الثاني: خروجهما عن الموضوع له اصلا.

الثالث: دخولهما بنحو الاشارة الى ما وضع له: بان يكون قصد الحكاية في الاخبارية مشيرا الى وضع بعت للمعنى في مقام الاخبار، و قصد الانشائية مشيرا الى وضع بعت للمعنى في مقام قصد ايجاده و ثبوته باللفظ.

ص: 36

ثم انه قد انقدح مما حققناه: انه يمكن ان يقال: ان المستعمل فيه في مثل اسماء الاشارة و الضمائر أيضا عام، و ان تشخصه انما نشأ من قبل طور

______________________________

و لازم الاحتمال الاول: المحالية، و الدور الواضح، فان قصد الحكاية هو الداعي للاستعمال، فهو متعلق بالاستعمال، و لازمه التأخر عن الاستعمال، و الاستعمال متعلق بالمعنى المستعمل فيه، فهو متأخر عن المستعمل فيه، فالحكاية متأخرة عن المستعمل فيه بمرتبتين، فلو دخلت في المستعمل فيه لكانت متقدمة بحكم دخولها في المستعمل فيه و الموضوع له، و حيث انها متوقفة على الاستعمال، لأنها متعلقة به، فهي لا تتحقق و لا توجد الّا متعلقة بالاستعمال و متأخرة عنه، و الاستعمال حيث انه متعلق بالمعنى المستعمل فيه فهي إذا متأخرة و متوقفة على ما يتأخر و يتوقف على المعنى و المستعمل فيه، و إذا كانت داخلة في المستعمل فيه لزم الدور، لأنها متوقفة على الاستعمال المتوقف على المستعمل فيه، الذي من جملته نفس الحكاية لفرض دخولها في المستعمل فيه. فحينئذ تتوقف الحكاية على الاستعمال المتوقف على المستعمل فيه الذي منه الحكاية، فتتوقف الحكاية على ما يتوقف عليها، و هو الدور الواضح.

و لازم الاحتمال الثالث: تعدد الوضع في لفظ (بعت)، لانها تكون موضوعة لمعناها في مقام الحكاية، و موضوعة لمعناها ايضا بوضع آخر في مقام قصد انشائه.

و هذا و ان كان ليس محالا، إلّا انه بعيد.

فيتعيّن الاحتمال الثاني: و هو لفظ (بعت) موضوعة لمعنى واحد بوضع واحد، و الحكاية و الانشاء من دواعي الاستعمال. اما معنى (بعت) فهو ثبوت نسبة البيع و تحققها للمتكلم، فتارة يقصد الحكاية عن هذا الثبوت فتكون خبرية، و اخرى بقصد ايجاد البيع بها و انتسابه إلى المتكلم فتكون انشائية. و اظن انه لذلك عبّر المصنف بقوله: «لا يبعد»، و لم يقل: لا بد ان يكون الاختلاف في الخبر و الانشاء ايضا كذلك:

أي كالاستقلالية و الآلية في خروجهما عما وضع له لفظ الاسم و الحرف، و لعله يشير بقوله: «فتأمل»، إلى هذا الفرق بين المقامين الداعي للتعبير ب «لا يبعد».

ص: 37

استعمالها، حيث ان اسماء الاشارة وضعت ليشار بها الى معانيها، و كذا بعض الضمائر، و بعضها ليخاطب بها المعنى. و الاشارة و التخاطب يستدعيان التشخص، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1)

اسماء الاشارة

لا يخفى انه وقع الخلاف في وضع اسماء الاشارة.

- فذهب المشهور، إلى انها موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص.

- و ذهب الماتن، الى انها موضوعة بالوضع العام و الموضوع له العام.

و توضيح المطلب، و بيان الحق فيه يتوقف على بيان احتمالات في المعنى الموضوع له اسماء الاشارة.

الاول: ان تكون موضوعة لمفهوم المشار اليه، و لازمه الترادف بين لفظ (هذا) و مفهوم المشار اليه، و هو واضح البطلان. اولا: لعدم الترادف بينهما وجدانا.

و ثانيا: ان مفهوم المشار اليه و ما هو معناه بالحمل الاولي ليس بمشار اليه، بل المشار اليه ما كان مشارا اليه بالحمل الشائع.

الثاني: ان تكون موضوعة لما هو بالحمل الشائع مشار اليه: أي ما هو مصداق المشار اليه، و لكن: بان تكون الاشارة اليه بنفس لفظ هذا. و هذا باطل ايضا، لان اللفظ حيث به يكون الاستعمال فهو متأخر و متعلق بالمعنى، و المعنى بما هو معنى اللفظ متقدم عليه، فلا يعقل ان يكون كونه معنى اللفظ متوقفا على نفس اللفظ و المفروض ان كون المعنى مشارا اليه هو المستعمل فيه للفظ، و كونه مشارا اليه لا يكون الّا بنفس اللفظ. و هذا محال، كما تقدم مشروحا في امثاله: من ان الاستعمال و شئونه لا يعقل دخوله في المستعمل فيه، و لا يعقل ان يتوقف المستعمل فيه على الاستعمال و ما هو من اطواره و شئونه.

الثالث: ان يكون الموضوع له هو المفرد المذكر، و لكن الواضع اشترط ان لا يستعمل (هذا) في مفهوم المفرد المذكر الّا بعد أن يشار اليه بغير لفظ (هذا) باشارة خارجية،- كيد و امثالها-، أو اشارة ذهنية، فيكون الفرق بين المفهوم المفرد المذكر

ص: 38

فدعوى: ان المستعمل فيه مثل (هذا) و (هو) و (اياك) انما هو المفرد المذكر، و تشخصه انما جاء من قبل الاشارة او التخاطب بهذه الالفاظ اليه، فان الاشارة او التخاطب لا يكاد يكون الّا الى الشخص او معه، غير مجازفة (1).

______________________________

و بين (هذا) هو شرط الواضع لا غير. هذا هو رأي الماتن، و لذلك ادعى: ان الوضع فيها عام و الموضوع له فيها ايضا عام، و هو مفهوم المفرد المذكر.

و يرد عليه: ان لازم ذلك الترادف بين لفظ (هذا) و مفهوم المفرد المذكر، و الوجدان لا يساعد على ترادفهما.

و ثانيا: ان ما وضع له لفظ الاشارة على هذا يكون نكرة، لان المعرفة ما كان المفهوم الموضوع له متميزا، لا أن يكون مفهومها نكرة و يحصل التشخص و التمييز بشي ء خارج عما وضع له اللفظ، فانه يكون لفظ (هذا) كلفظ رجل، غاية الامر انه قد حصل التعيين لمصداقه بشي ء خارج عما هو مفهومه و الموضوع له.

الرابع: ان يكون الموضوع له لفظ (هذا) مصداق المشار اليه بعد تعيينه، و الاشارة اليه، اما بالاشارة الخارجية، او الذهنية. و على هذا، فلا بد ان يكون الوضع فيها عاما و الموضوع له خاصا، لان مصداق المشار اليه غير مفهوم المشار اليه، و يكون مفهوم المشار اليه عنوانا، و ما هو بالحمل الشائع متعينا و مشارا اليه معنون هذا العنوان، و الموضوع له لفظ (هذا) معنون هذا العنوان و ما هو مشار اليه بالحمل الشائع، و هو غير المتصور حال الوضع. و اللازم في الوضع العام و الموضوع له الخاص لا يحتاج الى اكثر من هذا.

(1) هذا خبر و مبتدؤه، قوله: فدعوى. ثم لا يخفى ان الكلام في الضمائر و الاسماء الموصولة، عين الكلام في اسماء الاشارة، غايته ان الضمائر موضوعة للمتعين بالتعين الذهني لسبق ذكره، او غير ذلك من اسباب التعين، و الموصول موضوع للمتعين بالصلة فلا تغفل.

ص: 39

فتلخص مما حققناه: ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا، كما في مثل اسماء الاشارة، او ذهنيا كما في اسماء الاجناس و الحروف و نحوهما، من غير فرق في ذلك اصلا بين الحروف و اسماء الاجناس.

و لعمري، هذا واضح، و لذا ليس في كلام القدماء: من كون الموضوع له او المستعمل فيه خاصا في الحروف عين و لا أثر، و انما ذهب اليه بعض من تأخر، و لعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره من خصوصيات الموضوع له، او المستعمل فيه، و الغفلة من ان قصد المعنى من لفظه على انحائه لا يكاد يكون من شئونه، و اطواره، و الّا فليكن قصده بما هو هو و في نفسه كذلك. فتأمل في المقام، فانه دقيق. و قد زل فيه اقدام غير واحد من اهل التحقيق و التدقيق.

الثالث فى كيفية استعمال المجازى

صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هي بالوضع، او بالطبع؟ ... وجهان، بل قولان: اظهرهما انها بالطبع، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه، و لو مع منع الواضع عنه، و باستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه، و لو مع ترخيصه. و لا معنى لصحته الا حسنه. و الظاهر ان صحة استعمال اللفظ في نوعه، او مثله من قبيله، كما تأتي الاشارة الى تفصيله.

الرابع- لا شبهة في صحة اطلاق اللفظ و ارادة نوعه به،

كما اذا قيل:

ضرب- مثلا- فعل ماض، او صنفه، كما اذا قيل: زيد في (ضرب زيد) فاعل (1)، اذا لم يقصد به شخص القول او مثله، كضرب في المثال فيما

______________________________

(1) لا يخفى ان زيدا باعتبار كونه لفظا ماهية من الماهيات، و طبيعة من الطبائع لها نوع: و هو طبيعي لفظ زيد- مثلا- الصادق على لفظ زيد- مثلا- مطلقا سواء كان في جملة، أو وحده، و سواء أ كان في جملة خاصة، ام لا، و لها صنف: و هو لفظ زيد

ص: 40

اذا قصد (1).

و قد اشرنا إلى ان صحة الاطلاق كذلك، و حسنه انما كان بالطبع، لا بالوضع، و الّا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها (2)،

______________________________

المقيد بكونه في جملة زيد قائم- مثلا- مع حفظ كليته له، فيصدق على لفظ زيد كلما تكلم متكلم بهذه الجملة، فان الصنف هو النوع المقيد بقيد على ان لا يخرجه عن الكلية، و لها مثل، كما لو قال القائل: كان زيد قائما، ثم يقول بعد ذلك: زيد في قوله هذا المتقدم لفظ، و هو مرادهم في المقام: من اطلاق اللفظ و ارادة مثله، و لها شخص:

و هو اطلاق اللفظ و ارادة شخص هذا اللفظ الذي تكلم به فعلا، فيقول: زيد لفظ، و يريد حمل اللفظ على خصوص لفظ زيد الذي تكلم به الآن. و لا اشكال في امكان اطلاق لفظ زيد و ان يراد به الحكاية عن طبيعته النوعية، او الصنفية، او فرد مثله- كما تقدمت امثلتها-، فيكون لفظ زيد حاك، و المحكي احد هذه الثلاثة. و انما الاشكال في الرابع: و هو ان يطلق لفظ (زيد) و يحمل عليه (لفظ)، و المقصود حمل (لفظ) على خصوص شخص زيد المتكلم به فعلا.

(1) لانه اذا قصد به شخص هذا القول، كان من اطلاق اللفظ و ارادة مثله، كما نبه عليه بقوله: «او مثله، كضرب في المثال فيما اذا قصد ... الخ»، فان مراده من شخص القول: هو ضرب الواقعة في هذه الجملة المشار اليها.

(2) يعني ان صحة اطلاق اللفظ و ارادة نوعه، او صنفه، او مثله ليس بالوضع، لان هذه الاستعمالات تصح في المهملات، فيصح ان يقال: ان ديزا لفظ باعتبار نوع لفظ ديز الصادر من أي احد، و ان يراد صنفه: بان يقيد بالصادر من شخص خاص، و زمان خاص، و ان يراد به مثله: بان يقول: ديز، ثم يقول بعد ان يتكلم: ديز الذي قد تكلمت به لفظ، و ان يراد به شخصه، و هو ان يقول: ديز لفظ، و يحمل اللفظ على خصوص شخص ديز، و لو كانت هذه الاطلاقات انما تصح بالوضع لما صحت في لفظ ديز، لانه من المهملات التي لم توضع.

ص: 41

و الالتزام بوضعها لذلك- كما ترى (1).

و أما إطلاقه و ارادة شخصه، كما اذا قيل: (زيد لفظ) و اريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال و المدلول، او تركب القضية من جزءين، كما في الفصول.

بيان ذلك: انه ان اعتبر دلالته على نفسه حينئذ لزم الاتحاد، و الّا لزم تركبها من جزءين، لأن القضية اللفظية على هذا انما تكون حاكية عن المحمول و النسبة لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع امتناع التركب الّا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين (2).

______________________________

(1) حاصله: انه لو التزم ملتزم: بان لفظ ديز لم يوضع لمعنى، لكنه وضع ليستعمل هذه الاستعمالات، فانه يرد عليه: ان هذه الاستعمالات تصح في مهمل لم تكن حروف هجائه من الاحرف العربية، الّا ان يلتزم: بان الواضع تصور لفظ المهمل فوضعه لأن يستعمل هذه الاستعمالات و لو بنحو الوضع العام و الموضوع له الخاص.

و هذا بعيد جدا.

(2) حاصله: ان اطلاق اللفظ و ارادة شخصه ان قصد به الحكاية بنفس اللفظ عن شخص نفسه لزم اتحاد الدال و المدلول و هو محال، لأن الدالية و المدلولية من المتضائفين، و التضايف من التقابل، و المتقابلان لا يجتمعان في واحد. هذا اذا قصد الحكاية، و ان لم تقصد الحكاية لزم تركب القضية المعقولة من جزءين، و تركب القضية من جزءين نسبة و محمول، و هو محال أيضا، لان النسبة لا تقوم بطرف واحد، بل لا بد من قيامها بطرفين موضوع و محمول.

بيان ذلك: ان القضية اللفظية في المقام ثلاثة: زيد، و لفظ، و هيئة الجملة الدالة على النسبة، و حيث ان زيدا في القضية اللفظية لم يقصد به الحكاية كما هو المفروض فان زيدا و إن خطر في الذهن إلّا انه لم يخطر بما انه موضوع قصد احضاره بالحكاية،

ص: 42

قلت: يمكن ان يقال: انه يكفي تعدد الدال و المدلول اعتبارا، و ان اتحدا ذاتا، فمن حيث انه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، و من حيث انّ نفسه و شخصه مراده كان مدلولا (1) مع ان حديث تركب القضية من

______________________________

إذ انه لا حكاية على الفرض، بل خطر بما انه صورة هذا اللفظ الذي تلفظ به، لا بما انه موضوع اللفظية، و الذي حضر على سبيل الحكاية هو النسبة و المحمول، فلزم تركب القضية المعقولة من جزءين.

(1) توضيحه: انه يمكن ان نختار الشق الاول، و نقول: يمكن ان يقصد بشخص اللفظ حكايته عن نفسه و لا يلزم المحال، لان المتقابلين هما حيثية الدالية، و حيثية المدلولية لا ذات الدال و ذات المدلول، فانه لا تقابل بينهما. كيف؟! و ربما يكون الشي ء الواحد بالذات مصداق المتضائفين، فان المحبيّة و المحبوبية من المتضائفين و يجتمعان في ذات الواجب عزّ و جل، فانه محب لذاته فهو محب و محبوب، إلّا ان حيثية المحبيّة غير حيثية المحبوبية، فان حيثية المحبيّة حيثية المضاف، و حيثية المحبوبية حيثية المضاف اليه، و لا يعقل كون حيثية المضاف هي حيثية المضاف اليه.

فان قلت: الواحد بالذات واحد من جميع الجهات.

قلت: انتزاع المفاهيم المتعددة من الواحد بالذات لا مانع منه، كانتزاع الموصوفية، و الصفتية من ذاته جل و علا، مع انه بذاته البسيطة هو الموصوف و هو الصفة، كما حقق في محله.

اذا عرفت هذا، نقول: ان في شخص زيد- مثلا- حيثيتين حقيقيتين هما حيثية كونه صادرا عن اللافظ، و حيثية كونه مرادا للافظ، و حيثية صدوره غير حيثية ارادته، فانه يراد فيصدر، فمن حيث كونه صادرا يكون دالا، و من حيث كونه مرادا يكون مدلولا، فالحكاية موجودة و لم يلزم اتحاد الدالية و المدلولية. هذا حاصل ما اجاب به عن المحذور الاول.

ص: 43

جزءين- لو لا اعتبار الدلالة في البين- انما يلزم اذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، و إلّا كان اجزاؤها الثلاثة تامة، و كان المحمول فيها منتسبا الى شخص اللفظ و نفسه، غاية الامر انه نفس الموضوع لا الحاكي عنه، فافهم، فانه لا يخلو عن دقة (1). و على هذا ليس من باب استعمال اللفظ

______________________________

و يمكن ان يقال: ان حيثية الصدور ان لم يقصد بها الحكاية عن كونه مرادا فدلالتها على كونه مرادا دلالة عقلية، لا دلالة حكائية، و المقصود الدلالة الحكائية، و إلّا فكل فعل صادر من فاعل تدل حيثية صدوره على كونه مرادا لفاعله، إلّا ان هذه الدلالة عقلية، كدلالة كل معلول على علته، و ان قصد الحكاية لزم كون كل شي ء واحد منظورا بالنظر الآلي و الاستقلالي، و هو محال، فانه لا شبهة ان المعنى و المدلول منظور اليه بالنظر الاستقلالي فحيثية كونه مرادا بما انها هي المدلول لا بد و ان تكون منظورة بالنظر الاستقلالي، و حيث ان حيثية الصدور معلولة و متفرعة من الحيثية المرادية و قد فرض في المقام: ان قصد الحكاية حيثية الصدور، فلا بد و ان تكون مرادة ايضا بنحو الآلية. فلزم ان تكون المرادية في المقام منظورة بنحو الاستقلال، لان المفروض انها هي المعنى و المدلول و منظورة بالنظر الآلي لأنها هي العلة لحيثية الصدور المفروض قصد الالية و الحكاية بها، فاجتمع النظر الآلي و الاستقلالي في واحد.

(1) حاصله: اختيار الشق الثاني، و هو: أنه نختار ان لا حكاية في البين و لا يلزم تركب القضية المعقولة من جزءين.

و بيانه: ان الاصل في صحة حمل محمول على الموضوع هو تحمل الموضوع لمبدأ المحمول، فتارة يكون مبدأ المحمول من ذاتيات الموضوع، و اخرى لا يكون من ذاتياته.

ففيما لم يكن مبدأ المحمول من ذاتيات الموضوع فلا بد من قصد الحكاية، ككون زيد قائما فان قيامه ليس من ذاتياته، و اما اذا كان مبدأ المحمول من ذاتيات الموضوع، كاللفظية فانها من ذاتيات اللفظ، فبمجرد سماع لفظ زيد يخطر في الذهن و لفظيته

ص: 44

.....

______________________________

معه، لأنها من ذاتياته، فلا يحتاج الى قصد الحكاية لان يجعل بها موضوعا لان يرد عليه المحمول، فان استعداده لموضوعية ان يحمل عليه لفظ ذاتي له، فان اللفظية من ذاتياته. و هذا بخلاف الموضوع الذي ليس مبدأ المحمول من ذاتياته، فانه لا بد من اعداده للموضوعية، و هي انما تكون بسبب الحكاية. و هذا مراده من قوله: «انما يلزم اذا لم يكن الموضوع شخص نفسه»، كما في مثل قولك: ضرب فعل ماض، فان كونها فعل ماض ليس من ذاتياتها، و لذا ربما تكون مبتدأ، كما في المثال المذكور، فان ضرب فيه مبتدأ، لا فعل ماض، ففي هذا المثال لا يمكن ان تكون موضوعا في القضية المعقولة من دون حكاية. اما لو كان الموضوع شخص نفسه،: أي ان موضوعيته من ذاتياته، كما لو قلنا: ضرب لفظ فان موضوعية ضرب لان يحمل عليها لفظ من ذاتياتها فلا يلزم تركب القضية المعقولة، فانها تخطر في الذهن مستعدة باستعداد ذاتي لان يحمل عليها لفظ. هذا مراده في الجواب عن المحذور الثاني.

و لكن يمكن ان يقال فيه: ان هناك كاشفا و هو القضية اللفظية و هناك مكشوفا و هو القضية المعقولة و حيث لم يقصد الحكاية فالموضوع و ان خطر في الذهن و له استعداد ذاتي لان يحمل عليه هذا المحمول لكن لم يخطر بما انه مكشوف، فانه اذا لم يقصد الحكاية لم تكن الكواشف في القضية اللفظية ثلاثة، بل اثنين: النسبة و المحمول، فالموضوع لم يخطر في الذهن بما انه منكشف، و يكون حال زيد و ضرب في حمل لفظ عليهما بلا قصد الحكاية كحال ما اذا ضربت بيدي على شي ء من دون تلفظ بلفظ هذا و نحوها، ثم احكم عليه بانه ضرب، فان النسبة لا بد في القضية المعقولة من تقومها بطرفين منكشفين بالقضية الملفوظة، و حيث لا حكاية لا تقوم النسبة بين طرفين مكشوفين، بل يخطر امران قصد بهما الكشف: النسبة و المحمول، و لا يكون موضوع منكشف باللفظ حتى يقع طرفا ثانيا للنسبة.

ص: 45

بشي ء (1)، بل يمكن ان يقال: انه ليس أيضا من هذا الباب ما اذا اطلق اللفظ و اريد به نوعه، او صنفه، فانه فرده و مصداقه حقيقة، لا لفظه و ذاك معناه، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى الى المخاطب خارجا، قد احضر في ذهنه بلا واسطة حاك، و قد حكم عليه ابتداء بدون واسطة اصلا، لا لفظه، كما لا يخفى (2). فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ لا بما هو خصوص جزئيّه.

نعم، فيما اذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

______________________________

(1) لوضوح ان الاستعمال يحتاج الى قصد الحكاية و المفروض انه لا حكاية، فان معنى استعمال اللفظ في شي ء هو جعل اللفظ حاكيا و مرآة لشي ء، و ليس على الفرض حكاية و مرآتية، بل اللفظ بمجرد سماعه من دون قصد الحكاية يحمل عليه لفظ، لانه واجد بالذات لطبيعة اللفظية.

(2) لا يخفى ان الفرد كما انه واجد لذاتي فرديته، كذلك واجد لذاتية نوعه و ذاتية صنفه، لوضوح ان الفرد هو الحصة من نوعه و صنفه مع زيادة المشخصات او التشخص. فحينئذ كما يجوز اطلاق لفظ زيد- مثلا- من دون قصد الحكاية و الحكم على شخصه بانه لفظ، لان لفظيته من ذاتياته كذلك يمكن من دون قصد الحكاية الحكم عند اطلاقه على نوعه، او صنفه بانه لفظ، لانه واجد لنوعه، و لصنفه، و اللفظية من ذاتيات نوعه و صنفه، كما كانت من ذاتيات شخصه.

نعم، لا يمكن الحكم عليه باعتبار مثله من دون قصد الحكاية، لان المثل ليس واجدا لهوية مثله، فلذا لا يصح الحكم بدون قصد الحكاية.

ص: 46

اللهم الّا ان يقال: ان لفظ (ضرب) و ان كان فردا له، إلّا انه اذا قصد به حكايته و جعل عنوانا له و مرآته، كان لفظه المستعمل فيه، و كان حينئذ كما اذا قصد به فرد مثله (1).

و بالجملة: فاذا اطلق و اريد به نوعه كما اذا أريد به فرد مثله، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى، و ان كان فردا منه، و قد حكم في القضية بما يعمه. و ان اطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه و مصداقه، لا بما هو لفظه و به حكايته، فليس من هذا الباب. لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك- كما لا يخفى (2)-، و فيها ما لا يكاد يصح ان يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل (ضرب فعل ماض) (3).

______________________________

(1) حاصله: انه اذا قصد الحكاية بزيد عن نوعه و صنفه يكون ملحوظا بما انه مرآة و حاك، لا بما انه مصداق و فرد، و يكون نسبته نسبة اللفظ و المعنى، و اللفظ بما هو غير المعنى، فيكون بهذا اللحاظ نسبة نوعه اليه، كنسبة مثله اليه.

(2) حاصله: انه يمكن ان يطلق لفظ زيد و يجعل حاكيا عن نوعه، و يحكم على نوعه بانه لفظ- مثلا-، و يكون شمول الحكم لشخص لفظ زيد من باب شمول القضية الطبيعية، و لذا قال: و إن كان فردا منه، و قد حكم في القضية بما يعمه، و يمكن أن يطلق لفظ زيد ليحكم عليه بما هو فرد كليه،: أي ليحكم عليه باعتبار نوعه او صنفه من دون قصد الحكاية، فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

(3) أي ما بيناه: من صحة الحكم على نوعه أو صنفه بنحوين: من الحكاية و عدمها إنما يتم فيما كان المحمول ذاتيا للشخص و النوع، لا فيما كان المحمول مما يختص بالنوع او الصنف، كما في (ضرب فعل ماض)، فان شخص ضرب في المثال مبتدأ، و ليس بفعل ماض، فلا يصح الحكم فيه من دون حكاية. نعم يصح ذلك في (ضرب لفظ).

ص: 47

الخامس وضع الالفاظ للمعانى الواقعية لا بما هى مرادة

لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بازاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه: من ان قصد المعنى على انحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه .. هذا مضافا الى ضرورة صحة الحمل و الاسناد في الجمل بلا تصرف في الفاظ الاطراف .. مع انه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه، بداهة ان المحمول على (زيد) في (زيد قائم) و المسند اليه في (ضرب زيد)- مثلا- هو نفس القيام و الضرب لا بما هما مرادان .. مع انه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما و الموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص ارادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فانه لا مجال لتوهم اخذ مفهوم الارادة فيه، كما لا يخفى. و هكذا الحال في طرف الموضوع.

و أما ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس و المحقق الطوسي: من مصيرهما الى ان الدلالة تتبع الارادة، فليس ناظرا الى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة- كما توهمه بعض الافاضل-، بل ناظر الى ان دلالة الالفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية: أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع ارادتها منها. و تتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت، و تفرع الكشف على الواقع المكشوف، فانه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للاثبات و الكشف و الدلالة مجال، و لذا لا بد من احراز كون المتكلم بصدد الافادة في اثبات ارادة ما هو ظاهر كلامه و دلالته على الارادة، و الّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، و ان كانت له الدلالة

______________________________

ص: 48

التصورية: أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع له، و لو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور و لا اختيار (1).

______________________________

(1) المشهور: ان الالفاظ موضوعة بازاء نفس المعاني من دون تقييدها بحيثية كونها مرادة للافظ. و نقل عن العلمين: الشيخ ابي علي، و الخواجة الطوسي (قدس سرهما): ان الالفاظ موضوعة بازاء المعاني مقيدة بكونها مرادة للافظها.

و لا بد من بيان امور توضيحا للمطلب:

الاول: ان المراد من الارادة التي وقع الكلام في امكان جعلها قيدا للمعاني هو مصداق الارادة، و هي الكيفية العارضة للنفس لا مفهوم الارادة، لان مفهوم الارادة هو ارادة بالحمل الاولي، و محل الكلام في القيدية هو الارادة بالحمل الشائع: أي الارادة التي يترتب عليها الآثار المطلوبة منها و هي الارادة الموجودة، و هي التي تكون ارادة بالحمل الشائع، و انما لم يكن مفهوم الارادة و ما هو بالحمل الاولي محلا للكلام، لوضوح ان المستعمل للفظ في المعنى يكون قد أراد المعنى بارادة حقيقية، فالمعنى قد تقيد بحقيقة الارادة، لا بمفهوم الارادة.

الثاني: ان ارادة المعنى من شئون الاستعمال و متعلقاته، فان المتكلم يريد استعمال اللفظ في المعنى فيستعمله فيه، فالارادة متعلقة بالاستعمال، و الاستعمال متعلق بالمعنى، و هذا هو المراد بقوله: «ان قصد المعنى على انحائه من مقومات الاستعمال».

الثالث: ان مطابق الكلام المقصود به الحكاية في قولك- مثلا-: زيد قائم هو زيد الخارجي و القيام الخارجي، و معلوم ان الذي في الخارج هو زيد و القيام المراد، لا زيد المراد و لا القيام المراد، و كذلك المسند و المسند اليه في ضرب زيد، لا ضرب المرادة و لا زيد المراد.

الرابع: ان الدلالة إما تصورية او تصديقية، و الاولى: هي خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ، فهي تتوقف على شعور السامع و سماعه اللفظ و علمه بوضعه

ص: 49

.....

______________________________

لمعناه. اما من المتكلم فلا تتوقف الّا على تكلمه به و لو بلا شعور، بل و لا تتوقف على تكلم متكلم، و إنما تتوقف على وجود هذه الكيفية في الهواء و لو من جماد فضلا عن حيوان.

و الثانية: أي الدلالة التصديقية: و هي تصديق السامع كون المتكلم مريدا هذا المعنى من اللفظ و هي تتوقف من طرف السامع على ما ذكرنا، و من طرف المتكلم على شعوره و ارادته ايجاد المعنى باللفظ، و على شرط آخر للسامع و هو ان يحرز ان المتكلم بصدد الافادة و اثبات ارادة ما هو ظاهر كلامه.

اذا عرفت هذا، تعرف: انه لا يعقل ان يضع الحكيم الالفاظ للمعاني المقيدة بكونها مرادة للافظها للزوم الدور الواضح، فانه لا يعقل ان يفعل ما يلزم منه المحال في مقام الاستعمال، فانه و ان امكن في مقام الوضع ان يضع اللفظ بازاء المعنى المتقيد بالارادة، الّا انه يلزم من قيده هذا الدور في مقام الاستعمال، لان ارادة المستعمل تتعلق بالاستعمال فهي متأخرة عنه و الاستعمال يتعلق بالمعنى فهو متأخر عنه، فاذا تقيد المعنى بالارادة يكون المستعمل فيه متقيدا بما يتأخر عنه بمرتبتين، فالارادة من حيث كونها جزء المعنى المستعمل فيه و متعلقة للاستعمال تكون متقدمة و من حيث انها تتأخر عن الاستعمال المتأخر عن المعنى تكون متأخرة. و الى هذا اشار بقوله:

«فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه».

و ايضا، يلزم التجريد في مقام الاستعمال لما عرفت في الامر الثالث: ان المقصود في مثل زيد قائم الحكاية عما في الخارج، و الذي في الخارج هو زيد، لا زيد المراد، و كذلك القيام، و لان زيدا المتقيد بكونه مرادا لا ينطبق على ما في الخارج، لان المتقيد بامر نفسي لا مطابق له في الخارج، فان كل فعلية تنافي الفعلية الاخرى، فان الماهية التي تكون فعليتها الوجود النفساني غير الماهية التي فعليتها الوجود الخارجي. فلا بد حينئذ من التجريد و لا داعي عقلائي للحكيم ان يضع اللفظ لما لا بد من تجريده منه دائما. و يحتمل ان ما قلناه هو مراده من قوله: «هذا مضافا الخ».

ص: 50

.....

______________________________

و يحتمل ان يكون مراده نحوا آخر من الاستدلال.

و حاصله: انه لا شبهة في ان الحمل و الاسناد في هذه الجمل لا تصرف فيه بالتجريد مع انه لو كانت الالفاظ موضوعة للمعاني المتقيدة بالارادة للزم التجريد و التصرف. فعدم التجريد و التصرف في مقام الاستعمال دليل على ان الموضوع له هو نفس المعنى، لان المستعمل فيه في هذه الجمل هو المعنى الموضوع له. فاتضح حينئذ ان الموضوع له لم يتقيد بالارادة.

و يلزم ايضا، أن تكون عامة الالفاظ لو كانت الارادة قيدا للمعاني موضوعة بالوضع العام و الموضوع له الخاص، لما عرفت- فيما تقدم-: من أن الارادة التي هي قيد للمعنى هي حقيقة الارادة بالحمل الشائع، فيكون الموضوع له هو المعنى المتقيد بالارادة الخاصة للمتكلم، و هذه الارادات النفسانية لا جامع لها بما هي موجودة، و نسبة مفهوم الارادة اليها نسبة العنوان الى المعنون، فيكون المتصور حال الوضع عنوان الارادة، و الموضوع له هو المعنون و هي حقيقة الارادة، و قد اشار الى هذا بقوله: «مع انه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما ... الخ».

فتحصل من جميع ما ذكرنا: ان الموضوع له في الالفاظ هو المعاني من دون قيد الارادة: أي ان الواضع اعتبر العلقة بين طبيعي اللفظ و طبيعي المعنى من دون تقيده بكونه مرادا، فعند حصول اللفظ يخطر المعنى في ذهن السامع لجعل العلقة و الملازمة و لو لم يكن متكلم في البين، بل كان حصول اللفظ من جماد و نحوه، فالدلالة التصورية غير مقيدة بالارادة.

نعم، المتقيدة بالارادة هي الدلالة التصديقية، و قد عرفت- في الامر الرابع- توقفها على شعور المتكلم و ارادته، و احراز السامع انه بصدد البيان و الافادة.

و ينبغي ان يكون مراد العلمين: من تبعية الدلالة للارادة هي تبعية الدلالة التصديقية لها، لا التصورية لما تقدم من البراهين القاضية بعدم تقيد المعنى الموضوع له بالارادة، و توقف الدلالة التصديقية على الارادة واضح لأنها من اجزاء علتها،

ص: 51

ان قلت: على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ و القطع بما ليس بمراد، او الاعتقاد بارادة شي ء و لم يكن له من اللفظ مراد (1).

قلت: نعم، لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون هناك جهالة و ضلالة يحسبها الجاهل دلالة.

و لعمري! ما أفاده العلمان من التبعية على ما بيناه واضح لا محيص عنه، و لا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم ان يجعل كلامهما ناظرا

______________________________

و الدلالة التصديقية تتفرع عليها تفرع مقام الاثبات على مقام الثبوت، و تفرع الكشف على الواقع المكشوف، فانه حيث لا ثبوت لا اثبات، و حيث لا مكشوف لا كشف.

و قد عرفت- في الامر الرابع: أن الدلالة التصديقية من جملة ما تتوقف عليه ارادة المتكلم لايجاد المعنى باللفظ.

(1) حاصل المراد بهذا الايراد: انه لو كانت الدلالة التصديقية تتوقف على وجود الارادة للزم ان لا تتحقق في مقامين:

الاول: فيما اذا قطع السامع: بان المتكلم اراد معنى و كان السامع قد أخطأ، لان المتكلم كان مريدا لمعنى آخر غير المعنى الذي قطع به السامع ان المتكلم اراده، فانه يلزم ان لا يكون في مثل هذا دلالة.

الثاني: فيما اذا اعتقد السامع ان المتكلم اراد معنى من اللفظ، و لكن المتكلم لم يرد بتكلمه باللفظ ارادة ايجاد معنى به، بل كان غرضه صرف التكلم بنفس اللفظ و هذا هو معنى كلامه في قوله: «أو الاعتقاد بارادة شي ء و لم يكن له من اللفظ مراد»: أي لم يكن للمتكلم ارادة معنى من اللفظ، فان عدم التحقق في هذين المقامين انما يلزم لو كانت الدلالة التصديقية تابعة و متفرعة على وجود الارادة، و اما اذا كانت تابعة لاحراز السامع ارادة المتكلم و ان لم تكن في الواقع موجودة ففي المقامين تكون دلالة لغرض الاحراز.

ص: 52

الى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل فضلا عمن هو علم في التحقيق و التدقيق؟! (1).

______________________________

(1) و حاصله: انا نلتزم: بانه ليس في المقامين دلالة، و انما هي جهالة و ضلالة.

و برهان ذلك: انه بعد الانكشاف يرى السامع ان الدلالة التي قطع بها كانت تخيلا بحتا و توهما صرفا.

اقول: هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب عدم كون كلام العلمين ناظرا الى الدلالة التصورية الّا ان كلام العلمين صريح في ارادتها دون الدلالة التصديقية كما ذكره العلامة (قدس سره) لما اورد عليه بانتقاض تعريف الدلالات و تداخلها، فانهم عرفوها: بان دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة و على جزئه تضمن و على الخارج عنه التزام، ففيما لو كان اللفظ مشتركا بين كله و جزئه فيكون اللفظ الدال على معنى بالتضمن دالا عليه بنفسه بالمطابقة، فقال العلامة (قدس سره): لما اوردت الاشكال على الخواجة (قدس سره) أجاب عنه: بان الدلالة تابعة للارادة: يعني أن اللفظ لم يوضع لنفس المعنى حتى تتداخل الدلالات، بل الموضوع له هو المعنى المتقيد بالارادة، فالمدلول عليه بالتضمن هو جزء المعنى المتقيد بأنه متعلق إرادة تعلقت بكله، و المدلول عليه بالمطابقة هو المعنى المتقيد بارادة تعلقت به بما انه كل المعنى، فليس المدلول عليه فيهما واحدا فلا تتداخل الدلالات، و هذا صريح في الدلالة التصورية. و مثله في الصراحة جواب الشيخ عن ايراد الانتقاض و التداخل في تعريف المفرد و المركب. و الذي دعا هذين العلمين الى هذا القول هو ان حكمة الواضع لا تدعوه إلّا الى ما يتعلق به غرضه و هو ما يراد و يستعمل فيه اللفظ، دون اعتبار العلقة بين مطلق اللفظ و المعنى، و حيث لا يمكن ان يخفى على هذين لزوم الدور: من اخذ نفس الارادة قيدا في المستعمل فيه، و لزوم التجريد في مقام الاستعمال دائما، فلا بد و ان يكون مرادهم من التقييد هو لحاظ الارادة مشيرة الى الحصة الخاصة من مطلق المعنى، فلا يلزم دور و لا تجريد.

ص: 53

السادس وضع المركبات

اشارة

لا وجه لتوهم وضع للمركبات غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة اليه بعد وضعها بموادها في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكرا) شخصيا، و بهيئاتها المخصوصة من خصوص اعرابها نوعيا، و منها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب و الاضافات بمزاياها الخاصة، من تأكيد و حصر و غيرهما، نوعيا، بداهة ان وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها- كما لا يخفى- من غير حاجة

______________________________

نعم يلزم كون الوضع عاما و الموضوع له خاصا، و ليس في الالتزام به كثير بأس، فانه يلتزم به القائل بالتعهد ايضا.

و اما ما يدعى: من قيام الوجدان على دلالة اللفظ على المعنى، و إن حصل ممن لا شعور له، و لا قصد فممنوع: بان هذا ليس من الدلالة، بل السبب في استيناس الذهن بحصول المعنى عنده لاجل تكرار استعمال اللفظ فيه، لا دلالة عليه.

فالدلالة حقيقة: هي كون اللفظ مقصودا به المعنى، اما حكاية، او إنشاء، بل و لو عبثا فهي من شئون الاستعمال و مختصاته، فحيث لا قصد و لا استعمال لا دلالة.

و ربما يؤكد كلام العلمين: بانه لو كان الوضع هو اعتبار العلقة بين اللفظ و المعنى من دون تقييد اصلا، و انه تكون للفظ دلالة و لو حصل من جماد، او حيوان، فيكون لذات اللفظ بعد الجعل و الاعتبار دلالة على ذات المعنى، و لو لم يوجد من متكلم به و مستعمل له، للزم على هذا ان تكون للفظ دلالتان اذا استعمل في غير ما وضع له:

احداهما: دلالته الذاتية على المعنى غير المنوطة باستعمال مستعمل، بل هو امر من لوازم نفس وجود اللفظ، و الثانية: دلالته على المعنى الذي قصده المستعمل و جعل اللفظ وجودا تنزيليا له، و مبرزا له.

الّا انه يمكن ان يقال: إن الواضع لم يعتبر للفظ مطلق الملازمة، بل قيد الدلالة بما اذا لم يقصد به غير المعنى الموضوع له.

ص: 54

الى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة على المعنى، تارة بملاحظة وضع نفسها، و أخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

و لعل المراد من العبارات الموهمة لذلك، هو وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كل واحد منهما (1).

______________________________

(1)

هل للمركبات وضع مستقل؟

لا شبهة ان للجملة بمفرداتها اوضاعا متعددة:

احدها: وضع المواد فيها و هي موضوعة بالوضع الشخصي و هو ما كان للموضوع له طبيعة واحدة سواء كانت شخصية كزيد، أم نوعية، كضاد، و راء، و باء الموجودة في ضرب و ضارب و مضروب و غيرها من مشتقاتها.

ثانيها: هيئة مفرداتها أيضا، فانها موضوعة بالوضع النوعي، كهيئة ضرب- مثلا- فانها موضوعة بالوضع النوعي، لانه ليس لهيئة ضرب وحدة شخصية كزيد، و لا نوعية كضاد، و راء، و باء لانها توجد في ضرب و قام و غيرها مما كان على وزنها، فما ليس له وحدة موضوع يسمى عندهم بالوضع النوعي.

ثالثها: وضع هيئة الجملة في الدلالة على الربط، كما هو رأي المحققين من علماء العربية دون الاعراب و الضمير المستتر.

رابعها: وضع هيئة الجمل من ناحية التقديم و التأخير، و الفصل و الوصل للدلالة على الاختصاص، او الحصر، أو نحو ذلك من دلالات هيئة الجمل.

و من البعيد أن يقول احد بوضع خامس، غير هذه الاوضاع الاربعة، و هو وضع الجملة بكلها لمعناها بكله، لانه لغو اولا، و ثانيا: يلزم تحصيل الحاصل فان المعنى قد حصل بواسطة الاوضاع الاربعة، فان حصل مرة ثانية لزم تحصيل الحاصل، و لانه خلاف الوجدان، فانا لا نرى حصول المعنى في الجملة مرتين، و لازم وضعها بعد الاوضاع الاربعة حصول المعنى مرتين، و قد اشار المصنف الى اللغوية بقوله: «بداهة أن وضعها ... الخ» و الى المحذور الثاني: من تحصيل الحاصل، و مخالفة الوجدان بقوله: «مع استلزمه الدلالة ... الخ».

ص: 55

السابع- لا يخفى ان تبادر المعنى من اللفظ و انسباقه الى الذهن من نفسه، و بلا قرينة علامة كونه حقيقية فيه، بداهة انه لو لا وضعه له لما تبادر (1).

لا يقال: كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بأنه موضوع له كما هو واضح. فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار (2).

فانه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فان العلم التفصيلي بكونه موضوعا له موقوف على التبادر، و هو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به لا التفصيلي، فلا دور. هذا اذا كان المراد به التبادر عند المستعلم.

______________________________

(1)

السابع: علامات الحقيقة و المجاز

اشارة

قد ذكر للحقيقة علامات:

منها، تنصيص علماء اللغة: و هو يتوقف على حجية قول اللغوي، و سيأتي الحق فيه عند التعرض له في مباحث الظن.

التبادر

و منها، التبادر: و هو انسباق المعنى الى الذهن من حاق اللفظ من دون قرينة، و لا شك انه من علائم الحقيقة، لأن انسباق المعنى من اللفظ ينحصر في امرين: اما الوضع له، او لاستعمال اللفظ فيه مجازا و بالقرينة، و حيث فرض انه لا قرينة، فلا بد و ان يكون للعلم بالوضع.

(2) حاصله: لا اشكال في ان التبادر يتوقف على العلم بالوضع، و إلّا لحصل لعامة الناس، و لا شبهة انه لا يحصل التبادر في لغة العرب لغير العربي، كما لا يحصل للعربي في اللغات الاخرى، حيث لم يكن من اهل اللغة ايضا.

فاتضح: ان التبادر يتوقف على العلم بالوضع، فاذا كان متوقفا على العلم بالوضع فكيف يكون علامة على العلم بالوضع، فان جعله من علائم الحقيقة معناه ان يكون التبادر موجبا للعلم بالوضع و ان اللفظ حقيقة في المعنى، فما كان معلولا للعلم بالوضع كيف يكون علة للعلم بالوضع. و هل هذا إلا دور واضح؟.

ص: 56

و اما اذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير اوضح من ان يخفى (1).

ثم ان هذا فيما لو علم استناد الانسباق الى نفس اللفظ. و أما فيما احتمل استناده الى قرينة فلا يجدي أصالة عدم القرينة في احراز كون الاستناد اليه، لا اليها- كما قيل-، لعدم الدليل على اعتبارها الّا في احراز المراد، لا الاستناد (2).

______________________________

(1) حاصله: ان العلم الموقوف عليه التبادر و هو العلم الاجمالي بالوضع غير الموقوف على التبادر، و هو العلم التفصيلي بالوضع.

و توضيحه: ان العلم الاجمالي يطلق على معان:

- منها: كون العلم بالعلم علما اجماليا بالخاص.

- و منها: كون المعلوم بالتفصيل مرددا بين فردين، و هو العلم المشوب بالجهل، و هو العلم الاجمالي في مصطلح الاصوليين.

- و منها: العلم الارتكازي: أي العلم الحاصل للنفس الغافلة عنه النفس، فان كثيرا ما يحصل للشخص علم، و لكن ليس له علم بعلمه، و هذا هو المراد بالعلم الاجمالي في المقام.

فحينئذ نقول: ان التبادر يتوقف على هذا العلم الاجمالي، و لذا من ليس له هذا العلم لا يتبادر، و الذي يفيده التبادر و يكون علامة له هو العلم بهذا العلم. فاذا الموقوف عليه التبادر غير الموقوف على التبادر.

(2) لا يخفى انك قد عرفت: ان التبادر انما يكون علامة الحقيقة حيث لا تكون قرينة، و يكون الانسباق مستندا الى حاق اللفظ، فاذا شك في كونه مستندا الى حاق اللفظ و احتمل استناد الانسباق الى قرينة لا يكون علامة للحقيقة، لان انحصار ما يمكن ان يكون مستندا لامرين في احدهما بخصوصه، إنما يكون اذا علم بعدم الآخر.

ص: 57

.....

______________________________

لا يقال: انه يمكن احراز عدم الامر الآخر، و هو القرينة في المقام بالاصل، و هو أصالة عدم القرينة فيتم المطلوب، فانه انسباق من اللفظ من دون قرينة، اما الانسباق فبالوجدان، و اما كونه غير مستند الى القرينة فببركة أصالة عدم القرينة.

فانه يقال: لا يجدي اصالة عدم القرينة في احراز كون التبادر مستندا الى حاق اللفظ، فانه في مورد التبادر، و كونه علامة للحقيقة لا مجرى لاصالة عدم القرينة، فان مجراها لو قيل بها في مقام الشك في المراد، لا في الاستعمال و كونه حقيقة أو مجازا.

و توضيح ذلك: ان كيفيات الشك مختلفة:-

- منها: انه ربما يتميز المعنى الحقيقي من المعنى المجازي، و لكن لم يعلم ان الذي اريد باللفظ من هذا الاستعمال هو معناه الحقيقي، أو معناه المجازي، إذ ربما نصب المستعمل قرينة و خفيت، أو سقطت، و في هذا المقام يمكن ان يقال: ان العقلاء بنوا على اصالة عدم القرينة، و حمل الكلام على معناه الحقيقي، لو لم يناقش: في ان بناء العقلاء ليس على اصالة عدم القرينة، بل على الظهور لو كان، لانه فيما لو احتف الكلام بما يحتمل قرينيته لا يحملون الكلام على المعنى الحقيقي، و لو كان بناؤهم على أصالة عدم القرينة لما كان فرق بين الشك في وجود القرينة، و الشك في قرينية الموجود.

- و منها: فيما اذا لم يتميز المعنى الحقيقي من المعنى المجازي، و لم يعلم أي المعنيين او المعاني هو الحقيقي و الآخر هو المجازي. و هذا هو مورد علائم الحقيقة و علائم المجاز، و كون التبادر، أو غيره من صحة الحمل و غيرها علائم للحقيقة. و ليس في هذا المقام بناء من العقلاء على احراز الحقيقة باصالة عدم القرينة، لو صح لهم بناء عليها، و لذا قال: «لعدم الدليل على اعتبارها إلّا في احراز المراد، لا الاستناد»: أي لا في احراز ان التبادر مستند الى حاق اللفظ.

ص: 58

ثم ان عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا كذلك عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما ان صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.

و التفصيل: ان عدم صحة السلب عنه، و صحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى، و بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا بنحو من أنحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه و أفراده الحقيقية (1)، كما ان صحة سلبه

______________________________

(1)

صحة السلب

ان من جملة علائم الحقيقة عدم صحة السلب: أي عدم صحة سلب لفظ بماله من المعنى عن آخر علامة انه حقيقة فيه في الجملة، لا دائما.

و حيث ان مرجع عدم صحة السلب عنه الى صحة الحمل، لذلك قال:

«و التفصيل ان عدم صحة السلب عنه و صحة الحمل». و توضيح هذا التفصيل الذي هو شرح لقوله في الجملة:

ان لنا حملا اوليا: و ملاكه اتحاد الموضوع و المحمول بحسب الماهية، سواء اتحدا بحسب المفهوم ايضا، كالانسان و البشر: و هو المسمى بحمل الترادف، او اختلفا بحسب المفهوم، كالانسان و الحيوان الناطق، فانهما متحدان ماهية، لا مفهوما، و لذلك كان الحيوان الناطق تعريفا حقيقيا للانسان، و شارحا لما تتركب فيه ذاته، و مفهومه الملحوظ بنحو الجميع بما هو مسمى لفظ الانسان، و لو اتحدا مفهوما لكان التعريف لفظيا، لا شارحا و مبينا لحقيقته، و لا شك ان صحة الحمل بهذا المعنى علامة الحقيقة، لوضوح ان المتحدين ماهية يكون استعمال احدهما في الآخر حقيقيا.

و الثاني، الحمل الشائع الصناعي: و ملاكه كون الموضوع و المحمول متحدين في الوجود، لا في الماهية و المفهوم، و هو على انحاء حمل الكليين المتساويين، كحمل الكاتب على الضاحك، و حمل الكليين اللذين بينهما عموم من وجه، كالابيض و الانسان، و حمل العام على الخاص، و هو على نحوين: حمل الكلي على فرده،

ص: 59

.....

______________________________

كحمل الانسان على زيد، و حمل كلي على كلي اخص منه بحيث لا يكون متحملا لحصة منه كحمل الحيوان على الناطق، فان مبدأ النطق ليس مبدأ الحيوان، و ليس الناطق متحملا لحصة من الحيوان، بل هو فصل الحيوان الذي به يكون انسانا، و لا شك ان حمل الكلي على فرده إنما هو لاتحاد الكلي مع الحصة الموجودة منه في ضمن الفرد، فان الحصة هي نفس الكلي بزيادة ما اضيفت اليه الحصة، فالكلي متحد مع الحصة اتحادا حقيقيا، و الوجود الواحد مضاف الى كل منهما بالذات. فهذا القسم من اقسام الحمل الشائع: و هو حمل الكلي على فرده علامة ان الكلي حقيقة في الفرد باعتبار حصته و مصداقيته للكلي من جهتها.

و اما بقية أقسام الحمل الشائع فلا تكون علامة للحقيقة، لان السبب في صحة الحمل ليس اتحاد الماهية، كما في الحمل الاولي، لان المفروض انه حمل شايع، لا أولي، و لا اتحاد مع الفرد باعتبار الحصة و ان هناك وجودا واحدا هو وجود بالذات لكل منهما حتى يدل على كونه حقيقة من ناحية حصته، بل السبب في صحة الحمل هو أن الموضوع و المحمول متصادقان في موجود واحد، فالكاتب صادق على موجود يصدق عليه الضاحك، لان مبدأ الكاتبيّة متحد مع مبدأ الضاحكية، و كذلك الانسان و الحيوان و الناطق.

نعم، الحيوان و الانسان هما من قبيل الكلي و الفرد، لان الحيوان متحد مع حصته الموجودة في ضمن الانسان، و كذلك الانسان و الناطق، فان الانسان متحد وجودا مع الناطق، لوضوح اتحاد النوع مع فصله في الوجود و ان اختلفا ماهية، لبداهة كون ماهية الكل غير ماهية جزئه.

و قد اشار المصنف الى ما قلناه: من اختصاص العلامة بخصوص حمل الكلي على فرده من انحاء الحمل الشائع بقوله: «و بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا، بنحو من انحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه، و افراده الحقيقية».

ص: 60

كذلك علامة انه ليس منهما (1)، و ان لم نقل: بأن اطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، و ان التصرف فيه في أمر عقلي كما

______________________________

و قد علق هو (قدس سره) على هذا المقام بقوله: «فيما اذا كان المحمول و المحمول عليه كليا و فردا، لا فيما إذا كانا كليين متساويين او غيرهما كما لا يخفى». انتهى 11].

(1) يعني: انه اذا لم يتصادق المحمول و الموضوع اصلا، و صح سلب احدهما عن الآخر حقيقة فلا بد ان يكونا من المتباينين، و لا شك ان استعمال احد المتباينين في الآخر من المجاز اذا لم يكن غلطا، اما صحة السلب بنحو عدم الحمل الاولي وحده فليس علامة المجاز لجواز صحة حمله عليه بنحو الكلي و الفرد، لا بنحو الحمل الاولي. نعم صحة السلب بنحو الجامع بين الحمل الاولي، و الكلي و فرده علامة ان كلا منهما غير متحد مع الآخر ماهية، و لا احدهما متحد مع الآخر بحصة منه، فلا بد و أن مبدأ كل منهما مباين مع مبدأ الآخر، فان حمل احدهما على الآخر باعتبار انه عينه، او متحد معه بحصة منه كان استعمالا مجازيا، فان استعمال الضاحك في مفهوم الكاتب لا شك انه مجاز.

و قد يظهر مما ذكرنا ايضا: انه اذا لم يتحد المحمول و الموضوع، و لو بنحو التصادق على الموجود صح سلب كل منهما عن الآخر، و كان دليلا على تباينهما، فتكون صحة السلب ايضا علامة المجازية، و قد اشار المصنف الى ما ذكرنا بقوله: «كما ان صحة سلبه كذلك علامة انه ليس منها»، و اذا لم يكن منها، كان استعماله فيه مجازا.

نعم، لا بد و ان يستثنى: من كون صحة سلب الاتحاد بنحو الحمل الشائع علامة للمجاز فيما اذا كان المقصود بالحمل الشائع هو اتحاد مصداق الموضوع و مصداق المحمول، لا فيما اذا كان الفرض كون الموضوع بنفسه من مصاديق المحمول.

ص: 61

صار اليه السكاكي (1).

و استعلام حال اللفظ و انه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر: من التغاير بين الموقوف، و الموقوف عليه بالاجمال و التفصيل، أو الاضافة الى المستعلم و العالم، فتأمل جيدا (2).

______________________________

و توضيح ذلك: ان الملاك في الحمل الشائع هو اتحاد الموضوع و المحمول، فاذا كان المفهوم في الموضوع مرآة للافراد صح الحمل في قولك: الجزئي جزئي بالحمل الشائع، و ان كان الفرض من مفهوم الموضوع نفسه لم يصح قولك: الجزئي جزئي بالحمل الشائع، فان مفهوم الجزئي كلي بالحمل الشائع، لا جزئي. فحينئذ صحة سلب الجزئي عن مفهوم الجزئي بهذا اللحاظ لا يكون علامة المجازية.

(1) اذا لم يصح حمل شي ء على شي ء بنحو الحقيقة، و صح سلبه عنه، كشف عن ان استعماله فيه يكون مجازيا، سواء كان المجاز في الكلمة، او في الاسناد، فان المجاز في الاسناد و ان كان التصرف فيه في امر عقلي و اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، الّا انه لا بد و ان يكون ما ادعي من مصاديقه ليس من مصاديقه حقيقة، و الّا لم يكن معنى للادعاء.

(2) يعني ان ما يورد على التبادر: من توهم الدور، يمكن ان يورد هنا، و يقال: ان صحة حمل شي ء على شي ء بنحو الحقيقة يتوقف على العلم بكونه حقيقة فيه، فكيف يكون علامة للعلم بالحقيقة بعد ان كان موقوفا على العلم بالحقيقة. و الجواب ما تقدم: من ان صحة الحمل تتوقف على العلم الاجمالي الارتكازي، و ما يتوقف على صحة الحمل هو العلم التفصيلي بانه حقيقة فيه. هذا بالنسبة الى صحة الحمل عند العالم نفسه، و اما كون صحة الحمل عند العالم تدل على الحقيقة عند المستعلم، فارتفاع الدور فيه واضح جدا.

ص: 62

ثم انه قد ذكر الاطراد و عدمه علامة للحقيقة و المجاز أيضا (1).

و لعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، و الّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة (2)، و زيادة قيد من غير تأويل، او على وجه

______________________________

(1)

الاطراد و عدمه

قد ذكر الاطراد علامة للحقيقة، و عدمه علامة للمجاز، و ليس غرضهم من الاطراد صرف تكرار الاستعمال، فان المجاز ايضا متكرر الاستعمال، بل غرضهم من هذه العلامة: انها تدل على الحقيقة في مورد مخصوص و هو ما اذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد، كاطلاق لفظ الاسد بما له من معنى كلي على زيد، و من المقطوع به: ان زيدا بما هو زيد ليس معنى حقيقيا للفظ، لكنه يشك في ان الكلي الموضوع له لفظ الاسد هل هو مستعمل في زيد باعتبار انه احد مصاديقه فلا بد و ان تكون حصة منه موجودة بوجود نفس زيد، او انه مستعمل في نفس زيد مجازا، فاذا وجدنا صحة اطلاق ذلك اللفظ، باعتبار كليه مطردا على افراد أخر تجتمع مع زيد في نوعه كشف صحة هذا الاطلاق مطردا على ان الكلي الموضوع له اللفظ اطلاقه على هذه الافراد حقيقة، لأن صحة اطلاق لفظ بما له من المعنى على فرد معلول لاحد امرين اما لانه موضوع لمعنى كلي هذا الفرد أحد مصاديقه الحقيقية، او مستعمل في هذا الفرد مجازا.

و حيث ان علائق المجاز غير مطردة فانا قد سبرنا علائق المجاز فوجدناها غير مطردة، كعلاقة الكل و الجزء، و المشابهة، و امثالها. و عليه فلا بد و ان يكون سبب هذا الاطراد هو الحقيقة، و اذا استعمل و لم يكن مطردا دل على ان الاستعمال مجازي، فالاطراد علامة الحقيقة و عدمه علامة المجاز.

(2) يشير بهذا الى الجواب عما اورده الشيخ الاعظم على هذه العلامة.

و حاصل ما اورده (قدس سره): ان المجاز بلحاظ العلاقة التي سببت صحة استعماله ايضا مطرد كالحقيقة، مثلا: المصحح لاستعمال الاسد في زيد هو علاقة المشابهة، فكلما وجد المشابه في فرد آخر صح اطلاق الاسد عليه بهذه العلاقة.

ص: 63

الحقيقة، و ان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، الّا انه حينئذ لا يكون علامة لها الّا على وجه دائر، و لا يتأتي التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا، ضرورة انه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره (1).

______________________________

و المصنف يشير الى جوابه، و حاصله: ان علامة المشابهة للاسد غير مطردة النوع، فان كثيرا ما يشابه الاسد غيره من افراد الانسان، او افراد غير الانسان من انواع الحيوان، كالانسان المشابه للاسد في بخره او لبده او حمرة عينيه لا يحسن، بل لا يصح اطلاق الاسد عليه.

نعم، بملاحظة خصوص الشجاعة فاطلاق الاسد مطرد على كل فرد شابهه في الشجاعة، و لذا قال (قدس سره): «و الّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة».

و لكن مع ذلك يمكن ان يخدش في كون الاطراد علامة الحقيقة: انه ربما يشك في كون الاسد موضوعا للحيوان المفترس، او لمفهوم الشجاع، و لو كان موضوعا لمفهوم الشجاع لم يكن مطردا في غير امثال زيد من افراد الانسان الجبان، فلا يكون عدم الاطراد علامة لان يكون استعمال الاسد في زيد مجازا، لاحتمال كونه موضوعا لمفهوم الرجل الشجاع، و لذا لا يطرد في غير زيد من افراد الرجل الجبان.

(1) ربما زاد بعضهم في جعل الاطراد علامة الحقيقة، و لعل الفرق بين غير تأويل، و على وجه الحقيقة: هو أن الاول اشارة الى المجاز على رأي السكاكي، و الثاني اشارة الى المجاز في الكلمة، و الظاهر انه لا فرق بينهما، لانه في كل مجاز تأويل، و كل مجاز ليس على نحو الحقيقة، و لو كان على وجه الحقيقة حقيقة لما احتاج الى الادعاء.

و على كل حال فزيادة هذا القيد غير صحيحة، لانه يلزم منها الدور، لانه بعد معرفة ان الاستعمال على وجه الحقيقة لا داعي الى العلامة، و مع عدم العلم بانه

ص: 64

الثامن احوال اللفظ و تعارضها

انه للفظ أحوال خمسة، و هي: التجوز، و الاشتراك، و التخصيص، و النقل، و الاضمار ... لا يكاد يصار الى احدها- فيما اذا دار الامر بينه و بين المعنى الحقيقي- الّا بقرينة صارفة عنه اليه. و أما اذا دار الامر بينها، فالاصوليون و ان ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها، الّا انها استحسانية لا اعتبار بها، الّا اذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى (1).

______________________________

على وجه الحقيقة لا يكون الاطراد علامة للحقيقة، لان الاطراد الذي هو علامة الحقيقة هو الاطراد المقيد بكونه على وجه الحقيقة، بناء على هذه الزيادة.

فاتضح حينئذ: أن كون الاطراد علامة للحقيقة يتوقف على العلم بالحقيقة، و فرض كونه علامة للحقيقة أن العلم بالحقيقة يتوقف عليه.

و لا يدفع: بالاجمال و التفصيل، كما ذكر في جواب الايراد على التبادر، و على صحة الحمل، فانه لم يؤخذ فيهما قيد الحقيقة، و انما اورد عليهما: بانهما يتوقفان على العلم بالحقيقة، فاجيب: بأن ما يتوقفان عليه هو العلم الارتكازي، و اما في المقام فقد اخذ في نفس الاطراد العلم بالحقيقة فلزم الدور و لا مدفع له.

(1) لا يخفى، انه تارة يدور الامر بين المعنى الحقيقي، و أحد هذه الامور، و اخرى يدور بينهما بعد الفراغ انه لم يرد المعنى الحقيقي.

اما الأول: فدوران الامر بين المعنى الحقيقي، و المعنى المجازي، امثلته واضحة كثيرة، كالاسد و القمر- مثلا- يشك انه اريد منهما الحيوان الخاص، او الرجل الشجاع، او الجرم المنير الخاص، او الفتاة الحسناء بالنسبة الى القمر، و كذلك دوران الامر بين الحقيقة و التخصيص، فمثاله: ان (كل)- مثلا-، او غيرها مما وضع للعموم، هل اريد به العموم الذي هو معناه الحقيقي؟ او اريد به الخصوص فيكون العام مخصصا ببعض افراده؟ و امثلته كثيرة ايضا، و كذا دوران الامر بين الحقيقة،

ص: 65

.....

______________________________

و الاضمار واضح المثال ايضا، كما في قول الآمر: اقصد القرية الفلانية، فيمكن ان يراد بالقرية معناها الحقيقي، و يمكن ان يكون مراده اهل القرية.

و أما دوران الامر بين الحقيقة و الاشتراك، فلا يخلو من غموض، فان مرادهم من الدوران له احتمالات:(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 1 ؛ ص66

ول: انه يكون للفظ معنى حقيقي قد وضع له اللفظ، و لكن يحتمل ان يكون قد وضع هذا اللفظ مرة ثانية لمعنى آخر فيكون مشتركا. و هذا الاحتمال لا يخلو من بعد، لان مورد هذه الاحوال الخمسة، او الاكثر منها و ترجيح الحقيقة عليها او بعضها على بعض: هو ما اذا كان الشك في المراد، لا في اصل الوجود، و انما يكون الشك في المراد فيما اذا كان الاشتراك محققا و شك في انه هل المراد المعنى الحقيقي، أو الاشتراك، فلو رجح الاشتراك على المعنى الحقيقي، و قلنا: بامكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى و وقوعه يكون المراد بالمشترك جميع معانيه، و ان قلنا: بعدم امكان الاستعمال في اكثر من معنى، او عدم وقوعه يكون المشترك مجملا.

الاحتمال الثاني: ان يدور الامر بين كون اللفظ موضوعا لمعنى عام جامع لانواع مختلفة، أو يكون موضوعا لكل نوع من الانواع بوضع، كلفظ العين- مثلا- هل هو موضوع للركبة و الباصرة و النابعة و غيرها بخصوصها: بان يكون لكل منها وضع خاص به، أو انه موضوع لمعنى عام جامع لهذه الامور، و هي مصاديقه تصدق العين عليها من باب انها احد مصاديق الموضوع له؟ لا أن كل واحد منها هو الموضوع له، و هذا في الحقيقة من دوران الامر بين الاشتراك اللفظي، و الاشتراك المعنوي. و هذا الاحتمال- مع انه خلاف ظاهر كلماتهم-، يرد عليه ايضا: انه ليس من موارد الشك في المراد بعد تحقق الاشتراك، بل يرجع الى الشك في اصل وجود الاشتراك.

الاحتمال الثالث: ان يكون لفظ بهيئة واحدة جمعا و يكون مفردا، فتارة يكون مفرده مشتركا لفظيا، كلفظ (سفر) فان مفرده مشترك بين الرجل و المسافر، و بين الناقة المسافرة، و بين الاثر يكون في الجلد، و اما جمعه فهو مختص بالمسافرين اما جمعا، أو

ص: 66


1- 12. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

اسم جمع، و اخرى يكون جمعه مشتركا بين معان، كلفظ (فلك) فانه يأتي جمعا، و هو مشترك بين افلاك النجوم، و جماعات الرجال المستديرة و غيرها، و اما مفرده فيختص بالسفينة، فيدور الامر في هذا اللفظ- مثلا- بين معناه الحقيقي، او الجمع، و هو مشترك بين معاني، و هذا الاحتمال ربما يكون اقربها، و لكنه ايضا ليس من دوران الامر بين الحقيقة و الاشتراك، بل هو نفسه من الاشتراك، غايته انه يزيد على الاشتراك في جمعه اشتراك آخر بين جمعه و مفرده.

و على كل حال، فاذا دار الامر بين المعنى الحقيقي و هذه الاحوال المذكورة في المتن، او غيرها مما لم يذكرها، كالنسخ، و التقييد، و الكناية، و الاستخدام، و التضمين فالمعنى الحقيقي يترجح عليها لبناء العقلاء على الاخذ به حتى يثبت غيره.

و الظاهر: ان بناءهم على ذلك حيث يكون اللفظ ظاهرا في المعنى الحقيقي، كما هو الغالب، و الّا فلا.

و اما دوران الامر بين هذه الاحوال بعضها مع بعض، فقد ذكروا في المطولات وجوها لتقديم بعضها على بعض، و كلها استحسانية لا تعويل عليها ما لم تكن توجب ظهور اللفظ.

نعم، هنا امر ينبغي التنبيه عليه، و هو: ان المشهور بنوا على ان الكناية و التضمين و التخصيص من المجاز، و انما ذكروها في قبال المجاز لشيوعها، فهي مجازات شايعة قد ذكرت في قبال مطلق المجاز، و لكن في كونها من المجاز كلام.

اما الكناية، فليست استعمال اللفظ الموضوع للملزوم في لازمه، بل اللفظ في الكناية مستعمل في الملزوم و في معناه الحقيقي، غاية الامر ان الغرض منه ليس هو الملزوم نفسه، بل لاجل الانتقال منه الى اللازم، و لكنه مع ذلك خلاف الاصل، لان الاصل فيما قصد استعمال اللفظ فيه ان يكون هو المقصود بالذات لذاته لا طريقا لغيره، لان قصد الطريقية فيه تحتاج الى زيادة على قصد نفسه، و هي قصد كونه طريقا الى غيره، و الاصل عدم وجود قصد وراء قصد نفس الذات.

ص: 67

التاسع: الحقيقة الشرعية

انه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية، و عدمه على أقوال.

و قبل الخوض في تحقيق الحال، لا بأس بتمهيد مقال، و هو: ان الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما اذا وضع له بأن يقصد الحكاية عنه 13] و الدلالة عليه

______________________________

و اما التضمين، فهو ايضا من انواع الاستعمالات الحقيقية، فان التضمين هو ان يكون المعنى الموضوع له اللفظ قد حصل بسبب غير سببه العادي، كالمخالفة لما امر به المولى فانها على الغالب السبب في حصولها هو الشهوات و عدم ملائمة المأمور به المكلف، و ربما يكون السبب فيها هو اعراض العبد عن مولاه، و حيث ان الاعراض يتعدى بعن فيعدون المخالفة بعن للدلالة على ذلك، و الّا فالمخالفة تتعدى بنفسها، كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ 14]، فالمخالفة في الآية الكريمة قد استعملت في معناه و لم تستعمل في معنى الاعراض، و لكن التضمين و ان كان من انواع الاستعمالات الحقيقية الّا انه لا يصار اليه الّا بقرينة، لان غير الغالب في الاستعمالات يحتاج الى دليل و قرينة.

و اما التخصيص، فقد ذهب بعض المحققين المتأخرين: ان العام اذا اريد به الخاص لم يكن مستعملا في الخاص، بل هو مستعمل في العام دائما و ان اريد به الخاص، لان التخصيص يتعلق بالارادة اللبية الجدية، لا بالارادة الاستعمالية.

و سيأتي تحقيقه في مبحث العام و الخاص ان شاء اللّه.

(1) لا يخفى انه لا بد من بيان امور تمهيدا للمقام:

الاول: ان محل الكلام في الحقيقة الشرعية، هل هي خصوص الماهيات المخترعة، او الأعم منها، فان الالفاظ المستعملة في لسان الشارع و قد رتب عليها احكامه على اقسام:

ص: 68

.....

______________________________

- منها: الموضوعات الخارجية كالدم، و الميتة، و العذرة، و أمثال هذه الالفاظ، فانه لا اشكال في انها مستعملة في معانيها اللغوية، و ليس للشارع حقيقة شرعية فيها قطعا.

- و منها: الامور التي وقع الامضاء لها في لسان الشارع كالفاظ المعاملات مثل:

البيع و الاجارة و امثالهما، و الظاهر انها لا حقيقة شرعية لها، فان الشارع استعملها بما لها من المعنى في لسان اللغة و العرف. نعم، اعتبر فيها شروطا و موانع و لم يخترع لها معاني استعمل اللفظ فيها، فهي خارجة عن محل النزاع و ان كان يظهر من القوانين دخولها في محل النزاع.

- و منها: الماهيات المخترعة كالصلاة، و الصوم، و الحج و امثالها و هي محل النزاع، فانه لا شبهة أن الشارع اخترع هذه الماهيات، و استعمل اللفظ فيها، فهل كان استعماله فيها بنحو الحقيقة، او بنحو المجاز و مناسبتها لمعانيها اللغوية؟

الامر الثاني: ان الاقوال في المسألة ثلاثة:

- الاول: ثبوت الحقيقة الشرعية.

- الثاني: عدم ثبوتها و ان الاستعمال كان مجازا.

- الثالث: ان هذه الماهيات المخترعة لم يستعمل الشارع اللفظ فيها بما هي هي، و انما الاستعمال فيها كان بعنوان انها احد المصاديق للمعنى الذي وضع له اللفظ في اللغة، فان الصلاة موضوعة في اللغة للعطف، او الدعاء- كما يدعيه القاضي الباقلاني- و استعملت في هذه الماهية المخترعة، لانها مصداق للدعاء.

الامر الثالث: ان الحقيقة الشرعية التي هي محل النزاع: هو وضع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الالفاظ لهذه المعاني، و عدم وضعه لها، إما بالوضع التعييني، او بالوضع التعيّني الحاصل من كثرة الاستعمال بنفسه، او بمشاركة متابعيه له في الاستعمال حتى صارت حقيقة في عهده و زمانه بحيث صارت حقيقة في هذه المعاني عنده و صار يطلقها عليها بنحو الحقيقة.

ص: 69

بنفسه لا بالقرينة، و ان كان لا بد- حينئذ- من نصب قرينة، الّا انه للدلالة على ذلك، لا على ارادة المعنى كما في المجاز. فافهم. و كون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز (1)،

______________________________

الامر الرابع: هو ما ذكره في المتن تمهيدا، و حاصله: ان الوضع التعييني كما يحصل بانشاء الواضع بقوله: وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى، كذلك يحصل بنحو آخر و هو ان يستعمل الواضع اللفظ في معناه لا بعناية المعنى اللغوي حتى يكون مجازا، بل يستعمله فيه و يخطر المعنى به بقصد ان يتسبب بهذا الاستعمال إلى انشاء الوضع و جعل العلقة بين اللفظ و المعنى، فان جعل العلقة كما يحصل بانشائها بلفظ (وضعت) كذلك يحصل بجعل اللفظ حاكيا عن المعنى لا بملاحظة العلاقة و العناية: بان يقصد الحكاية عن المعنى و الدلالة عليه بنفس اللفظ لا بالقرينة. و حيث ان هذا الاستعمال لم يكن مسبوقا بالوضع حتى لا يحتاج إلى القرينة، و ليس بمجاز حتى يحتاج إلى القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي و المعينة للمعنى المجازي فهو- حينئذ- يحتاج إلى قرينة دالة على ان المقصود بهذا الاستعمال: ان يدل اللفظ على المعنى بنفسه لغرض انشاء الوضع به و تحقق العلقة، و لذا قال (قدس سره): «لا بالقرينة»:

أي لا بالقرينة المجازية «و ان كان لا بد من نصب قرينة» لانه ليس استعمالا حقيقيا مسبوقا بالوضع حتى يستغني عن القرينة، إلّا ان القرينة يحتاج اليها «للدلالة على ذلك»: أي على ان المقصود به الحكاية بنفسه لغرض انشاء الوضع و ليس هي قرينة المجاز.

(1) هذا هو تعريف المشهور للمعنى، و يظهر من هذا التعريف: ان الحقيقة هي دلالة اللفظ بنفسه على المعنى،: أي انه في الاستعمال الحقيقي يكون اللفظ بنفسه دالا على المعنى، و في المعنى المجازي تكون الدلالة مشتركة بين اللفظ و القرينة.

و ربما يدعى ان الدلالة في الحقيقة و المجاز على نحو واحد، و ان اللفظ في كلا المقامين بنفسه دالّ على المعنى، الّا ان دلالته على الحقيقة بسبب الوضع و جعل

ص: 70

فلا يكون بحقيقة و لا مجاز .. غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع و لا يستنكره. و قد عرفت سابقا: أنه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة و لا مجاز.

اذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا، و مدعي القطع به غير مجازف قطعا (1).

______________________________

العلقة بينه و بين المعنى، و في المجاز ايضا يدل بنفسه، الّا ان القرينة تجعله دالا، و الّا فالقرينة كالوضع خارجة عن الاشتراك في الدلالة، و اللفظ في المقامين دال بنفسه.

و لكن، يمكن ان يقال: ان الامر ليس كذلك، بل القرينة في المجاز لها نحو شركة في الدلالة.

و توضيح ذلك: ان اللفظ اذا وضع للمعنى حدثت العلقة بينه و بين المعنى و صار له اقتضاء بواسطة الجعل لأن يدل على المعنى و صار له بواسطة هذا الجعل مناسبة مع المعنى المجازي، لمناسبة المعنى المجازي مع المعنى الحقيقي، فله اقتضاء ايضا للدلالة على المعنى المجازي، الّا ان اقتضاءه للدلالة على المعنى الحقيقي يكون فعليا و مؤثرا بمجرد الاستعمال، و عدم القرينة المانعة عن تأثير هذا الاقتضاء، و في المجاز تكون فعلية هذا الاقتضاء مشروطة بالقرينة. فاذا للقرينة نحو شركة في الدلالة، لان الفعلية منوطة بها، فلذلك قالوا: ان في الحقيقة اللفظ دال على المعنى في نفسه، لأن فعلية التأثير لا تحتاج الى شرط، بل عدم المانع كاف في الفعلية و التأثير، و في المجاز ليس كذلك فان الفعلية فيه مشروطة بالقرينة.

(1) اعلم: انه قد اورد على ما ذكره المصنف- من الوضع التعييني بنحو استعمال اللفظ في المعنى و جعله حاكيا بنفسه- بايرادين: اشار الى احدهما في المتن، و لم يشر الى الآخر.

اما الذي لم يشر اليه: فهو ان الحكاية في مقام استعمال اللفظ في المعنى منظورة بالنظر الآلي، فانه حين يقصد احضار المعنى باللفظ يجعل اللفظ مرآة للمعنى،

ص: 71

.....

______________________________

فالحكاية التي هي مرآتية اللفظ للمعنى منظورة آلة و طريقا للمعنى، فهي منظورة بالنظر الآلي، و اما في مقام الوضع فحكاية اللفظ عن المعنى منظورة بالنظر الاستقلالي، فان جعل العلقة بين اللفظ و المعنى معناه: انه يجعل للفظ صفة الحكاية به عن المعنى، ففي مرحلة الوضع يجعله قابلا لان يحكي بالفعل في مرحلة الاستعمال، فالمجعول له صفة الحكاية و القابلية لان يكون حاكيا في مرحلة الاستعمال، فصفة الحكاية منظورة بنفسها في مرحلة الوضع، لان الوضع معناه اعطاء هذه الصفة للفظ، فلا بد من ان تكون منظورة بالاستقلال، فاذا أراد ان يعطيه هذه الصفة بنفس الحكاية الآلية فلازمه انه قد نظر الى هذه الحكاية بالنظر الاستقلالي ايضا فيجتمع في الحكاية النظر الآلي في مرحلة الاستعمال، و النظر الاستقلالي في مرحلة الوضع، فيجتمع اللحاظان في واحد باستعمال واحد.

و الجواب عنه: ان هنا حكايتين:: إحداهما، ما هي حكاية بالحمل الشائع، و هي الحكاية في مرحلة الاستعمال. و الثانية، و هي الحكاية بالحمل الاولي، و هي جعل اللفظ حاكيا و هي الوضع، و هذه هي التي قصد انشاؤها بتوسط استعمال اللفظ في المعنى و هي التي اريد التسبب الى ايجادها بالحكاية الاستعمالية الآلية، فالمنظور بالاستقلال حكاية اخرى غير الحكاية المنظورة بالنظر الآلي.

و الايراد الذي اشار اليه في المتن بقوله: «و كون استعمال ... الخ» حاصله: ان استعمال اللفظ في المعنى اما بنحو الحقيقة، او بنحو المجاز، و حيث ان المفروض ان الاستعمال لا بلحاظ العلاقة فليس بمجاز و لا حقيقة ايضا، لان الاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ فيما وضع له، و المفروض ان الوضع في المقام يترتب على هذا الاستعمال فلا يكون سابقا عليه حتى يكون من استعمال اللفظ فيما وضع له فهذا الاستعمال غير صحيح، و ما يترتب على ما ليس بصحيح ليس صحيحا.

و الجواب عنه: اولا: انه لم يقم برهان على انحصار الاستعمالات الصحيحة في الاستعمال الحقيقي و المجازي، بل المدار في صحة الاستعمال ان يكون استعمالا يقبله

ص: 72

و يدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته (1).

و يؤيد ذلك انه ربما لا تكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية و اللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعا، و الصلاة بمعنى الدعاء، و مجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء و الكل بينهما، كما لا يخفى (2). هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

______________________________

الطبع، و لا ينكره، و قد تقدم: ان استعمال اللفظ في نوعه و صنفه ليس من الحقيقة و لا المجاز، و هو من الاستعمالات الصحيحة، و اما صحته فلأن القائل ان زيدا لفظ لا يكون ممن استعمل استعمالا غلطا، و اما انه ليس بحقيقة و لا مجاز فلانه يجري في المهملات التي لا وضع لها كديز لفظ- مثلا-. و الى هذا اشار- في المتن- بقوله:

«غير ضائر بعد ما كان ... الخ».

و ثانيا: ان الوضع هو المنشأ بهذا الاستعمال، فحين الاستعمال هو حين الوضع، فهو من الاستعمال الحقيقي، فان الاستعمال الحقيقي ليس الّا استعمال اللفظ فيما وضع اللفظ له، و المفروض انه قد حصل الوضع بنفس هذا الاستعمال، فاللفظ قد استعمل في الموضوع له و لا يحتاج الاستعمال الحقيقي الى تقدم الوضع عليه بالزمان، و لم يشر المصنف الى هذا الجواب كما لا يخفى.

(1) لا يخفى ان الدليل على الحقيقة الشرعية تبادر نفس الشارع، و أنى لنا بمعرفة ان الشارع كان يتبادر منها الحقيقة، و اما تبادر المتشرعة فهو دليل على الحقيقة المتشرعية.

(2) حاصل هذا التأييد: انه بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية يلزمه ان يكون الاستعمال في هذه المعاني المخترعة مجازا، و هو يحتاج الى العلاقة، و العلاقة المناسبة لهذا الاستعمال المجازي على فرضه هي علاقة الكل و الجزء، و قد قالوا: ان علاقة الكل و الجزء انما هي فيما اذا كان التركيب حقيقيا، كتركب الانسان من النفس و البدن، و ايضا مشروطة: بانه مما ينتفي الكل بانتفائه، كالرقبة و الانسان، و في المقام

ص: 73

و أما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة- كما هو قضية غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ ...

و قوله تعالى: وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ و قوله تعالى: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ... الى غير ذلك- فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية، و اختلاف الشرائع فيها جزء و شرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة و الماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق و المحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى (1).

______________________________

التركيب اعتباري لا حقيقي، و ايضا لا تنتفي الصلاة بانتفاء الدعاء فيها، و الى هذا اشار بقوله: «و مجرد ثبوت اشتمال الصلاة على الدعاء ... الخ».

و يرد على هذا التأييد: اولا: انه لا يشترط التركيب الحقيقي في علاقة الكل و الجزء، كاستعمال لفظ البيت او الدار في الغرفة الكبيرة اذا كانت اهم مرافق البيت.

و ثانيا: ان ما ينتفي الكل بانتفائه ليس هو الملاك في صحة الاستعمال، فان القلب مما ينتفي البدن بانتفائه، و لا يحسن ان يقال: اعتق قلبا: أي اعتق انسانا، بل المدار في علاقة الكل و سائر العلاقات المجازية ان تكون مما يستحسنها الذوق، و استعمال الصلاة بناء على كونها موضوعة للدعاء من هذه المعاني المخترعة مما يستحسنها الطبع و الذوق، و لعله لذلك ذكره تأييدا.

(1) فانه بناء على كون هذه الالفاظ موضوعة لهذه المعاني في الشرائع السابقة، تكون حقيقة فيها، و لكنها تكون حقائق لغوية فيلغو النزاع: في انها مستعملة عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في المعاني اللغوية، او في المعاني المخترعة مجازا، بل نفس المعاني المخترعة تكون هي معاني لغوية حقيقة، فلا مجال لهذا النزاع في الحقيقة الشرعية.

فان قلت: ان الصلاة- مثلا- في شريعتنا ذات اجزاء و شرائط ليست هي الاجزاء و الشرائط في الشرائع السابقة، فيأتي النزاع في ان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم وضعها لهذه الاجزاء و الشرائط ام انه استعملها فيها مجازا بمناسبة معانيها في الشرائع السابقة.

ص: 74

ثم لا يذهب عليك انه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق، فضلا عن القطع، بكونها حقائق شرعية، و لا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها (1)

______________________________

. فانه يقال: انها بعد ان كانت موضوعة للمعاني المركبة من عدة اشياء، لا للدعاء، أو العطف، فاختلاف الاجزاء و الشرائط بين شريعتنا، و الشرائع السابقة من قبيل اختلافها في شرعنا من صلاة المريض و المختار، و الاختلاف في محققات المفهوم لا يقتضي تجدد الوضع، فان لفظ الميزان- مثلا- موضوع لما يوزن به، فما يوزن به المواد الموزونة ميزان، و ما يوزن به الاعمال يوم القيامة ايضا ميزان، لا أن الميزان مستعمل فيما توزن به الاعمال استعمالا مجازيا. إلّا ان الشأن في اصل الدعوى: و هو كون هذه الالفاظ بنفسها موضوعة لهذه المعاني في الشرائع السابقة.

و كيف ذلك و الشرائع السابقة ليست لغتها عربية، بل سريانية و عبرية و غير ذلك من اللغات. فالظاهر من هذه الآيات المباركة ان هذه المعاني التي كلفهم بها كانت مكتوبة و مكلف بها غيرهم من الامم السابقة في الشرائع المتقدمة، لان هذه المعاني قد وقع التكليف بها بما انها موضوع لها هذه الالفاظ كما هو واضح.

(1) حاصله: انه اذا احتملنا هذا الاحتمال، و انها موضوعة لهذه المعاني في الشرائع السابقة، لا دلالة لما ذكر من الوجوه، و هو التبادر، و التأييد المذكور، أو عدم صحة السلب عن هذه المعاني على الحقيقة الشرعية، فان هذه الوجوه تدل على ان هذه المعاني موضوعة لها هذه الالفاظ، لا أن الواضع لها هو الشارع، و انما كانت تدل على ذلك حيث يعلم قطعا: بان هذه المعاني ليست حقائق لهذه الالفاظ قبل زمان الشارع، ثم صارت حقائق لها عنده، فيكشف بالقطع انه هو الواضع، اما مع هذا الاحتمال، فلا كاشف قطعي: من ان الواضع هو الشارع، و ان كشفت هذه الوجوه عن انها حقائق لها.

ص: 75

لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه (1).

و منه انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه (2). و مع الغض عنه، فالانصاف: ان منع حصوله في زمان الشارع في لسانه، و لسان تابعيه مكابرة.

نعم، حصوله في خصوص لسانه ممنوع. فتأمل (3).

______________________________

(1) أي لو سلمنا: ان الوجوه التي ذكرت تدل على الحقيقة الشرعية، لكنها انما تدل على الحقيقة الشرعية لو لا احتمال كونها حقائق في الشرائع السابقة، فقيد لولاه يعود الى هذا الاحتمال، و قوله: «لو سلم» لعله اشارة الى ما ذكرنا: من الخدشة في دلالة الوجوه التي ذكرت لثبوت الحقيقة الشرعية، و اللّه العالم.

(2) لوضوح: انه بعد ما ذكر: من دعوى الوضع لها في الشرائع السابقة اما قطعا، او احتمالا لا معنى لدعوى الوضع التعيني، لانه يتوقف على الاستعمال المجازي مدة حتى يحصل الاستيناس اولا، ثم يشتد فيكون حقيقة، و مع كونها مستعملة حقيقة في لسان الشارع لجريه على نهج الشرائع السابقة في استعمال هذه الالفاظ حقيقة فيها لوضعها لها عندهم قبل شرعنا، فلا معنى لدعوى الوضع التعيني.

(3) أي لو اغمضنا النظر عما ذكر في دلالة الآيات المباركة على كونها موضوعة لهذه المعاني- فيما سبق-، فدعوى حصول الوضع التعيني لهذه الالفاظ في هذه المعاني مقبولة جدا بواسطة كثرة استعمالها في لسان الشارع، و لسان متابعيه استعمالا كثيرا جدا، و مستمرا في كل وقت بمدة تزيد على العشرين سنة. و منع هذه الدعوى مكابرة قطعا، و لا ينافي ان هذا- اصطلاحا- غير الحقيقة الشرعية، التي معناها وضع الشارع لها نفسه، إلّا ان النتيجة، و الثمرة مترتبة على هذا الوضع التعيني، كما تترتب على وضع الشارع نفسه كما هو واضح.

و لعل الامر بالتأمل اشارة الى ان النافع هو حصول الوضع التعيني في عهد الشارع بحيث ان الشارع نفسه بواسطة كثرة الاستعمال صار يستعملها في هذه المعاني

ص: 76

و أما الثمرة بين القولين، فتظهر: في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع، بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، و على معانيها الشرعية على الثبوت، فيما اذا علم تأخر الاستعمال (1). و فيما اذا جهل التأريخ، ففيه اشكال. و اصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها

______________________________

استعمالا حقيقيا، لأنها صارت موضوعة بالوضع التعيني، و يكفي الشك في حصول الوضع التعيني عند الشارع، و ربما لا يكون مدعيها مكابرا.

(1) ظاهر ما ذكره (قدس سره): ان الثمرة بين القول بالحقيقة الشرعية و عدمها: هي حمل هذه الالفاظ اذا وقعت في كلام الشارع من غير قرينة على معانيها اللغوية، حيث لا نقول بالحقيقة الشرعية، و نقول: بعدم ثبوتها، و مع القول بالحقيقة الشرعية تحمل على معانيها الشرعية، حيث يعلم ان استعمال الشارع لهذه الالفاظ قد تأخر عن الوضع، اما لو لم نعلم بتأخر الاستعمال عن الوضع، فلا تظهر ثمرة لمن يدعي ثبوت الحقيقة الشرعية، لاحتمال كون هذا الاستعمال قبل الوضع، و قبله لا حقيقة شرعية، و الادلة التي ذكرت للحقيقة الشرعية تدل على ان الاستعمال بعد الوضع حقيقي، لا فيما قبل الوضع، و هو واضح.

و يمكن ان يقال: ان هذه الثمرة، و هي الحمل على المعنى اللغوي، بناء على الانكار، و على المعنى الشرعي، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية انما تتم حيث نقول:

بأنه اذا دار الامر بين الحمل على المعنى الحقيقي، و المجاز المشهور يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي، و اما لو قيل بمذهب المشهور: و هو التوقف فيما اذا دار الامر بينهما، فالثمرة تكون بنحو آخر و هي هكذا: انه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية تحمل هذه الالفاظ في كلام الشارع على المعاني الشرعية المخترعة، و اما بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فالتوقف، لان احتمال استعمالها مجازا في هذه المعاني في عرض احتمال استعمالها في الحقائق اللغوية.

ص: 77

بأصالة تأخر الوضع لا دليل على اعتبارها تعبدا، الا على القول بالاصل المثبت، و لم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك (1).

______________________________

(1) قد عرفت: ان القائل بثبوت الحقيقة الشرعية انما تتم عنده في حمل كلام الشارع على المعاني المخترعة فيما اذا علم ان استعمال الشارع قد تأخر عن وضع هذه الالفاظ لهذه المعاني عنده، و اما لو جهل تأريخ الاستعمال و لم يعلم انه تقدم على الوضع حتى لا يحمل على المعاني المخترعة، بل يتوقف، ام تأخر حتى يحمل عليها، فهل هناك أصل يحرز تأخر الاستعمال عن الوضع حتى يحمل كلامه على هذه المعاني دائما، ام لا حتى يتوقف؟

فقد يقال: بأن أصالة تأخر الاستعمال، و هي اصالة تأخر الحادث تحرز ذلك فان الاستعمال حادث، و الاصل تأخره الى زمان يقطع بكونه بعد زمان الوضع، فاذا احرز تأخر الاستعمال عن زمان الوضع ببركة هذا الاصل يحمل كلامه على هذه المعاني لما عرفت: من انه كلما احرزنا تأخر الاستعمال عن الوضع ترتبت ثمرة القول بالحقيقة الشرعية.

إلّا ان هذا الاصل لا يجري، و لو جرى لا ينفع، لان الوضع ايضا حادث، فالاصل عدمه ايضا الى ما بعد زمان الاستعمال، فلازمه التوقف و يتعارض الاصلان، فلا تترتب ثمرة القول بالحقيقة الشرعية.

و اما عدم جريانه، فلأن المراد بهذا الاصل إما الاستصحاب، و هو المستفاد من دليل لا تنقض، أو أصالة العدم الثابتة ببناء العقلاء، كاصالة وجود المانع، و اصالة عدم القرينة، و امثال هذه الاصول العدمية التي مرجعها الى اصالة العدم فيما شك في تحققه. و كلاهما غير جاريين في المقام.

اما الاصل الشرعي التعبدي الذي اشار اليه المصنف بقوله: «لا دليل على اعتبارها تعبدا» ففيه:

اولا: ما عرفت: من انه لو جرى في الاستعمال لجرى في الوضع فيتعارضان.

ص: 78

.....

______________________________

و ثانيا: انه اذا كان كلا الأمرين: من الاستعمال، و الوضع مجهولي التأريخ، فسيأتي في الاستصحاب عدم جريان الاستصحاب من رأس في مجهولي التأريخ عند جماعة منهم المصنف، لا أنه يجري و يتساقط بالمعارضة لعدم اتصال زمان الشك باليقين.

و ثالثا: انه يشترط في جريان الاستصحاب ان يكون المستصحب اما بنفسه مجعولا، كحرمة الخمر- مثلا-، أو يكون للمستصحب اثر مجعول بلا واسطة، كخمرية الخمر- مثلا-، و المستصحب في المقام ليس مجعولا شرعيا، و لا له اثر مجعول بلا واسطة. نعم يترتب اثر مجعول بعد ترتب وسائط كلها غير مجعولة، فهو من الاصل المثبت و عدم حجيته في الجملة- كما سيأتي بيانه ان شاء اللّه في محله- و ذلك لوضوح ان المستصحب هو تأخر الاستعمال، و هو غير مجعول شرعي، و لازمه تقدم الوضع، و هو غير مجعول ايضا، و لازمه كون هذه الالفاظ محمولة على المعاني الحقيقة الموضوعة لها و لازمه ظهورها في ذلك، و لازمه حجية هذا الظهور، و لازمه ترتب الحكم بعد ذلك. هذا في الاصل الشرعي التعبدي.

و اما الاصل العقلائي الذي أشار اليه بقوله: «و لم يثبت بناء من العقلاء على التأخر» فحاصله: ان العقلاء بنوا على اصالة العدم في موارد خاصة و ليس كل ما شك فيه بنى العقلاء على اصالة العدم، فان اصالة عدم المانع- مثلا- بنوا عليها فيما لو شك في اصل وجود المانع، لا فيما اذا شك في مانعية الموجود، و كذلك اصالة عدم القرينة فانهم لو تم لهم بناء عليها فانما هو فيما لو شك في اصل وجود القرينة لا في قرينية الموجود، و في المقام و هو الشك في تأخر الاستعمال عن الوضع لم يحرز من العقلاء على عدم الاستعمال و تأخره عن الوضع.

ص: 79

و اصالة عدم النقل انما كانت معتبرة فيما اذا شك في اصل النقل، لا في تأخره. فتأمل (1).

العاشر الصحيح و الاعم

اشارة

انه وقع الخلاف: في ان الفاظ العبادات اسام لخصوص الصحيحة او الأعم منها؟.

______________________________

(1) حاصله: انه لا ينبغي ان يقال: انه اذا لم تجر أصالة تأخر الاستعمال، فلا يحرز بها تقدم الوضع على الاستعمال، فينبغي ان تجري اصالة عدم النقل فيحرز بها ان هذه الالفاظ باقية على معانيها اللغوية، و لم تنقل الى هذه المعاني المخترعة الشرعية، فلازمه حمل الشارع على المعاني اللغوية، لا على المعاني الشرعية.

فان هذا الاصل، و هو اصالة عدم النقل التي هي من جملة الاصول الثابتة ببناء العقلاء ليس محلها ايضا فيما اذا شك في تأخر الوضع عن الاستعمال، فتجري اصالة عدم النقل فيحرز بها تأخر الوضع: أي النقل الى هذه المعاني، و لازمه تقدم الاستعمال فيحمل على المعنى اللغوي، فان اصالة عدم النقل لها موارد ثلاثة تجري في موردين و لا تجري في الثالث الذي هو مقامنا.

الاول: ما علم كون اللفظ موضوعا لمعنى و شك في نقله الى معنى آخر. ففي هذا المورد تجري، و لكن ليس هو من مقامنا.

الثاني: ما علم كونه حقيقة في معنى معلوم له فعلا، إلّا انه لم يعلم ان هذا المعنى الحقيقي الفعلي هل هو معناه الاصلي الاولي، أو انه كان موضوعا لمعنى آخر ثم نقل الى هذا المعنى الفعلي؟ و أيضا تجري في هذا، و لكن ليس من مقامنا.

الثالث: ما اذا علم انه موضوع لمعنى في اللغة و علم انه قد نقل الى معنى آخر، و لكن شك في تأريخ النقل، و هو مقامنا، إلّا انه لم يحرز بناء من العقلاء على اصالة عدم النقل في هذا الثالث، و قد اشار الى الاولين بقوله: «انما كانت معتبرة فيما اذا شك في اصل النقل» و الى الثالث بقوله: «لا في تأخره».

ص: 80

و قبل الخوض في ذكر ادلة القولين يذكر امور (1):

- منها: انه لا شبهة في تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، و في جريانه على القول بالعدم اشكال (2)،

______________________________

(1) حيث انه سيعقد بحثا في اسامي المعاملات جعل الكلام فعلا في الفاظ العبادات، و انها هل هي موضوعة لخصوص الصحيح، أو للاعم منه و من الفاسد؟

(2) جريان النزاع في الوضع للصحيح، او الأعم بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية واضح، فان مدعي الصحيح يدعي ان الشارع وضعها له، و مدعي الأعم يدعي وضعها له، الّا ان الاشكال في ان هذا النزاع هل يجري بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية؟

و لا يخفى ان الاقوال في استعمال هذه الالفاظ في المعاني المخترعة للشارع ثلاثة:

- وضعها له، و هو الحقيقة الشرعية.

- و استعمالها فيها مجازا بمناسبة المعاني اللغوية.

- و استعمالها في معانيها اللغوية دائما، و هذه الامور المخترعة الخاصة لم تستعمل هذه الالفاظ فيها بخصوصها لا حقيقة و لا مجازا، و انما استعملت فيها لأنها من مصاديق المعاني اللغوية، و هو مذهب الباقلاني.

ثم لا ريب في ان عنوان هذه المسألة و أدلة الطرفين تختص بالحقيقة الشرعية، لان عنوان المسألة: ان هذه الالفاظ هل هي موضوعة للصحيح، او للاعم، فما لا وضع فيه خارج عنه موضوعا. و أما ادلة الطرفين فانهم يستدلون بالتبادر، و صحة السلب، و ان الاستعمال علامة الحقيقة، و ان ديدن الواضعين هو الوضع للصحيح او الاعم، و هذه الادلة موضوعها ما له حقيقة، اما ما لا حقيقة له، بل الاستعمال فيه مجاز يخرج عن موضوعها.

ص: 81

و غاية ما يمكن ان يقال في تصويره: ان النزاع وقع على هذا: في ان الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة، او الاعم: بمعنى ان ايهما قد اعتبرت العلاقة بينه و بين المعاني اللغوية ابتداء و قد استعمل في الآخر بتبعه و مناسبته كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، و عدم قرينة اخرى معينة للآخر. و انت خبير بانه لا يكاد يصح هذا الّا اذا علم ان العلاقة انما اعتبرت كذلك، و ان بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم

______________________________

الّا ان ثمرة المسألة-: هي التمسك بالاطلاق على الاعم، و عدمه على الصحيح- لا تختص بالوضع، بل تتأتى على المجازية، و على مذهب الباقلاني ايضا، و لذلك لا بد من تصوير على المجازية، و على مذهب الباقلاني.

فاتضح بما ذكرنا: ان سبب الاشكال هو عدم شمول العنوان و الادلة مضافا الى ما سيأتي من الاشكالات على نفس التصوير.

ص: 82

نصب قرينة اخرى على ارادته، بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة الى قرينة معينة اخرى، و أنى لهم باثبات ذلك (1).

______________________________

(1) حاصل ما صوره: ان النزاع بناء على المجازية يكون بادعاء ان الذي اعتبرت العلاقة بينه و بين المعنى اللغوي هو الصحيح بناء على الصحيحي، و يستعمل في الأعم بمناسبة المعنى الصحيح، فالعلاقة ابتداء اعتبرت في الصحيح. و الأعمّي يدعي العكس، و ان العلاقة ابتداء اعتبرت مع الاعم، و يستعمل في الصحيح بمناسبة الاعم، و لازم هذا التصوير هو ان الاستعمال في غير ما اعتبرت العلاقة بينه و بين المعنى اللغوي ابتداء يكون من باب سبك المجاز في المجاز، و لذلك اورد عليه المصنف: ان مدعي احد الامرين لا بد له من اثبات ان العلاقة ابتداء اعتبرت بين ما يدعيه و المعنى اللغوي، و طريق اثبات هذه العلاقة الابتدائية لا يتأتى له، الّا بان يثبت ان الشارع استقر ديدنه في محاوراته انه اذا نصب قرينة على عدم ارادة المعنى اللغوي، فهو يريد الصحيح- مثلا- بناء عليه، من دون حاجة الى تعيينه، لان المعنى اللغوي له مجاز واحد، و هو الصحيح، فبمجرد صرف النظر عن معناه اللغوي يتعين المعنى المجازي، و هو الصحيح، و اما الأعم فحيث انه يكون بمناسبة المعنى المجازي و هو الصحيح، فهو يحتاج الى صارف عن المعنى اللغوي، و الى ارادته بعلاقة المعنى الصحيح. و مدعي الأعم يدعي هذا الامر بالعكس. و أنى للكل منهم باثبات هذه الدعوى.

إلّا انه لا ينحصر تصوير النزاع فيما يلزمه سبك المجاز بالمجاز، بل يمكن أن يتصور بنحو آخر: و هو ان يدعى: ان كلا من المعنيين اعتبرت العلاقة بينه و بين المعنى اللغوي، لكن مدعي الصحيح يدعي: ان الصحيح اشد مناسبة و ارتباطا بالمعنى اللغوي، فهو ارجح من المعنى الاعم، فاذا حصل الصارف عن المعنى اللغوي يتعين الأرجحية على المعنى الأعم. و مدعي الأعم يدعي: العكس.

و حينئذ، يكون على كل منهما اثبات الأرجحية على الآخر، أو أن كلا منهما يدعي غلبة الاستعمال فيما يدعيه بالنسبة الى الاستعمال في المعنى المجازي الآخر،

ص: 83

و قد انقدح بما ذكرنا: تصوير النزاع على ما نسب الى الباقلاني، و ذلك: بان يكون النزاع في ان قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها، الّا بالاخرى الدالة على اجزاء المأمور به و شرائطه هو تمام الأجزاء و الشرائط، او هما في الجملة، فلا تغفل (1).

______________________________

و ايضا يكون على مدعي الغلبة اثباتها. و هناك تصوير ثالث ذكر في تقريرات الشيخ الاعظم، لا يلزم منه سبك المجاز بالمجاز. فليراجع، مع ما يمكن ان يقال فيه.

(1) لا يخفى أن الباقلاني حيث يدعي استعمال هذه الالفاظ في معانيها اللغوية، و الخصوصيات مستفادة من دال آخر، لا بد و ان يكون النزاع بين الصحيحي و الأعمي في ذلك الدال و هو القرينة المستفادة منها الخصوصيات، و اذا كانت القرينة الدالة على الخصوصيات: و هي الأجزاء و الشرائط مبينة، و مفصلة فلا وجه للنزاع، و إنما يتأتى النزاع فيما اذا كانت القرينة الدالة على الاجزاء و الشرائط مجملة، مدلولها معنى واحد، فالصحيحي يدعي انه الجامع الصحيحي، و الأعمي يدعي انه الجامع الأعمي، فانه اذا لم يكن مدلولها معنى واحدا، لا يبقى للتمسك بالاطلاق، و عدمه مجال، الذي هو المهم في ثمرة هذا النزاع.

و لا يخفى: انه على هذا لا يكون النزاع في هذه الالفاظ، بل فيما هو خارج عنها و هو القرينة الدالة على الأجزاء و الشرائط. و قد عرفت: عدم تأتي النزاع فيما كانت القرينة دالة على الأجزاء و الشرائط تفصيلا، و انما يتوهم النزاع فيما كانت مفهوما مجملا قابلا للانطباق على الصحيح و على الاعم، فمدعي الصحيح يدعي انها هي الصحيح، و مدعي الاعم يدعي العكس.

الّا انه على هذا أيضا تنتفى الثمرة المترتبة على الاعم: من التمسك بالاطلاق، و على الصحيح من عدم التمسك، فان هذه الثمرة إنما تأتى فيما اذا كان اللفظ موضوعا لمعنى بسيط، يدعي الاعم انه هو الجامع، و يدعي الصحيحي انه هو الصحيح، لا فيما كان مفهوما عاما قابلا للانطباق، فانه لا بد من الاخذ بما هو القدر

ص: 84

و منها: ان الظاهر: ان الصحة عند الكل بمعنى واحد، و هو التمامية، و تفسيرها باسقاط القضاء- كما عن الفقهاء- أو بموافقة الشريعة- كما عن المتكلمين- أو غير ذلك، إنما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار. و هذا لا يوجب تعدد المعنى، كما

______________________________

المتيقن منه، و نفي ما عداه بالبراءة، فلا ثمرة بين القولين. و من الواضح: انه لم يدع احد ان هناك قرينة موضوعة لمعنى بسيط وقع الخلاف ان الموضوع له فيها هو الصحيح او الاعم.

و ربما يقال: بان الفرق بين قول الباقلاني، و القول بعدم الحقيقة الشرعية و الاستعمال مجازا، هو انه بناء على مذهب الباقلاني فيما اذا قيدت بالاجزاء و الشرائط فانه يبنى الامر فيه على ان المطلق اذا قيد بشي ء، هل يكون مستعملا مجازا، أو انه باق على معناه، و القيود مستفادة من دال آخر بنحو تعدد الدال و المدلول؟.

فالفرق بين قول الباقلاني، و عدم الحقيقة الشرعية و المجازية: هو أن قول الباقلاني يكون على احد القولين في المطلق مجازا، و على القول الآخر حقيقة، بخلاف القول:

بانكار الحقيقة الشرعية و الاستعمال المجازي، فانه لا يبتني الامر فيه على قولين.

و فيه: ان القول بتقييد المطلق يستلزم استعماله مجازا إنما هو لأن المطلق عندهم موضوع للماهية بقيد الارسال و الاطلاق، فاذا قيد بشي ء لا يكون مستعملا في الارسال، و ليس لازم هذا ان يكون المطلق بعد تقييده مستعملا في المقيد، بل يجوز ان يستعمل بعد التقييد في المعنى الكلي الجنسي اللابشرطي، و يجوز ان يكون مستعملا في الحصة،: أي الكلي المضاف بخروج القيد، و دخول التقيّد.

ص: 85

لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات، من السفر و الحضر، و الاختيار و الاضطرار ... الى غير ذلك، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان الفقيه فسر الصحيح بما يسقط القضاء و الاعادة، و المتكلم فسره بما يوافق الامر، و لازم هذين التفسيرين ظاهرا هو ان الصحة عند الفقيه هي إسقاط القضاء و الاعادة، و عند المتكلم هي موافقة الامر، و حيث لا يعقل ان يكون الموضوع له اللفظ هو الصحيح بدخول حيثية اسقاط القضاء عند الفقيه في حقيقته، و لا بدخول حيثية موافقة الامر كذلك عند المتكلم، لوضوح ان حيثية اسقاط القضاء و حيثية موافقة الأمر لا يعقل تحققهما الّا بعد تعلق الامر بالشي ء، فانه بعد تعلقه به يكون ذلك الشي ء اذا أتى به يوجب سقوط الأمر، و يوجب موافقته، و المفروض ان الصحيح بما انه هو الصحيح يكون متعلقا للأمر في قول الآمر: صلّ، فاذا كانت حيثية الاسقاط، و حيثية الموافقة دخيلتين في حقيقته المتوقفتين على الامر، يكون الامر بما أنه داخل في الصحيح متعلقا و متقدما، و بما انه هو المتعلق بالصحيح متعلقا و متقدما، فيلزم عروض الشي ء على نفسه، لان المتعلق عارض على المتعلق، و حيث ان المتعلق هو المتعلق، فلازمه عروضه على نفسه، و عروض الشي ء على نفسه محال، لان المعروض متقدم على العارض، و لازمه تقدم المتأخر و تأخر المتقدم.

و من هنا تسمعهم يقولون: لا يعقل اتحاد الحكم و موضوعه، و حيث لا يعقل ان يكون مرادهم من الصحيح هو هذا، فلا بد و أن يكون مرادهم من الصحيح هو التام، فان التمامية هي معنى الصحة في اللغة، و من البعيد نقلها لمعنى آخر في مصطلحهم لعدم الداعي الى النقل، و يكون التفسيران تفسيرا لها باللازم، و انما اختلف التعبير عند الفقيه و المتكلم، لأن المهم عند الفقيه هو الأثر من حيث اسقاط القضاء و الإعادة، فان مهمه بيان ما يلزم المكلف من حيث الاحكام، و المهم عند المتكلم هو الثواب و العقاب، بموافقة أمر الشارع، و عدمه، فلذلك فسرها الفقيه بالاسقاط، و المتكلم بالموافقة، لا لأن التمامية عند احدهما غيرها عند الآخر.

ص: 86

و منه ينقدح: ان الصحة و الفساد أمران اضافيان، فيختلف شي ء واحد صحة و فسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، و فاسدا بحسب اخرى فتدبر جيدا (1).

______________________________

فالاختلاف فيما هو المهم من الاثر لا يوجب اختلافا في المؤثر، كما ان اختلاف مصاديق المؤثر الذي هو مصداق التام و الصحيح من حيث كونه ركعتين في السفر و أربعة في الحضر، و مع الطهارة المائية في حال الاختيار، و مع الطهارة الترابية في حال الاضطرار، أو مع القيام أو الجلوس- مثلا-، أو مع الافعال نفسها، أو الايماء بحسب اختلاف الحالات من الصحة و المرض و القدرة و العجز، فان هذا الاختلاف لا يوجب اختلافا في مفهوم الصحيح و التام كما لا يخفى.

(1) لا يخفى ان الصحة و الفساد حيث عرفت انهما يختلفان، فيكون شي ء واحد بحسب حالة صحيحا، و بحسب حالة اخرى فاسدا، فان الصلاة التامة الأجزاء و الشرائط تقع فاسدة من المريض الذي يضره القيام- مثلا- أو من المسافر الذي عليه ركعتان، لا اربع ركعات، و تقع صحيحة من الحاضر و غير المريض. فاذا الصلاة الواحدة بالاضافة الى حالة تصح، و بالاضافة الى اخرى تفسد، فصحتها و فسادها من الامور الاضافية، و ليسا من المتضائفين، لان المتضائفين: هما المتقابلان اللذان متى نتعقل احدهما نتعقل الآخر. و من البين انا نتعقل الصحيح و لا نتعقل الفاسد حال تعقلنا للصحيح.

و حيث عرفت: ان الصحيح ما يترتب عليه الاثر، و الفاسد ما لا يترتب عليه الاثر، تعرف ان الصحة و الفساد متقابلان بتقابل العدم و الملكة، فان الفساد عدم الاثر مما يترقب منه ترتبه، فان من رمى حصاة في غير منى و في غير ايام رمي الجمار، لا يوصف رميه بالفساد، بخلاف من رمى جمرة العقبة و لم يصب، فانه يوصف رميه بالفساد.

ص: 87

و منها: انه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا (1)، و لا اشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، و امكان الاشارة اليه بخواصه و آثاره، فان الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصلاة- مثلا- بالناهية عن الفحشاء، و ما هو معراج المؤمن و نحوهما (2).

______________________________

(1) وجه اللابدية: ان القائل بالاعم، مهمته و غرضه التمسك بالاطلاق، و اذا لم يكن جامعا قد وضع له اللفظ، فلا بد من الاشتراك بوضع اللفظ للصحيح و بالوضع للفاسد، لان الأعمّي يدعي صدق اللفظ صدقا حقيقيا على الصحيح و على الفاسد، فلا بد و ان يكون مشتركا، و مع الاشتراك لا يمكنه التمسك بالاطلاق، بل يكون مجملا، و هو مناف لغرضه من التمسك بالاطلاق. و القائل بالصحيح يدعي الاجمال المفهومي في هذه الالفاظ، و لازم الاجمال المفهومي هو الوضع لجامع يختص بالصحيح، و اذا كان اللفظ مشتركا بين الصحيح و الفاسد، او بينه و بين الاعم، لا يكون الاجمال في المفهوم الذي وضع له اللفظ، بل يكون الاجمال فيما هو المراد من اللفظ، لا فيما وضع له اللفظ.

(2) حاصل ما افاده في تصوير الجامع الصحيحي انه لا يلزم معرفته بكنهه و بنفسه، بل يكفي معرفته بأثره و خواصه. و حينئذ، نقول: انه قد رتب على الصلاة الصحيحة أثر واحد، و هو معراجية المؤمن، و وحدة الأثر تدل على وحدة المؤثر، فلا بد و ان تكون جميع افراد الصحة مؤثرة هذا الأثر الواحد بجامع واحد يتحد معها و ينطبق عليها، لان المتعدد بما هو متعدد لا يعقل ان يؤثر اثرا واحدا، و الّا لزم صدور الواحد عن الكثير، و هو محال- كما هو مبرهن عليه في محله-. فوحدة الاثر كاشفة عن جامع واحد هو المؤثر و هو الموضوع له اللفظ. و لا يخفى ان لازم هذا الاستدلال كون الجامع ذاتيا.

ص: 88

.....

______________________________

و يرد عليه: اولا: ان برهان أن الواحد لا يصدر الّا عن الواحد مختص بالواحد الشخصي لا غير.

و ثانيا: انه لم يترتب على الصلاة أثر واحد، بل آثار متعددة، فان الاخبار تدل على آثار متعددة تترتب على الصلاة و هي معراجية المؤمن و النهي عن الفحشاء، و قربان كل تقي و عمودية الدين، ... و غير ذلك مما دلت الاخبار عليه.

و ثالثا: انه لا يعقل ان يكون للصلاة جامع مقولي يتحد معها، لان الصلاة مركبة من مقولات متعددة، كالكيف مثل القراءة، و الوضع مثل الركوع و السجود، و الكم و هو العدد الخاص، و لا يعقل انطباق مقولة واحدة على المركب من مقولات، و الّا جاز رجوع المقولات العشر الى مقولة واحدة، و من المعلوم ان المقولات اجناس عالية لا جامع مقولي بينها، بل لو فرضنا كون الصلاة مركبة من افراد مقولة واحدة ايضا، لا يعقل ان تتحد معها اتحادا مقوليا مقولة واحدة، فان المقولة الواحدة تتحد مع كل فرد من افرادها، لا مع المركب من الفردين منها.

فاتضح: ان الجامع لا يعقل ان يكون جامعا ذاتيا.

و ايضا: لا يعقل ان يكون الجامع هو أحد العناوين المعلومة، كعنوان النهي عن الفحشاء، و امثاله، لوضوح لزوم الترادف بين لفظ الصلاة، و بينها، و كون حمل عنوان الناهي عن الفحشاء عليها حملا اوليا، و لزوم كون استعمال الصلاة في افرادها بخصوصياتها مجازا، لان الموضوع الكلي اذا استعمل في الفرد بخصوصيته كان استعماله مجازا، و من الواضح ان الصلاة تطلق اطلاقا حقيقيا على نفس هذه المجموعة. فيقال: الصلاة تكبيرة، و قراءة، و ركوع ... الى آخر اجزائها، و من الواضح عدم امكان الالتزام بهذه المحاذير.

فلا بد من الالتزام: بكون الصلاة موضوعة لمفهوم مبهم، الّا من حيث كونه له آثار خاصة، و لعل الوضع في جملة من المفاهيم العامة كذلك، فان لفظ الميزان- مثلا-

ص: 89

و الاشكال فيه: بانّ الجامع لا يكاد يكون امرا مركبا، اذ كل ما فرض جامعا يمكن ان يكون صحيحا و فاسدا، لما عرفت .. و لا امرا بسيطا، لانه لا يخلو إما ان يكون هو عنوان المطلوب، او ملزوما مساويا له.

و الاول، غير معقول، لبداهة استحالة اخذ ما لا يتاتّى الّا من قبل الطلب في متعلقه، مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة، و المطلوب، و عدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات و شرائطها، لعدم الاجمال حينئذ في المأمور به فيها، و انما الاجمال فيما يتحقق به، و في مثله لا مجال لها، كما حقق في محله .. مع ان المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها (1)، و بهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب

______________________________

موضوع لمفهوم مبهم لا يعرف منه، الّا انه تنكشف به تساوي الاجسام و رجحانها، و كذلك الخمر موضوعة لمفهوم مبهم لا يعرف منه، الّا انه مائع يؤثر الاسكار.

(1) هذا الاشكال منسوب الى الشيخ الاعظم على ما في تقريراته.

و حاصله: انه ردد الجامع بين كونه مركبا و بسيطا، و هو عنوان المطلوب، او ملزومه و حذف الجامع المقولي من الترديد، و لعله لوضوح عدم امكانه عنده.

و حاصل ما ذكره من الاشكال في الجامع: انه اما أن يكون الجامع امرا مركبا:

بان يكون الموضوع له اللفظ عددا خاصا كعشرة اجزاء- مثلا-، أو يكون عنوانا و أمرا بسيطا، كعنوان المطلوب، او عنوان الناهي عن الفحشاء المؤدي لعنوان المطلوب صدقا و الملازم له تحققا، و كلا الترديدين لا يمكن المصير اليهما.

اما الاول، و هو كونه مركبا: فلوضوح ان كل مركب فرض كونه جامعا للصحيح يمكن ان يكون ذلك المركب فاسدا، فان كل مرتبة فرض كونها هي الجامع يمكن ان تكون تلك المرتبة فاسدة، لصدورها ممن لم يكلف بها، فانا لو فرضنا- مثلا- ان الجامع هو المرتبة الجامعة لجميع الأجزاء و الشرائط، فان تلك المرتبة تقع صحيحة من القادر المختار، و تقع فاسدة من المريض الذي يضره القيام، او الطهارة المائية.

ص: 90

.....

______________________________

فلا يعقل ان نتصور جامعا مركبا يقع صحيحا دائما، و لا يقع في حال من الاحوال فاسدا. فأين الجامع المركب المختص بالصحيح، دون الفاسد؟: هذا اولا.

و ثانيا: انه اذا كان كلما يمكن ان يقع صحيحا من الجامع التركيبي يمكن ان يقع فاسدا لا يكون ذلك الجامع جامعا مختصا بالصحيح، لصدقه على الفاسد ايضا، و لا يعقل ان ما فرض جامعا للصحيح يصدق على الفاسد، للزوم الخلف الواضح.

و ثالثا: ان تصور جامع تركيبي لأفراد الصحيحة التي تزيد و تنقص في غاية الاشكال، فان كل مقدار، و أي عدد تصورناه جامعا يمكن أن يزيد و أن ينقص.

نعم، صلاة المختار الحاضر الجامعة لجميع الاجزاء و الشرائط، لا يمكن ان تزيد، الّا انها لا يعقل ان تكون جامعا، لأنها تنقص في السفر، و في حالات الاضطرار، فانه ربما تكون الصلاة إيماء واحدا. هذا اذا كان الجامع امرا مركبا.

و اما اذا كان امرا بسيطا، و هو لا يخلو اما ان يكون عنوان المطلوب، أو امرا ملازما مساويا له. اما اذا كان عنوان المطلوب فيرد عليه:

اولا: ان الصلاة الصحيحة هي التي يرد عليها الطلب، فاذا كان الجامع لها هو عنوان المطلوب، فيلزم ان يكون المتعلق للطلب هو هذا العنوان. و من الواضح: ان عنوان المطلوب لا يعقل ان يتحقق الّا بأن يتقدم طلب متعلقا بشي ء. فحينئذ يتحقق عنوان المطلوب، فعنوان المطلوب متأخر عن تعلق الطلب. و حيث ان عنوان المطلوب على الفرض هو متعلق الطلب و موضوعه، فهو متقدم عليه، فيلزم ان يكون ما هو متقدم متأخرا، و الى هذا اشار بقوله: «و الاول غير معقول، لبداهة استحالة اخذ ما لا يتأتى الّا من قبل الطلب في متعلقه».

و ثانيا: يلزم الترادف بين لفظ الصلاة و المطلوب، و هو واضح الفساد، لانهما لو كانا مترادفين لكان حمل المطلوب على الصلاة حملا اوليا، لا حملا شايعا.

و من الواضح ان حمل المطلوب على الصلاة ليس كحمل الشي ء على نفسه. و ايضا

ص: 91

ايضا .. مدفوع: بان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة و نقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتحاد.

و في مثله تجري البراءة، و انما لا تجري فيما اذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا مسبّبا عن مركّب مردّد بين الاقل و الاكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل، و الوضوء فيما اذا شك في اجزائهما. هذا على الصحيح (1).

______________________________

لا اختصاص لعنوان المطلوب بالصلاة، فان ساير العبادات مطلوبة، فاذا كان جامعا في العبادات يلزم مرادفته لسائر الفاظ العبادات.

و ثالثا: ان المشهور القائلين بالصحيح حيث ان الموضوع له الفاظ العبادات مجمل لا يسعهم التمسك بالاطلاق في نفي ما شك في جزئيته، إلّا انهم يتمسكون في نفيه بالبراءة، فلا بد و ان يكون متعلق الطلب عندهم من الاقل و الاكثر، و لو كان الجامع امرا بسيطا يترتب على هذه الافعال لما امكنهم اجراء البراءة، لانه يكون من الشك في المحصل و هم لا يتمسكون في الشك بالمحصل بالبراءة، بل يقولون بالاحتياط، و لو كان الجامع عنوان المطلوب، او ملازمه لكان مما يترتب على هذه الافعال فيكون من موارد الاحتياط، لا البراءة، لانه من الشك في المحصل.

(1) يعني: ان هذا الايراد الاخير فقط يرد على فرض كون الجامع هو البسيط الملازم لعنوان المطلوب، دون الأولين، لوضوح انهما يختصان بعنوان المطلوب، لأن الملازم لعنوان المطلوب لم يؤخذ فيه الطلب، فلا يرد الاول، و لزوم الترادف بينه و بين الفاظ العبادات لا مانع عنه. نعم يرد عليه الايراد الاخير الذي مر: من عدم امكان التمسك بالبراءة.

و حاصل ما اجاب به: انه حيث يكون الجامع امرا بسيطا ملازما لعنوان المطلوب فلا يرد عليه ما اورد على الجامع التركيبي من الزيادة و النقص، فان البسيط يتحد مع الزائد و الناقص، كالانسان- مثلا- فانه يتحد مع ذي الرأس، و مع ذي الرأسين، و مع ذي اليد الواحدة، او الرجل الواحدة، و مع ذي اليدين، و ذي الرجلين، و قد عرفت:

ص: 92

و اما على الاعم، فتصوير الجامع في غاية الاشكال. و ما قيل في تصويره او يقال وجوه.

احدها- ان يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، كالاركان في الصلاة- مثلا- و كان الزائد عليها معتبرا في المأمور به، لا في المسمى. و فيه ما لا يخفى.

______________________________

انه لا يرد عليه الايرادان المختصان بعنوان المطلوب، و اما عدم ورود الايراد الاخير عليه، فلأن هذا الجامع ليس امرا منحازا بالوجود عن وجود هذه المركبات حتى تكون هذه المركبات بالنسبة من الشك في المحصل، بل هو متحد في الوجود معها، و هو مفهوم واحد منتزع عن نفس هذه المركبات، متحد معها تحصلا و وجودا، و انما لا تجري البراءة فيما كان العنوان البسيط مسببا عنها، و له وجود غير وجودها خارجا، كالطهارة المسببة عن الغسلات، فانه يظهر من بعض الاخبار انه نور يترتب على هذه الافعال و يتسبب عنها. هذا حاصل ما ذكره جوابا عن ايراد عدم التمسك بالبراءة.

و يمكن ان يرد عليه:

اولا: انه بعد الاعتراف ببساطة الجامع لا يعقل ان يكون وجوده في الخارج عين وجود هذه المركبات، و الّا لزم تركب البسيط، او بساطة المركب، و هو خلف. و اما ما ذكره مثالا: من اتحاد الانسان بذي الرأسين، و الرأس الواحد، فقد نشأ من توهم كون الحيوان الناطق الذي هو الانسان المركب بالتركيب الاتحادي هو هذه الاعضاء و النفس الناطقة، و ليس كذلك، بل الانسان هو النفس الناطقة المتحدة مع الحيوان، و هو الروح او الحياة البخارية، لا نفس هذه الاعضاء.

و ثانيا: ان التمسك بالبراءة لا يعقل أن يتم الّا حيث يرجع الى مقطوع و مشكوك، و بعد كون متعلق الطلب امرا بسيطا، لا نفس هذه الأجزاء، بل هو مفهوم منتزع عنها، و ان اتحد معها فلا يكون له مقطوع و مشكوك حتى تجري البراءة.

ص: 93

فان التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الاركان، بل و عدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الاجزاء و الشرائط عند الأعمّي. مع انه يلزم ان يكون الاستعمال فيما هو المأمور به بأجزائه و شرائطه مجازا عنده، و كان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب اطلاق الكلي على الفرد و الجزئي- كما هو واضح-، و لا يلتزم به القائل بالاعم (1).

______________________________

(1) هذا هو التصوير الاول للجامع الأعمّي.

و حاصله: ان تكون الاركان في هذه العبادات كأركان الصلاة- مثلا- هي الجامع الموضوع له لفظ الصلاة، و هو يصدق مع الصحيح و الفاسد، و إنما اختار هذا المدعي الاركان، لأنها تفترق عن بقية الاجزاء: بان تركها عمدا و سهوا مضر بصحة الصلاة دون بقية الاجزاء، فان تركها عمدا مضر بالصحة، لا سهوا.

و قد اورد عليه:- بأن كون الأركان هي الجامع- بايرادات ثلاثة:

الاول: ان الجامع لو كان هو الاركان فلازمه ان لو فقد بعض الاركان لما صح اطلاق الصلاة، و لو فاسدة عليه، فان من ترك الركوع- مثلا- و أتى بباقي الاركان و سائر الاجزاء و الشرائط يقتضي ان لا يصدق على ما اتى به انها صلاة فاسدة، مع انه لا اشكال في صدق الصلاة الفاسدة عليه، فيقال: ما اتى به صلاة فاسدة، و لو كان الجامع للصحيح و الفاسد هو الاركان لما صدق على ما أتى به انه صلاة فاسدة، بل يكون كما لو أكل و شرب و مشى، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة صدق الصلاة».

و الثاني: ان لازم كون الاركان هي الجامع انه لو أتى بنفس الاركان مع ترك كل جزء و شرط غيرها: بأن أتى بها في غير الوقت، و عاريا، و مستدبر القبلة، و على غير طهارة، فينبغي ان يصدق على ما أتى به انه صلاة عند الأعمّي، و الوجدان شاهد ايضا بانه لا يصدق عليها انها صلاة، و لو فاسدة. و الى هذا اشار بقوله: «بل و عدم

ص: 94

فافهم (1).

______________________________

الصدق»: أي عدم صدق الصلاة على من أتى بصرف الاركان، مع تركه كل جزء آخر و شرط.

فاتضح: ان كون الاركان هي الجامع غير مطرد، و لا منعكس.

و الثالث: انه لو كان الجامع الاركان، فاذا تكون هي المسماة بلفظ الصلاة و لا اشكال، و لا ريب ان هناك اجزاء تنضم اليها، و شرائط، لأجل حصول الفرد الذي يسقط به الامر. و عليه تكون الاجزاء التي تدخل في المأمور به خارجة عما وضع له لفظ الصلاة، و يكون هناك كلّ آخر و هو المأمور به و الذي وضع له لفظ الصلاة جزء منه. و حينئذ فلو استعمل لفظ الصلاة الموضوع لجزء من الكل المأمور به في مجموع المأمور به لكان استعمالا مجازيا، من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، و ليس من باب اطلاق اللفظ الموضوع للكلي على فرده، فان استعمال اللفظ الموضوع للكلي على فرده له نحوان: تارة يطلق عليه، لأنه فرده و مصداقه، و هذا استعمال حقيقي في نفس ما وضع له اللفظ، و اخرى يستعمل في الفرد بخصوصه و مشخصاته، و في هذا يكون استعمالا مجازيا، اما استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل فلا يصح، الّا بنحو المجازية، لأن الكل ليس فردا للجزء، و لا مصداقا له، و لا يلتزم القائل بالاعم: بان اطلاق لفظ الصلاة على مجموع الاجزاء و الشرائط من المجاز.

(1) لعله يشير الى: ان لحاظ الموضوع لا بشرط لا ينفع في جواز استعمال اللفظ الموضوع للماهية لا بشرط في صحة استعماله في البشرطشي ء استعمالا حقيقيا مع فرض كون الشي ء داخلا في المستعمل فيه. نعم، يصدق اللابشرط شي ء باعتبار حصول ما هو موضوع له و تحققه معه، فان الانسان- مثلا- موضوع للماهية لا بشرط الكتابة و عدمها، و هو يصدق على نفس الانسان الكاتب صدقا حقيقيا، لا على الانسان مع فرض كون الكتابة بعض المستعمل فيه.

ص: 95

ثانيها- ان تكون موضوعة لمعظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا. فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، و عدم صدقه عن عدمه.

و فيه، مضافا الى ما اورد على الاول أخيرا: انه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى فكان شي ء واحد داخلا فيه تارة و خارجا عنه اخرى، بل مرددا بين ان يكون، هو الخارج او غيره عند اجتماع تمام الأجزاء، و هو كما ترى، سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات (1).

______________________________

(1) هذا التصوير الثاني للجامع على الاعم.

و حاصله: ان يكون لفظ الصلاة- مثلا- موضوعا لمعظم الأجزاء التي بحيث متى حصلت في الخارج صدق عليها انها صلاة، و لعل السبب في هذه الدعوى: و هو كون الصلاة موضوعة لمعظم الاجزاء انّا نرى صدق الصلاة لو أتى بالمعظم صدقا حقيقيا، و ان لم تكن صحيحة، و اذا أتى ببعض الاجزاء بحيث لا يكون المعظم لا يصدق عليها الصلاة، و لو فاسدة فيكشف هذا الصدق في مقام حيث يوجد المعظم، و عدم الصدق في آخر حيث لا يتحقق المعظم عن انها موضوعة لنفس المعظم، لا لخصوص الصلاة الصحيحة.

و اورد عليه في المتن:

اولا: بانه يرد عليه الايراد الاخير الذي اورده على فرض كون الجامع هو الاركان، و هو لزوم كون استعمال لفظ الصلاة بناء على وضعها لمعظم الاجزاء في الفرد التام الجامع لجميع الاجزاء و الشرائط استعمالا مجازيا، و من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، و الوجدان على خلافه. و اليه اشار بقوله: «و فيه مضافا الى ما اورد على الاول أخيرا».

ص: 96

.....

______________________________

و ثانيا: انه لو كان الموضوع له هو المعظم، فانه لا اشكال في ان الموضوع له لفظ الصلاة ليس مفهوم معظم الاجزاء، و الّا لزم الترادف بين لفظ الصلاة، و مفهوم معظم الاجزاء، و هو واضح البطلان، فلا بد و ان يكون مراده مصداق معظم الاجزاء. و حينئذ نقول: ان المصداق لمعظم الاجزاء اما ان يكون معينا من حيث الذات و الماهية، كالتكبير، و الركوع، و السجود، و القراءة، و التشهد- مثلا- فاذا أتى بصلاة فاقدة للتشهد، فاما ان يكون لها، أو لا، و الثاني واضح البطلان، لأن لغالب افراد الصلاة معظم الاجزاء، و ان كان لها معظم فلا بد و أن يكون التشهد ليس داخلا في المعظم، و اذا حلّ محله جزء آخر، كالتسبيح لزم التبدل في اجزاء الماهية المعينة، و الى هذا اشار بقوله: «لزم كون شي ء واحد داخلا فيه مرة، و خارجا عنه اخرى»، مضافا الى ان دخول التسبيح في المعظم، و قد كان خارجا لما كان التشهد داخلا لازمه: تعدد الوضع في المعظم، و معناه الاشتراك. و عليه فلا يمكن للاعمي التمسك بالاطلاق. و ان كان مبهما غير معين، و لا يعرف الّا بمعرف هو مفهوم معظم الاجزاء، فقد يرد عليه: ان هذا من المردد، و المردد لا وجود له، و لا ماهية، لا ذهنا، و لا خارجا، لأن كل شي ء هو هو، لا هو أو غيره، الّا انه واضح الاندفاع، لأن الموضوع له مبهم، لا مردد، و كون الموضوع له قد يكون امرا مبهما لا مانع منه.

و لا يورد عليه- بالايراد السابق-: من لزوم التبدل في اجزاء الماهية، لان اجزاء الماهية فيه غير معينة حتى يكون هذا لازما باطلا.

و قد يورد: ان الصلاة التامة الاجزاء و الشرائط يصلح كل جزء منها ان يكون داخلا في المعظم، و لا يكون خارجا عنها، و هو الذي أشار اليه بقوله: «بل مرددا بين ان يكون هو الخارج، او غيره» الّا ان هذا لا يضر، و ليس بلازم باطل، فان كل مفهوم مبهم يكون مصداقه غير معين بمعين خاص، كنفس مفهوم معظم الاجزاء، أو أكثر الاجزاء يكون قابلا لان يدخل فيه شي ء من الاجزاء و ان يخرج عنه و يدخل غيره، و هذا ليس بضار في المفاهيم المبهمة غير المعينة المصداق.

ص: 97

ثالثها- ان يكون وضعها كوضع الأعلام الشخصية، كزيد، فكما لا يضر في التّسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر و الكبر، و نقص بعض الأجزاء و زيادته، كذلك فيها.

و فيه: أن الاعلام إنما تكون موضوعة للأشخاص، و التشخّص إنما يكون بالوجود الخاص، و يكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا، و ان تغيّرت عوارضه من الزيادة و النقصان و غيرهما من الحالات و الكيفيات، فكما لا يضر اختلافها في التشخص لا يضر اختلافها في التّسمية. و هذا بخلاف مثل الفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات و المقيدات، و لا يكاد يكون موضوعا له الّا ما كان جامعا لشتاتها، و حاويا لمتفرقاتها، كما عرفت في الصحيح منها (1).

______________________________

نعم الذي، ينبغي ان يورد به عليه: هو ان الصلاة تصدق على الواجد لتمام الاجزاء و الشرائط بمجموعه صدقا حقيقيا، و لو كانت موضوعة لمعظم الاجزاء لما صدقت على المجموع صدقا حقيقيا، بل كان صدقها عليه من المجاز.

و يرد عليه ايضا: ان الصلاة الصحيحة ربما لا يكون لها معظم الاجزاء حيث تكون عبارة عن إيماء واحد، كما في بعض الاحوال، و لعل الماتن يشير إلى الاخير بقوله: «سيما اذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات، من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات».

(1) هذا هو التصوير الثالث لكون الفاظ العبادات موضوعة للاعم.

و حاصله: انه لا اشكال في ان الوضع في الاعلام الشخصية، كزيد و عمرو، هو انه قد وضعت الفاظ الاعلام للهوية الممتازة عن ساير الهويات المعينة بنفس هذا الامتياز الخاص، و هو كون كل منها هوية مشخصة معينة مميزة عن ساير الهويات الأخر، و اما من سائر جهاتها الأخر فهي مبهمة و لا يضرها تبادل الحالات فيها و اختلافها، فان زيدا- مثلا- في حال أول ولادته هو هوية ممتازة مشخصة عن غيرها، الّا انه من

ص: 98

.....

______________________________

ناحية الصغر و الكبر فهو مبهم، و لذا لا يضر في صدق زيد على هذه الهوية صغرها و كبرها، و من ناحية نقص بعض الاجزاء فيه، أو تمامها مبهم أيضا، فلو كان اولا واجد اليدين ثم قطعت احداهما لا تضر في صدقه و تسميته، و كذلك لو خرجت له يد ثالثة أو غيرها من الاجزاء لا تضر في صدقه و تسميته. فاذا الموضوع له في الاعلام هوية ممتازة و مشخصة بنفس هذا الامتياز عن غيرها، و اما من ساير جهاتها فهي مبهمة، فمع وجود الزيادة في أعضائه يصدق على ذاته و هويته اسم زيد، و مع نقصانها يصدق أيضا، و مع عدم الزيادة و النقيصة يصدق كذلك.

فاذا تصورنا امكان ان يكون الموضوع له مميزا من جهة مبهما من جهات يمكننا ان نتصور ان الموضوع له لفظ الصلاة هو الجامع بين افراد الصحيح و الفاسد الممتازة بكونها هوية من هويات العبادات ممتازة عما سواها من الحج و الزكاة و غيرهما، مبهمة من ناحية نقص بعض اجزائها و زيادتها، فلا يضر بها تبادل الحالات، و كونها في السفر ركعتين و في الحضر اربع، و كونها تامة الاجزاء و الشرائط مرة، و فاقدة بعض الاجزاء و الشرائط اخرى.

و الجواب عنه: ان المركب تارة يكون حقيقيا، و هو المركب من اجزاء موجودة بوجود واحد، كهويات الاعلام المركبة من الحيوان الناطق المتشخص المحفوظة وحدته بتشخصه، و في مثله لا يضر تبادل الحالات و اختلافها في وحدته، و اخرى يكون المركب اعتباريا لا يكون له وحدة وجودية، فلا بد في مقام الوضع لجامع يجمع افراده المتشتتة التي كل فرد منها هو عبارة عن مجموع وجودات كل جزء منه له وجود متشخص متميز، و لا يتصور لهذه الافراد المتشتتة جامع يجمع جميع افرادها و يلم شتاتها الّا ما تصورناه في الجامع الصحيحي: و هو كونها معراج المؤمن، و امثاله من الآثار التي دلت عليها الاخبار، و جعلتها من آثار الصلاة الصحيحة.

فحاصل الجواب: ان المركب الموضوع له اللفظ اما ان يكون واحدا بالحقيقة و الوجود و له التشخص، و وحدة مستمرة هي بنفس تشخصه، و في هذه الوحدة

ص: 99

رابعها- انّ ما وضعت له الالفاظ ابتداء هو الصحيح التّام الواجد لتمام الأجزاء و الشرائط، الّا ان العرف يتسامحون- كما هو ديدنهم- و يطلقون تلك الالفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له منزلة الواجد، فلا يكون مجازا في الكلمة على ما ذهب اليه السكاكي في الاستعارة، بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة او دفعات من دون حاجة الى الكثرة و الشهرة، للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة، أو المشاركة في التأثير، كما في اسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة، حيث يصح اطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة و المشارك في المهم أثرا، تنزيلا أو حقيقة.

______________________________

الحقيقة لا يضر تبدل الحالات، و هذا صحيح في الاعلام و يختص بها فان لها وحدة حقيقية متشخصة مستمرة لا يضر بوحدتها تبدل حالاتها، و اما في غير الاعلام، كالصلاة- مثلا- فانها ليس لفردها وحدة وجودية حقيقية، و حيث انها لها وضع واحد، و موضوع له واحد، فلا بد من وحدة لها تكون هي الجامع الموضوع له لفظ الصلاة، و لا نتصور لها جامع واحد بحيث يجمع افرادها و يصدق عليها صدقا حقيقيا، الّا ما تصورناه من الجامع الذي استكشفناه بآثاره.

ثم لا يخفى، انه قد مر بيانه، و الايراد عليه و انه لا جامع الّا المفهوم المبهم الذي جعل الاثر معرفا له، فان كان المفهوم المبهم الذي وضع له لفظ الصلاة هو ما يترتب عليه الأثر بالفعل كانت الصلاة موضوعة للصحيح، لانه هو الذي يترتب عليه الاثر بالفعل، و ان كان الموضوع له هو ما فيه اقتضاء التأثير كان الموضوع له اللفظ هو الاعم، لان ما به الاقتضاء يصدق على الصحيح و الفاسد.

ص: 100

و فيه: انه انّما يتم في مثل اسامي المعاجين و سائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له فيها ابتداء مركبا خاصا، و لا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت ان الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات و كون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة اخرى، كما لا يخفى.

فتأمل جيدا (1).

______________________________

(1) هذا الرابع، لا ينبغي أن يعد من تصويرات الجامع، فان مقتضاه: هو كون هذه الالفاظ بعد وضعها للصحيح التام اولا صارت حقيقة أيضا في الفاسد بواسطة الاستعمال، و لا فائدة للقائل بالاعم في هذه الدعوى، فانها لا تنفعه في التمسك بالاطلاق.

و على كل حال فحاصل هذا الرابع: هو ان هذه الالفاظ وضعت للصحيح التام الأجزاء و الشرائط اولا، ثم استعملت في الصحيح الفاقد لبعض الاجزاء و الشرائط بمناسبة اشتراكه معه في التأثير تنزيلا له منزلة الواجد لكل الاجزاء و الشرائط للمشاركة في أثر واحد بنحو الحقيقة الادعائية- على ما يراه السكاكي في الاستعارة- ثم استعملت هذه الالفاظ ايضا في الفاسد على نحو استعمالها في الصحيح الفاقد لاجل المشابهة في الصورة لما هو الصحيح التام، لا للمشاركة معه في التأثير، فكما ان المشاركة في التأثير مع فقدان بعض الاجزاء تصحح الاستعمال الادعائي، كذلك المشابهة في الصورة تصححه ايضا، ثم لكثرة الاستعمال و استيناس الذهن صارت هذه الالفاظ حقيقة في الصحيح الفاقد، و في الفاسد المشابه، فاذا يصح اطلاق هذه الالفاظ عليها كما يصح اطلاقها على الواجد التام.

و قد اورد عليه الماتن: بان هذا الوضع للتام اولا، ثم الاستعمال في غيره: من المشارك في الاثر و في الصورة انّما يتم في مركب معلوم الاجزاء، كالمعاجين لا في الفاظ العبادات التي الصحيح منها مختلف، و ان كل ما فرضته صحيحا في حالة يكون فاسدا في حالة اخرى.

ص: 101

خامسها- ان يكون حالها حال اسامي المقادير و الاوزان، مثل المثقال، و الحقّة، و الوزنة ... الى غير ذلك مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد و الناقص في الجملة. فان الواضع و ان لاحظ مقدارا خاصا، الّا انه لم يضع له بخصوصه، بل للاعم منه، و من الزائد و الناقص، أو انّه و ان خصّ به أولا، الّا انه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية انهما منه قد صار حقيقة في الاعم ثانيا.

______________________________

و حاصل ما يشير اليه في هذا الجواب: ان الاستعمال في الفاسد اذا كان للمشابهة في الصورة مع التام الواجد لجميع الاجزاء و الشرائط لا تكون هذه المشابهة موجودة في جميع افراد الفاسد، فان كل فرد من افراد الفاسد بحسب اختلاف الحالات يكون مشابها للصحيح في تلك الحال، لا في الصحيح التام الواجد لجميع الاجزاء و الشرائط، و اذا لم تكن مشابهة فلا يصح الاستعمال بنحو الادعاء حتى يصير حقيقة بعد كثرته، و لا ينبغي الايراد عليه بما ذكر، لانه يمكنه ان يدعي: ان مراتب الحقيقة في الفاسد تندرج مع الصحيح، فكل فرد من افراد الصحيح غير التام يصير اللفظ حقيقة فيه للاستعمال، و يكون حقيقة في فاسده لمشابهته له، و لا يلزمه ان يدعي: ان المشابهة منحصرة مع التام الواجد لجميع الأجزاء و الشرائط.

نعم، ينبغي ان يورد عليه: بأن هذا لا ينفع القائل بالاعم، لان غاية هذا الادعاء:

هو كون هذه الالفاظ يصح استعمالها في الفاسد اما ادعاء، أو حقيقة بنحو الوضع التعيّني، و على الأول ففي مقام الشك يحمل اللفظ على الصحيح، لانه هو المعنى الحقيقي، فلا يصح للاعمي التمسك بالاطلاق، و على الثاني و هو الوضع التعيّني يكون اللفظ مشتركا بين الصحيح و الفاسد فيكون مجملا فلا اطلاق.

ص: 102

و فيه: ان الصحيح- كما عرفت في الوجه السابق- يختلف زيادة و نقيصه، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد و الناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعم فتدبر جيدا (1).

______________________________

(1) هذا هو التصوير الخامس للقائل بالوضع للاعم.

و حاصله: ان الالفاظ الموضوعة للمركبات المحدودة بحدود خاصة، تارة يوضع اللفظ بازائها بلحاظ حدودها الخاصة على الدقّة بحيث يكون الناقص و الزائد خارجا عما وضع له اللفظ، كلفظ العشرة، فانه قد وضع اللفظ فيها لهذا الحد الخاص بحيث تكون التسعة و الاحدى عشر خارجتين عما وضع له اللفظ، و اخرى لا يلحظ في المركب من الوحدات الحدود على الدّقة، كما في المقادير، و الاوزان، فان الواضع للفظ الحقة او الوزنة و ان لاحظ مقدارا خاصا الّا انه لم يضع اللفظ لذلك المقدار محافظا على الحدود بدقة، بل وضعه لما هو الاعم من الزائد و الناقص، و لذا تصدق هذه الالفاظ على ما يزيد عنها بمقدار و على ما ينقص عنه بمقدار، فان وزنة الحنطة- مثلا- تصدق على ما ينقص عن الوزنة الحقيقية بمقدار مائة حبة- مثلا- و على ما يزيد عليها بذلك المقدار.

اذا عرفت هذا، فالأمر في الفاظ العبادات كذلك، فان الواضع و ان تصور التام الواجد لجميع الاجزاء و الشرائط، الّا انه لم يضع اللفظ بازائه، بل وضعه لما هو الاعم من الزائد و الناقص، لما نرى من صدق الصلاة- مثلا- على التام و على الناقص عنه و الزائد عليه، و هذا حاصل ما افاده في المتن الى قوله: «أو انه».

و لا يخفى ان على هذا التصوير لو تم ينفع القائل بالاعم فيما هو المهم له من التمسك بالاطلاق.

اما على ما افاده بقوله: «أو انه ... الخ» فانه لا ينفع الاعم في ذلك، لان حاصله: ان الالفاظ وضعت للتام اولا، ثم استعملت في الاعم من الزائد و الناقص كثيرا حتى صارت موضوعة له ايضا بالوضع التعيني، و ان كان الاستعمال مجازا

ص: 103

.....

______________________________

و بالعناية، او على نحو الحقيقة الادعائية بالتصرف في الامر العقلي بتنزيل الزائد و الناقص منزلة التام، فانه على هذا يكون اللفظ مشتركا بين الصحيح و الاعم، او بين الصحيح و الفاسد، و لا ينفع القائل بالاعم في التمسك بالاطلاق.

و اورد عليه الماتن بما حاصله: ان هذا التصوير انّما يتم في مثل المقادير و الاوزان الذي يكون التام فيها أمرا معينا معلوما يلحظ عند الوضع، ثم يوضع اللفظ لما هو الاعم من الزائد عليه و الناقص عنه، و لا يتم هذا في مثل الفاظ العبادات التي صحيحها غير معلوم و لا معين، و لا له حدود حاصرة، فانه قد يكون ذا أجزاء كثيرة و قد لا يكون له الّا فعل واحد، فكيف يلحظ الذي هذا حاله و يكون له نقصان و زيادة و هذا ما اورد الماتن بقوله: «و فيه ان الصحيح، كما عرفت في الوجه السابق يختلف ... الخ».

و يرد عليه: اولا: ان الامر في الموازين و المقادير ليس كما يدعيه، بل الالفاظ فيها موضوعة للحد المخصوص التام بشرط عدم الزيادة و النقصان، و لذا يصح ان يقال:

ان هذا المقدار حقة تنقص مائة حبة، أو حقة و مائة حبة فيما لو زادت، و اطلاق الحقة عليها عند العرف من باب التسامح، او من باب الخطأ في التطبيق و لا حجة للاطلاق العرفي في امثال ذلك، فانه يرجع اليه في تشخيص المفاهيم لا في اطلاقها التسامحي، بل اطلاقها التسامحي دليل المجازية إما في الاسناد، أو في الكلمة، و لعله: أي الاول، و هو المجاز في الاسناد يرجع اليه كثير من موارد الاطلاقات عند العرف التي يقال في مقام الجواب عنها: انها من الخطأ في التطبيق.

و ثانيا: بعد التسليم لما ادعي، انه اخص من المدعى، لأن اطلاق الفاظ المقادير على الزائد و الناقص بعد تسليمه إنّما هو على النقص و الزيادة فيما اذا كان مقدارا قليلا، كما لو زادت الوزنة، أو نقصت بمقدار قيراط، أو مثقال، لا في امثال العبادات التي الناقص منها و الزائد كثيرا ما يكون مقدارا كثيرا.

ص: 104

و منها: ان الظاهر أن يكون الوضع و الموضوع له في الفاظ العبادات عامين، و احتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا، لاستلزامه كون استعمالها في الجامع في مثل (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و (عمود الدين) و (الصوم جنّة من النار) مجازا، او منع استعمالها فيه في مثلها ... و كل منهما بعيد الى الغاية، كما لا يخفى على أولي النهاية (1).

______________________________

(1)

وضع الفاظ العبادات

ملخص هذا الامر: ان الفاظ العبادات على الصحيح و على الأعم موضوعة بالوضع العام و الموضوع له العام، و ليست موضوعة لذوات الافراد بنحو الوضع العام و الموضوع له الخاص، لوضوح ان الوضع العام و الموضوع له الخاص لا يفارق الاشتراك في النتيجة، فان الصحيحي يدعي: ان الموضوع له مجمل من ناحية مفهومه، و لو كان موضوعا بالوضع العام و الموضوع له خاص لكان مجملا من ناحية المراد.

و القائل بالاعم يدعي الاطلاق في مقام نفي المشكوك، و لو كان الموضوع له خاصا لكان الواقع في تلو الأوامر دائما فردا خاصا، لا مفهوما عاما له اطلاق يتمسك به، بل يكون من المجمل ايضا، و هو ينافي الثمرة المترتبة على القول بالاعم.

و يلزم ايضا: ما اشار اليه في المتن بقوله: «لاستلزامه ... الخ» و حاصله: انه لو كان الموضوع له في العبادات خاصا لكان استعمال الصلاة- مثلا- في الجامع الصحيحي بناء على الصحيح من الاستعمال المجازي يحتاج الى عناية، لان استعمال اللفظ الموضوع لذوات المصاديق في المفهوم العام الجامع لها استعمال في غير ما وضع له، فلازم دعوى كون الموضوع له خاصا: هو ان قولنا الصلاة تنهى عن الفحشاء، و الصوم جنة من النار من الاستعمال المجازي، لان اللفظ قد استعمل في المفهوم العام الصادق على كل صلاة صحيحة، او صوم صحيح، و الالتزام به بعيد جدا، بل غير صحيح، لان الاستعمال المجازي يحتاج الى لحاظ علاقة و عناية، و لا نرى من انفسنا لحاظ علاقة و عناية في هذا الاستعمال. و أبعد من دعوى المجازية في هذا الاستعمال

ص: 105

و منها: ان ثمرة النزاع اجمال الخطاب على قول الصحيحي، و عدم جواز الرجوع إلى اطلاقه في رفع ما اذا شك في جزئية شي ء للمأمور به و شرطيته اصلا، لاحتمال دخوله في المسمى- كما لا يخفى-.

و جواز الرجوع اليه في ذلك على قول الأعمّي في غير ما احتمل دخوله فيه، مما شك في جزئيته أو شرطيته. نعم، لا بد في الرجوع اليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان، كما لا بد منه في الرجوع الى سائر المطلقات (1). و بدونه لا مرجع ايضا، الّا البراءة، او الاشتغال على

______________________________

دعوى المنع عن صحة هذه الاستعمالات رأسا، و الى هذا اشار بقوله: «أو منع استعمالها فيه»، لان هذه الدعوى واضحة البطلان، لصحة هذه الاستعمالات قطعا. فهي بعيدة جدا، و لذا قال: و كل منهما: أي من دعوى المجازية و المنع بعيد الى الغاية.

(1) ينبغي بيان مقدمة لتعيين مورد ترتب الثمرة و هي:

ان المتكلم اما ان يقطع انه في مقام بيان تمام مراده، و لا بد من التمسك بالاطلاق في هذا المقام لنفي المشكوك، سواء على الصحيح او على الاعم الّا انه على الصحيح الاطلاق مقامي، و على الاعم الاطلاق كلامي و لفظي، فلا ثمرة بين القولين.

و اما ان يقطع انه في مقام الاهمال فلا يتمسك بالاطلاق على القولين ايضا، و هو واضح، فلا ثمرة.

و ثالثة: لا يحرز أحد الامرين، بل يشك انه في مقام البيان ام لا؟ و مورد الثمرة هذا المقام، فان العقلاء حيث بنوا في مقام الشك في البيان بحمل المتكلم بكونه في مقام البيان، فحيث يكون للفظ مفهوم معلوم يتمسك باطلاقه، و حيث يكون الكلام مجملا و ليس له مفهوم معلوم لا يكون للكلام اطلاق. و قد عرفت: انه على الاعم يكون الموضوع له في هذه الالفاظ امرا معلوما و مفهوما و مبينا.

ص: 106

.....

______________________________

اما الاركان، او معظم الاجزاء، او ما فيه اقتضاء التأثير فيصح التمسك باطلاقه لنفي المشكوك، و على الصحيح حيث ان الموضوع له فيها هو الصحيح: أي ما فيه فعلية التأثير، و كلما شك في جزئية شي ء او شرطيته في تحقق ما هو الصحيح و المؤثر بالفعل فيكون متعلق الامر مفهوما مجملا، فلا يصح التمسك باطلاقه.

لا يقال: ان متعلق الامر على الصحيح، و على الاعم لا بد و ان يكون هو الصحيح، إذ المولى لا يطلب الفاسد، فلا ثمرة.

فانه يقال: انه اذا كان للفظ مفهوم معلوم فان بناء العقلاء و سيرتهم على حمل المتكلم على كونه في مقام بيان ما كان اللفظ ظاهرا فيه. فمورد السيرة العقلائية: هو ان يكون للفظ مفهوم مبين، و معنى حملهم للمتكلم على كونه في مقام البيان يرجع الى بنائهم: على ان الظهور اللفظي هو المراد له جدا و واقعا، و لازم ذلك ان ما كان اللفظ ظاهرا فيه هو الصحيح، اما اذا كان الصحيح هو الموضوع له اللفظ فانه يكون المفهوم امرا مجملا، و لا ظهور للكلام في أمر بيّن حتى يكون موردا لحمل العقلاء المتكلم على إرادته جدا، لظاهر كلامه، فلا مورد لسيرة العقلاء في مقام الاجمال اللفظي.

فاتضح الفرق، بين كون الصحيح هو المراد قطعا للآمر على الصحيح و على الاعم، و بين كون الصحيح هو الموضوع له اللفظ، فانه على الاعم يمكن احراز ان ما عدا المشكوك هو الصحيح المراد، و هو امر مفهوم مبين، بخلاف ما اذا كان الصحيح هو الموضوع له، فانّا و ان علمنا: بان المولى يريد الصحيح، الّا ان ما يريده ليس امرا معلوما مبينا حتى ناخذ به، فكون الصحيح هو المراد على كل حال، لا يجعل الكلام مجملا مطلقا على الاعم و على الصحيح، بل انما يكون مجملا حيث يكون الصحيح هو الموضوع له.

اذا عرفت هذه المقدمة، و اتضح مورد الثمرة، نقول:

ص: 107

.....

______________________________

اختلفت كلماتهم فيها، فالذي يظهر من الماتن: هو كون الثمرة اجمال الخطاب على الصحيح، و عدم صحة التمسك بالاطلاق في رفع مشكوك الجزئية و الشرطية، و جواز الرجوع الى الاطلاق على الاعم في نفي المشكوك من الجزئية و الشرطية، في غير الجزء و الشرط الذي احتمل دخولهما في المسمى مثلا: لو شك في تحقق معظم الاجزاء لا يرجع الى الاطلاق، و بعد تحقق المعظم يرجع الى الاطلاق، و ينفي المشكوك به، بخلافه على الصحيح، فان ما وضع له اللفظ مفهوم مجمل لا اطلاق له، لان الصحيح هو الذي وضع له اللفظ، و هو غير معلوم و لا مبين، فاذا شك في جزئية شي ء فقد شك في تحقق الصحيح لو لم يأت بالمشكوك، فلا يكون للخطاب اطلاق حتى يتمسك به و بنفي المشكوك.

فالمتحصل مما ذكره الماتن في بيان هذه الثمرة: هو اجمال الخطاب على الصحيح، و عدم اجماله على الاعم، و لازم الاول: عدم جواز الرجوع الى الاطلاق، اذ لا اطلاق مع الاجمال، و لازم الثاني جواز الرجوع الى الاطلاق، لكون المفهوم الذي وضع له اللفظ مبينا.

و يمكن ان يناقش في بيان الثمرة بهذا النحو، و حاصل المناقشة:

ان الرجوع إلى الاطلاق لا يدور مدار اجمال الخطاب و عدمه، بل يتمسك بالاطلاق على الاعم، و ان كان ما وضع له اللفظ فيه مجملا، فانه لو قيل: بان هذه الالفاظ موضوعة لما فيه اقتضاء التاثير، لا فعلية التأثير فان الموضوع له ايضا يكون امرا مجملا، من حيث المفهوم، و لا يعرف الّا بكونه له اقتضاء التأثير في النهي عن الفحشاء، و معراجية المؤمن، لا ان الموضوع له هو ما ذكره: من الاركان أو معظم الاجزاء، أو غير ذلك، و لكن مع ذلك يمكن التمسك بالاطلاق، لأن الموضوع له و ان كان مجملا من حيث المفهوم، الّا انه مبيّن من حيث الصدق، فانا نعلم ان ما نأتي به من هذه الاجزاء التي نعرفها يصدق عليها ما هو الموضوع له لفظ الصلاة- مثلا- و يتحد معها المفهوم الذي وضعت له، و ان لم نعرف ما هو الموضوع له تفصيلا،

ص: 108

الخلاف في مسألة دوران الامر بين الأقل و الاكثر الارتباطيين. و قد انقدح بذلك: ان الرجوع الى البراءة أو الاشتغال (1) في موارد اجمال الخطاب،

______________________________

فنتمسك بالاطلاق، و نقول: امرنا بالصلاة، و هذه صلاة قطعا، فلو أراد غير هذه المصاديق لبيّنها، فما وضع له اللفظ على الاعم و ان كان مجملا من حيث المفهوم، الّا انه مبين من ناحية الصدق، و هذا كاف في التمسك باطلاقه، بخلاف ما اذا كان الموضوع له فيها هو الصحيح، فان الموضوع فيها مجمل من حيث المفهوم، و مجمل من حيث الصدق لعدم احراز ان ما نأتي به هو صلاة صحيحة لفرض الشك في شي ء نحتمل دخوله فيما هو الصلاة الصحيحة، فلا مجال للتمسك بالاطلاق.

فينبغي ان يكون بيان الثمرة: هو جواز التمسك بالاطلاق على الاعم، و عدم جوازه على الصحيح، لا إجمال الخطاب و عدمه.

و ينبغي ان يعلم ايضا: ان التمسك بالاطلاق منحصر بالقول بوضعها للاعم، اما اذا لم نقل به سواء قلنا بالوضع للصحيح، ام كنا من المتوقفين، لا يمكننا التمسك بالاطلاق.

(1) قد ذكر بعضهم ثمرة الخلاف بين الصحيح و الاعم: و هي الرجوع الى البراءة على الاعم، و الى الاشتغال بناء على الصحيح، و ان قلنا بالرجوع الى البراءة في مسألة دوران الامر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين، لان الرجوع الى البراءة في الارتباطيين انما هو فيما كان المأمور به نفسه دائرا بين الاقل و الاكثر، و هذا انما يتم على القول بالاعم، فانه عليه يكون نفس هذه الاجزاء هي المأمور به. و اما بناء على الصحيح فالمأمور به امر بسيط يترتب على هذه الافعال، و هذه الافعال بالنسبة اليه محققات و محصلات، فاذا شك في شي ء منها لاحتمال دخله في ترتب ما هو المطلوب، فلا بد من الاتيان به، لأنه من الشك في محقق المأمور، لا في المأمور به.

فالثمرة- حينئذ-: هي الرجوع الى البراءة على الاعم، على القول بها في الارتباطيين، فيما لم تحرز مقدمات الاطلاق، و الرجوع الى الاشتغال على الصحيح.

ص: 109

او اهماله على القولين، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع الى البراءة على الاعم، و الاشتغال على الصحيح (1)، و لذا ذهب المشهور الى البراءة مع ذهابهم الى الصحيح (2).

و ربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا.

قلت: و ان كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى اعطاء درهم في البر، فيما لو اعطاه لمن صلى، و لو علم بفساد صلاته، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم

______________________________

و قد انكر المصنف هذه الثمرة، و قال: بلزوم الرجوع الى البراءة على كل من القولين الصحيح و الاعم، و ليس الصحيح الموضوع له اللفظ بالنسبة الى هذه الافعال نسبة المحصل و المحقق، بل هو متحد معها في الوجود اتحاد الطبيعي و الفرد، فمورد البراءة في الصحيح نفس هذه الافعال و المركبات، و الصحيح كالاعم في جريان البراءة عند من يقول بجريان البراءة في الاقل و الاكثر الارتباطيين، و الّا فالاشتغال عند من يقول به في تلك المسألة، و قد مرت المناقشة- منّا- للماتن في هذه الدعوى عند اشكاله على الشيخ في الجامع التركيبي و البسيط. نعم، بناء على الجامع المفهومي في الصحيح يكون مجرى البراءة، فان هذه الافعال و المركبات بنفسها هي الموضوع لها اللفظ.

(1) فانه على الصحيح يكون الخطاب مجملا، و اما على الاعم فانّما يكون مجملا لا اطلاق له في موارد الاهمال كما عرفنا.

(2) حاصله: ان المشهور ذهبوا الى البراءة في المقام، و قد صرحوا: بان الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح، و هم في مورد الشك في المحقق و المحصل يقولون بالاشتغال. فحينئذ لا بد و ان لا يكون المقام عندهم من الشك في المحصل، و الّا لقالوا في المقام بالاشتغال، لا البراءة. فيظهر منهم ان الصحيح الموضوع له اللفظ متحد مع هذه الافعال.

ص: 110

على الاعم، و عدم البر على الصحيح (1)، الّا انه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة، لما عرفت: من أن ثمرة المسألة الاصولية: هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الاحكام الفرعية. فافهم (2).

______________________________

(1) من جملة ما ذكر من الثمرات بين الصحيح و الاعم: هي النذر، و حاصلها: انه لو نذر الناذر ان يعطي من صلى درهما، فبناء على ان الموضوع له هو الاعم يبر بالنذر فيما لو اعطى الدرهم لمن صلى صلاة فاسدة، و بناء على انها موضوعة للصحيح لا تبرأ ذمته الّا باعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة.

و قد اورد عليه الشيخ الاعظم: بان النذر يتبع قصد الناذر، فان كان قد قصد ان يعطي الدرهم لمن صلى، و لو فاسدا تبرأ ذمته باعطائه له، و ان كان لفظ الصلاة موضوعا للصحيح. غاية الامر: ان في هذه العبارة قد استعمل لفظ الصلاة في الاعم استعمالا مجازيا. و ان قصد اعطاء الدرهم لمن صلى صحيحا فلا تبرأ ذمته الّا باعطائه لمن صلى صحيحا، و ان كان لفظ الصلاة موضوعا للاعم.

نعم، لا يكون الاستعمال بناء على الاعم مجازا، فان استعمال اللفظ الموضوع للعام في احد افراده من باب كونه مصداقا له لا يكون من الاستعمال المجازي.

و يرد عليه: ان مرادهم: هو ان الناذر قد نذر ان يعطي الدرهم لمن أتى بمسمى الصلاة، فان كان مسمى الصلاة هو الاعم تبرأ ذمته باعطائه من صلى فاسدا، و ان كان مسمى الصلاة هو الصحيح فلا تبرأ ذمته الّا باعطاء من صلى صحيحا، و لا يكون للناذر قصد بنفسه، و لا نظرة لا الى الصحيح و لا الى الاعم، بل يكون قصده الاتيان بأحد المسمى لهذا اللفظ.

(2) حاصله: انه لا ينبغي ان يكون النذر ثمرة لهذه المسألة، و لا لسائر المسائل الاصولية، فان ثمرة المسألة الاصولية هي ما وقعت نتيجتها في طريق الاستنباط، و معنى وقوعها في طريق الاستنباط: هي ان تكون نتيجتها كبرى للقياس الذي ينتج الحكم الشرعي، مثلا: البحث عن مقدمة الواجب، فان نتيجته هي الملازمة بين وجوب

ص: 111

و كيف كان، فقد استدل للصحيحي بوجوه:

أحدها: التبادر، و دعوى: ان المنسبق الى الاذهان منها هو الصحيح، و لا منافاة بين دعوى ذلك، و بين كون الالفاظ على هذا القول مجملات،

______________________________

الشي ء و وجوب مقدمته: أي كون مقدمة الواجب بحكم الملازمة واجبة، فيقال: هذه مقدمة واجب، و كلما كان مقدمة لواجب، فهو واجب بحكم الملازمة، فهذه المقدمة تكون واجبة، و مثل حجية الخبر، فان المسألة الاصولية تثبت حجية خبر الواحد، فيقال: صلاة الجمعة مما قام الخبر على وجوبها، و كل ما قام الخبر على وجوبه فهو واجب، فصلاة الجمعة واجبة.

اما اذا كانت نتيجة المسألة الاصولية هو تنقيح الصغرى و اثباتها، لا الكبرى، فلا تكون نتيجتها استنباطية، بل تكون نتيجة تطبيقية- كما في المقام فان نتيجة كون الوضع للصحيح أو للاعم ينقح الصغرى للكبرى المبرهن عليها في الفقه، و هي وجوب براءة ذمة الناذر بوجود مصداقه، و متعلقه، فيقال: ان الاعم هو المصداق لنذر الناذر، و كلما كان مصداقا لنذر الناذر تبرأ ذمة الناذر باعطائه، و مثل هذه النتيجة تطبيقية، لأنها تحرز المصداق للكلية المستنبط حكمها في الفقه، فلم يحصل بها الّا تطبيق الحكم المستنبط على مصداقه، و نتيجة المسألة الاصولية، لا بد و ان تكون هي السبب في استنباط الحكم، لا محققة للموضوع الذي كان حكمه مستنبطا، كما في مسألة الملازمة، و مسألة حجيّة الخبر، فان كلا من صلاة الجمعة، و السفر الى الحج لم يكن لهما حكم مستنبط، بل استنبط حكمهما بواسطة الملازمة، و بواسطة حجيّة الخبر.

و بعبارة اخرى: ان المسائل الاصولية: هي التي يستنبط الحكم بواسطتها، فهي الاصل لاستنباط الحكم، لا ان تكون ثمرتها تحقيق الموضوع الذي قد استنبط حكمه، و مسألة النذر من الثاني، لا من الاول، فلا ينبغي أن يكون تحقيق موضوع النذر من ثمرات المسائل الاصولية.

ص: 112

فان المنافاة انما تكون فيما اذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه.

و قد عرفت كونها مبينة بغير وجه (1).

______________________________

(1) استدل القائل بوضع هذه الالفاظ للصحيح بالتبادر: بان التبادر من هذه الالفاظ عند اطلاقها هو الصحيح، و التبادر علامة الحقيقة.

و قد اورد عليه: بان الصحيحي معترف باجمال الموضوع له في هذه الالفاظ، و مع الاعتراف بالاجمال، و ان الموضوع له مفهوم غير متضح، كيف يدعي التبادر، فان التبادر لازمه دلالة اللفظ عند الاطلاق على معنى معين.

و قد أجاب عنه المصنف: بانه لا يلزم في التبادر الى المعنى الموضوع له اللفظ ان يكون الموضوع له امرا مبينا من جميع الوجوه، بل يكفي في التبادر تعيين المعنى و تشخيصه، و لو بوجه من وجوهه، مثلا: بعد العلم بان الصحيح ما تترتب عليه معراجية المؤمن، و النهي عن الفحشاء، و بالفعل نطلق اللفظ فيتبادر منه مفهوم وجهه و عنوانه انه معراج المؤمن، و ناه عن الفحشاء.

و بعبارة اخرى: انا لا ندعي ان المتبادر من هذه الالفاظ مفهوم مبين من كل وجه و معلوم بنفسه و بشخصه، بل المتبادر منها مفهوم مبين بوجه من وجوهه و هو انه به تحصل معراجية المؤمن، و النهي عن الفحشاء، فلا يضر الاجمال في دعوى التبادر و قد اشار المصنف الى هذا الايراد و جوابه بقوله: «و لا منافاة بين دعوى ذلك» أي التبادر «و بين كون الالفاظ ... الخ».

نعم، لو لم تكن هذه الالفاظ مبينة اصلا، و لا بوجه من الوجوه لما صح دعوى التبادر، إلّا أنّك عرفت انها مبينة بوجوه كثيرة، ككونها معراج المؤمن، و قربان كل تقي ...، و غير ذلك من وجوهها. هذا، و لكن لا تخلو دعوى التبادر في اثبات ان هذه الالفاظ موضوعة للصحيح عند الشارع من شي ء، لأن المدعى: و هو كون الالفاظ موضوعة عند الشارع للصحيح، فلا بد و ان تكون متبادرة كذلك عند الشارع. و اما تبادر غير الشارع للمعنى الصحيح منها فهو يدل على انها كذلك عنده، لا عند

ص: 113

ثانيها: صحة السلب عن الفاسد بسبب الاخلال ببعض اجزائه، او شرائطه بالمداقة، و ان صح الاطلاق عليه بالعناية (1).

______________________________

الشارع و لا يثبت تبادر الشارع لنا الّا بنقل استعمالاته في مقام التبادر، و ليس فيما بايدينا نقل يتكفل استعمال الشارع في مقام التبادر، بل لا يعقل ان يكون للشارع نفسه استعمال تبادري، لأن الاستعمال التبادري انما يكون للشاك فيما وضع له اللفظ، و الشارع هو الواضع، فلا يكون شاكا فيما وضع له. و اما تبادر غير الشارع فهو يثبت الحقيقة عند غير الشارع، و لعل هذه الالفاظ قد حصل لها وضع عند غير الشارع في الصحيح لكثرة استعمالها فيه عندهم. و على كل، فاثبات انها موضوعة عند الشارع للصحيح بواسطة تبادرنا اثبات للمعلول بغير علته.

لا يقال: ان مدعي التبادر يدعي تحققه في كل زمان الى القهقرى حتى نصل الى زمان الشارع نفسه، و في زمانه يكون تبادر اصحابه و ملازميه المتلقين لمعاني هذه الالفاظ منه دليل على كونها موضوعة للصحيح عنده.

فانه يقال: نعم، لو ثبتت هذه الدعوى زمانا بعد زمان، و انها في كل زمان لم يحصل لها وضع تعيني بسبب كثرة الاستعمال لثبت المطلوب، إلّا انه أنى لهم باثبات ذلك.

(1) صحة السلب التي تنفع الصحيحي و تثبت ان اللفظ ليس موضوعا للاعم هي صحة الحمل بالشائع عن الفرد الفاسد، فان هذه الالفاظ لو كانت موضوعة للاعم لما صح سلبها بالحمل الشائع عن الفرد الفاسد، لوضوح ان ما وضع للاعم لا يصح سلبه عن بعض مصاديقه و افراده، فاذا صح سلب الالفاظ عن الفرد الفاسد دلت هذه الصحة على ان اللفظ لم يوضع لمعنى عام يصدق على هذا الفرد صدقا شايعا، و الّا لما صح سلبه بالحمل الاولى عن كل فرد من افراده، لوضوح ان المفهوم الذي وضع له ليس هو الفرد.

ص: 114

ثالثها: الاخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص و الآثار للمسميات، مثل (الصلاة عمود الدين) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جنة من النار) .... الى غير ذلك. أو نفي ماهيتها و طبائعها، مثل (لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب) و نحوه، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا، و ارادة خصوص الصحيح من الطائفة الاولى، و نفي الصحة من الثانية لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر لا يصار اليه، مع عدم نصب قرينة عليه (1)، بل و استعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى

______________________________

نعم، صحة الحمل بالحمل الاولي على الصحيح دليل على الوضع له، و انما لم يدعيها الماتن لأنها لا تنفعه الّا جدلا، لأن صحة الحمل بالحمل الاولي لا تنافي دعوى صحة الحمل الاولي على الاعم، لجواز كون اللفظ مشتركا بين الخاص و العام، و هذا الاشتراك و ان كان لا ينفع المدعي للاعم، لعدم تحقق الثمرة، و هو التمسك بالاطلاق، فان ثبوت الاشتراك يوجب الاجمال من ناحية المفهوم لا غير، إلّا انه هناك اجمالان:

اجمال من ناحية المفهوم على الصحيح، و اجمال من ناحية المراد للاشتراك بين الخاص و العام، و لعله لذلك سلك ما ينفع الصحيحي من السلب عن الفرد الفاسد بحسب الحمل الشائع- كما ذكرنا-.

إلّا انه لا يخفى انه يرد على هذه الدعوى عين المناقشة- التي تقدمت- في دعوى التبادر: من ان صحة هذا السلب، هل هي عندنا او عند الشارع، و النافع لمدعي الصحيح هي الثانية، و يستحيل عادة اثباتها، و الاولى تدل على كون هذه الالفاظ حقيقة في الصحيح عندنا لا عند الشارع الى آخر ما تقدم بيانه.

(1) الاخبار التي ذكرها الماتن طائفتان.

ص: 115

.....

______________________________

الطائفة الاولى: هي التي دلت على اثبات آثار الصلاة، كقوله عليه السّلام: الصلاة عمود الدين، و معراج المؤمن، و الصوم جنة من النار(1) و امثال هذه الاخبار.

و كيفية الاستدلال بهذه الطائفة: ان الظاهر منها ان الآثار المذكورة هي آثار لطبيعة الصلاة على نحو الاطلاق و السريان لكل افراد الصلاة، لا انها آثار طبيعة الصلاة على نحو القضية المهملة، فحينئذ، نقول: ان كانت الصلاة موضوعة لما له هذه الآثار، ثبت ان الموضوع له فيها هو الصحيح فانه هو الذي تترتب عليه هذه الآثار دون الاعم، و إلّا: أي و اذا لم تكن الصلاة موضوعة لذي الاثر، بل كانت موضوعة للاعم لزم اما استعمال الصلاة في المقام في خصوص ما له الاثر و هو الصحيح مجازا، و هو خلاف الظاهر، فان المجاز يحتاج الى لحاظ العلاقة، و لا نرى لحاظ علاقة في المقام، أو أن هذه الالفاظ مستعملة في الاعم، و لكن الآثار ثابتة بنحو القضية المهملة، لا السريان و الاطلاق، و قد عرفت انها خلاف الظاهر، و انها ظاهرة في ان هذه الآثار ثابتة بنحو الاطلاق لكل ما هو صلاة، أو ان هذه الالفاظ مستعملة في الاعم، و وصف الصحة مستفاد من دال آخر، و ليس في المقام وصف الصحة، و لا دال قد دل عليه. فاذا انتفت هذه الامور الثلاثة بقي الأول: و هي كونها موضوعة لخصوص الصحيح.

و يرد على هذا الاستدلال: اولا: انه لم يدل على اكثر من ان لهذه الاستعمالات ظهورا في ان المراد من الفاظها هو الصحيح، و الظهور عند العقلاء حجة في تعيين المراد لا في تعيين كيفية الاستدلال، إلّا ان نقول بمقالة علم الهدى: ان الاستعمال علامة الحقيقة، و لكن التحقيق: ان الاستعمال اعم من الحقيقة و المجاز.

و بعبارة اخرى: ان اصالة الحقيقة التي هي من الاصول العقلائية انما هي في مقام الشك في المراد، لا في الاستعمال، و لا ريب ان المراد في المقام معلوم، و هو الصحيح،

ص: 116


1- 15. ( 1) الكافي ج 4: 62/ 1 باب ما جاء في فصل الصوم و الصائم من كتاب الصيام.

.....

______________________________

و الشك في الاستعمال، فلا مجرى لاصالة الحقيقة. مضافا الى امكان دعوى وجود القرينة على الاستعمال في الصحيح، و هو هذه الآثار، فان الأعمّي لو ادعى: أن هذه الآثار قرينة على الاستعمال المجازي في الصحيح لم تكن جزافا.

و ثانيا: ان الاستدلال بعد تسليمه انما يدل على ان الموضوع له في هذه الالفاظ هو خصوص الصحيح، حيث يكون الظاهر من هذه الاخبار ترتب هذه الآثار على المسميات بالفعل، فان الترتب الفعلي يلازم الصحيح، اما لو كان الظاهر من هذه الاخبار اثبات هذه الآثار للمسميات بنحو الاقتضاء، لا الفعلية، فلا يدل على ان المسمى بهذه الالفاظ هو الصحيح، بل لعله يكون دليلا على الاعم. فاذا كان المتحصل من هذه الأخبار أن المقتضي لهذه الآثار هو هذه المسميات، لا ان المسميات هي العلة التامة لهذه الآثار، كما انه ليس ببعيد دعوى: ان القضايا التي تدل على آثار الاشياء انما تدل على ثبوتها لها بنحو الاقتضاء، لا الفعلية، كقولك: السنا مسهل، و النار محرقة، فانها تدل على أن السنا مقتض للاسهال، و النار مقتضية للاحراق، فهي لبيان ان للسنا اقتصاء للاسهال، و للنار اقتضاء للاحراق، لا انها علة تامة بالفعل لهذه الآثار، و الامر في هذه الاخبار جار على هذا النحو، فلا دلالة لها على ان الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح، اذا لم تدل على ان الموضوع له فيها هو الاعم.

الطائفة الثانية: الاخبار التي دلت على نفي طبيعة الصلاة بنفي بعض اجزائها، كقوله عليه السّلام: (لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب)(1) .. و امثال هذه الاخبار الدالة على نفي طبيعة المسمى بهذه الالفاظ بمجرد عدم جزء من أجزاء هذا المركب، فانها تدل على ان المسمى بهذه الالفاظ هو هذا المركب الذي ينتفي بانتفاء احد اجزائه، و لا شبهة انه

ص: 117


1- 16. ( 1) مستدرك الوسائل المجلد الاول: 274/ 5 باب 1 من أبواب القراءة.

.....

______________________________

هو الصحيح، فان الاعم لا تنتفي الطبيعة فيه بانتفاء احد هذه الاجزاء كالفاتحة و امثالها.

و توضيح الاستدلال بهذه الطائفة من الاخبار على ان الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح: ان الظاهر من هذه التراكيب ان المنفي بها هو الطبيعة المسماة بهذا اللفظ، فالمستفاد منها نفي الحقيقة، و ان الخبر المقدر فيها هو موجود، لا وصف الصحة، و لا وصف الكمال.

فالتقدير: انه لا صلاة موجودة الّا بفاتحة الكتاب، و لازمه انتفاء وجود الصلاة مع عدم الفاتحة.

فظاهر هذه القضية: انه ليس هناك قيد آخر منفي غير نفي الطبيعة وحدها، فهنا ظهورات: ظهور هذه التراكيب في نفي الحقيقة، و كون الحقيقة المنفية هي مسماة اللفظ، و كون الخبر المحذوف هو موجود.

فان قلنا: ان الموضوع له فيها هو الصحيح سلمت هذه الظهورات من التصرف فيها، و لو كان الموضوع له فيها هو الاعم لزم التصرف، اما في استعمال اللفظ في الصحيح مجازا، و هو خلاف الظاهر، أو أن المقدر المحذوف هو لفظ صحيح، فيكون اللفظ دالا على الاعم، و القيد مستفاد من الخبر. و هذا ايضا خلاف الظاهر، أو ان المنفي هو كمال الطبيعة، لانفسها، و هذا ايضا خلاف الظاهر، فمع المحافظة على هذه الظهورات تكون النتيجة: ان الموضوع له اللفظ هو الصحيح، لا الاعم.

و يرد على هذا الاستدلال:

اولا: ان غايته هو كون الصلاة في مثل هذه التراكيب مستعملة في الصحيح، و الاستعمال أعم من الحقيقة و المجاز، فان اصالة الحقيقة المتبعة عند العقلاء، انما هي في مقام الشك في المراد، لا الاستعمال، مضافا الى وجود القرينة على الاستعمال في الصحيح، و هو هذا النفي المستعمل لنفي الحقيقة، و لا تكون الحقيقة منفية الّا بان يراد من اللفظ الموضوع للاعم هو الفرد الصحيح.

ص: 118

في مثل (لا صلاة لجار المسجد الّا في المسجد) مما يعلم أن المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضا بنحو من العناية، لا على الحقيقة، و الّا لما دل على المبالغة. فافهم (1).

______________________________

و ثانيا: ان هذا الاستدلال لو تم لدل على ان الموضوع له لفظ الصلاة هو المرتبة العليا الواجدة لجميع الاجزاء و الشرائط، و هو اخص من المدعى، فان المدعى: كون الصلاة موضوعة للصحيح، لا لخصوص المرتبة العليا، بل مناف لغرض الصحيحي: من دعوى الاجمال فيما هو الموضوع له. مضافا الى ان هذا الاستدلال بهذه الطائفة، لو تم لدل على ان استعمال الصلاة الصحيحة في فاقدة بعض الاجزاء مجاز، كما ربما يكون الفاقد لبعض الاجزاء، بل لجملة منها مهمة صحيحا ايضا.

فينبغي ان يكون لفظ الصلاة قد استعمل فيه مجازا، و لعله اشار الى جملة هذه المناقشات بقوله: «فافهم»، و ان كان قد اشار الى بعضها صريحا بحاشيته على قوله: فافهم.

(1) هذا جواب عما ربما يقال: من ان استعمال هذه التراكيب في نفي الصفة، لا في نفي الحقيقة شايع مستعمل و وارد حتى في لسان الشارع، كما في مثل قوله: «لا صلاة لجار المسجد الّا في المسجد»(1) فانه من المعلوم ان المنفي في مثلها هو صفة الكمال، لا الحقيقة، و الّا لكانت الصلاة في غير المسجد ممن جاره المسجد باطلة، و لا يلتزم ببطلان الصلاة احد، و اذا لم تكن هذه التراكيب دالة على نفي الحقيقة لا يتم الاستدلال بها على كون الموضوع له فيها هو الصحيح، لأن من مقدماته كون هذه التراكيب لنفي الحقيقة.

فاشار المصنف الى الجواب عن هذا بما حاصله: ان الاستعمال في امثال التركيب المذكور ايضا لنفي الحقيقة لا لنفي الصفة، غايته بعد قيام الدليل على صحة الصلاة

ص: 119


1- 17. ( 1) الوسائل ج 3: 478/ 1 باب 2 من أبواب أحكام المساجد.

رابعها: دعوى القطع: بأن طريقة الواضعين، و ديدنهم وضع الالفاظ للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية اليه. و الحاجة و ان دعت احيانا- الى استعمالها في الناقص أيضا، إلّا انه لا يقتضي ان يكون بنحو الحقيقة، بل و لو كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.

و الظاهر ان الشارع غير متخط عن هذه الطريقة. و لا يخفى ان هذه الدعوى و ان كانت غير بعيدة الّا انها قابلة للمنع، فتأمل (1).

______________________________

في غير المسجد يكون قرينة على انه لم يرد نفي الحقيقة حقيقة و واقعا، بل اريد نفي الحقيقة ادعاء، و الدليل على ان المراد نفي الحقيقة ادعاء: انه بعد قيام الدليل على صحة الصلاة تكون هذه التراكيب مما يستفاد منها المبالغة، و لو كانت مستعملة في نفي الصفة، لا نفي الحقيقة لما دلت على المبالغة، فدلالتها على المبالغة دليل على ان المراد نفي الحقيقة لكن ادعاء، لا حقيقة حتى تكون دالة على المبالغة.

(1) هذا هو الدليل الرابع على كون الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح، لا الاعم.

و حاصله: انا استقرينا طريقة العقلاء فيما كان لهم مركب ذو أثر، فان طريقتهم على وضع اللفظ للمركب التام المؤثر، و هو الصحيح، و الشارع رئيس العقلاء، فلا يتخطى طريقتهم في وضع الالفاظ لهذه المركبات المخترعة له، فلا بد و ان يكون قد وضع اللفظ لخصوص الصحيح فيها و انما كانت طريقة العقلاء في مركباتهم ذات الاثر تدعو إلى الوضع للصحيح، لأن حاجتهم الغالبة هي ارادة المؤثر، و هو الذي يحتاجون إلى افهامه و الدلالة عليه، و هذه الحاجة هي التي تدعوهم للوضع للصحيح المؤثر، فاتباع الحكمة في اعمال العقلاء تدعو إلى وضع الالفاظ في المركبات لخصوص المؤثر التام الصحيح، و هم و ان احتاجوا في بعض الاحيان إلى استعمالها في الناقص و غير المؤثر، إلّا انها حاجة غير غالبة، و الحكمة تدعو الى الوضع الى ما فيه الحاجة الغالبة.

ص: 120

و قد استدل للاعمي أيضا بوجوه:

منها: تبادر الاعم. و فيه: انه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع الذي لا بد منه، فكيف يصح معه دعوى التبادر (1)؟.

______________________________

فتلخص مما ذكرنا: ان الشارع غير متخط طريقة العقلاء. فالموضوع له في مركباته هو الصحيح، لا الاعم.

و يرد عليه: أولا: ان طريقة العقلاء بحسب الاستقراء تدل على وضع الالفاظ لما فيه اقتضاء التأثير، لا فعلية التأثير، فان لفظ السقمونيا الموضوع للمسهل المركب من اجزاء قد وضع لما فيه اقتضاء التاثير، لا فعلية التأثير، فالسقمونيا غير المؤثرة في الاسهال في بعض الاحيان هي مما وضع له اللفظ و لا تختص بخصوص المؤثر في الاسهال بالفعل، و هذه الطريقة مما يشهد بها الوجدان عند مراجعة الالفاظ الموضوعة للمركبات ذات الاثر.

و ثانيا: ان الحكمة انما تدعو الى الوضع للصحيح، هو كون الحاجة في مقام الاستعمال تكون غايته في خصوص الصحيح دون الاعم، و اذا كانت الاستعمالات في الاعم غالبة، او مساوية للصحيح، فلا تدعو الحكمة الى الوضع لخصوص الصحيح و المقام من قبيل الثاني، لان استعمال هذه الالفاظ في الاعم ان لم تكن اكثر من استعمالها في الصحيح فلا اقل من مساواتها له فلا تدعو الحكمة الى الوضع لخصوص الصحيح، و لذا قال: «و لا يخفى ان هذه الدعوى و ان كانت غير بعيدة، إلّا انها قابلة للمنع. فتأمل».

(1) لا يخفى ان دعوى الأعمّي: تبادر الاعم من هذه الالفاظ، و دعوى عدم صحة سلبها عن الفاسد.

يرد عليه، بعد معارضة هذه الدعوى بمثلها من الصحيحي، كما تقدم ما ذكرناه سابقا على الصحيحي: من ان التبادر، و عدم صحة السلب انما يدلان بعد تسليمهما على كون الموضوع له هو الاعم عند المتبادرين، و السالبين، لا عند الشارع، و اثبات

ص: 121

و منها: عدم صحة السلب عن الفاسد. و فيه: منع، لما عرفت (1).

و منها: صحة التقسيم الى الصحيح و السقيم. و فيه: انه انما يشهد على انها للاعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح- و قد عرفتها- فلا بد ان يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ، و لو بالعناية (2).

______________________________

تبادر الشارع، و صحة السلب عنده ربما يكون من المحال العادي، بل العقلي، لان الشارع غير شاك فيما وضع له اللفظ، و دعوى اثباته بنحو الاستصحاب القهقرائي الى زمان اصحابه و المتلقين للوضع منه لا يمكن اثباتها بعد احتمال حصول الوضع في احد الازمنة بواسطة كثرة الاستعمال.

(1) حاصله: انه قد تقدم: ان الجامع الذي ذكروه جامعا للصحيح و الاعم كل احتمالاته مخدوشة، فلا وجه لدعوى تبادره، و عدم صحة سلبه عن الفاسد.

و فيه: ان كون احتمالات الجامع التي ذكروها مخدوشة لا يلازم ان لا يكون جامعا، فاذا ثبت التبادر، و عدم صحة السلب فانهما يدلان على جامع، و ان لم يكن هو أحد الاحتمالات المذكورة.

(2) هذا هو الدليل الثالث للاعمي، و بيانه بوجه يكون نافعا للاعمي، ان نقول: ان صحة التقسيم لها مقامان:

الاول: ان يكون النزاع في المعنى المفهوم من اللفظ: هل ان له حقيقة واحدة لها افراد متحدة الحقيقة؟ باعتبار عدم امكان انتزاع المفهوم الواحد من المتعدد بما هو متعدد، كمن يدعي اشتراك معنى الوجود بين افراده و انه مشترك معنوي في قبال مدعي الاشتراك اللفظي في الوجود.

فالنزاع في هذا المقام انما هو في معنى الوجود، لا في الوضع له سواء كان لفظ الوجود مستعملا في هذا المفهوم على نحو الحقيقة، ام على نحو المجاز.

ص: 122

.....

______________________________

فيستدل مدعي الاشتراك المعنوي: بان المعنى و المفهوم من هذا اللفظ هو واحد، و يصح تقسيم ذلك المعنى الواحد الى الواجب و الممكن. و صحة التقسيم بهذا المعنى لا ربط لها في مقامنا.

المقام الثاني: هو صحة التقسيم للمعنى بما هو مسمى بلفظ كذا، فاذا صح تقسيم اللفظ بما له من المعنى الموضوع له و المسمى به الى امرين دل على ان الموضوع له و المسمى بهذا اللفظ هو الاعم من الامرين. و هذا هو المربوط بمقامنا، فان مدعي الاعم يدعي ان لفظ الصلاة- مثلا- بماله من المعنى الموضوع له و المسمى له ينقسم إلى الصحيح و الفاسد فيكون دليلا على ان الموضوع له فيه هو الاعم من الصحيح و الفاسد.

و حاصل ما اجاب به الماتن عن هذا الدليل: ان صحة التقسيم انما تدل على ان الموضوع له هو الاعم لو لم تقم الادلة المتقدمة على الوضع للصحيح، و بعد قيامها على الوضع للصحيح لا بد و ان يكون التقسيم الى الصحيح و الفاسد بلحاظ العناية في استعمال اللفظ في الاعم لاجل التقسيم.

و فيه: ان قيام الادلة على الوضع للصحيح لا يلزمه ان يكون الاستعمال في التقسيم فيه عناية فان الأعمّي يدعي: ان الاستعمال في مقام التقسيم قد كان بلا عناية و هو دليله على الوضع للاعم، لا نفس الاستعمال، لانه اعم من الحقيقة و المجاز، فليكن هذا دليلا للاعمي في قبال ادلة الصحيحي.

و الذي ينبغي ان يورد به عليه: هو أن صحة التقسيم، لو كانت في لسان الشارع لدلت على الوضع للاعم عنده، و لكنها ليست في لسانه، و لا في لسان متابعيه المتلقين للوضع منه، بل حصلت في لسان العلماء و الباحثين، فتكون دليلا على وضعها للاعم عندهم، لا عند الشارع، و المطلوب هو اثبات الوضع للاعم عند الشارع، و صحة التقسيم عند العلماء لا يثبته.

ص: 123

و منها: استعمال الصلاة و غيرها في غير واحد من الاخبار في الفاسدة، كقوله- عليه الصلاة و السلام-: (بني الاسلام على الخمس: الصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم، و الولاية. و لم يناد احد بشي ء كما نودي بالولاية، فاخذ الناس بالأربع و تركوا هذه. فلو أن أحدا صام نهاره و قام ليله و مات بغير ولاية لم يقبل له صوم و لا صلاة).

فان الاخذ بالاربع لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية إلّا اذا كانت اسامي للاعم. و قوله- عليه السّلام-: (دعي الصلاة ايام اقرائك)، ضرورة انه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

و فيه: ان الاستعمال اعم من الحقيقة، مع ان المراد في الرواية الاولى هو خصوص الصحيح بقرينة انها مما بني عليها الاسلام، و لا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، اذ لعل اخذهم بها انما كان بحسب اعتقادهم، لا حقيقة و ذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد او الاعم و الاستعمال في قوله: فلو ان أحدا صام نهاره ... الخ كان كذلك: أي بحسب اعتقادهم، او للمشابهة و المشاكلة (1).

______________________________

(1) الدليل الرابع: الاستدلال بالاخبار، و كيفية الاستدلال بالجزء الاول في فقرتين منه:

الاولى: قوله: «فاخذ الناس بالاربع»(1)، فان المراد من الاربع هي الاربع المذكورة، و هي الصلاة و الزكاة ... الى آخرها.

و بيانه: انه لا اشكال في كون هذه الاربعة يشترط في صحتها الولاية، فصلاة غير المعترف بها فاسدة، و كذلك صيامه، و زكاته، و حجه. و الظاهر ايضا انه اطلق عليها

ص: 124


1- 18. ( 1) الكافي ج 2: 18/ 3 كتاب الايمان و الكفر، باب دعائم الاسلام.

.....

______________________________

هذه الالفاظ بمالها من المعنى الموضوع له من دون لحاظ عناية و مجازية، و لازم هذه المقدمة الاخيرة ان تكون هذه الالفاظ موضوعة للاعم، و الّا لزم رفع اليد عن هذا الظهور.

و الحاصل: انه لا اشكال في كون هذه الالفاظ اطلقت في هذا الخبر على الفاسد و استعملت فيه، و ان الظاهر ان هذا الاطلاق و الاستعمال انما هو بمالها من المعنى الموضوع له، فلا بد و أن تكون موضوعة للاعم.

و لا يخفى ان هذا الاستدلال انما يتجه حيث تكون لفظ (الأربع) وردت معرفة، و اما اذا كانت الاربع نكرة- كما في بعض النسخ في الكتب المعتبرة- فانها وردت فيها فاخذ الناس باربع من دون تعريف (بأل) فلا يتم الاستدلال، بل ربما يكون ظاهرا في ان ما اخذ به ليس هو الاربع التي بني عليها الاسلام، بل بما يشبهها، فما اخذوا به ليس بصلاة، و لا زكاة، ... الى آخره، و الحال ان ما اخذوا به لم يفقد من الصلاة سوى شرط الصحة، فيكون ظاهرا، او مشعرا بان ما عدا الصلاة الصحيحة ليس بصلاة، بل مشابه لها فهو على خلاف المطلوب ادل. هذه الفقرة الاولى.

و اما الفقرة الثانية: فهي قوله عليه السّلام: (فلو أن احدا صام نهاره، و قام ليله) و كيفية الاستدلال بها بنحو ما ذكرنا في الفقرة الاولى فانه بعد اشتراط الصحة بالولاية يكون الصوم الخالي عن هذا الشرط فاسدا و قد اطلق عليه الصوم. و الظاهر ان هذا الاطلاق للصوم اطلاق له بماله من المعنى الموضوع له، فيدل على ان- القيام الذي يراد به- الصلاة، و الصوم قد وضعا للاعم من الصحيح و الفاسد، و لا خصوصية لهما، بل لا بد و ان يكون الامر كذلك في سائر الفاظ العبادات.

و يمكن الاستدلال بفقرة ثالثة من الرواية: و هي قولة عليه السّلام: (لم يقبل له صوم و لا صلاة) فان المراد من عدم القبول هو الفساد، لا عدم الثواب لما عرفت من تواتر النصوص، و الفتاوى على بطلان عبادة تارك الولاية، و قد اطلق في هذه الفقرة

ص: 125

.....

______________________________

الاخيرة ايضا الصوم و الصلاة على الفرد الفاسد، و الظاهر من الاطلاق انه اطلاق بماله من المعنى الموضوع له بعين ما مر في الفقرتين السابقتين.

و يرد اولا على هذا الاستدلال بجميع فقراته: أنه لا يدل على اكثر من ان هذه الالفاظ قد استعملت في هذه الفقرات الثلاث في الفاسد، و الاستعمال اعم من الحقيقة و المجاز، و لا سبيل لان يدعى: أنه قد استعملت من دون لحاظ العلاقة و هو علامة الحقيقة، فان هذا الاستعمال ليس من الاستعمالات العرفية او المتشرعية حتى يقال: انا لا نجد في مقام استعمالنا لحاظ العلاقة في انفسنا، بل هو استعمال الشارع نفسه، و لا نستطيع احراز عدم لحاظه العلاقة، و الى هذا اشار بقوله: «و فيه ان الاستعمال اعم من الحقيقة».

و ثانيا: ما اشار اليه بقوله: «مع ان المراد في الرواية ... الى آخره» و حاصله:

ان في الخبر قرينة دالة على ان الصلاة و الزكاة ... الى آخر الفاظ العبادات المذكورة في صدر الرواية قد استعملت في الصحيح بقرينة ان الاسلام لا يبنى على الفاسد.

فاذا قيل: ان أخذ الناس بها معناه أنهم اخذوا بالصحيحة و هو ينافي ما علم بالضرورة من اشتراط صحتها بالولاية، و ينافي صريح الخبر فانه في مقام بيان أن ما أخذ به الناس ليس بصحيح، لأنه فاقد شرط الصحة و هو الولاية.

فانا نقول: ان اطلاق الصحيح على ما اخذ به الناس ليس إلا بحسب اعتقادهم انها صحيحة، لا أنها صحيحة في الواقع، و اطلاق الصحيح على الصحيح بحسب الاعتقاد عندهم ليس استعمالا لها في الفاسد، أو الأعم من الصحيح و الفاسد، لأن المراد من الاستعمال في الفاسد هو الفاسد مفهوما، و الصحيح بحسب الاعتقاد و ان كان فاسدا واقعا إلا انه ليس بفاسد مفهوما بل هو من الصحيح مفهوما.

و كذلك مراده من قوله: «فلو أن احدا صام نهاره و قام ليله» فانه اطلق الصوم و الصلاة على الصحيحة بحسب الاعتقاد، و كذلك في قوله عليه السّلام: (لم يقبل له صوم و لا صلاة) فانه اطلاق لهما على الصحيح بحسب الاعتقاد.

ص: 126

و في الرواية الثانية النهي للارشاد الى عدم القدرة على الصلاة و إلا كان الاتيان بالاركان و سائر ما يعتبر في الصلاة، (1)، بل بما يسمى في

______________________________

و يمكن ان نقول ايضا: انه بعد ان كان المراد من الالفاظ في صدر الرواية هو الصحيح يكون المراد من الاربع و من الصوم و الصلاة في (صام نهاره و قام ليله)، و من الصوم في (لم يقبل): هو الفاسد، و الاطلاق مجاز للمشابهة مع الصحيح إما في الاسناد و تنزيلها منزلة الصحيح، أو في الكلمة بقرينة انها ليست هي الصحيحة التي بني عليها الاسلام. و حيث ان رأى المصنف في المجاز هو المجاز في الاسناد تكون قد استعملت في المفهوم الصحيح، و إنما كان التصرف في تطبيقها على الفاسد ادعاء، فلا تكون مستعملة في الفاسد. و لعل المصنف إنما تعرض للجواب عن (صام نهاره) لرد احتمال دعوى الأعمّي: إن الالفاظ في صدر الرواية و إن كانت مستعملة في الفرد الصحيح بقرينة بناء الاسلام عليها الّا انه في قوله: «صام نهاره» قد استعملها في الفاسد، لأنه صوم تارك الولاية و هو فاسد قطعا.

فاجاب المصنف: بانه أيضا مستعمل في الصحيح اما الصحيح الاعتقادي، أو الصحيح التنزيلي للمشابهة و المشاكلة.

(1) هذا هو الجواب عن الرواية الثانية التي ادعى الأعمّي دلالتها على وضع لفظ الصلاة فيها للاعم.

و حاصل استدلاله: ان قوله عليه السّلام: (دعي الصلاة ايام اقرائك)(1) يدل على ان الحائض مكلفة بترك الصلاة، و ان ترك الصلاة مطلوب منها. و من المعلوم أنه لا بد من ان يكون متعلق التكليف امرا مقدورا لبداهة عدم تعلق التكليف بغير المقدور، و لازم هذين الامرين: أن لا يكون المراد من الصلاة في الرواية هي الصحيحة، لوضوح أن الصلاة الصحيحة غير مقدورة من الحائض، لأن من شروط صحة الصلاة الطهارة

ص: 127


1- 19. ( 1) الوسائل ج 1: 546/ 2 باب 7 من أبواب الحيض.

.....

______________________________

من الحيض و اذا لم يكن المراد منها الصحيحة فلا بد و أن يكون المراد من الصلاة الاعم. و الظاهر ان ارادة الاعم منها لا للحاظ علاقة فيتم الاستدلال بهذه الرواية على ان الصلاة موضوعة للاعم، و لو كانت موضوعة للصحيح للزم لحاظ العلاقة بهذه الرواية و هو خلاف الظاهر، أو يلزم كون النهي في الرواية ليس نهيا تكليفيا و هو ايضا خلاف الظاهر، فانه مع حمل الرواية على غير التكليف يمكن ان يكون المراد من الصلاة في الرواية هو الصحيح لكنه خلاف الظاهر، فمع الالتزام: بكون النهي تكليفيا و ان المراد من الصلاة هي الصحيحة- يلزم تعلق النهي بغير المقدور و هو واضح البطلان. و اما اذا كان المراد منها الاعم، فلا مانع من الالتزام: بكون النهي تكليفيا لقدرة الحائض و تمكنها من تركها لها في حال الحيض. و قد عرفت: ان الظاهر ان هذا الاستعمال من دون لحاظ العلاقة فيتم المطلوب و هو كونها موضوعة للاعم.

و من المعلوم انه اذا ثبت وضع الصلاة للاعم يثبت للاعم في ساير الفاظ العبادات، لعدم الفرق بينها و بين سائر الفاظ العبادات، و ان الامر في الجميع على نحو واحد.

و يرد على هذا الاستدلال.

اولا: الايراد الاول على الرواية السابقة، لذا جعله المصنف هو الجواب المشترك بين الروايتين.

و حاصله: أنه لا يثبت بهذا الاستدلال اكثر من ان الصلاة قد استعملت في هذه الرواية في الاعم، و الاستعمال اعم من الحقيقة و المجاز، و لا وجه لدعوى المقدمة الاخيرة و هي ان الاستعمال من دون لحاظ العلاقة، فان المستعمل هو الشارع، و لم يحرز كيفية استعماله.

و ثانيا: و هو الجواب المختص بهذه الرواية: و هو ان النهي في هذه الرواية للارشاد الى عدم قدرة الحائض على الصلاة الصحيحة، فيكون المراد منها: اتركي الصلاة: أي الصحيحة لانك لا تقدري عليها في حال الحيض، و لا بد من الالتزام: بكون النهي فيها للارشاد، لا للمولوية، بل حتى لو قلنا بالاعم لقلنا: بان المراد من الصلاة في

ص: 128

العرف بها و لو أخل بما لا يضر الاخلال به بالتسمية عرفا محرما على الحائض ذاتا و ان لم تقصد به القربة، و لا اظن أن يلتزم به المستدل بالرواية فتأمل جيدا (1).

و منها: انه لا شبهة في صحة تعلق النذر و شبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه و حصول الحنث بفعلها و لو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل به الحنث اصلا لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها كما لا يخفى- بل يلزم المحال- فان النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها و لا تكاد تكون معه صحيحة و ما يلزم من فرض وجوده عدمه محال (2).

______________________________

المقام هو الفرد الصحيح منها و ان النهي للارشاد، لانه لو كان النهي مولويا للزمنا ان نقول: بانه يحرم على الحائض ان تأتي بافعال الصلاة التي تكون صلاة على الاعم، و ان لم ينوبها القربة و من البعيد جدا الالتزام بذلك بحيث إن الحائض لو أتت بالتكبير و القراءة و الركوع و السجود ... الى آخر الاجزاء من دون نية القربة و التشريع لكانت معاقبة، و فاعلة للمحرم، و الالتزام به بعيد جدا. و أما اذا كان النهي للارشاد الى عدم القدرة على الصلاة فلا بد و ان يكون المراد من الصلاة الصحيحة، لأنها هي التي لا قدرة للحائض عليها في حال الحيض.

(1) أي لازم القول بالحرمة المولوية هو حرمة الاتيان بما يسمى عرفا صلاة، لا شرعا:

بأن تأتي ببعض اجزاء الصلاة التي بها تصدق الصلاة عرفا، و إن لم تأت بجميع اجزائها و شرائطها فضلا عن الاتيان بجميع اجزائها و شرائطها عدا نية القربة.

(2) هذا الدليل الخامس الذي ذكره الأعمّيّون لكون الصلاة موضوعة للاعم و يمكن بيانه بوجهين قد اشار المصنف اليهما:

الاول: ان يقال ان من المسلم صحة تعلق النذر بترك الصلاة، لجواز نذر ترك الصلاة في الاماكن المكروهة، كنذر ترك الصلاة في الحمام، او في الطرق العامة، او

ص: 129

.....

______________________________

مواضع التهمة، و لا اشكال ايضا بامكان حصول الحنث بفعل الصلاة في هذه الاماكن. فالناذر لتركها يستطيع ان يحنث بفعلها في تلك الاماكن، و لو كان المنذور هو الصلاة الصحيحة لما امكن تحقق الحنث من الناذر، لانه بعد النذر تكون الصلاة محرمة، لتعلق النهي بفعلها، و ما كان محرما لا تتأتى فيه نية القربة، و من الواضح توقف الصلاة الصحيحة على نية القربة فلا يمكن ان يحصل حنث، فان كل ما يأتي به الناذر لا يوصف بالصحة، لعدم تأتي نية القربة فيه المتوقف عليها وصف الصحة، و بعد فرض صحة النذر و ان تحقق الحنث من المسلمات لا بد و ان يكون المنذور هي الصلاة بمالها من المعنى و هو الاعم.

الوجه الثاني: إن النذر المتعلق بترك الصلاة لا بد و ان يتعلق بالصلاة بمعناها الاعم، لانه لو تعلق بالصحيحة للزم من وجوده عدمه: أي يلزم من تعلق النذر عدم تعلقه.

بيان ذلك: إن النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيحة و لازم تعلق النذر بها حصول النهي عن فعلها، و اذا كان فعلها منهيا عنه لا تكون الصحيحة التي قد تعلق النذر بتركها مقدورة للناذر، و من البديهي ان القدرة في ظرف الامتثال على متعلق النذر شرط لصحة تعلق النذر بها، و لا يكفي في صحة تعلق النذر القدرة في ظرف تعلق النذر، فاذا فرض أن متعلق النذر هو ترك الصلاة يلزم من تعلق النذر بها عدم تعلقه بها، لانه بمجرد تعلقه بها يحدث النهي، و اذا نهي عنها صارت الصلاة الصحيحة غير مقدورة للناذر، و متعلق النذر لا بد و ان يكون مقدورا، فيلزم من تعلق النذر بها- المشروط بالقدرة في ظرف الامتثال الذي بسببه يحصل النهي الموجب لعدم القدرة- ان لا يتعلق بها، و هذا معنى انه يلزم من وجوده عدمه، و ما يلزم من وجوده عدمه محال ان يقع، فتعلق النذر بالصلاة الصحيحة محال ان يقع، و حيث فرض وقوع النذر، فلا بد و ان يكون متعلقه الصلاة بمعناها الاعم.

ص: 130

قلت: لا يخفى انه لو صح ذلك لا يقتضي إلا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعا (1)، مع أن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.

و من هنا انقدح: أن حصول الحنث انما يكون لأجل الصحة لو لا تعلقه.

نعم، لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان (2).

______________________________

و قد اشار الى الثاني بقوله: «بل يلزم المحال فان النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح الى آخره».

كما انه اشار الى الاول بقوله: «لا شبهة في صحة تعلق النذر و شبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه و حصول الحنث بفعلها»: اي لا شبهة في حصول الحنث بفعلها الى قوله: «كما لا يخفى».

(1) هذا هو الجواب الاول عن مسألة النذر.

و حاصله: إن عدم صحة تعلق النذر بالصلاة الصحيحة لو تم لدل على ان النذر لا يتعلق بالصلاة الصحيحة، لان الصلاة الصحيحة لا يعقل ان تكون هي الموضوع له عند الشارع.

و برهان ذلك: انه لو قلنا: إن الصلاة موضوعة للاعم لدل هذا الدليل الذي ذكروه بعد تمامه على ان الفرد الصحيح منها لا يعقل ان يكون متعلقا للنذر، فتبين ان مسألة النذر اجنبية عن الوضع، فان لازمها ان النذر لا يعقل تعلقه بالصحيح سواء أ كان الصحيح هو الموضوع له، أم كان احد فردي ما هو الموضوع له، فاللازم لها امر لا ربط بكون الصلاة الصحيحة ليس موضوعا لها اللفظ.

(2) هذا هو الجواب الثاني عن مسألة النذر.

و حاصله: أنه لا يخفى ان الناذر لا يعقل ان ينذر ترك الصلاة المطلوبة بعد النذر، لان ما يتعلق النذر بتركه لا يعقل ان يكون فعله مطلوبا فان المنذور تركه فعله

ص: 131

.....

______________________________

يكون متعلقا للنهي، و ما تعلق به النهي لا يعقل تعلق الامر به .. فمثل هذا النذر لا يتأتى من عاقل.

فحينئذ نقول: الناذر لا بد و ان يكون قد نذر ترك ما هو مسمى الصلاة عند الشارع، فان كان الناذر ممن يقول: بالوضع للاعم، فلا شبهة في صحة انعقاد نذره و امكان حصول الحنث منه. و ان كان ممن يقول بوضعها للصحيح، فان كانت نية القربة عنده غير منحصرة بقصد الامر فلا مانع من ان يكون متعلق نذره: هو الصلاة الصحيحة، فان الصلاة و ان تعلق النهي بها بعد نذر تركها الّا ان النهي عنها لا يمنع من امكان وقوعها متقربا بها بقصد حسنها الذاتي، فان مبغوضيتها بواسطة النهي لا تمنع من كونها من مصاديق تعظيم المولى و الخضوع له فان الركوع و السجود للمولى تعظيم له و ان كان مبغوضا له.

فاذا قلنا: ان الموضوع له هو الصلاة الصحيحة، و هي التي قصد التقرب بها، و قصد التقرب بها لا يتوقف على قصد الامر- فلا مانع من تعلق النذر بترك الصلاة الصحيحة و امكان حصول الحنث بفعلها.

و ان قلنا: بانحصار نية القربة بقصد الامر- فلا بد و ان يكون متعلق نذره هو الصلاة الصحيحة لو لا النذر. و اطلاق لفظ الصلاة الموضوعة للتامة الاجزاء و الشرائط حتى نية القربة على الصلاة الصحيحة لو لا النذر: أي الصلاة الناقصة قصد القربة يكون من الاستعمال المجازي، إلّا انه لا بد منه صونا لنذر العاقل عن اللغوية.

و لزوم التجوز في الاطلاق في مورد من الموارد لا ينافي كون الموضوع له هو الصحيح التام الاجزاء و الشرائط، و لا يكشف ان الموضوع له هو الاعم، و هذا هو مراد المصنف بقوله: «ان الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه» أي ان متعلق النذر هو الصحيح لو لا النذر، لا الصحيح مطلقا، و قد صرح بهذا بقوله: «و من هذا انقدح: ان حصول الحنث إنما يكون لاجل الصحة لو لا تعلقه»: أي لو لا تعلق النهي، فالمنذور تركه هو الصحيح بهذا المعنى لا الصحيح مطلقا، كما انه اشار الى ما ذكرناه

ص: 132

بقي امور الأول: أن اسامي المعاملات ان كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو الأعم، لعدم اتصافها بهما كما لا يخفى، بل بالوجود تارة و بالعدم أخرى (1).

______________________________

قبل التفصيل بقوله: «نعم لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة»: أي ان يتعلق النذر بترك الصلاة بقيد كونها متعلقة للطلب بعد تعلق النذر الذي قلنا: انه لا يتحقق من عاقل الّا انه لو تحقق لما كان لهذا النذر حنث، لعدم امكان تحققه بذاته حتى يكون له حنث كما لا يخفى.

(1) لا يخفى انه قد عرفت مما تقدم: ان الصحيح: هو كون الشي ء بحيث يترتب عليه اثره المترتب، و الفاسد: هو كونه بحيث لا يترتب عليه اثره المترتب.

و قد مر أيضا: ان الصحة و الفساد يتقابلان تقابل الملكة و العدم، فهما وصفان يلحقان لما يترتب عليه أثره تارة، و لا يترتب عليه اخرى، فما ليس له اثر اصلا لا يوصف بالصحة و الفساد، و كذلك نفس الاثر فانه لا يوصف بها، لانه ليس للأثر اثر حتى يمكن وصفه بالصحة مرة، و بالفساد اخرى، بل الاثر إما ان يكون موجودا او معدوما.

اتضح ايضا مما ذكرنا: ان الصحيح و الفاسد لا بد و ان يكون مركبا لا بسيطا لان البسيط إما ان يكون موجودا او معدوما، لا ان يكون موجودا و لا يترتب عليه الاثر فان الذي يمكن ان يكون موجودا و لا يترتب عليه الاثر هو المركب، و ايضا هو قسم من المركب، فان المركب الذي يكون بين اجزائه تلازم في التحقق لا يوصف بالصحة و الفساد ايضا، كالمركب من الجنس و الفصل، فان المركب منهما له وجود واحد، و الوجود الواحد إما ان يكون، و اما ان لا يكون.

اذا عرفت هذا تعرف: ان اسامي المعاملات ان كانت موضوعة للمسببات لا تتصف بالصحة و الفساد، مثلا البيع اذا كان موضوعا لنفس الملكية، و التمليك الذي

ص: 133

و اما ان كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال (1).

لكنه لا يبعد دعوى: كونها موضوعة للصحيحة أيضا، و ان الموضوع له: هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعا و عرفا (2)، و الاختلاف بين الشرع العرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل

______________________________

نسبته الى الملكية نسبة الايجاد و الوجود، و يخالفها اعتبارا، و يتحد معها ذاتا و حقيقة، فان الملكية ليست بمركبة، بل هي بسيطة فليس لها صحة و فساد. هذا أولا.

و ثانيا: هي نفسها اثر و الاثر ليس له اثر، و قد عرفت ان المتصف بالصحة و الفساد ما له الاثر لا نفس الاثر، و لذا قال قدّس سرّه: «إن كانت موضوعة للمسببات، فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو الاعم ... الى آخره» لأنها بسيطة و لانها بنفسها اثر، لا انها شي ء له الاثر.

(1) فان سبب الملكية امر مركب: و هو تارة يترتب عليه الاثر، و اخرى لا يترتب عليه، فللنزاع في كون الفاظ المعاملات موضوعة لخصوص ما له الاثر، أو للاعم منه و مما لا يترتب عليه الاثر مجال.

(2) لم يجزم المصنف: بكون الفاظ المعاملات موضوعة للصحيح، لانه ذكره بصورة عدم الاستبعاد، فكونها موضوعة للصحيح اقرب عنده من وضعها للاعم، و لعله لما مر من دعوى: ان ديدن الواضعين هو الوضع للصحيح.

و على كل حال بعد ان لم يكن للشارع وضع في المعاملات يختص به، بل ما هو الموضوع له منها عند العرف و اللغة هو الموضوع له أيضا عند الشارع، و لكن قد عرفت: ان ديدن الواضعين في المركبات ذات الآثار وضع المركبات فيها لما فيه اقتضاء التأثير، لا فعلية التأثير، و لازم ذلك: هو كون الموضوع له فيها هو الاعم، لا خصوص الصحيح، و الّا كانت موضوعة لخصوص المؤثر بالفعل كما لا يخفى.

ص: 134

الاختلاف في المحققات و المصاديق (1)، و تخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره محققا لما هو المؤثر كما لا يخفى

______________________________

(1) بعد ما عرفت: ان ما هو الموضوع له في المعاملات عند العرف هو الموضوع له عند الشرع، فلا يعقل ان يكون ما يقع بينهما من الاختلاف راجعا الى المفهوم، لفرض اتحاد الموضوع له عندهم.

اما الاختلاف الواقع بينهم فانه ان قلنا: ان اسامي المعاملات موضوعة للصحيح:

أي المؤثر بالفعل، فالاختلاف بين الشرع و العرف دائما في المصداق، فان البيع- مثلا- موضوع لما يؤثر في الملكية بالفعل، فاذا عين الشارع شيئا لتأثير الملكية غير ما هو المؤثر فيها فقد اختلف مع العرف في مصداق المؤثر، لا في مفهوم المؤثر بالفعل، و كذا اذا ضم الى المؤثر عند العرف ضميمة لا يحصل بدونها التأثير في نظره، فان مصداق المؤثر عنده غير مصداقه بنظر العرف.

و اما اذا كانت اسامي المعاملات موضوعة للاعم لما فيه اقتضاء التأثير فالاختلاف بينهما تارة يكون في المصداق و ذلك اذا كان ما فيه اقتضاء التأثير عند الشارع سببا خاصا غير السبب المقتضي للتأثير عند العرف، فان مصداق ما فيه التأثير عند الشرع يكون غير ما هو المصداق عند العرف، و كذلك اذا ضم الشارع الى ما فيه الاقتضاء عند العرف ضميمة داخلة في اقتضاء التأثير.

و اخرى لا يكون الاختلاف بينهما في المصداق، و ذلك فيما لو كانت الضميمة التي ضمها الشارع الى ما فيه اقتضاء التأثير مقيدة في فعلية تاثيره، لا في اقتضاء تأثيره فالاختلاف بينهما لا في مفهوم ما وضع له اللفظ، و لا في مصداقه، لان المفروض ان ما هو المصداق لما فيه اقتضاء التأثير عندهما واحد، و انما مخالفة الشارع للعرف ترجع- حينئذ- الى تقييد ما هو السبب المؤثر عند العرف في مقام فعلية تاثيره، فالاختلاف بينهما فيما هو خارج عما فيه الاقتضاء.

ص: 135

فافهم (1).

الثاني: ان كون الفاظ المعاملات اسامي للصحيحة لا يوجب اجمالها كالفاظ العبادات كي لا يصح التمسك باطلاقها عند الشك في اعتبار شي ء في تأثيرها شرعا، و ذلك لأن اطلاقها لو كان مسوقا في مقام البيان ينزل على أن المؤثر عند الشارع هو المؤثر عند العرف و لم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبره فيه عندهم كما ينزل عليه اطلاق كلام غيره حيث انه منهم و لو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره، كان عليه البيان، و نصب

______________________________

فاتضح: أن الاختلاف بين الشرع و العرف ليس دائما في المصداق، إلّا ان المصنف حيث يرى وضع الفاظ المعاملات لما هو المؤثر بالفعل و هو الصحيح جعل الاختلاف بينهما في المصداق و لم يفصل.

(1) لا يخفى ان التخطئة و التصويب في الاسباب المؤثرة انما يكون فيما اذا كان اثر الاسباب اثرا واقعيا، لا اعتباريا كما في المعاملات، فان الملكية- مثلا- التي هي الاثر في البيع ليست من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع بل هي من الاعتبارات التي لا واقع لها إلا نفس اعتبار المعتبر. بل المعقول من تخطئة الشارع للعرف في الاسباب إنما هو في المصالح التي دعت الى اعتبار التأثير عند تحقق هذه الاسباب، فان الشارع المطلع على الواقعيات حيث انه لا يعقل ان يمضى شيئا، أو يعين شيئا للتأثير تشهيا و جزافا، بل لا بد لمصالح تدعو الى الإمضاء و التعيين، فحيث يطلع على ان ما اعتبره العرف مؤثرا ليس فيه مصلحة تدعو الى ذلك الاعتبار أو ان المصلحة فيه لا تتم إلّا بضم ضميمة اليه فيضم اليه أو يعين غيره لاعتبار التأثير.

فالتخطئة انما هي في المصالح التي تدعو إلى الاعتبار لا في ما اعتبر مؤثرا و لا في اثره، فان اعتبار المؤثر و اثره كلاهما امران اعتباريان لا معنى للتخطئة فيهما، و حيث ان المصالح امور واقعية يصح التخطئة و التصويب فيها، و لعل قول المصنف:

«فافهم» يشير الى ما ذكر.

ص: 136

القرينة عليه، و حيث لم ينصب بان عدم اعتباره عنده أيضا و لذا يتمسكون بالاطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون الفاظها موضوعة للصحيح.

نعم لو شك في اعتبار شي ء فيها عرفا فلا مجال للتمسك باطلاقها في عدم اعتباره (1)، بل لا بد من اعتباره لأصالة عدم الأثر بدونه

______________________________

(1) حاصل هذا التنبيه الثاني:

ان الفرق بين العبادات و المعاملات ان القائل بان الفاظ المعاملات موضوعة للصحيح، و المؤثر بالفعل- يمكنه التمسك بالاطلاق فيها، بخلافه في العبادات كما مر، و السبب في ذلك ان المعاملات اذا كانت موضوعة للصحيح المؤثر بالفعل و ان كانت مجملة من حيث المفهوم، لان المفروض انها موضوعة لما هو المؤثر بالفعل، و مورد التمسك بالاطلاق مورد الشك فيما يحتمل دخله في التأثير، إلّا انها غير مجملة من ناحية الصدق.

و قد عرفت فيما تقدم: ان ما كان مجملا من ناحية المفهوم و غير مجمل من ناحية المصداق يتمسك باطلاقه، و أما انها غير مجملة من ناحية الصدق فلأن المفروض انه ليس للشارع فيها وضع مخصوص، و لهذه المفاهيم مصاديق معلومة عند العرف، فبعض تلك المصاديق لا اشكال في صدق هذه الالفاظ عليها، فاذا شك في اعتبار شي ء زائد على ما هو المصداق لها عند العرف يتمسك بالاطلاق في نفيه.

نعم، لو شك في دخالة شي ء في تحقيق ما هو المصداق لها عند العرف لا يصح التمسك لنفيه بالاطلاق. و الى هذا اشار بقوله: «نعم لو شك في اعتبار شي ء فيها عرفا فلا مجال للتمسك باطلاقها».

و اما اذا شك في اعتبار شي ء زائد على ما هو المصداق عند العرف فينفي بالاطلاق، لان ما هو المؤثر عند العرف هو المؤثر عند الشرع، فاذا اراد الشارع ضم

ص: 137

فتأمل جيدا (1).

______________________________

ضميمة الى ما هو المؤثر عند العرف، او الغائه في التأثير لكان عليه البيان، و حيث كان في مقام البيان و لم يبين فلا بد و ان لا يكون قد ضم ضميمة اليه و لا ملغيا له.

و لاجل ذلك ترى المشهور يتمسكون بالاطلاق في المعاملات مع ذهابهم الى وضعها للصحيح، بخلافه في العبادات فانه ليس للعرف فيها مفهوم معلوم و لا مصداق كذلك.

لكنه لا يخفى انه على ما بيناه يكون الشارع في مقام النهي عما هو المؤثر عند العرف مخصصا للموضوع الذي قد أمضاه، و في المقام ضم الضميمة مقيدا له، لان الموضوع الذي قد امضاه هو المؤثر عند العرف، فاذا الغى بعض مصاديقه فقد خصصه، و اذا ألحق له شيئا فقد قيده، هذا بناء على ان الملكية من الامور الاعتبارية.

و اما بناء على ما يراه بعضهم: من ان الملكية من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع فكيفية الإطلاق فيه ان نقول: إن الشارع اذا كان في مقام بيان ما هو المؤثر في الواقع و لم يبين فلا بد و ان يكون ما هو المؤثر في الملكية- مثلا- عند العرف هو المؤثر فيها في الواقع، و إلّا لزم خلاف الحكمة، إلّا انه على هذا لا يكون في مقام النهي عن بعض المصاديق عند العرف مخصصا لما هو موضوع الاثر، بل المؤثر الواقعي لم يلحقه التخصيص و يكون النهي من الشارع تخطئة للعرف فيما يراه مؤثرا، و كذلك تقييده لما هو المؤثر عند العرف بضم شي ء اليه تخطئة له في انه تمام المؤثر.

(1) أي انه اذا شك في دخالة شي ء و كان مما يحتمل دخوله في مصداق ما هو المؤثر عند العرف لا يمكن نفيه بالاطلاق، فان التمسك بالاطلاق في نفيه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية و من موارده الواضحة كما لا يخفى، و لا بد من الرجوع فيه الى الاصول، و الاصل يقتضي اعتباره: أي اعتبار ما شك في دخالته فيما هو المؤثر عند العرف، لاستصحاب عدم الاثر، و استصحاب عدم ملكية البائع للثمن و المشتري

ص: 138

الثالث: ان دخل شي ء وجودي أو عدمي في المأمور به تارة: بان يكون داخلا فيما يأتلف منه و من غيره و جعل جملته متعلقا للأمر فيكون جزءا له و داخلا في قوامه.

و اخرى: بان يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا تحصل الخصوصية المأخوذة فيه بدونه، كما اذا أخذ شي ء مسبوقا أو ملحوقا به او مقارنا له متعلقا للامر فيكون من مقدماته لا مقوماته.

و ثالثة: بان يكون مما يتشخص به المأمور به بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه و ربما يحصل له بسببه مزية أو نقيصة، و دخل هذا فيه أيضا طورا بنحو الشطرية، و أخر بنحو الشرطية، فيكون الاخلال بماله دخل باحد النحوين في حقيقة المأمور به و ماهيته موجبا لفساده لا محالة، بخلاف ما له الدخل في تشخصه و تحققه مطلقا شرطا كان، أو شطرا حيث لا يكون الإخلال به إلا اخلالا بتلك الخصوصية مع تحقق الماهية بخصوصية اخرى غير موجبة لتلك المزية، بل كانت موجبة لنقصانها، كما اشرنا اليه كالصلاة في الحمام.

ثم انه ربما يكون الشي ء مما يندب اليه فيه بلا دخل له أصلا لا شطرا، و لا شرطا في حقيقته، و لا في خصوصيته و تشخصه، بل له دخل ظرفا في مطلوبيته بحيث لا يكون مطلوبا إلا اذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوبا نفسيا في واجب او مستحب، كما إذا كان مطلوبا كذلك قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الإخلال به موجبا للإخلال به ماهية و لا تشخصا و خصوصية أصلا.

______________________________

للمثمن، و غيرها من الاستصحابات الجارية في المقام، فلا يرفع اليد عن هذه الاصول حتى يتحقق مصداق المؤثر عند العرف، و لا يحرز إلا باتيان ما شك في دخالته فيه.

ص: 139

إذا عرفت هذا كله، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب اليه في العبادات نفسيا في التسمية باساميها، و كذا فيما له دخل في تشخصها مطلقا.

و أما ما له الدخل شرطا في اصل ماهيتها فيمكن الذهاب ايضا الى عدم دخله في التسمية بها، مع الذهاب الى دخل ما له الدخل جزء فيها فيكون الاخلال بالجزء مخلا بها، دون الاخلال بالشرط، لكنك عرفت:

ان الصحيح اعتبارهما فيها (1).

______________________________

(1) هذا التنبيه لبيان ما اخذ في هذه المركبات العبادية، و انه على انحاء اربعة:

الاول: ان يكون الماخوذ قد اخذ بنحو يكون داخلا فيما يتألف منه المركب جزء فيه و مقوما له، و هو تارة يكون امرا وجوديا- مثلا- ككون القراءة من القرآن و انها لا بد و ان تكون حمدا و سورة اخرى من القرآن، و اخرى يكون الداخل امرا عدميا.

و ربما يستشكل في كون الجزء و الداخل في القوام امرا عدميا، لاستحالة كون العدم مؤثرا، و معنى كونه جزء: هو كونه جزء المؤثر.

و الجواب عنه: ان معنى كون العدم داخلا في القوام: هو كون الشي ء الخاص- واقعا في محل مخصوص غير متقدم على شي ء، و غير متأخر عن شي ء- جزء من المأمور به، ككون القراءة- مثلا- غير متقدمة على تكبيرة الاحرام، و غير متاخرة عن الركوع جزء، و كذا الركوع غير متقدم على القراءة و لا متأخر عن السجود، فيرجع الى كون الشي ء الخاص المحفوف بعدمين هو الجزء، و هذا معنى كون العدم داخلا في قوام المركب و جزء منه.

الثاني: ان يكون المأخوذ في المركب خارجا عن قوامه و اجزائه، لكنه داخل في حصول الاثر منه، و كان بحيث لا تحصل الخصوصية المترقبة من هذا المركب إلا به، و هذا يرجع الى كونه شرطا لتأثير ما له الاثر لا انه جزء من المؤثر، فان شان الشرط ان يكون دخيلا في حصول الاثر من مؤثره، لا انه بعض المؤثر، فان النار هي المؤثر في

ص: 140

.....

______________________________

الاحراق، إلا ان مقاربتها للجسم شرط في تحقق اثرها: و هو احراقها للجسم، لا ان المقاربة هي المحرقة للجسم، بل المحرق له هو النار.

و الشرط تارة يكون امرا وجوديا، كالطهارة في كونها شرطا في افعال الصلاة، و اخرى امرا عدميا كالحدث فان عدمه شرط في حصول الاثر من افعال الصلاة، و الى الاول اشار المصنف بقوله: «تارة بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه إلى آخره»، و الى الثاني اشار بقوله: «و أخرى: بان يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا تحصل الخصوصية المأخوذة فيه» أي المترقبة منه «بدونه ... الى آخره».

الثالث: ان لا يكون داخلا في حقيقته و قوامه، و لا شرطا في تأثيره، بل يكون خارجا عما هو جزؤه و شرطه، و لكنه كان مما تتشخص به الطبيعة، بناء على المشهور من كون تشخص الطبيعة بملازماتها لا بوجودها، فتكون من اجزاء الفرد لا الطبيعة و يصدق على المتشخص بذلك: عنوان ما تعلق به الامر، لوضوح صدق الطبيعة على فردها، و هذه المشخصات الخارجة عن قوام الطبيعة و شرطها ربما يحصل بسببها مزية زائدة موجبة لتحقق الفرد الاكمل من افراد الطبيعة، كالكون في المسجد، فان الكون في المسجد ليس من اجزاء الطبيعة المأمور بها، و لا من شروطها، إلّا انه موجب لتحقق الفرد الاكمل من افراد الصلاة، و ربما يحصل بسببه نقص في الطبيعة، كالكون في الحمام.

و هذا الذي يدخل في الفرد و تشخصه تارة يدخل في الفرد بنحو الشطرية، و اخرى بنحو الشرطية، و يمكن ان يمثل للاول: أي لما يدخل في الفرد بنحو الشطرية بحضور القلب فانه له التأثير في الفرد الكامل من الصلاة، و للثاني: و هو ما كان له دخالة في الكمال بنحو الشرطية كالكون في المسجد، و ربما لا يكون للداخل في الفرد خصوصية اصلا لا في كمال الصلاة، و لا في نقصانها، كالكون في الدار، فان الصلاة في الدار لا توجب نقصانا في طبيعة الصلاة و لا كمالا فيها.

ص: 141

.....

______________________________

و لا يخفى ان الاخلال بما هو داخل في الطبيعة جزء او شرطا موجب للاخلال بنفس الطبيعة و فسادها، بخلاف ما كان داخلا في الفرد و في تشخص الطبيعة، فان الاخلال به ليس اخلالا بحقيقة الطبيعة، لان المفروض عدم دخله فيها و انما الاخلال به إخلال بتلك الخصوصية، لا اخلالا بنفس حقيقة الطبيعة المأمور بها.

و قد ذكر المصنف هذا الثالث بما فيه من التفاصيل بقوله: «و ثالثة: بان يكون مما يتشخص به المأمور به، بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه»- أي عنوان المأمور به- الى قوله: «كالصلاة في الحمام».

الرابع: ما يكون خارجا عن طبيعة المامور به جزء و شرطا، و خارجا أيضا عن فرد المأمور به و ما يتشخص به، بل يكون شيئا قد تعلق الامر به في حال الصلاة، فيكون مستحبا ظرفه الصلاة ليس بداخل في حقيقتها، و لا في فردها، بل هو مطلوب بنفسه له امر نفسي تعلق به، إلا انه لا يطلب إلا أثناء الصلاة، فالصلاة ظرف و مقدمة للامر به في اثنائها.

و من الواضح: ان الاخلال بهذا الرابع لا يكون اخلالا بماهية الصلاة و حقيقتها، و لا بفردها و خصوصية فردها، فان القنوت مثلا- الاخلال به ليس اخلالا لا بالطبيعة، و لا بفرد الصلاة، و قد ذكر هذا الرابع بقوله: «ثم انه ربما يكون الشي ء مما يندب اليه فيه بلا دخل له اصلا ... الى قوله: اذا عرفت هذا».

و بعد ان تبينت الاقسام الاربعة و آثارها: و هي ان الاخلال بالاول و الثاني: أي بجزء الطبيعة المأمور بها و شرطها اخلال بنفس الطبيعة و موجب لفسادها، و ان الاخلال بالثالث: و هو جزء الفرد و شرطه اخلال بالفرد دون الطبيعة المامور بها، و ان الاخلال بالرابع لا اخلال بالطبيعة و لا بفردها.

يتبين واضحا: ان ما كان مستحبا ظرفه الصلاة: أي الرابع لا يكون داخلا في مسمى العبادات، لخروجه عن حقيقتها و فردها، و كذلك ما كان خارجا عن حقيقتها و داخلا في حقيقة فردها أيضا يكون خارجا عن مسمى العبادات لفرض خروجه عن

ص: 142

الحادي عشر: الاشتراك اللفظى

الحق وقوع الاشتراك للنقل، و التبادر، و عدم صحة السلب بالنسبة الى معنيين، او اكثر للفظ واحد (1)، و إن أحاله بعض

______________________________

و اما الاول و هو الجزء، و الثاني و هو الشرط فلا شبهة في دخول الجزء في المسمى، إلا انه اذا كانت موضوعة للصحيح: أي لما هو المؤثر بالفعل يكون القول: بخروج الشرط عن المسمى معناه القول: بوضعها للاعم، و لذا قال: «لكنك عرفت: ان الصحيح اعتبارهما فيها»، أي انها للمركب من الجزء و الشرط معا، لانه هو المؤثر بالفعل دون الجزء وحده.

(1) لا يخفى ان الخلاف في الاشتراك وقع في امكانه الوقوعي، لا الذاتي، فان امكانه الذاتي مما لا ريب فيه، و هو كون الشي ء ليس له من قبل ذاته ضرورة الوجود، و لا ضرورة العدم في قبال الوجوب الذاتي: و هو كون الشي ء له من قبل ذاته ضرورة الوجود في قبال الامتناع الذاتي: و هو كون الشي ء له من قبل ذاته ضرورة العدم، لوضوح انه لا يمكن ان يدعي عاقل ان الاشتراك واجب الوجود بالذات، او ممتنع الوجود بالذات فان الدعوى على طرفيه من وجوبه و امتناعه انما هي بدعوى: انه يلزم من فرض تحققهما محال، لا ان نفس تحققهما واجب بالذات او ممتنع بالذات.

و المصنف جعل الخلاف اولا في امكانه وقوعا و امتناعا، فاستدل على إمكانه بنفس وقوعه و هو ادلّ دليل على الامكان.

و استدل على وقوعه في اللغة:

اولا: بالنقل، و النقل ما لم يكن متواترا يبنى على حجية قول اللغوي، إلّا انه يمكن دعوى التواتر في خصوص المقام. هذا بالنسبة الى الاشتراك في المفاهيم الكلية، كاشتراك لفظ القرء بين الطهر و الحيض، و لفظ الجون بين الاسود و الابيض. و اما بالنسبة الى المفهوم الجزئي فوقوع الاشتراك في اسماء الاعلام محسوس و مشاهد بالوجدان.

ص: 143

لاخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الاخلال أولا، لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة، و منع كونه مخلا بالحكمة ثانيا، لتعلق الغرض بالاجمال احيانا (1)، كما أن استعمال المشترك في القرآن

______________________________

و ثانيا: بالتبادر و يمكن ان يكون مراده من التبادر: تبادر كل واحد من المعنيين الذين كان اللفظ مشتركا بينهما بشرط القرينة الصارفة فقط عن احدهما، و يمكن ان يكون مراده من التبادر: هو أن اللفظ المشترك اذا اطلق و لم تكن قرينة صارفة فإنا نتبادر: ان المراد احدهما، لا ان مفهوم احدهما هو الموضوع له اللفظ، بل نتبادر من اللفظ انه وجود تنزيلي بالجعل و المواضعة لاحدهما المعين، لكنا نجهله، لعدم القرينة الصارفة.

و التبادر بهذا المقدار دليل على كون اللفظ موضوعا لكل واحد منهما.

و ثالثا: بعدم صحة سلبه عن كل واحد منهما، و ما ذكرناه في التبادر جار في صحة السلب.

(1) قد ذكر صاحب كتاب تشريح الاصول 20] وجها لأحالته غير الوجه الذي اشار اليه المصنف.

و حاصله: ان الوضع ليس الّا جعل ملازمة بين اللفظ و المعنى بحيث يكون اللفظ هو العلة لاحضار المعنى، و حينئذ نقول: إنه إما ان يحصل من الاشتراك ملازمة واحدة بين اللفظ و كلا المعنيين بحيث يخطران به دفعة واحدة و بانتقال واحد، و يكون اللفظ ملازما لكلا المعنيين فليس هذا معنى الاشتراك، بل معنى الاشتراك ان يكون اللفظ مخطرا لكل واحد من المعنيين، كما لو كان لكل واحد منهما قد وضع له لفظ مخصوص و انه قد اعتبرت الملازمة بينه و بين كل واحد من المعنيين، كما لو لم يكن قد وضع للآخر، فحضور كلا المعنيين به معناه: الخلف، و عدم الاشتراك.

ص: 144

.....

______________________________

و إما ان يحصل بواسطة الاشتراك ملازمة بين اللفظ، و أحد المعنيين على الترديد.

فهذا ايضا خلف، لان المفروض ان الملازمة بينه و بين كل واحد من المعنيين، لا بينه و بين أحد المعنيين على الترديد.

و إما ان يحصل بواسطة الاشتراك ملازمتان مستقلتان و يكون اللفظ ملازما لكل واحد من المعنيين بملازمة لا ربط لها بالملازمة الأخرى اصلا، و لا بد حينئذ ان يحصل من إطلاقه انتقالان دفعة لما عرفت: من ان معنى الوضع الذي معناه جعل الملازمة بين اللفظ و المعنى هو كون اللفظ علة لاحضار المعنى، و لا بد من عدم تخلف المعلول عن علته، فلازم ذلك: ان يحصل باطلاقه انتقالان مستقلان دفعة واحدة لا ترتب بينهما و لا تلازم و هو محال.

و الجواب عنه: انا نختار الشق الاخير، و لا يلزم ما ذكره: من حصول الانتقالين المستقلين دفعة واحدة، فان معنى الوضع و جعل الملازمة بين اللفظ و المعنى ليس معناه جعل اللفظ علة تامة لاحضار المعنى، بل لازمه كون اللفظ مقتضيا لإحضار المعنى به و يتوقف حضور المعنى به على الشرط: و هو عدم القرينة على المعنى المجازي، و على القرينة الصارفة في المشترك عن بقية المعاني.

و أما ما ذكره المصنف لمدعي الاحالة، فحاصله:

ان الغرض الداعي لوضع الالفاظ للمعاني: هو التفهيم بها، و هذه هي الحكمة في وضع اللفظ للمعنى، و يلزم من الاشتراك الإخلال بالتفهيم الذي هو الغرض من الوضع، لأن اللفظ اذا صار مشتركا يحتاج افهام المعنى به الى القرينة، و ربما تخفى القرائن فيكون اللفظ المشترك مجملا و هو مناف لحكمة الوضع.

و قد اجاب عنه المصنف، اولا: بأن الاتكال على القرائن الواضحة التي لا خفاء فيها أمر ممكن، و لا ملازمة بين القرائن و الخفاء ليلزم خلاف حكمة الوضع: من الاخلال بالتفهيم.

ص: 145

ليس بمحال كما توهم لأجل لزوم التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن، و الاجمال في المقام لو لا الاتكال عليها و كلاهما غير لائق بكلامه تعالى- جل شأنه- كما لا يخفى، و ذلك لعدم لزوم التطويل فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر، و منع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض، و إلا لما وقع المشتبه في كلامه، و قد اخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه قال اللّه تعالى: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (1).

______________________________

و ثانيا: نمنع كون الاجمال مخلا بالحكمة فان المتكلم كما يتعلق غرضه بالكلام الواضح المفهم المبين ربما يتعلق غرضه- احيانا- بالاجمال و جعل كلامه ذا احتمالات.

(1) و حاصل هذه الدعوى: هو المنع عن استعمال اللفظ المشترك في خصوص الكتاب الكريم، لا عن أصل وقوعه و تحققه، بل ربما يظهر من مدعيها القول: بوقوعه و تحققه، لانه منع استعماله، لا وقوعه، لكنه لا يصح استعماله في القرآن لمانع مختص لخصوص استعماله به.

و ملخص ما ذكر مانعا: هو أن القرآن هو المعجز في البلاغة فلا يعقل ان يكون فيه تطويل بلا طائل أو اختصار مخل، و استعمال المشترك يلزم منه اما التطويل بلا طائل كما اذا استعمل اللفظ المشترك مع القرينة فان القرينة تطويل دعا اليه استعمال اللفظ المشترك، فلو استعمل بدله لفظ غير مشترك لحصل الاستغناء عنها، و اما ان يلزم الاجمال و الاختصار المخل و ذلك إذا استعمل لفظ المشترك من دون الاتكال على القرينة.

و كلا الامرين يتنزه عنهما الكلام البليغ، فضلا عن مثل الكتاب الكريم الذي هو في أعلى و أقصى مراتب البلاغة.

ص: 146

و ربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات لأجل عدم تناهي المعاني و تناهي الألفاظ المركبات فلا بد من الاشتراك فيها و هو فاسد لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني لاستدعائه الاوضاع غير المتناهية، و لو سلم لم يكد يجدي إلا في مقدار متناه، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية و جزئياتها و ان كانت غير متناهية، إلا ان وضع الألفاظ بازاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بازائها كما لا يخفى، مع أن المجاز باب واسع- فافهم (1).

______________________________

و الجواب عنها إنا أولا: نختار الشق الأول، و نقول: انه يستعمل المشترك مع الاتكال على القرينة و لكن لا يلزم التطويل بلا طائل، كما لو كانت القرينة بنفسها مقصودة لوقوعها- مثلا- جزء في الجملة كما لو قيل: اسد كلمني، فان كلمني كما أنها كانت قرينة على ان المراد من الاسد هو الرجل الشجاع لأن المفترس لا يتكلم قد وقعت خبرا عن المبتدأ، فلا يلزم من استعمال مثل هذه القرينة التطويل بلا طائل، كما ربما يكون نفس التطويل من البلاغة، كما لو كان الكلام مع المحبوب و من يرغب بمزيد التكلم معه فان من البلاغة تطويل الكلام، و استعمال القرائن و الألفاظ المشتركة لأجل أن يطول الكلام معه و لا يكون تطويلا بلا طائل.

و ثانيا: نختار الشق الثاني، و نمنع كون الاجمال غير لائق بكلامه جل و علا، لأن الغرض كما يتعلق بالمبين يتعلق أيضا بالمجمل و المشتبه أيضا، كما اخبر عزّ و جل عن وقوع المشتبه في كتابه الكريم فقال تعالى مخبرا عن كتابه المجيد: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ 21].

(1) و انه لا يعقل استغناء اللغات عنه و يجب وقوعه فيها ببرهان.

ص: 147

.....

______________________________

حاصله: ان المعاني غير متناهية و الالفاظ متناهية، لأن كل لغة مركبة من حروف معدودة محدودة، و المركب من المحدود لا بد و أن يكون متناه و محدود و بالاشتراك تكون الالفاظ ايضا غير متناهية و غير محدودة فتكون وافية بالمعاني التي هي غير متناهية و لا محدودة.

و الجواب عنه: أولا: نقول إن الواضع للالفاظ هو الممكن فلا بد ان تكون المعاني عنده متناهية لأن الممكن متناه و لا يحيط المتناهي بغير المتناهي، مضافا الى أنه لو كانت المعاني بنفسها غير متناهية الّا انه لا يعقل ان يستطيع الممكن المتناهي ان يضع لها كلها، لأن لازمه: أن يضع اوضاعا غير متناهية و هو محال عليه و الى هذا أشار بقوله:

«لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني ... الخ».

و ثانيا: نسلم ان الواضع ليس هو الممكن، بل: الواجب و هو فوق ما لا يتناهى فلا يمتنع ان يحيط بغير المتناهي، إلا انه لا يجدي الوضع منه إلا في مقدار متناه لأن الوضع اما لمخاطبة الواجب للممكن و إنما يخاطب الممكن بالمقدار المتناهي، و إما لأجل استعمال الممكن نفسه و الممكن إنما يستعمل مقدارا متناهيا. و قد اشار الى هذا بقوله: «و لو سلم لم يكد يجدي ... الخ».(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 1 ؛ ص148

ثالثا: إنا لا نسلم ان المعاني غير متناهية فإن المعاني الكلية متناهية و يمكن الوضع لها و استعمالها في المعاني الجزئية بنحو استعمال الكلي في مصاديقه و لا حاجة الى الوضع للمعاني الجزئية بوضع على حدة، و الى هذا اشار بقوله: «مضافا الى تناهي المعاني الكلية ... الخ».

و رابعا: ان باب المجاز واسع فيمكن الوضع للجزئيات بمقدار متناه ثم استعمالها في الباقي بنحو المجاز.

و لا يخلو الأخير من مناقشة، فإن المجاز يحتاج الى المناسبة حتى يصح الاستعمال مجازا، و لعله لا توجد المناسبات الكافية للاستعمال في عامة المعاني الجزئية. هذا اذا كان الوضع للمعاني الجزئية.

ص: 148


1- 22. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

الثاني عشر: استعمال اللفظ فى اكثر من معنى

انه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد و الاستقلال: بان يراد منه كل واحد، كما اذا لم يستعمل إلّا فيه على اقوال، اظهرها: عدم جواز الاستعمال في الاكثر عقلا.

و بيانه: ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى، بل جعله وجها و عنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى و لذا يسري اليه قبحه و حسنه كما لا يخفى، و لا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد، ضرورة ان لحاظه هكذا في ارادة معنى ينافي لحاظه كذلك في ارادة الآخر، حيث ان لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه، و العنوان في المعنون، و معه كيف يمكن ارادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟.

و بالجملة: لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين، و فانيا في الاثنين، إلّا أن يكون اللاحظ احول العينين.

فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللفظ مطلقا مفردا كان، او غيره في اكثر من معنى بنحو الحقيقة او المجاز (1).

______________________________

و اما اذا كان الوضع للمعاني الكلية فلا داعي الى المجاز، بل الاستعمال فيها بنحو استعمال الكلي في الفرد فلا داعي الى المجاز. و لعل لهذه المناقشة في الجواب الأخير اشار بقوله: «فافهم».

(1) ينبغي قبل الدخول في ذكر ادلة النافين و المثبتين في هذه المسألة من بيان محل الكلام فيها:

و هو ان يكون الاستعمال في اكثر من معنى واحد بنحو كما لو كان اللفظ مستعملا في كل واحد منها منفردا من دون استعمال له في الآخر.

ص: 149

.....

______________________________

و هذا هو مراد صاحب المعالم قدّس سرّه في قوله: «بحيث يكون كل واحد منهما مناطا للحكم و متعلقا للاثبات».

فلا يورد عليه بالعام الاستغراقي الذي يكون كل فرد من افراده مناطا للحكم و متعلقا للنفي و الاثبات، فان غرضه من الحكم هو نفس الاستعمال: أي بحيث يكون كل واحد منها كما لو كان قد استعمل فيه اللفظ وحده و لم يستعمل في غيره: بان يكون هناك استعمالان و مستعملان لا ربط بينهما و لا ترتب و لا يكون المستعمل فيه مفهوما واحدا يجمعهما، و لا ملاحظة المعنيين كمعنى واحد بوحدة اعتبارية، فان هذا ليس من استعمال المشترك في اكثر من معنى واحد الذي هو محل الكلام، بل: بان يكون لكل منهما استعمال يخصه بلا ربط بينهما بنحو من انحاء الربط اصلا.

و قد اختلفوا في هذا على اقوال:

- فذهب البعض: إلى جوازه بنحو الحقيقة مطلقا في المفرد و غيره.

- و ذهب آخرون: الى جوازه في المفرد بنحو المجاز و في التثنية بنحو الحقيقة و هذا مختار صاحب المعالم قدّس سرّه.

- و ذهب المحقق القمي قدّس سرّه، صاحب القوانين: الى عدم جوازه لانه لا يصح بنحو الحقيقة و لا بنحو المجاز فلا يجوز عنده الاستعمال في اكثر من معنى، لانه ليس باستعمال حقيقي و لا مجازي، لا لانه ممتنع عقلي.

- و المختار للمصنف، و جماعة من المحققين المتأخرين امتناعه عقلا، للزوم اجتماع المثلين.

و بيانه: ان حقيقة استعمال اللفظ في المعنى هو لحاظ اللفظ فانيا في المعنى، و وجها له و كأن المعنى حين ينطق باللفظ هو المنطوق و هو الملقى بنفسه.

و بعبارة أخرى: ان المعنى الذي هو من طبيعة الكيف النفساني هو الكيف المسموع، فحقيقة الاستعمال ليس هو الالحاظ اللفظ كذلك، و من المعلوم ان لحاظ اللفظ هو نحو من الوجود و تشخص للفظ في افق التصور، و كلما تصور اللفظ حصل

ص: 150

.....

______________________________

له تشخص و وجود. فان فرض ان لهذا اللفظ الواحد استعمالين فقد فرض له لحاظان فإنه ليس معنى الاستعمال للفظ الّا لحاظه، و لازم ذلك ان يكون لهذا اللفظ وجودان و تشخصان آليان: و هو معنى اجتماع المثلين.

و بعبارة ثالثة: ان اللفظ الذي هو ملحوظ واحد لا يعقل أن يلحظ بلحاظين في آن واحد، و قد فرض ان هناك استعمالين و ليس الاستعمال الّا اللحاظ، فيجتمع لحاظان على ملحوظ واحد و هو من اجتماع المثلين، فكما لا يعقل ان يكون لهوية شخصية واحدة وجودان خارجيان كذلك لا يمكن ان يكون لها وجودان ذهنيان.

و يمكن بيان الاستحالة بوجه آخر: و هو أن معنى استعمال اللفظ في اكثر من معنى ان يكون للفظ الواحد استعمالان، و حيث فرض ان اللفظ واحد، فلا يكون له الا لحاظ واحد، و قد فرض ان له استعمالين فلا بد ان يكون له لحاظان، إذ ليس حقيقة الاستعمال الّا نفس لحاظ اللفظ وجها للمعنى فيلزم ان يكون هذا اللحاظ الواحد بما هو لحاظ واحد لحاظين و هذا معنى قولهم: «انه يلزم من استعمال اللفظ في اكثر من معنى تعدد الواحد بما هو واحد، و وحدة الاثنين بما هما اثنان». و اعلم ان عبارة المصنف قابلة للانطباق على الوجهين.

و هنا وجه ثالث، ذكره الاستاذ طاب مثواه في حاشيته على الكفاية المسماة ب (نهاية الدراية)(1) و هو امتن الوجوه في الدلالة على الاستحالة.

و تلخيصه: ان الوضع ليس إلا كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى فاللفظ الموجود خارجا وجوده الخارجي وجود بالذات له، وجود بالجعل و التنزيل للمعنى، فاذا وجد اللفظ في الخارج فقد وجد المعنى ايضا في الخارج، إلا ان هذا الوجود الخارجي هو وجود بالذات لطبيعي اللفظ و وجود خارجي للمعنى بالتنزيل، و من الواضح: انه

ص: 151


1- 23. ( 1) المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدّس سرّه، نهاية الدراية: ج 1، ص 64.

.....

______________________________

ليس للفظ الّا وجود واحد حقيقي و هو بنفسه الوجود التنزيلي بواسطة الوضع و الجعل، و ليس للفظ وجود آخر حقيقي حتى يكون له وجود آخر تنزيلي، و الاستعمال ليس الّا ايجاد المعنى خارجا باللفظ بنفس الوجود الحقيقي الخارجي للفظ، و الايجاد و الوجود متحدان بالذات، فالايجاد للمعنى نفس وجوده.

و قد عرفت: ان وجود المعنى خارجا ليس الّا نفس وجوده الحقيقي خارجا، و الوجود التنزيلي هو نفس الوجود الحقيقي، و حيث فرض ان الاستعمال في المقام استقلالي، و معناه الاستقلال في الايجاد التنزيلي، و هو متحد بالذات مع الوجود التنزيلي، فلازمه الاستقلال في الوجود التنزيلي، و الوجود التنزيلي هو الوجود الحقيقي. ففرض الاستعمال في اكثر من معنى فرض كون اللفظ ليس وجودا تنزيليا لكل واحد منفردا، بل كونه وجودا تنزيليا لهما معا و هو خلف، لأن الاستقلال في الوجود التنزيلي الذي هو الوجود الحقيقي نقيض كون اللفظ وجودا تنزيليا لاحدهما لا لهما معا، ففرض كونه وجودا تنزيليا لهما معا فرض الخلف.

و يمكن المناقشة في الجميع: اما في الأولين، فحاصلها ان الاستعمال و ان كان هو كون اللفظ فانيا في المعنى، و وجها له الّا ان فناءه في المعنى ليس كونه هو و المعنى موجودين بوجود واحد حقيقي، بل هما موجودان، و وجودان: وجود اللفظ، و وجود المعنى و ليس اللفظ بالنسبة الى المعنى، كالمادة بالنسبة الى الصورة حتى يكون لهما وجود واحد، و ليس اللفظ كالمادة الشمعية للصورة التي تحلها، كما ينظر به بعضهم للمقام، فان الشمع المتصور بصورة يكون لهما وجود واحد و الصورة هي فعلية تشخص المادة، و لا يعقل ان يكون للشي ء الواحد فعليتان، فان كل فعلية تنافي الفعلية الأخرى، فاذا كانت للشمع فعلية بواسطة صورة لا يعقل ان تكون له فعلية اخرى بواسطة صورة اخرى، و ليس اللفظ و المعنى كذلك، فان له وجودا و فعلية، و للمعنى وجودا و فعلية اخرى، و لا برهان على انه يلزم: ان يكون لكل فناء وجود من اللفظ يختص به، و ما المانع ان يكون هذا اللفظ الموجود بوجود واحد له

ص: 152

.....

______________________________

فناءان في معنيين استقلاليين؟ و لا ملازمة بين استقلالية المعنى و استقلال اللفظ: بان لا يكون له فناء آخر في معنى استقلالي آخر.

و الذي يدلك على عدم المنافاة: انه لا ضرر و لا مانع من ان يكون اللفظ فانيا في المعنى و ملحوظا طريقا له التي هي الطريقية بالحمل الشائع، و بين الالتفات الى كونه ملحوظا كذلك، و الالتفات الى كونه كذلك هو لحاظه، و وصفه بكونه طريقا و ليس هذا المعنى و الوصف له هو نفس طريقيته بالحمل الشائع.

فاذا جاز كون اللفظ الملحوظ فانيا في المعنى قد جمع له باللحاظ الواحد الطريقية بالحمل الشائع، و وصفه بالطريقية فلم لا يجوز ان يكون هذا اللفظ الملحوظ بلحاظ واحد قد جعل فانيا في معنيين استقلاليين؟.

و أما استقلالية المعنيين فلأنه لم يلحظ فانيا في مفهوم واحد جامع لهما و لم يلحظ المعنيان بوحدة اعتبارية و هذا معنى الاستقلال للمعنيين.

و بعبارة اخرى: ان فناء اللفظ في المعنى ليس الّا قصد ايجاد المعنى به و ما المانع من ان يقصد باللفظ ان يكون موجدا لمعنيين بعد ان جعل له قابلية ايجاد المعنى به بواسطة الجعل و المواضعة؟ و لا يلزم ان يكون لكل فناء وجود من طبيعي اللفظ بحيث لا يقصد به الّا ذلك الإفناء.

و أما الوجه الأخير، فلأن الاستعمال و إن كان إيجاد المعنى باللفظ خارجا تنزيلا، و ان الوجود و الايجاد متحدان الّا ان لهذا اللفظ ايجادا حقيقا و وجودا حقيقيا متحدين بالذات، و له ايجاد تنزيلي و وجود تنزيلي ايضا متحدان بالذات، و قد جعل لهذا اللفظ بواسطة الوضع قابلية ان يكون وجودا تنزيليا لمعنيين.

و لا برهان على وجوب ان يكون لكل وجود تنزيلي واحد وجود حقيقي واحد أيضا بحيث لا يكون ذلك الوجود الحقيقي الواحد وجودا تنزيليا لمعنى أخر، و لم يحصل اتحاد حقيقي بواسطة الوضع بين الوجود الحقيقي و الوجود التنزيلي بل لا

ص: 153

و لو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه، فان اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، و كون الوضع في حال وحدة المعنى و توقيفيته لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع، و لا للموضوع له كما لا يخفى (1).

______________________________

يزال ابدا هناك أمران: أمر حقيقي و أمر تنزيلي و لا يعقل اتحادهما حقيقة، و إلا لزم انقلاب الامر الاعتباري التنزيلي امرا حقيقيا مقوليا، و هو غير معقول.

(1) لما برهن على ان الاستعمال في اكثر من معنى ممتنع عقلا، و لا يفرق فيه بين المفرد، و غيره، لأن فناء اللفظ في أكثر من معنى واحد محال، فلا فرق فيه بين أن يكون معناه مفردا أو غير مفرد شرع للتعرض للأقوال، و أول ما ذكر رده قول المحقق القمي قدّس سرّه.

و حاصل دعوى المحقق: ان الاوضاع توقيفية و قد وضع اللفظ للمعنى في حال الوحدة: أي ان الواضع حين الوضع تصوّر المعنى و لم يكن معه غيره، فلا بد و أن يكون الاستعمال جاريا على نحو وضع الواضع: بأن يستعمل اللفظ في المعنى، و لا يكون معه في هذا الاستعمال غيره. فاستعمال اللفظ في اكثر من معنى يكون خروجا عن نحو ما وضعه الواضع، فلا يكون الاستعمال حقيقيا و ليس من الاستعمال المجازي لانه ما كان بلحاظ العلاقة باستعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له، و المفروض ان المعنى في المقام نفس المعنى و ليس له لحاظ علاقة.

و الجواب عنه: إن المتابعة لوضع الواضع و الجري على قانون وضعه الذي هو معنى كونه من الأمور التوقيفية: هو متابعته في الحدود و القيود التي اعتبرها في اللفظ الموضوع، ككون الزاء- مثلا- قبل الياء و الياء قبل الدال، و أن الزاء مفتوحة، و الياء ساكنة، و الدال بحسب الحركات الاعرابية، و في المعنى الموضوع له: و هو كونه هذه الهوية الخاصة- مثلا- دون غيرها من الهويات و المعاني، و قد فرضنا ان الوحدة لم

ص: 154

.....

______________________________

تعتبر قيدا لا في اللفظ- و هو واضح-، و لا في المعنى، لان الوضع كان في حال الوحدة لا بقيد الوحدة، و لا تجب متابعة الواضع في غير ما أخذه قيدا.

و بعبارة اخرى: ان قول المحقق: ان الوضع كان في حال الوحدة، إما ان يريد به ان المعنى في حال الوضع له كان وحده و لم يكن معه غيره، فالمعنى كان في حال الوضع له منفردا، إلا ان هذا الانفراد ما لم يكن قيدا للموضوع له لا تجب مراعاته.

و إما ان يريد به ان الوضع و الجعل كان في حال الوحدة: أي انه اعتبر العلقة بين هذا اللفظ و المعنى و لم يكن في هذا المقام ناظرا الى علقة اخرى بين هذا اللفظ و معنى آخر، و لا أن يكون المعنى الآخر متمما للمعنى الأول فتجب متابعته في هذا الأمر. إلّا انه لا يخفى ان هذا المعنى من الوحدة موجود في استعمال اللفظ في اكثر من معنى فان المفروض ان اللفظ يستعمل في كل واحد من المعنيين أو الأكثر، كما لو كان مستعملا في كل واحد، فاستعمال اللفظ في كل واحد من المعنيين ليس متمما للاستعمال في الآخر، و لا ناظرا إليه، كيف؟ و المفروض ان هنا استعمالين مستقلين، و قد اشار إلى هذا بقوله: «و كون الوضع في حال وحدة المعنى»: و هي احدى مقدمات دليل المحقق، «و توقيفيته»: و هي المقدمة الأخرى لدليله كما مر بيانه «لا يقتضي عدم الجواز»: أي عدم جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى ما لم تكن الوحدة قيدا في الوضع: بان يشترط ان لا يكون للفظ الّا استعمال واحد، و لم ينقل من الواضعين هذا الشرط، و لم تكن الوحدة ايضا قيدا للموضوع له، كما صرح بعدم كونها قيدا للموضوع له، و ما لم تكن قيدا له لا تجب متابعته.

ثم لا يخفى ان المصنف قبل ان يتعرض لطلب المحقق قدّس سرّه قال: فان اعتبار قيد الوحدة في الموضوع له واضح المنع، و المحقق لم يدع اخذ قيد الوحدة، بل المدعي له صاحب المعالم، و سيأتي عند ذكر قوله التعرض لكون قيد الوحدة لم يؤخذ في الموضوع له.

ص: 155

ثم لو تنزلنا عن ذلك فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية و الجمع، و على نحو المجاز في المفرد مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ، و بنحو المجاز فيه، لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة، فاذا استعمل في الاكثر لزم الغاء قيد الوحدة فيكون مستعملا في جزء المعنى بعلاقة الكل و الجزء فيكون مجازا، و ذلك لوضوح أن الالفاظ لا تكون موضوعة إلا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة، و إلا لما جاز الاستعمال في الاكثر، لأن الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشي ء بشرط شي ء، و الشي ء بشرط لا كما لا يخفى (1).

______________________________

و التعرض لرد أخذ قيد الوحدة هنا أوجب ان يورد عليه بانه بعد التعرض لمنعه ثم تعقيب ذلك بالتنزل معناه: انه يسلم اخذ قيد الوحدة في المعنى، و مع تسليمه كيف يورد على صاحب المعالم: بان قيد الوحدة لم يؤخذ في المعنى.

و كأن غرض المصنف من التنزل: انه لو فرض اخذ قيد الوحدة فلا معنى لكونه مجازا في المفرد حقيقة في التثنية و الجمع، بل لو كان مجازا لكان في الجميع كذلك، و لو كان حقيقة لكان ايضا حقيقة في الكل، مضافا الى انه لم يؤخذ قيد الوحدة في الموضوع له، و انه لو أخذ قيد الوحدة لكان الاستعمال في الاكثر من استعمال اللفظ الموضوع للبشرط لا في البشرطشي ء.

(1) شروع في رد قول صاحب المعالم قدّس سرّه.

و حاصل دعواه: ان الالفاظ الموضوعة للمعاني المفردة موضوعة لها بشرط قيد الوحدة فالموضوع له فيها المعنى بقيد الوحدة، فقيد الوحدة جزء الموضوع له في المفرد، فاذا استعمل في الاكثر فقد استعمل في المعنى بحذف قيد الوحدة عنه الذي هو جزء الموضوع له و كان من استعمال اللفظ الموضوع لمركب من امرين في احد جزئيه و هو نفس المعنى من دون قيد الوحدة، فيكون مجازا من استعمال اللفظ الموضوع للكل في جزئه. هذا في المفرد.

ص: 156

.....

______________________________

و أما في التثنية فحيث كانت موضوعة للدلالة على التكرار و لم يؤخذ فيها قيد الوحدة إذ المفروض انها موضوعة للدلالة على اثنين لا على معنى واحد، فيكون استعمالها في الاكثر استعمالا لها في معناها حيث لم يؤخذ فيها قيد الوحدة، و استعمالها في الاكثر من الاستعمال الحقيقي و استعمال اللفظ في تمام معناه، لا في جزء معناه، فلا يكون الاستعمال مجازيا، بل حقيقيا.

و قد أورد عليه المصنف بإيرادات.

الاول: ان الموضوع له في المفرد ليس المعنى بقيد الوحدة، بل نفس المعنى من دون تقييد له بقيد الوحدة، فان الواضع في مقام الوضع يتصور طبيعي اللفظ و طبيعي المعنى فيضع اللفظ بازاء نفس المعنى من دون تقييده بوحدة او كثرة، و هذا امر محسوس مشاهد لكل من وضع لفظا لمعنى، و لذا كانت دعوى صاحب القوانين: ان الموضوع له المعنى في حال الوحدة لا بقيد الوحدة. و قد اشار المصنف الى الايراد الاول بقوله: «لوضوح ان الالفاظ لا تكون موضوعة الّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة».

الايراد الثاني: ان قيد الوحدة لو كان جزء الموضوع له في المفرد لكان استعمال اللفظ في الاكثر من استعمال اللفظ الموضوع للبشرط لا في المعنى بشرط شي ء، لا من استعمال اللفظ الموضوع للكل في جزئه. و الشي ء بشرط شي ء يباين الشي ء بشرط لا، لا أنه جزؤه، فان معنى اخذ قيد الوحدة في الموضوع له هو ان الموضوع له هو المعنى مقيدا بان لا يكون معه غيره: و هو معنى كونه بشرط لا، فاذا استعمل في الأكثر كان غيره معه: و هو معنى بشرط شي ء، و كون غيره معه يباين ان لا يكون معه غيره مباينة البشرطشي ء للبشرط لا، و ليس استعماله فيما كان معه غيره استعمالا له في جزء معناه.

و الى هذا اشار بقوله: «و إلا لما جاز الاستعمال في الاكثر لأنه ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه»: أي الاكثر يباين المقيد بالوحدة «مباينة الشي ء بشرط شي ء

ص: 157

و التثنية و الجمع و ان كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلا ان الظاهر ان اللفظ فيهما كأنه كرر و اريد من كل لفظ فرد من افراد معناه، لا أنه اريد منه معنى من معانيه، فاذا قيل- مثلا-: جئني بعينين اريد فردان من العين الجارية و العين الباكية.

و التثنية و الجمع في الاعلام انما هو بتأويل المفرد الى المسمى بها، مع انه لو قيل: بعدم التأويل و كفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما حقيقة بحيث جاز ارادة عين جارية و عين باكية من تثنية العين حقيقة لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الاكثر لأن هيئتهما إنما تدل على ارادة المتعدد مما يراد من مفردهما فيكون استعمالهما و إرادة المتعدد من معانية استعمالا لهما في معنى واحد، كما اذا استعملا و اريد المتعدد من معنى واحد منهما كما لا يخفى:

نعم لو اريد- مثلا- من عينين فردان من الجارية و فردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين، إلا أن حديث التكرار لا يكاد يجدي

______________________________

و الشي ء بشرط لا»، فلا تكون العلاقة بينهما علاقة الجزء و الكل، بل نسبة كل منهما الى الآخر نسبة المباين الى المباين و لا علاقة بينهما فلا يصح الاستعمال فتأمل.

الايراد الثالث: ان قيد الوحدة لو كان مأخوذا في المفرد لكان مأخوذا في التثنية ايضا، لان اللفظ في التثنية موضوع للاثنين بشرط ان لا يكون معهما غيرهما، فاستعمال التثنية في الاكثر من الاثنين الذي هو معنى استعمالها في الاكثر من معنى- كما سيأتي بيانه- هو استعمال لها مع غيرها. و هذا الغاء لقيد الوحدة المأخوذ فيها، فهي اذا كالمفرد، فاذا كان استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى جائزا مجازا يكون في التثنية- ايضا- جائزا مجازا، لإلغاء قيد الوحدة في كليهما على السواء.

و الى هذا اشار في آخر كلامه على التثنية بقوله: «فان فيه الغاء قيد الوحدة المعتبرة ايضا ضرورة».

ص: 158

في ذلك اصلا، فان فيه الغاء قيد الوحدة المعتبرة ايضا، ضرورة أن التثنية عنده انما تكون لمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة و الفرق بينها و بين المفرد انما يكون في: انه موضوع للطبيعة و هي موضوعة لفردين منها أو معنيين كما هو اوضح من ان يخفى (1).

______________________________

(1) لا بد من تقديم مقدمة لينقح بها الموضوع له في التثنية، و كيفية استعمالها في اكثر من معنى. و ما يرد على صاحب المعالم: و هي انه لا اشكال في ان التثنية تدل على الاثنين، إلا انه وقع الخلاف في أن دلالتها على الاثنين هل كانت بوضع واحد: بمعنى ان اللفظ في التثنية بمجموعه: من هيئته و مادته من دون تمييز قد وضع للدلالة على الاثنين، أم أن الوضع فيها متعدد، و ان المادة فيها موضوعة لطبيعي المعنى، و الهيئة بما فيها من الالف و النون موضوعة للدلالة على الاثنين، أو ان المادة بمالها من الهيئة من غير الالف و النون موضوعة للدلالة على الاثنين، أو أن المادة بما لها من الهيئة من غير الالف و النون موضوعة للدلالة على طبيعي المعنى، و الالف و النون فيها تدل على الاثنين؟.

و يظهر من المصنف اختيار الاحتمال الثاني فانه قال: لأن هيئتها انما تدل على ارادة المتعدد مما يراد من مفردهما و لم يعبر بالالف و النون.

و على الاحتمال الاول يمكن ان يكون استعمال التثنية بلا تأويل في الفردين من حقيقتين: بان يراد من العينين- مثلا- فرد من الجارية و فرد من الباصرة. و أما على الاحتمال الثاني و الثالث فلا يكون ذلك من دون تأويل، لأن المادة تدل على المعنى الطبيعي و الهيئة او الالف و النون تدل على فردين من تلك الطبيعة، فهي تدل على فردين من تلك الطبيعة فهي تدل على فردين من طبيعة واحدة، فاستعمالها في فردين من طبيعتين لا يصح من دون تأويل. و على هذا ايضا لا بد من التأويل في تثنية الاعلام، لأن المادة فيها لم توضع لطبيعة لها افراد، بل موضوعة للطبيعة الجزئية الخاصة، فلا بد في تثنية الاعلام، و فيما اذا اريد من العينين الاثنين من طبيعتين من

ص: 159

.....

______________________________

التأويل: بأن يراد من المادة ما يعبر عنه بهذا اللفظ و ما يسمى بهذا اللفظ، و لذا قال قدّس سرّه: «و التثنية و الجمع في الاعلام انما هو بتأويل المفرد الى المسمى بها».

و قد اتضح ايضا: ان ارادة الفردين من حقيقتين كالجارية و الباصرة من لفظ العينين و ان كان ليس من استعمال اللفظ في معناه، لأن معنى التثنية الفردان من طبيعة واحدة، إلا انه ليس من استعمال اللفظ في اكثر من معنى، لأنها لم تدل على اكثر من اثنين.

نعم، لو اريد من العينين فردان من الجارية و فردان من الباصرة لكان من استعمال اللفظ في اكثر من معنى، لان المراد منها حينئذ اربعة لا اثنين.

و قد اتضح مما ذكرنا ايضا: انه على الاحتمال الاول لا نحتاج الى التأويل في تثنية الاعلام، لان لفظ الزيدين- مثلا- موضوع بوضع واحد بمجموعه من مادته و هيئته للدلالة على الاثنين و ليس هيئته أو الالف و النون لها وضع على حدة غير وضع مادته، إلا انه خلاف الظاهر، بل الوضع في التثنية متعدد و لذا لا بد من التأويل بالمسمى في تثنية الاعلام.

اذا عرفت هذه المقدمة اتضح لك: ما يظهر من كلام صاحب المعالم: من استعمال التثنية في الفردين من حقيقتين، كما لو أريد من العينين الجارية و الباصرة هو من استعمال اللفظ في اكثر من معنى ليس على ما ينبغي، لأن التثنية لم تدل على الاكثر من الاثنين حتى يكون من استعمال اللفظ في اكثر من معنى، و ان كان ارادة الفردين من طبيعتين خلاف المتبادر من التثنية، لما عرفت: من ان التثنية المتبادر منها هو الفردان من طبيعة واحدة، فان الظاهر ان الوضع فيها متعدد لا واحد، و لازم ذلك ان تكون المادة دالة على طبيعي المعنى، و الهيئة أو الالف و النون يدلان على اثنين من تلك الطبيعة.

ثم انه لو صح استعمال التثنية في اكثر من معنى: بان يراد منها اربعة لكان هذا من الاستعمال المجازي، لأنه كما ان المفرد موضوع للمعنى بشرط ان لا يكون معه

ص: 160

(وهم و دفع): لعلك تتوهم: أن الأخبار الدالة على ان للقرآن بطونا سبعة او سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه، و لكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها اصلا على ان ارادتها كانت من باب ارادة المعنى من اللفظ، فلعله كان بارادتها في انفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من اللفظ كما اذا استعمل فيها أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، و ان كان افهامنا قاصرة عن ادراكها (1).

______________________________

غيره، كذلك التثنية موضوعة للاثنين بشرط أن لا يكون معهما غيرهما، فاستعمالهما في الاكثر من الاثنين يكون الغاء لقيد الوحدة، كما ان استعمال المفرد في اكثر من معنى فيه الغاء لقيد الوحدة، فلا وجه لما ادعاه صاحب المعالم: من كونه في المفرد مجازا و في التثنية حقيقة كما لا يخفى.

(1) حاصل الوهم يرجع الى ما ذكره: من البرهان على امتناع الاستعمال للفظ في اكثر من معنى.

و بيانه: انه قد تضاعفت الاخبار: بان للقرآن بطونا سبعة و في بعضها سبعين:

و لازم ذلك وقوع استعمال اللفظ في اكثر من معنى، و هو أدل دليل على الإمكان فان كل ما تحقق عدا واجب الوجود لا بد و أن يكون ممكنا، و زيادة لدلالة الوقوع على عدم الإباء بالذات عن التحقق الذي هو معنى الامتناع، و زيادة على عدم الإباء بالذات هو انه قد وقع.

و أما دلالتها على وقوع استعمال اللفظ في اكثر من معنى، فلان المراد من البطون:

هو أن لالفاظ القرآن معاني أخر غير المعنى الظاهر منها، و قد دل القرآن على تلك البطون، غايته انه لا يفهم ذلك إلا أهل بيت الوحي عليهم السّلام، و هذا ينافي ما قام البرهان عليه: من امتناع استعمال اللفظ في اكثر من معنى و الى هذا اشار بقوله: «لعلك تتوهم ان الاخبار الدالة ... الخ».

ص: 161

.....

______________________________

و حاصل الدفع: ان الاخبار الدالة على ان للقرآن بطونا ليس فيها دلالة على ان تلك البطون معان قد وضع اللفظ لكل منها و قد اريدت جميعها باستعمال واحد، بل هناك احتمالات، لا ملازمة بينها و بين استعمال اللفظ في اكثر من معنى.

- منها: أن المراد من البطون: هو ان للمعنى الظاهر من القرآن لوازم متعددة قد دل اللفظ عليها بالدلالة الالتزامية، و دلالة اللفظ التزاما على معان متعددة ليس من استعمال اللفظ في اكثر من معنى، لوضوح انه ليس للفظ إلا استعمال واحد و هو المعنى المطابقي، و بحضوره يحصل الانتقال الى لوازمه بحكم تبعيتها لملزومها، و ليس اللفظ مستعملا فيها ليكون من استعمال اللفظ في اكثر من معنى كما هو المفروض في محل الكلام.

- و منها: أن المراد من البطون: هي مصاديق المعاني العامة التي وضعت الفاظ القرآن لها، فان لفظ السبيل مثلا- الموجود في القرآن موضوع لمعنى عام و هو ما سلك فيه الى الغاية، فكما ان الطريق الذي يسلك فيه سبيل، كذلك أئمة الهدى عليهم السّلام الذين بهم يسلك الى اللّه هم السبيل الاعظم اليه، و من الواضح ان هذا ليس من استعمال اللفظ في اكثر من معنى.

- و منها: أن يكون القرآن قد نزل بعدد البطون و في كل مرة قد استعمل اللفظ في معنى غير معانيه الأخر فتكون الفاظ و استعمالات بعدد المعاني.

- و منها: أن تكون تلك البطون قد أريدت حال استعمال الفاظ القرآن في معانيها و لم تكن تلك البطون قد اريدت من الفاظ القرآن اصلا، بل هو من باب تداعي المعاني.

و يوضح هذا ما يشاهد: من انه ربما يحضر مع المعنى المستعمل فيه اللفظ معنى آخر لم يستعمل اللفظ فيه، لانه لم يكن من معانيه و ليس من لوازمه و لا من مصاديقه، و السبب في حضوره ان يكون الشخص اول مرة حين حضر المعنى في ذهنه أو رآه أو أحسه باحدى حواسه كان مع ذلك المعنى المعنى الآخر و قد جمعت الصدفة

ص: 162

الثالث عشر: فى المشتق

اشارة

إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال، أو فيما يعمه و ما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال، و قبل الخوض في المسألة، و تفصيل الاقوال فيها، و بيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور (1):

______________________________

بينهما، فيكون متى حضر المعنى باستعمال اللفظ فيه يحضر المعنى الآخر الذي جمعت الصدفة بينهما. و هذا ما يسمى تداعي المعاني. إلّا ان هذا المعنى الأخير خلاف ظاهر الاخبار فان ظاهرها ان البطون مرتبطة بالقرآن بالربط الدلالي لا من باب تداعي المعاني.

- و منها: أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى قالبا و فانيا فيه و بالنسبة إلى البطون علامة. و قد عرفت- فيما تقدم-: ان الممتنع هو استعمال اللفظ في اكثر من معنى بنحو كونه وجها له و فانيا فيه، لا بنحو كونه علامة عليه، فإنه لا مانع من ان يكون الشي ء الواحد علامة على عدة أمور.

و الظاهر ان مراد المصنف هو الأخير بقوله: «فلعله كان بارادتها في انفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما اذا استعمل فيها»: أي ان تلك البطون لم ترد من اللفظ بنحو الاستعمال و ان اريدت منه بنحو كونه علامة عليها فهي قد اريدت بانفسها حال الاستعمال إلّا انها لم ترد بنحو ان يكون اللفظ مستعملا فيها، بل كان علامة عليها: و الممتنع هو أن تكون مرادة من اللفظ بنحو ان يكون مستعملا فيها.

ثم لا يخفى أنه من البعيد جدا حمل عبارة المصنف على الاحتمال الرابع، و هو ما قبل الاحتمال الاخير الذي اوضحناه بتداعي المعاني. و قد اشار المصنف ايضا الى الاحتمال الاول بقوله: «او كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ» فتكون الدلالة التزامية.

(1) لا يخفى ان العلماء اتفقوا على ان حمل هذه المشتقات و اطلاقها على المتلبس بها في حال تلبسه بها حقيقة.

ص: 163

أحدها: إن المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدإ، و اتحادها معه بنحو من الاتحاد، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور و الايجاد، كأسماء الفاعلين و المفعولين و الصفات المشبهات، بل و صيغ المبالغة، و أسماء الازمنة و الامكنة و الآلات، كما هو ظاهر العنوانات، و صريح بعض المحققين (1)، مع عدم

______________________________

و اتفقوا- ايضا- على ان حملها و اطلاقها على من سيتلبس بها و لم يكن متلبسا بها بالفعل مجاز.

و اختلفوا في حملها و استعمالها على من انقضى عنه التلبس بالفعل و كان متلبسا بها سابقا هل هو حقيقة أو مجاز؟

و السبب في هذا هو الخلاف في وضع هذه المشتقات، فهل هي موضوعة لخصوص المتلبس، أو أنها موضوعة لمفهوم عام يشمل المتلبس بالمبدإ و المنقضى عنه المبدأ، فالضارب- مثلا- إن كان موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدإ كان حمله و اطلاقه على ما انقضى عنه الضرب مجازا. و ان كان موضوعا لمن صدر عنه الضرب أعم من أن يكون متلبسا به فعلا أو كان منقضيا عنه كان اطلاقه على المنقضي عنه حقيقة. فالخلاف بينهم في نفس الموضوع له.

(1) لا يخفى ان لفظ المشتق يشمل الافعال، بل و المصادر بناء على ان المصدر من المشتقات، و لا اشكال في خروجهما عن النزاع في المقام، لأن الكلام في المشتقات المحمولة على الذات، و الجارية عليها بحمل المواطاة، لا في مطلق المشتق غير المحمول على الذات بحمل المواطاة، فإن الفعل و ان اسند الى الذات إلا انه ليس بمحمول عليها- كما سيأتي بيانه في الامر الثالث.

فالمشتق الذي مورد النزاع: هو ما يجري على الذات، لاتصاف الذات بمبدإ ذلك المشتق، اما لحلول ذلك المبدأ فيه كالبياض فانه حال في الجسم و هذا يوجب حمل

ص: 164

صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلا التمثيل به، و هو غير صالح، كما هو واضح. فلا وجه لما زعمه بعض الاجلة، من الاختصاص باسم الفاعل و ما بمعناه من الصفات المشبهة و ما يلحق بها، و خروج سائر الصفات، و لعل منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى، مما اتفق عليه الكل، و هو كما ترى، و اختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات، بحسب الفعلية و الشأنية و الصناعة و الملكة- حسبما يشير إليه لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع هاهنا، كما لا يخفى (1).

______________________________

الابيض على الذات و اتحاده معها، أو لصدوره منه كالضرب فانه صادر عن الذات، و هذا الصدور موجب لصحة حمل الضارب عليها و اتحاده معها. أو لأن الذات منشأ لانتزاع ذلك الوصف كالمالك، فان الذات التي اعتبرت لها الملكية ينتزع عنها عنوان المالك، و ليست الملكية مما لها ما بحذاء في الخارج، لأنها من الاعتبارات، فليست حالة فيه كالبياض، و لا صادرة منه كالضرب، بل قد اعتبرت الملكية لها منشأ لانتزاع المالك و اتحاده معها و حمله عليها.

و لا يخفى ان المشتق بعد ان كان هو ما يجري على الذات يشمل اسم الفاعل، و اسم المفعول، و الصفة المشبهة، و صيغة المبالغة، و اسم الزمان، و اسم المكان و اسم الآلة، كالمحب، و المحبوب، و الكريم، و الهيّاب، و المقتل، و المذبح و المحترم، كما صرح بهذا التعميم بعض المحققين، و ظاهر عناوينهم يقتضي ذلك.

(1) يشير الى خلاف صاحب الفصول، فانه ادعى اختصاص النزاع: باسم الفاعل، و الصفة المشبهة، و الحق بهما المصادر- المراد بها اسم الفاعل-، كرجل عدل: أي عادل، و النسب كبغدادي و نجفي.

و اخرج عن النزاع: اسم المفعول، و صيغ المبالغة، و اسم الزمان، و اسم المكان، و اسم الآلة.

ص: 165

.....

______________________________

و المتحصل من مجموع كلامه امران ادعى دلالتهما على الاختصاص.

الاول: ان العلماء في مقام التمثيل، أو في مقام دعوى كون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس، او لما يعم المنقضى عنه لم يذكروا إلا اسم الفاعل و ما بمعناه: و هي الصفة المشبهة، و الملحق بهما.

و يرد عليه: ان التمثيل غير صالح لاثبات الاختصاص بعد ان كان العنوان شاملا لغير ما مثلوا به، و تصريح بعضهم بالشمول، و الى هذا اشار في المتن بقوله: «مع عدم صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض»: أي باسم الفاعل و ما بمعناه «إلا التمثيل به: و هو غير صالح» أي التمثيل لا يثبت الاختصاص.

الثاني: اتفاق الكل على ان اسم الزمان، و اسم المكان، و اسم الآلة حقيقة في الأعم، كالمقتل فانه يصدق على كل يوم عاشر من المحرم- مثلا- انه يوم مقتل الحسين عليه السّلام، و المشرق و المغرب يصدق على محل الشروق و الغروب في كل حال، و ان لم يكن في وقت الشروق و الغروب، و كذلك اسم الآلة فانه يصدق على الآلة المعدة لذلك، كالمزمار- مثلا- فانه يصدق على الآلة المعدة للزمر و ان لم يزمر بها بالفعل، و كذلك صيغة المبالغة كالمقدام فانه يصدق على الشجاع المتهور و ان لم يكن له إقدام بالفعل.

و اما اسم المفعول فادعي: انه ليس له ضابطة كلية فإن منه ما يطلق على خصوص المتلبس كالمملوك، و منه ما يطلق على الأعم كالمصنوع و المكتوب، فإنهما يطلقان على الشي ء و لم يكن الكتابة بالفعل، و لا الصياغة كذلك.

و اذا كانت هذه الصيغ مما اتفق الكل على وضعها للأعم فلا معنى لدخولها في محل النزاع، لأن ما به الخلاف لا يعقل ان يكون المتفق عليه.

و الجواب عنه: ان السبب في الاتفاق على صدق هذه الصيغ على غير المتلبس بالفعل ليس لأجل ان الهيئة فيها عندهم موضوعة للأعم، بل لأجل أن المبدأ قد أخذ فيها على نحو تكون الذات متلبسة به في كل وقت.

ص: 166

.....

______________________________

فان الكتابة- مثلا- التي هي المبدأ تارة تؤخذ و يراد منها خصوص حركة الاصابع الخاصة، و أخرى تؤخذ و يراد منها حرفة الكتابة.

فان اخذت بالمعنى الاول فالمدعي الوضع لخصوص المتلبس يدعي: عدم صدق الكاتب على الشخص في غير وقت تحرك اصابعه بالحركة الخاصة، و المدعي الوضع للأعم يقول: بصدق الكاتب على الشخص في وقت سكون اصابعه و عدم تحركها بالحركة الخاصة. و ان اخذت بالمعنى الثاني فمحل النزاع: فيمن ترك حرفة الكتابة فمدعي الوضع للأعم يقول: بالصدق، و القائل بخصوص المتلبس يقول:

بعدم الصدق.

و بعبارة اخرى: ان النزاع بينهم انما هو في هيئة المشتقات، لا في مبادئ المشتقات فان أنحاء التلبس تختلف حسب اختلاف مبادئ المشتقات، فان مبادئ المشتقات مختلفة فانها:

تارة: تؤخذ بنحو الفعلية، كالمالك و الضارب و أمثالهما.

و اخرى: تؤخذ بنحو الشأنية، كقولك: هذا السم قاتل، و هذا الدواء نافع فإن المبدأ قد أخذ في أمثال هذه المشتقات بنحو الشأنية، لا بنحو الفعلية.

و ثالثة: تؤخذ بنحو الحرفة و الصنعة كالصائغ، و البناء، و الكاتب بالمعنى الثاني كقولهم: هذا كاتب السلطان.

و رابعة: تؤخذ بنحو الملكة، كالمجتهد فان المبدأ قد أخذ فيه بنحو الملكة فالمجتهد يصدق على من له ملكة الاستنباط و ان لم يكن مستنبطا بالفعل.

و اما الصيغ التي ادعى الاتفاق على وضعها للأعم، فأما في صيغ المبالغة فقد أخذ المبدأ فيها بنحو الاقتضاء، لا الفعلية كالعلامة و الفهامة و المقدام.

و أما اسماء الأزمنة و الامكنة، كالمشرق و المغرب فقد اخذ المبدأ فيها بنحو قابلية الزمان الخاص للشروق، و المحل الخاص له، و أما مثل عاشوراء فإما موضوع لليوم العاشر من المحرم، او يطلق عليه باعتبار مشابهته لليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السّلام،

ص: 167

ثم إنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع، مطلق ما كان مفهومه و معناه جاريا على الذات و منتزعا عنها، بملاحظة اتصافها (1) بعرض أو عرضي و لو كان جامدا، كالزوج و الزوجة و الرق و الحر (2)، و إن ابيت

______________________________

فاطلاق مقتل الحسين عليه السّلام عليه إما باعتبار وضعه ليوم العاشر من المحرم فهو يصدق على كل يوم عاشر منه، و إما باعتبار المشابهة.

و أما اسم الآلة فانها موضوعة لما اعد لذلك المبدأ لا لمن تلبس بذلك المبدأ بالفعل كما اعترف هو به فإنه قال: إنها موضوعة لما اعد لذلك.

و أما اسم المفعول في الامثلة التي ذكرها فيظهر الجواب عنها مما ذكرنا: من ان انحاء التلبسات مختلفة، فان المقتول إنما يصدق على غير المتلبس بزهاق الروح بالفعل، لأن المراد فيه من ليس له روح بواسطة القتل، لا المتلبس بزهاق الروح بواسطة القتل.

و الى هذا الجواب اشار بقوله: «و لعل منشأه توهم كون ما ذكره الخ».

(1) بأن يراد بالمشتق معناه اللغوي: و هو كل مفهوم كان جاريا و محمولا على الذات لاتصافها بمبدئه، فان ذلك الاتصاف سبب لانتزاع ذلك المفهوم و حمله عليها سواء كان ذلك المبدأ عرضا من الأعراض، أو عرضيا: أي أمرا اعتباريا، كالزوجية و الرقية، فمثل زوج ورق هو من المشتق الداخل في محل النزاع، و لا يختص النزاع بخصوص المشتق الاصطلاحي و هي الاوصاف المشتقة من المصدر كاسم الفاعل و اسم المفعول و غيرهما.

(2) حيث جعل المبدأ منقسما الى العرض و العرضي فلا يعقل أن يريد من العرضي هو المشتق من العرض كالابيض في اصطلاح المنطقيين. فانه يسمى عندهم بالعرضي، و لذا قال السبزواري:

ص: 168

إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه (1)، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع. كما يشهد به

______________________________

و عرضي الشي ء غير العرض ذا كالبياض ذاك مثل الأبيض 24].

نعم، يطلق العرضي على معنيين آخرين و هما غير مرادين للمصنف في المقام ايضا.

فان العرضي يطلق في قبال الذاتي في باب الكليات: أي الجنس، و الفصل، و النوع، و من الواضح ان المراد من العرضي في هذا الاطلاق ما يقابل الجوهر. و عليه فالعرض بجميع مقولاته من العرضي بهذا المعنى، و هذا ليس بمراد لجعله في مقابل العرض في المقام.

و يطلق العرضي ايضا على ما يقابل الذاتي في باب البرهان: و هو ما ينتزع من نفس ذات الشي ء من غير توسط شي ء، كالانقسام بمتساويين للأعداد الزوجية، و الامكان للممكن. و يقابله العرضي و هو ما لا يكفي في انتزاعه نفس الذات، بل لا بد في انتزاعه من ضم شي ء الى الذات، كالضحك و البياض فانهما لا يكفي في انتزاعهما نفس الذات، كالامكان و الانقسام بمتساويين.

و ليس هذا مرادا للمصنف ايضا، لأنه مثل للعرضي بالرقية و الزوجية و جعله في قبال البياض و الضحك، بل غرضه من العرضي هو ما قلناه: و هو المقابل للاعراض جميعها: من الاعراض النسبية كالفوقية: أي مقولة الاضافة و المقولات غير النسبية الاخرى كالبياض: أي كمقولة الكيف و ساير المقولات الأخر غير النسبية، و ينحصر مراده على هذا بالامر الانتزاعي الذي يكون مبدؤه من الاعتباريات، كالزوجية و الرقية و امثالهما.

(1) أي اختصاص عنوان النزاع بالمشتق الظاهر منه هو المشتق الاصطلاحي: و هو

ص: 169

ما عن الايضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه (1): تحرم المرضعة

______________________________

الاوصاف المشتقة من المصدر التي هي في قبال الجوامد، كالحر و الرق و الزوج فانها في الاصطلاح ليست من الاوصاف المشتقة.

و بعبارة اخرى: الوصف المشتق في الاصطلاح ما كان له وضعان: وضع للمادة، و وضع للهيئة، بخلاف هذه الجوامد فان لها وضعا واحدا: و هو المجموع من المادة بما لها من الهيئة قد وضعت للذات التي اعتبرت لها الزوجية او الرقية.

(1) لتحقق ملاك النزاع في المشتقات في هذا القسم من الجوامد، و لترتب الثمرة عليه.

أما تحقق ملاك النزاع في هذا القسم من الجوامد، دون بقية الجوامد كالماء- مثلا- فلأن ملاك النزاع في المشتق: هو ان تكون ذات تتلبس بالمبدإ في زمان ثم ينعدم المبدأ و تبقى الذات. ففي حال بقاء الذات و انعدام المبدأ وقع الخلاف في ان المشتق في هذه الحال هل يصدق عليها حقيقة كما يدعيه القائل: بأن المشتق موضوع للأعم من المتلبس و المنقضى عنه المبدأ، أو أن صدقه عليها مجاز كما يدعي ذلك القائل بوضع المشتق لخصوص المتلبس؟. و هذا الملاك في الرق: أي الذات التي تلبست بالرقية في زمان ثم صارت حرة موجودة، فهل يصدق عليها الرق ام لا؟ او الذات التي تلبست بالزوجية- مثلا- ثم انتفت الزوجية عنها. فهل يصدق عليها انها زوج ام لا؟

نعم، هذا الملاك غير موجود في القسم الآخر من الجوامد، كالماء و التراب، فان الذات- أي المادة- بانعدام المائية لا تكون فيها باقية بما أنها شي ء من الاشياء موجود بخصوصه و حقيقته لأن شيئية الشي ء بصورته، لا بمادته فاذا انتفت الصورة المائية فقد انتفى الشي ء الذي كان، و تحقق شي ء آخر إما حقيقة كالكلب المستحيل ملحا، او عرفا كالبخار- مثلا- و ليست المادة بنفسها شيئا له وجود منحاز عن وجود الصورة.

و سيأتي التعرض لهذا القسم من الجوامد و لقسم من المشتق ايضا قريبا إن شاء اللّه.

ص: 170

الاولى و الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين، و أما المرضعة الاخرى، ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف رحمه اللّه و ابن ادريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته، لانه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا، و ما عن المسالك في هذه المسألة، من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات- كانت عرضا أو عرضيا- كالزوجية و الرقية و الحرية و غيرها من الاعتبارات و الاضافات، كان محل النزاع و إن كان جامدا (1)، و هذا بخلاف ما كان مفهومه

______________________________

و اما ترتب الثمرة على هذا القسم من الجوامد فيشهد به ما عن الايضاح، و المسالك في باب الرضاع، فيما لو ارضعت زوجتان لشخص زوجة صغيرة له فانهم رتبوا الثمرة على كون المشتق موضوعا للأعم، أو لخصوص المتلبس.

(1) ملخص الكلام في هذا الفرع: و هو ما اذا ارضعت زوجتاه الكبيرتان زوجته الصغيرة.

و لا يخفى أولا: ان فرض الكلام على ما يظهر منهم: هو فيما لو كان اللبن ليس له، لأنهم قالوا: بتحريم الصغيرة المرتضعة، لكونها بنت الزوجة، و لو كان اللبن له لكان التعليل لتحريمها بكونها بنت الزوج أولى من تعليل التحريم بكونها ربيبته من الرضاعة.

اما الكلام في الفرع المزبور فهو ان نقول إن المرضعة الاولى إما ان تكون مدخولا بها، أو لا.

فاذا كانت مدخولا بها، فلا اشكال في حرمة بنتها على الزوج لأنها ربيبته، و الربيبة محرمة مطلقا سواء كانت نسبية او رضاعية. اما النسبية فلقوله تعالى:

ص: 171

.....

______________________________

وَ رَبائِبُكُمُ 25]، و اما الرضاعية فلانه: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)(1)، و لا اشكال أيضا في أن الربيبة لا يشترط ان تكون موجودة في حال زوجية الأمّ، بل لو بانت الزوجة ثم تزوجت بشخص آخر و صار لها بنت فانها ربيبة تحرم على زوج أمها الاول.

و منه اتضح: انه لا اشكال في حرمة المرتضعة الصغيرة فانها بالرضاع تكون بنت الزوجة المدخول بها، و عند صدق البنتية عليها ترتفع زوجيتها و تحرم على زوج امها.

و اما المرضعة الكبيرة فالذي يظهر منهم: عدم الاشكال في حرمتها على الزوج ايضا، لأنها يصدق عليها انها ام زوجته، و لا يبتني على النزاع في المشتق.

إلا أن حرمتها بناء على ان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس لا تخلو عن الاشكال، لان امومة المرضعة الكبيرة و بنتية المرتضعة الصغيرة من المتضائفين المتكافئين بالقوة و الفعلية، و في رتبة واحدة، و زوجية المرتضعة الصغيرة و كونها بنت الزوجة من المتضادين، فزمان كونها بنتا لهذه الأمّ زمان ارتفاع زوجيتها.

و من الواضح ان السبب في حرمة المرضعة الكبيرة على زوجها هو صدق عنوان ام الزوجة عليها، و المفروض ان زمان كونها اما لهذه المرتضعة هو زمان كون المرتضعة بنتا لها و في هذا الزمان ترتفع زوجية المرتضعة الصغيرة، فليس هناك زمان او حال يصدق على هذه المرضعة انها ام الزوجة، و إن صدق عليها أنها ام هذه المرتضعة، لما عرفت من ان الامومة و البنتية متضائفان، و البنتية و الزوجية في الصغيرة متضادتان فلا يصدق في حال على هذه الأمّ انها ام الزوجة.

نعم، لو كان المشتق حقيقة في الاعم لصدق عليها انها أم الزوجة، و إن ارتفعت زوجية المرتضعة الصغيرة، أو نقول: إن عنوان ام الزوجة كعنوان الربيبة: أي بنت

ص: 172


1- 26. ( 2) الوسائل ج 14: 280/ 1 باب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

.....

______________________________

الزوجة، فان سبب تحريم الربيبة هو كون امها زوجة في زمان ما، فكذلك ام الزوجة يكفي في حرمتها على الزوج ان تكون اما لمن كانت زوجة له، و لو في زمان ما.

و الفرق بين عنوان الربيبة، و عنوان ام الزوجة: ان الربيبة غير الموجودة في زمان زوجية الأمّ و توجد بعد ارتفاع زوجية الأمّ يمكن ان تكون نسبية و يمكن ان تكون رضاعية، بخلاف عنوان ام الزوجة فان النسبية منها لا يعقل ان لا تكون موجودة حال زوجية البنت و توجد بعد ذلك بان لا تكون ام الزوجة النسبية في حال زوجية البنت ثم تكون بعد زوجية البنت ام الزوجة نسبا او بعد ارتفاع زوجية البنت، فمثل هذه الأمّ لا بد و ان تكون رضاعية، لا نسبية و هو واضح.

و أما اذا كانت الكبيرة غير مدخول بها فلا تكون المرتضعة الصغيرة ربيبة محرمة فلا تضاد بين بنتيتها و زوجيتها، و اذا لم يكن تضاد بين بنتية الصغيرة المرتضعة و زوجيتها فيصدق على المرضعة الكبيرة انها ام الزوجة، و يكون التضاد بين امومة الكبيرة و زوجيتها، فبمجرد كونها اما لهذه المرتضعة ترتفع زوجيتها: أي زوجية المرضعة، لصدق عنوان ام الزوجة عليها.

و اما المرتضعة فليست ربيبة محرمة فينبغي ان لا تحرم، إلّا أن نقول: إن ارتفاع زوجية الأمّ لا ينافي صدق التقارن بين زوجية الأمّ و زوجية البنت، و لا يعقل الجمع بين زوجية الأمّ و زوجية البنت في حال واحد، فيكون الامر كما لو عقد بعقد واحد او بعقدين في زمان واحد على امرأتين فكانت احداهما اما و الاخرى بنتا لها فيسقط العقدان معا، لعدم إمكان الجمع بين هاتين الزوجتين، فمتى اجتمع عنوان الزوجتين للام و البنت سقطت زوجية الطرفين، فترتفع زوجية الزوجة المرتضعة الصغيرة لهذا.

و اما الزوجة الكبيرة الثانية التي ارضعت هذه الصغيرة بعد ارتضاعها من الزوجة الكبيرة الاولى.

فان كانت هذه الثانية مدخولا بها، و كانت الزوجة الكبيرة الاولى غير مدخول بها حتى لا تكون المرتضعة الصغيرة بالرضاع الاول ربيبة، و إن قيل ببطلان زوجيتها

ص: 173

منتزعا عن مقام الذات و الذاتيات، فإنه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها (1).

______________________________

بالرضاع الاول لكنها لم تصر ربيبة محرمة، لكون المرضعة الكبيرة الاولى غير مدخول بها فبالرضاع الثاني من الزوجة الكبيرة الثانية المدخول بها تكون ربيبة محرمة، فالدخول بالثانية يجعل الصغيرة المرتضعة ربيبة و ان بطلت زوجية المرتضعة بالرضاع الاول.

و اما الدخول بالكبيرة الثانية بالنسبة الى حرمة نفسها فلا اثر له، و كذلك لا اثر له بالنسبة الى حرمة المرضعة الكبيرة الاولى نعم حرمة هذه الزوجة الكبيرة التي هي المرضعة الثانية سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها يبتني على احد امرين:

اما وضع المشتق للاعم فيصدق على المرضعة الثانية ام الزوجة، لصدق الزوجة فعلا على الصغيرة المرتضعة، و ان ارتفعت زوجيتها بالرضاع الاول و صارت محرمة على الزوج فان لازم وضع المشتق للاعم و صدقه على ما انقضى عنه المبدأ هو ذلك.

و اما ان نقول انه يكفي في حرمتها ان تكون اما للزوجة، و لو في زمان ما: أي و لو كانت الزوجية في زمان سابق كما تقدم بيانه في المرضعة الكبيرة الاولى فيكفي في حرمتها كونها اما لزوجة سابقة، فحصول الزوجية و لو في زمان سابق يكفي في حرمة هذه المرضعة التي صارت اما لها بعد ذلك، فيكون الامر نظير لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 27] و السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما(1).

(1) يريد بهذا الكلام بيان: انه يخرج عن حريم النزاع في المقام الجوامد التي لا بقاء لها بعد ارتفاع المبدأ كالماء، و التراب، فانه لا بقاء لهما بعد ارتفاع الصورة المائية، و الترابية، لما عرفت: من ان حقيقة الشيئية بصورتها، لا بمادتها، فالمادة و ما يجري مجراها، كالجنس لا تكون شيئا متحصلا الّا بالصورة، و ما يجري مجرى الصورة

ص: 174


1- 28. ( 2) المائدة: الآية 38.

ثانيها: قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لان الذات فيه و هي الزمان بنفسه ينقضي و ينصرم، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال أو فيما يعم المتلبس به في المضي.

______________________________

كالفصل. فالحيوان- مثلا- بعد ذهاب الناطقية لا يكون شيئا متحصلا حتى يقال: انه يصدق عليه الناطق، او لا يصدق.

و من هنا يتبين: انه يخرج عن حريم النزاع قسم من المشتقات ايضا، كالناطق فانه بعد ذهاب الناطقية من الانسان لا بقاء لذات الإنسان بعد ارتفاع الناطقية، و مثله المنقسم بمتساويين فانه لا بقاء لذات الزوجية حيث لا تنقسم بمتساويين و لا بد من كونها فردا من الاعداد حينئذ، و كلام المصنف يشمله ايضا لانه قال: «بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات و الذاتيات» سواء كان ذلك المفهوم مأخوذا عن مبدأ مثل الترابية و الناطقية أو مثل الانقسام بمتساويين.

إلّا انه فرق بين الجوامد كالماء و التراب، و بين هذا القسم من المشتقات كالناطق و المنقسم، فانه لا تعدد للوضع في الجوامد، بخلاف المشتقات فان الوضع فيها متعدد و النزاع في وضع الهيئة، فلا منافاة في دخول امثال هذه المشتقات في حريم النزاع:

من ان هيئاتها هل هي موضوعة للاعم او لخصوص المتلبس؟ و ان كان لا ثمرة للنزاع فيها لعدم بقاء الذات بعد ارتفاعها. إلّا انه على كل حال لا ينبغي النزاع فيما لا ثمرة فيه.

فتحصل مما ذكرنا: ان ثمرة النزاع في قسم من المشتقات، و قسم من الجوامد: و هي التي يكون للذات بقاء بعد ارتفاع مبادئ المشتقات و الجوامد عنها كالضارب و الزوج.

و يخرج عن الثمرة قسم من المشتقات، كالناطق و المنقسم بمتساويين، و من الجوامد ما هو كالماء و التراب.

ص: 175

و يمكن حل الاشكال: بأن انحصار مفهوم عام بفرد- كما في المقام- لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، و إلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فيه تبارك و تعالى (1).

______________________________

(1)

اسم الزمان

قد ذكرنا فيما تقدم: ان النزاع في المقام جار في جميع المشتقات الجارية على الذات بعد انقضاء المبدأ، و ان النزاع غير مختص ببعضها، كما ذكره صاحب الفصول، بل يعم جميع المشتقات، إلا انه قد ذكر اشكال في خصوص اسم الزمان يوجب خروجه عن حريم النزاع، لا لما ذكره صاحب الفصول: من الاتفاق على وضعه للاعم، بل لاجل عكس ذلك، و ان اسم الزمان لا بد من وضع المشتق فيه لخصوص المتلبس، و لا معنى لوضعه للاعم، لان الوضع للاعم انما يعقل حيث يكون للذات بقاء بعد ارتفاع المبدأ عنها، و لا يتاتى هذا الأمر في الزمان، لانه سيال متصرم بذاته، لا بقاء لذاته بعد انقضاء المبدأ، و تنعدم ذاته بانعدام مبدئه.

فالزمان الذي يحصل فيه القتل- مثلا- لا يعقل ان يكون له بقاء بعد انعدام القتل حتى يمكن وضع اللفظ فيه للاعم، بل هو منقض و منعدم بذاته بانعدام القتل الذي حل فيه، فاللفظ فيه موضوع لخصوص المتلبس.

و قد اجاب عنه بما حاصله: ان النزاع في المشتق انما هو في وضع هيئته، فلا مانع من القول: بان الهيئة في اسم الزمان كالهيئة في غيره من المشتقات موضوعة للاعم من المتلبس، و المنقضى عنه.

نعم، انحصر هذا اللفظ الموضوع للمفهوم العام بمصداق واحد و هو خصوص المتلبس. و اي مانع من الوضع لمعنى عام لكن مصداقه يكون منحصرا في الفرد. و لو كان انحصار العام في فرد مانعا عن وضع اللفظ للمفهوم العام و موجبا للوضع لخصوص الفرد لما كان ينبغي ان يقع النزاع في: ان لفظ الجلالة: و هو اللّه، هل هو

ص: 176

.....

______________________________

موضوع لخصوص ذاته تبارك و تعالى، أو أنه موضوع لمفهوم عام: و هو المعبود بالحق، و لكن مصداقه منحصر في الفرد.

بل كان ينبغي ان يقع الاتفاق على وضعه لخصوص الذات المقدسة، لعدم صحة وضع اللفظ العام مع انحصاره بالفرد. و الى هذا الجواب اشار بقوله: «و الّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة».

و اشار الى نقض آخر على هذا الاشكال بقوله: «مع ان الواجب موضوع للمفهوم العام الى آخره».

و حاصله: ان الوضع للمفهوم العام مع انحصاره في الفرد الخاص متحقق، و هو مفهوم الواجب فانه موضوع للمفهوم العام و هو مفهوم واجب الوجود، و هذا المفهوم العام منحصر في الفرد، و لا اشكال ان لفظ الواجب موضوع لمعنى عام و ينحصر بالفرد، فالانحصار بالفرد لا يمنع الوضع للمفهوم العام فلا مانع من ان يكون اسم الزمان موضوعا للمفهوم العام لكنه منحصر في الفرد.

و لا يخفى انه اولا: لا ينبغي افراد هذا الاشكال في اسم الزمان بأمر يخصه، بل ينبغي الحاقه بالامر الاول، لأنه من توابعه.

و ثانيا: ان النزاع في المسائل الاصولية ينبغي ان يكون فيما تترتب عليه الثمرة، و لا اشكال في عدم ترتب الثمرة على اسم الزمان بعد ان كان لا بقاء لذاته، فهو و ان شمله العنوان و كان الموضوع له فيه المفهوم العام، إلا انه حيث لا ثمرة فيه فلا ينبغي التعرض له لدخوله، او خروجه فانه لا يترتب عليه الّا امر علمي فقط.

و ثالثا: ان قوله: ان الواجب موضوع للمفهوم العام المنحصر بالفرد غير مسلم، فإن لفظ الواجب موضوع لمفهوم واجب الوجود و هذا المفهوم غير منحصر بالفرد، بل يصدق على الممكن الموجود، لأن الممكن ما لم يجب وجوده لم يوجد و الذي يختص به تبارك و تعالى هو مفهوم واجب الوجود بالذات، و هو مركب لا بسيط، و الكلام في الالفاظ الموضوعة للمفاهيم البسيطة.

ص: 177

ثالثها: إن من الواضح خروج الافعال و المصادر المزيد فيها عن حريم النزاع، لكونها غير جارية على الذوات، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة في الدلالة على ما يتصف به الذوات و يقوم بها كما لا يخفى- و إن الافعال إنما تدل على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو تركها منها، على اختلافها (1).

______________________________

(1)

الافعال و المصادر

قد تقدم ان محل النزاع: هو المشتقات الجارية على الذات المحمولة عليها بحمل المواطاة و بهذا القيد قد خرجت الافعال عن حريم النزاع، إلا ان خروجها كان بالمفهوم العام. و في هذا الامر تعرض لخروجها بمفاهيمها الخاصة و إنما نص على المصادر المزيد فيها دون المجردة، لعدم توهم دخولها في المشتق، فان المصادر المجردة عندهم مبدأ للمشتقات واصل، فهي ليست من المشتقات، بخلاف المصادر المزيد فيها، فانها من المشتقات عندهم.

و الحق ان المصادر المجردة ايضا من المشتقات، فإن الفرق بين المشتق و المصدر هو كون المشتق مشتملا على مادة و نسبة، بخلاف المصدر فإنه يشتمل على المادة فقط من دون أي نسبة، لوضوح ان النسب ترد على ما لا نسبة فيه، و لا يعقل ورود نسبة على نسبة، فان الهيئة الواردة على المادة للدلالة على تشخصها بالنسبة هي كالصورة الواردة على المادة لاجل تحققها و كونها شيئا من الاشياء، و لا يعقل ان ترد صورة على صورة، فلا يعقل ان ترد نسبة على المادة المنتسبة.

و حيث انهم فرقوا بين المصدر و المبدأ: بان المصدر مشتمل على نسبة ناقصة بخلاف المبدأ فانه موضوع لنفس المادة التي لا نسبة لها اصلا، و ان الفرق بين المبدأ و المصدر كالفرق بين ملاحظة نفس العرض، و بين ملاحظته بما هو عرض، و الاول هو المبدأ و الثاني هو المصدر، فالمصدر- حينئذ- يشتمل على نسبة ناقصة، و كلما اشتمل على نسبة فهو مشتق من المشتقات.

ص: 178

إزاحة شبهة: قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتى أخذوا الاقتران بها في تعريفه (1). و هو اشتباه، ضرورة عدم دلالة

______________________________

و الاولى ان يجعلوا اسم المصدر هو المبدأ المشتق منه، بل الاولى ان يكون نفس الضاد و الراء و الباء هو المبدأ من دون تهيئها باي هيئة، و لو بان لا تكون الهيئة دالة على نسبة، بل جاءت لان يتشخص بها مادة الحروف، كالهيئة في اسم المصدر فانها قد جاءت لاجل ان تتشخص بها مادة الحروف، لوضوح انها لا توجد بنفسها من دون هيئة، لا لأن تدل على نسبة فاذا ثبت ان المصادر المجردة من المشتقات كالمصادر المزيد فيها يكون السبب في خروجها عن حريم النزاع هو كونها غير جارية على الذات، و لا تحمل عليها حمل المواطاة، و انها كالافعال تستند الى الذات و لا تحمل عليها، و ليس كلما يسند الى الذات يحمل عليها حمل المواطاة، فان الفعل الماضي و المضارع يدلان على قيام مباديهما بالذات قيام صدور، او قيام حلول، كضرب، و قام، و يضرب، و يقوم. و فعل الامر يدل على طلب فعل مبدئه او تركه، و ان القائم بالذات هو طلب المبدأ. و السبب في خروجها ما ذكرنا: من عدم جريها على الذات.

(1)

دلالة الفعل على الزمان

أي رفع اشتباه جرى على السنة النحاة، فانهم فرقوا بين الاسم، و الفعل: بان الفعل يدل على الزمان، بخلاف الاسم فانه لا دلالة له على الزمان.

و فرقوا بين الماضي و المضارع: بان الماضي ما دل على الحدث المقترن بزمان انقضى، و المضارع ما دل على الحدث المقترن بزمان الحال او الاستقبال، و الامر ما دل على طلب الفعل المقترن بزمان الحال فقط. فضرب- مثلا- تدل عندهم على صدور هذا المبدأ من الفاعل في زمان مضى و انقضى، و يضرب تدل على حصول الضرب منه في الحال، او في ما يأتي من الزمان، و اضرب تدل على طلب الضرب في زمان الحال: و هذا من الاشتباه، و ان الفعل لا دلالة له على الزمان اصلا لا ماضيه، و لا مضارعه، و لا امره و لا يصح اخذ الاقتران بالزمان في تعريفه.

ص: 179

الامر و لا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الامر نفس الانشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو

______________________________

و لا يخفى ان مراد النحاة من الزمان المقترن بالحدث الذي يدل عليه الفعل هو دلالة الفعل عليه بنحو التضمن، و كون الزمان جزء مدلوله المطابقي، فغرضهم من الدلالة على الزمان: هي الدلالة التضمنية، لا الدلالة الالتزامية فان المصنف لا ينكر دلالة الافعال على الزمان بالالتزام في بعض المقامات، و هو ما اذا كان هناك اطلاق و كان الاسناد في الافعال الى الزمانيات كما سيأتي توضيحه.

و اتضح مما ذكرنا ايضا: ان الزمان المقترن بالفعل عند النحاة ما هو زمان بالحمل الشائع، لا مفهوم الزمان. و لا يخفى ايضا: ان مرادهم من نسبة المضي و الاستقبال و الحال هو نسبتها الى زمان التكلم، فضرب يدل على الزمان الماضي بالنسبة الى زمان التكلم، و كذلك المضارع و الامر.

و ما يمكن ان يستدل به لهم امران:

الاول: تنصيص اهل اللغة.

و الثاني: دعوى التبادر.

و يرد على الدعوى الاولى: انه لو قلنا بحجية قول اللغوي لا نقول به في المقام، لأنه من المستبعد جدا، بل من المقطوع بعدمه ان تنصيص اهل اللغة مستند الى اطلاعهم على قصد الواضع لهذه الالفاظ في حال وضعها، و انما حالهم بالنسبة الى معاني الافعال في خصوص دخول الزمان، و عدمه. و حالنا بل و حال العرب الجارين على سنن الواضع العربي الاول على حد سواء، و ان السبب في تنصيصهم توهم تبادر الزمان من معاني هذه الافعال. فالعمدة: هي دعوى التبادر.

و يرد عليها ما سيتضح: انه لا يتبادر الزمان منها على وجه دخوله في معانيها بنحو التضمن، بل المتبادر منها امر يلزمه الدلالة على الزمان التزاما، لا تضمنا في بعض المقامات.

ص: 180

المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى (1)، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق و الاسناد إلى الزمانيات، و إلا لزم

______________________________

(1) شرع في ذكر معنى الافعال، و انها لا دلالة لها على الزمان، و ابتدأ بفعل الامر و النهي.

و حاصله: ان لفعل الامر او النهي مادة، و هيئة، و مادته تدل على الفعل، و هيئته تدل على الطلب، او على البعث و التحريك نحو ايجاد المادة، او على الزجر عن تلك المادة و تركها و ابقائها على العدم، و ليس لفعل الامر و النهي غير المادة و الهيئة، و قد عرفت مدلولهما و ليس فيهما دلالة على اخذ الزمان فيهما.

نعم، زمان الحال ظرف لانشاء نفس الطلب، كما انه يكون ظرفا للاخبار عن وقوع الشي ء في الماضي او في المستقبل، كما انه ظرف ايضا لكل زمان يقع فيه. و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة عدم دلالة الامر و لا النهي عليه»: أي على زمان الحال، «بل على انشاء طلب الفعل»: أي الامر «او الترك»: أي النهي «غاية الامر نفس الانشاء بهما في الحال»: أي ان زمان الحال ظرف لنفس الانشاء و هو ظرف لغيرهما ايضا من الاخبار و غير الاخبار، فلا يعقل ان تكون ظرفيته لانشاء الطلب دالة على اخذه في مدلول مظروفه، و الّا لدل على اخذه في كل مظروف وقع الحال ظرفا له.

و يرد عليه ايضا: إن فعل الامر لو كان زمان الحال ماخوذا فيه و قد عرفت: ان مرادهم من زمان الحال: هو زمان التكلم- فلا بد من تجريده عن هذا الزمان دائما، لان الأمر المطلوب فيه ايجاد المادة و التحريك لها من المكلف لا يعقل ان يكون المطلوب هو ايجاد المادة في زمان التكلم، لان هذا الزمان هو زمان علم المكلف بالطلب، و الامتثال انما يكون بعد هذا الزمان، و لا اشكال في ان غرض الآمر من طلبه امتثاله، فلا يعقل ان يتعلق طلبه من المكلف في زمان لا يعقل امتثاله، فلا بد للطالب الآمر ان يكون قد استعمل الأمر في غير هذا الزمان. فإما في نفس طلب الفعل من

ص: 181

القول بالمجاز و التجريد عند الاسناد إلى غيرها من نفس الزمان و المجردات.

نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي و المضارع- بحسب المعنى- خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة، في الزمان الماضي في الماضي، و في الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيات (1).

______________________________

غير تقيده بالزمان: و هو التجريد عن الزمان اصلا، او في زمان بعد زمان التكلم:

و هو زمان الاستقبال، فان كل زمان يقع بعد زمان التكلم فهو من الاستقبال.

و على كل فانه يكون قد استعمل اللفظ في غير ما وضع له، و جرده عن الزمان المأخوذ فيه. و عليه فلا بد من ان يكون الاستعمال مجازيا، و المجاز يحتاج الى لحاظ العلاقة، و لا نرى من انفسنا أنا لو أمرنا بشي ء أنه قد لحظنا علاقة في استعمال لفظ الأمر، مضافا الى انه خلاف الحكمة في الوضع ان يوضع لمعنى لا بد من تجريده عنه دائما، و استعماله في غيره.

و لا يخفى: انه لم يتعرض المصنف لهذا الايراد على المدعين لدلالة الامر على اخذ زمان الحال فيه.

(1) لما ذكر عدم اخذ الزمان في الامر و النهي، شرع في بيان عدم اخذه في الماضي و المضارع.

و حاصله: لو اخذ الزمان فيهما للزم التجريد فيما لو اسند الفعل الماضي او المضارع الى نفس الزمان كقولك: مضى أمس، او يأتي غد، و يلزم التجريد ايضا لو اسند الى المجرد عن الزمان، كقولك: علم اللّه او يعلم اللّه عزّ و جل.

و توضيح هذا: ان لنا زمانا، و لنا زمانيا: و هو الواقع في الزمان كسائر الممكنات غير المجردات، و لنا مجردا عن الزمان و الزمانيات: و هو ما فوق المادة اعم من الواجب بالذات جل و علا، و الممكن، كالمجردات التي لم تأتلف من مادة و صورة.

ص: 182

.....

______________________________

و لا اشكال في ان الوقوع في الزمان من مختصات الزمانيات. أما الزمان نفسه و عالم المجردات التي هي فوق افق الزمان لا يعقل وقوعها في الزمان، و الفعل الماضي او المضارع يسند الى هذه الثلاثة بما انه مستعمل في معناه الموضوع له، فنقول: مضى زيد، و مضى امس، و تقول: علم زيد، و تقول: علم اللّه تعالى.

فلو كان الزمان ماخوذا في هذه الافعال للزم تجريد الفعل عن الزمان فيما لو اسند الى نفس الزمان، لعدم تعقل وقوع نفس الزمان في الزمان، فاذا كان مضى دالا على وقوع المضي في الزمن الماضي، لكان دالا على وقوع زمان امس في الزمان الماضي، و الزمان لا يقع في الزمان، اذ ليس للزمان زمان، و كذلك علم اذا اسند الى اللّه الذي هو خالق الزمان، و غيره لزم ان يكون علمه واقعا في الزمان الماضي، و هو و صفاته التي هي عين ذاته جل و علا فوق الزمان، فان المجردات الممكنة فوق افق الزمان، فكيف بالواجب بالذات موجدها و مكونها، فعلم الملائكة غير واقع في الزمان فضلا عن علمه تبارك و تعالى.

فلو كان الفعل الماضي موضوعا للمبدا المقترن بالزمان للزم تجريده عن الزمان في ما لو اسند الى الزمان نفسه، او الى ما فوق الزمان، و لازم تجريده عن الزمان استعماله في غير ما وضع له، و كل استعمال مجازي لا بد فيه من لحاظ العلاقة، و نحن نرى من انفسنا في مقام اسناد علم، او مضى الى المجرد، او الزمان نفسه لم نلحظ علاقة في هذا الاستعمال.

و لا فرق في اسناد الفعل الماضي الى الزماني، او الى الزمان نفسه او الى المجرد في استعماله فيما وضع له، و من دون لحاظ أي علاقة في البين، و كذلك الفعل المضارع، كيعلم اللّه او يأتي غد لم يستعمل الّا فيما وضع له، من دون لحاظ أي علاقة في مقام الاستعمال.

نعم، قد اخذ في الفعل الماضي خصوصية: و هي نسبة المبدأ الى الذات بنحو التحقق، و لازم هذا المعنى- ان الفعل الماضي اذا نسب إلى الزماني و كان المتكلم في

ص: 183

.....

______________________________

مقام البيان- دلالته التزاما على كون هذا الحدث واقعا في الزمان السابق على زمان التكلم، لأن لازم الخصوصية التي دل عليها الفعل- و هي التحقق بالنسبة الى حال التكلم حيث تكون منسوبة الى ما يقع في الزمان- وقوع المبدأ في الزمان الماضي بالنسبة الى حال التكلم. و هذه دلالة التزامية، لأن مدلول الفعل الماضي هو خصوصية التحقق لا غير.

و هذه الخصوصية تدل على وقوع الحدث في الزمان الماضي بشرطين:

الاول: ان يكون التحقق يلحظ منتسبا الى زمان التكلم، و إلا فلو كان ملحوظا بالنسبة الى غير زمان التكلم لا تتحقق هذه الدلالة الالتزامية، كما لو كان التحقق منسوبا الى مجي ء زيد، كما لو قال: بان زيدا يجيئني بعد يومين، و كان قد اكرم عمرا قبل مجيئه بيوم، فان نسبة التحقق في هذا الكلام ملحوظة بالنسبة الى مجيئه، لا الى زمان التكلم.

نعم، حيث لا يذكر في كلام المتكلم طرف لنسبة التحقق، كمجي ء زيد- مثلا- في المثال المذكور، و يكون المتكلم في مقام البيان يكون للكلام ظهور: بان طرف نسبة التحقق هو زمان التكلم.

الشرط الثاني: ان يكون المسند اليه تحقق المبدأ من الزمانيات و لا يكون الزمان نفسه، و لا المجرد عن افق الزمان، فحينئذ تتحقق هذه الدلالة الالتزامية و هي: وقوع الحدث في الزمان الماضي و قد اشار المصنف الى هذين الشرطين بقوله: «نعم يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال»: أي غير فعل الامر و النهي: و هو الفعل الماضي و المضارع «على الزمان الّا بالاطلاق و الاسناد الى الزمانيات» يشير بالاطلاق الى الشرط الاول، و بالاسناد الى الزمانيات الى الشرط الثاني، فان المسند اليه اذا كان غير زماني كالزمان و المجرد لا تدل نسبة التحقق في الفعل الماضي على وقوع المبدأ في الزمان الماضي و قد اشار المصنف الى دلالة الفعل الماضي و المضارع على خصوصية التحقق في الماضي و التجدد أو الترقب في المضارع بقوله: «نعم لا يبعد الى آخر

ص: 184

و يؤيده: أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال و الاستقبال، و لا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما (1)، كما أن الجملة الاسمية، كزيد

______________________________

قوله فيما كان الفاعل من الزمانيات» و لم يشر الى الشرط الأول: و هو ان لا يكون في الكلام طرف للخصوصية كالمجي ء في المثال المتقدم.

(1) أي و يؤيد ما قلنا: من عدم اخذ الزمان جزء من مدلول الفعل هو قولهم: ان الفعل المضارع مشترك معنوي بين الحال و الاستقبال، و لا بد في المشترك المعنوي ان يكون موضوعا للجامع، و لا جامع بين زمن الحال و الاستقبال، الا لفظ الزمان الجامع بينهما و بين الزمان الماضي ايضا، و ليس هناك نوع من الزمان خاص يكون جامعا خاصا لزمان الحال و الاستقبال فلا معنى لهذا الاشتراك المعنوي، إلا بان يكون قد اخذ في المضارع خصوصية التجدد، او الترقب التي معناها دلالة الفعل المضارع على جامع يدل بالالتزام عليهما مع تحقق الشرطين المتقدمين.

من كون المتكلم لم يلحظ للتجدد طرفا غير زمان التكلم، كما لو كان طرفه ما هو سابق على زمان التكلم، كالمثال الذي ذكره المصنف في التأييد الآتي، و هو قوله:

«جاء زيد في شهر كذا و هو يضرب في ذلك الوقت» فان الملحوظ طرفا لخصوصية المضارع سابق على زمان التكلم، ففي المثال المذكور لا تكون الخصوصية المأخوذة في المضارع دالة بالالتزام على زمان الحال- مثلا-.

و من كون المسند اليه من الزمانيات، و لا يخفى ان خصوصية الترقب او التجدد تصلح ان تكون جامعا بين الحال و الاستقبال.

و بالجملة: ان الزمان لم يؤخذ في هذين الفعلين، بل اخذت فيهما خصوصية تلازم الزمان الماضي في الفعل الماضي، و الحال و الاستقبال في المضارع بالشرطين المتقدمين، و انما ذكر المصنف هذا بعنوان التأييد و لم يجعله دليلا، لان كون المضارع

ص: 185

ضارب يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الازمنة، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا، فكانت الجملة الفعلية مثلها (1).

و ربما يؤيد ذلك: أن الزمان الماضي في فعله، و زمان الحال أو الاستقبال في المضارع، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة، و في المضارع ماضيا كذلك، و إنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالاضافة، كما يظهر من مثل قوله:

يجيئني زيد بعد عام، و قد ضرب قبله بأيام، و قوله: جاء زيد في شهر كذا، و هو يضرب في ذلك الوقت، أو فيما بعده مما مضى، فتأمل جيدا (2).

______________________________

مشتركا معنويا بين الحال و الاستقبال هو بعض الاقوال في الفعل المضارع و ليس من عند الكل.

(1) أي ان الجملة الفعلية كالجملة الاسمية في عدم اخذ الزمان فيها.

غايته ان الخصوصية في الجملة الاسمية كزيد ضارب هو كون زيد مطابق مفهوم الضارب، و هذه الخصوصية صالحة للانطباق على الازمنة الثلاثة، و قد اتفق الكل على عدم دلالة الاسم على الزمان، و الجملة الفعلية كذلك فانه لم يؤخذ فيها الزمان اصلا.

نعم، الخصوصية المأخوذة فيها ربما يكون مطابقها خصوص ما يتحقق في الزمان الماضي، او يكون مطابقها ما يعم خصوص ما يتحقق في زمان الحال و الاستقبال، و ليس معنى هذا كون الزمان جزء مدلول الفعل كما ذكروه في تعريفه.

(2) هذا هو التأييد الثاني لعدم اخذ الزمان في مدلول الافعال.

و حاصله: انه قد ذكرنا فيما تقدم: ان مرادهم بالزمان الذي يكون زمان فعل الماضي بالنسبة اليه ماضيا، و زمان الحال و الاستقبال في المضارع بالنسبة اليه حالا و استقبالا هو زمان التكلم، و الحال ان الفعل الماضي ربما لا يكون ماضيا بالنسبة الى

ص: 186

.....

______________________________

زمان التكلم، بل يكون ماضيا بالنسبة الى شي ء آخر، و اما بالنسبة الى زمان التكلم فانه يكون مستقبلا كما في المثال الذي ذكره المصنف، و هو «يجيئني زيد بعد عام، و قد ضرب قبله بايام»: أي قبل مجيئه بايام، فان ضرب زمانها يكون ماضيا بالنسبة إلى زمان المجي ء، لا بالنسبة إلى زمان التكلم فانها بالنسبة اليه من المستقبل، و كذلك الفعل المضارع في المثال الآخر و هو: «جاء زيد في شهر كذا و هو يضرب» فان يضرب من المستقبل بالنسبة الى زمان المجي ء، و أما بالنسبة الى زمان التكلم فهي من الماضي.

و لازم ما ذكروه: ان يكون الفعل الماضي و المضارع في هذين المثالين قد استعملا مجازا، لان المضي و الاستقبال فيهما ليس بالنسبة الى زمان التكلم، بل الى زمان المجي ء.

و من الواضح: ان الاستعمال المجازي يحتاج الى لحاظ العلاقة، و لا نرى في انفسنا لحاظ علاقة في هذا الاستعمال، بخلاف ما اذا كان المأخوذ في الافعال هو الخصوصية، فانه لا يلزم مجاز اصلا، فان دلالتها على الزمان بالالتزام انما هو بالنسبة الى الطرف الذي كانت الخصوصية ملحوظة بالنسبة اليه.

و بالجملة: المضي الحقيقي و الاستقبال الحقيقي هو الزمان الماضي بالنسبة الى زمان الحال، و الزمان الاستقبالي بالنسبة اليه، و زمان الحال هو زمان التكلم.

و اما في غيره فالمضي و الاستقبال اضافيان، لا حقيقيان. و الظاهر: ان مرادهم من المضي و الاستقبال هو الحقيقي، لا الاضافي.

و لازم ذلك: ان يكون الفعل الماضي و الفعل المضارع فيما ذكر من المثالين قد استعملا مجازا بلحاظ العلاقة، و قد عرفت: انا لا نرى لنا لحاظ أي علاقة في هذا الاستعمال.

اما اذا لم يؤخذ الزمان فيها، بل كان المأخوذ هو الخصوصية، فانها ليس لها فردان: حقيقي، و اضافي، كالزمان الماضي و الاستقبالي، بل لا يذكر لها في الكلام

ص: 187

ثم لا باس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه، بما يناسب المقام، لاجل الاطراد في الاستطراد في تمام الاقسام.

فاعلم أنه و إن اشتهر بين الاعلام، أن الحرف ما دل على معنى في غيره، و قد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه، إلا أنك عرفت فيما تقدم، عدم الفرق بينه و بين الاسم بحسب المعنى، و أنه فيهما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية، و لا عدم الاستقلال بها، و إنما الفرق هو أنه وضع ليستعمل و أريد منه معناه حالة لغيره و بما هو في الغير، و وضع غيره ليستعمل و أريد منه معناه بما هو هو. و عليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية، و عدم الاستقلال بها، إنما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى، فلفظ الابتداء لو استعمل في المعنى الآلي، و لفظة (من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازا و استعمالا له في غير ما وضع له، و إن كان بغير ما وضع له (1)

______________________________

طرف، و يكون المتكلم في مقام البيان و يكون لها ظهور في ان طرفها هو زمان التكلم- كما مر- و انما ذكر هذا تأييدا، لا دليلا، لجواز ان يدعى ان مراد النحويين من اقتران الفعل بالزمان هو المضي و الاستقبال الاضافيان، و ان كان ظاهر كلامهم هو الحقيقيان، فلا تغفل.

(1)

امتياز الحرف عن الامر و الفعل

و لعل السبب في تعرضه للمعنى الحرفي في المقام مع انه قد ذكره- فيما تقدم- مفصلا: هو أنه كما وقع الخطأ في تعريف الفعل باخذ الاقتران في تعريفه، كذلك وقع الخطأ في فهم مراد من قال: ان الحرف ما دل على معنى في غيره، بخلاف الاسم: فإنه ما دل على معنى في نفسه ان حقيقة المعنى في الحرف غير حقيقته في الاسم. و هو توهم، بل المعنى في الحرف و في الاسم واحد حقيقة، و ان الموضوع له لفظ (من) حقيقة هو الموضوع له لفظ (الابتداء)، و لا فرق بينهما من ناحية ذات الموضوع له اصلا، سوى شرط الواضع: استعمال الحروف في مقام كان المعنى ملحوظا بتبع الغير

ص: 188

فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين، و مقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، و إن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن الشي ء ما لم يتشخص لم يوجد، و إن كان بالوجود الذهني، فافهم و تأمل فيما وقع في المقام من الاعلام (1)،

______________________________

و آليا له، بخلاف الاسم فان شرطه: استعمال الاسم فيما كان المعنى ملحوظا بنفسه، و بالاستقلال، و لو استعمل احدهما في موضع الآخر لم يكن استعمالا في غير ما وضع له و من الاستعمال المجازي.

نعم، هو استعمال مناف لشرط الواضع فيكون من الاستعمال بغير ما وضع له كاستعمال لفظ في معنى على وجه الحقيقة، و لم يكن قد وضع له، و لا بقصد الوضع له، فيكون من الاستعمالات الغلطية، لا المجازية و هذا مراده من قوله: «لما كان مجازا و استعمالا له في غير ما وضع له، و ان كان بغير ما وضع له» و قد تقدم فيه الكلام مفصلا، و ان حقيقة المعنى الحرفي مباينة بالذات للمعنى الاسمي، و ان قولهم:

ما دل على معنى في غيره تعريف لحقيقة المعنى الحرفي، و ان ذاته متقومة بالطرفين فراجع.

(1) لا يخفى ان اصطلاح القوم في هذه الكليات الثلاثة ان المعنى المتصف بالكلية و قابليته الصدق على كثيرين ان نفس الموصوف و المعنى يسمى: بالكلي الطبيعي، و نفس كليته و قابليته للصدق على كثيرين يسمى: بالكلي المنطقي، و المجموع من الموصوف و الصفة: أي المعنى و كليته يسمى بالكلي العقلي، فالكلي العقلي هو المعنى المتصف بالكلية، غايته ان الكلية بنفسها من الامور التي لا تحقق لها الّا في العقل، و لذا سمى الموصوف بها بالكلي العقلي، و ليس كل امر متقيد باللحاظ الذهني يسمى عندهم بالكلي العقلي، لبداهة ان الكلية و الجزئية من صفات ذات المعنى مع غض النظر عن كونه مقيدا بالذهن او الخارج، و الّا فمع تقيد المعنى بالذهن لا يعقل وصفه بالكلية، فان معنى تقيده بالذهن هو معنى كونه موجودا متشخصا، و كل

ص: 189

من الخلط و الاشتباه، و توهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا، بخلاف ما عداه فإنه عام.

و ليت شعري إن كان قصد الالية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا، فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له و هل يكون ذلك إلا لكون هذا القصد، ليس مما يعتبر في الموضوع له، و لا المستعمل فيه بل في الاستعمال، فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف، و إلا لزم أن يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها على هذا كليات عقلية، و الكلي العقلي لا موطن له الّا الذهن، فالسير و البصرة و الكوفة، في (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السير و البصرة و الكوفة، لتقيدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية، فيستحيل انطباقها على الامور الخارجية (1).

______________________________

موجود متشخص فهو جزئي لا كلي، و ان كان ذات معناه من دون لحاظ تقيده بالذهن كليا.

و لكن المصنف اصطلح على تسمية كل مقيد بامر ذهني بالكلي العقلي على خلاف اصطلاح القوم، و قد اعترف هو قدّس سرّه: بان المتقيد باللحاظ الذهني هو جزئي.

إلّا انه ادعى: ان المتقيد باللحاظ باعتبار كون اللحاظ من الامور الذهنية يسمى بالكلي العقلي، و باعتبار ان هذا اللحاظ موجب لوجود المعنى و تشخصه به فهو جزئي ذهني فان الذهنية احد نحوي الموجودات الممكنة، و كلما وجد فهو جزئي متشخص، لأن الشي ء ما لم يتشخص لم يوجد.

(1) حاصل ما يقول قدّس سرّه: ان السبب في خلط القوم و اشتباههم في ان الموضوع له في الحروف خاص و الوضع فيها عام: هو حسبانهم ان حقيقة المعنى الحرفي غير المعنى الاسمي، و ان الموضوع له الحرف هو المصداق الجزئي للابتداء- مثلا- بخلاف

ص: 190

.....

______________________________

لفظ الابتداء فانه موضوع للمعنى العام. و قد عرفت: ان الموضوع له في الحرف ليس جزئيا، بل نفس المعنى الموضوع له الاسم من غير فرق.

و قد ذكر هنا دليلين على عدم الفرق في الموضوع له بين الحرف و الاسم.

و حاصل الدليل الاول: ان الآلية لو كانت هي الموجبة لجزئية المعنى الحرفي لتقيده بها لكانت الاستقلالية موجبة لجزئية المعنى الاسمي، فان الاستقلالية فيه كالآلية في الحرف، فلو كان اللحاظ الآلي في الحرف لجزئيته موجبا لجزئيته، لكان اللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئية المعنى الاسمي، فان كلا منها في مقام الاستعمال لا بد من لحاظه.

غايته: ان المعنى الحرفي يلحظ باللحاظ الآلي، و المعنى الاسمي يلحظ باللحاظ الاستقلالي، فلو كان اللحاظ موجبا للجزئية لكان موجبا لجزئيتهما معا و الى هذا اشار بقوله: «و ليت شعري ان كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا» الى آخر قوله: «فلم لا يكون فيها كذلك».

الدليل الثاني: ان الموضوع له الحرف لو كان هو المتقيد باللحاظ الذهني لما امكن تحقيقه في الخارج، لوضوح ان الماهية بتقيدها بالذهن لا تنطبق على الخارج، لأن كل فعلية تأبى عن الفعلية الاخرى. فالمعنى بقيد الخارجية لا يعقل ان ينطبق عليه الذهن، و المعنى بتقيده بالذهن لا ينطبق على الخارج.

نعم نفس المعنى من دون تقيده بشي ء قابل للانطباق على كلا النحوين من الوجود، فيكون قول القائل: سرت من البصرة الى الكوفة غير حاك عن سيره الخارجي الذي وقع ابتداؤه الخارجي من البصرة و انتهاؤه الخارجي بالكوفة، لأن (من) و (الى) موضوعان لمعنى لا ينطبق على الخارج، فما حكى عنه اللفظ غير ما وقع في الخارج، لأن المفروض: ان الالفاظ قد وضعت للمقيد باللحاظ الذهني و هو غير الابتداء و الانتهاء الخارجيين، و قد اشار الى هذا الدليل الثاني بقوله: «و الّا لزم ان

ص: 191

و بما حققناه يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي، و الصدق على الكثيرين، و إن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا، و الكلية بلحاظ نفس المعنى، و منه ظهر عدم اختصاص الاشكال و الدفع بالحرف، بل يعم غيره، فتأمل في المقام فإنه دقيق و مزال الاقدام للاعلام، و قد سبق في بعض الامور بعض الكلام (1)، و الاعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة و الافادة،

______________________________

يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية الى آخره» و هذه العبارة تحتمل معنيين:

الاول: ان السير، و البصرة، و الكوفة لأنها متعلقات للمعنى الحرفي الذهني و متعلق الامر الذهني لا يكون الّا ذهنيا فالسير، و البصرة، و الكوفة ايضا لا تنطبق على السير و البصرة و الكوفة الخارجيات.

الثاني: انه لا فرق بين المعنى الاسمي و الحرفي في كون كل منهما ملحوظا في كل منهما يكون دخيلا في المعنى و عليه فالمعنى الاسمي المتقيد باللحاظ لا ينطبق على الخارج، فالسير و البصرة و الكوفة المحكيات باللفظ لا تنطبق على السير و البصرة و الكوفة الخارجيات. و قد عرفت فيما تقدم: ان الموضوع له الحرف ليس هو الجزئي الخارجي، و لا الجزئي الذهني، و انما كان الوضع فيه خاصا، لأن حقيقته التقوم بالطرفين و ما كان كذلك لا يكون له كلي طبيعي له مصاديق ينطبق عليها، فلا يمكن ان يكون الوضع فيه عاما و الموضوع له عاما و ان كلية المعنى الحرفي و جزئيته انما هي باعتبار طرفيه.

(1) حاصل هذا التوفيق: ان المعنى حيث يلاحظ بنفسه من دون تقيده باللحاظ فهو كلي في كل من المعنى الحرفي و الاسمي، و حيث يتقيد باللحاظ فهو جزئي في كليهما ايضا، سواء كان الاستعمال آليا كما في الحرف، او استقلاليا كما في الاسم فيحمل

ص: 192

فافهم (1).

رابعها: إن اختلاف المشتقات في المبادئ، و كون المبدأ في بعضها حرفة و صناعة، و في بعضها قوة و ملكه، و في بعضها فعليا، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، و لا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى، غاية الامر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلا، لو أخذ حرفة أو ملكة، و لو لم يتلبس به إلى الحال، أو

______________________________

كلام من قال: ان المعنى جزئي على المعنى المتقيد باللحاظ، و كلام من قال: ان المعنى كلي على المعنى الملحوظ بنفسه من دون تقيده باللحاظ.

و قد ظهر ايضا: ان الاشكال الموجب لكون الموضوع له الحرف جزئيا لا يختص بالحرف، بل يعم الاسم ايضا، و ينبغي ان يكون الموضوع له الاسم ايضا جزئيا.

و ما به يدفع الاشكال في الحرف: من ان الموضوع له فيه نفس المعنى غير المتقيد باللحاظ فيكون كليا به- ايضا- يندفع الاشكال في الاسم، فالمعنى الموضوع له فيه كلي ايضا، و الى هذا اشار بقوله: «و منه ظهر عدم اختصاص الاشكال الى آخره». إلا انك عرفت- فيما سبق- ان الكلية و الجزئية من صفات نفس المعنى من دون تقيده باللحاظ باعتبار صدق الماهية على كثيرين، و عدم صدقها على الكثيرين، فان الظاهر ان المقسم في الكلية و الجزئية واحد و هو نفس المعنى من دون اخذ اللحاظ فيه.

(1)

اختلاف مبادئ المشتقات

لا يخفى ان الفائدة و الافادة التي ذكرها هنا و لم يتعرض لها فيما سبق هو: ان المعنى يكون باعتبار نفسه كليا طبيعيا، و باعتبار تقيده باللحاظ جزئيا ذهنيا و انه لا منافاة بين كون المعنى جزئيا ذهنيا، و كونه كليا عقليا بناء على ما اصطلحه في الكلي العقلي، و التوفيق بين جزئية المعنى و كليته.

ص: 193

انقضى عنه، و يكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات و أنواع التعلقات، كما أشرنا إليه (1).

______________________________

(1) قد تقدم الكلام على سبيل الاجمال في هذا المطلب في الامر الاول.

و حاصل الكلام فيه: ان بعض المشتقات يدعى صدقها على الاعم، كالكاتب و لا سيما في مثل قولهم: فلان كاتب السلطان فانه يصدق عليه و ان لم يكن مشغولا بالكتابة، و مثل المثمر فانه يقال: الشجر مثمر و ان لم يكن له ثمر بالفعل، و مثل السم قاتل و ان لم يكن متلبسا بالقتل، لانه يصدق عليه القاتل قبل ان يؤكل، و مثل المجتهد فانه يصدق على من له ملكة الاجتهاد و الاستنباط و ان لم يكن قد استنبط حكما اصلا، و مثل المشرق و المغرب و المسلخ فانها تصدق على المكان و ان لم يكن له شروق بالفعل و لا غروب و لا سلخ، و مثل اللابن و التامر و البقال فانه يصدق على من يحترف بيع اللبن و التمر و البقل، و لو في حال كونه نائما و ليس بمزاول للبيع.

و قد اختلفت الكلمات في التفصي عن هذا الاشكال من القائلين بوضع المشتق لخصوص المتلبس.

فالتزم بعضهم بخروج بعضها عن محل النزاع كصاحب الفصول، و هو في الحقيقة التزام بالاشكال و لا وجه له، للزومه تعدد الوضع في هيئة الاوصاف، و الالتزام به بعيد، فان اللفظ في اسم الزمان و المكان واحد، فان المغرب- مثلا- مشترك بين اسم الزمان، و المكان، فالالتزام بان هذه الهيئة في خصوص اسم الزمان وضعت للمتلبس، و في اسم المكان قد وضعت للاعم بعيد جدا.

و اجاب بعضهم، كالماتن و جملة من المحققين بنحو آخر: و هو ان النزاع في المشتق انما هو في وضع الهيئة، و اما المادة فليست محلا للنزاع، و في هذه الامثلة قد وقع التصرف في المادة، فان المادة قد اخذت على انحاء و ان المبدأ في هذه لم يرد منه المصدر، بل اريد منه في بعضها الحرفة و الصنعة، كالصائغ و الكاتب في من اتخذ الكتابة حرفة ككاتب السلطان، و في بعضها قد اخذ المبدأ بنحو الملكة كالمجتهد و الفقيه

ص: 194

.....

______________________________

فانه قد اريد من الاجتهاد و الفقاهة ملكة الاستنباط و القوة على معرفة الحكم الفقهي من دليله، و في بعضها قد اخذ بنحو الاستعداد و القابلية كالمثمر.

و لعله يرجع الامر في جميعها الى شي ء واحد و هو ان يراد من المبدإ اقتضاؤه لا فعليته، و الاقتضاء في كل مقام بحسبه.

و يرد عليه اولا: ان الالتزام بان الوضع في مبدإ هذه المشتقات مخالف لوضع المبدإ في بقية المشتقات، فان الضرب- مثلا- في الضارب موضوع لخصوص الحدث، و في هذه الامثلة قد وضعت الكتابة، و الاجتهاد، و الاثمار لاقتضاء الحدث، لا لنفس الحدث. و هذا لا يقل في الغرابة عن الالتزام: بان الهيئة في هذه الامثلة يخالف وضعها لسائر المشتقات. و ما السبب في ترجيح التصرف في المادة على التصرف في الهيئة؟

و ثانيا: انه لا يتم في مثل لفظ القاتل، فانه يطلق على الرجل القاتل، و يراد منه الفعلية و لا سيما فيما اذا كان الرجل ليس من عادته القتل، بل حصل منه القتل صدفة، او خطأ و اتفاقا فانه في حال انقضاء القتل يقال: كان قاتلا، و ليس بقاتل فعلا و ليس فيه اقتضاء للقتل، فكيف يمكن ان يدعى: ان اطلاقه على السم بنحو الاقتضاء، و الالتزام بتعدد الوضع في المبدأ بالنسبة للفظ قاتل فيما اذا اطلق على الرجل، و فيما اذا اطلق على السم في غاية الغرابة.

و يمكن ان يجاب: بان ما ذكر من الامثلة لم يختلف الوضع فيها عن ساير المشتقات، و انها ايضا موضوعة لخصوص المتلبس، و انما الفرق بينها و بين ساير المشتقات: ان الذات التي يطلق عليها احد هذه المشتقات لها نحو اختصاص المبدأ، كما في المغرب- مثلا- فانه يختص الغروب بمحل خاص، و لا يقع في غيره من الامكنة، و كذلك في المسلخ و المذبح فانه يختص الذبح و السلخ بمحل معين، و مثله المفتاح فانه يختص الفتح بآلة معينة، و كذلك المحترف الذي يتخذ الصياغة و الكتابة حرفة، و كذلك المجتهد و الفقيه فانه يختص بمن بلغ تلك المرتبة، و كذلك السم الذي

ص: 195

خامسها: إن المراد بالحال في عنوان المسألة، هو حال التلبس لا حال النطق ضرورة أن مثل كان زيد ضاربا أمس أو سيكون غدا ضاربا حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الامس في المثال الاول، و متلبسا به في الغد في الثاني، فجري المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس، و إن مضى زمانه في أحدهما، و لم يأت بعد في الآخر، كان حقيقة بلا خلاف (1)، و لا ينافيه الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز، فإن

______________________________

له من طبيعته و ذاته اقتضاء القتل يكون له نحو اختصاص بالقتل دون غيره ممن يصدر منه القتل، لا بالذات و الطبيعة.

فاذا حصل للذات هذا الاختصاص صح اطلاق هذه المشتقات عليها في حال الانقضاء اما بعناية ان هذا الاختصاص يوجب فرض وجود المبدإ مع الذات، و انه لا يفارقها، فاطلاقها عليها بنحو العناية، إلّا ان العناية لا يحتاج فيها الى مزيد مئونة او ان الغرض من اطلاق هذه الاوصاف عليها بيان القوة، لا الفعلية، فكانها قضية صرح: بان الحمل فيها و الجري بالقوة، كقولك: زيد كاتب بالقوة، فان الغرض فيها: ان زيدا له قوة الكتابة، لا فعلية الكتابة، و اتصافه بالقوة فعلي، لا بالقوة.

بقي الكلام في اللابن و التامر و الحداد، لا من الجهة التي ذكرناها، فان الكلام فيها من هذه الجهة هو الكلام فيما مر، بل من جهة انها ليست من المعاني الحدثية فان اللبن و التمر و الحديد من الاعيان فكيف يصح تلبس الذات بها.

و الظاهر ان التلبس فيها ليس لذاتها بل نسبة التلبس لها تبعي بتبع بيع هذه الاعيان، و ليس التلبس بها بذاتها، و انما نسب التلبس بها للذات، من حيث تلبس الذات بالبيع المضاف الى هذه الاعيان فهي متلبسة بها بتبع ما اضيف اليها.

(1)

المراد بالحال

لقد ذكر الحال في العنوان، فقالوا: هل المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في الحال، أو في الاعم منه و ما انقضى عنه؟

ص: 196

.....

______________________________

و لا يخفى انهم اتفقوا على انه في المتلبس بالحال حقيقة، و فيمن سيتلبس في الاستقبال مجاز. و النزاع فيمن تلبس و انقضى عنه.

و اتفقوا ايضا انه اذا كان الجري و الحمل بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة في الاحوال الثلاثة، فاذا قيل: زيد كان ضاربا امس، و زيد يكون ضاربا غدا، و زيد ضارب الآن، فانه في هذه الامثلة الثلاثة المشتق حقيقة في الجميع، فلا بد و ان يكون محل الاتفاق على المجازية في الاستقبال هو ان يكون الجري و الحمل في الحال، و التلبس في الاستقبال، و كذلك محل النزاع فيما انقضى عنه: هو ان يكون الجري و الحمل في الحال، و التلبس فيما مضى.

و بعد بيان هذه المقدمة نقول: لا يخلو المراد من الحال في العنوان، هل هو حال النطق، او حال النسبة، او حال التلبس؟

و لا مجال لأن يكون المراد من الحال حال النطق، فان كون مرادهم من الحال حال النطق ينافي اتفاقهم على انه اذا كان الجري بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة، حتى في الاستقبال، فضلا عن زمن الاقتضاء، فان المفروض ان زمان النطق خال عن التلبس، فلو كان مرادهم من الحال حال النطق لكان لازم هذا ان يكون المتيقن من المصداق الحقيقي منحصرا في التلبس الذي يكون في حال النطق، و التلبس الذي يكون في غير حال النطق فهو مجاز و ان كان الجري بلحاظ حال التلبس، و هذا ينافي ما ذكرنا من اتفاقهم على ان الجري اذا كان بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة حتى في الاستقبال، و هذا مراد المصنف من قوله: «ضرورة ان مثل كان زيد ضاربا امس» الى قوله: «بلا خلاف».

و حاصله: ان ضرورة اتفاقهم على كون المثالين حقيقة، لأن الجري بلحاظ حال التلبس لازمه ان لا يكون مرادهم من الحال في العنوان حال النطق، لما عرفت من انه لو كان المدار على حال النطق لكان المثالان من المجاز، لوضوح عدم تلبس زيد بالضرب في حال النطق في المثالين.

ص: 197

.....

______________________________

نعم، قوله: «اذا كان متلبسا بالضرب في الامس في المثال الاول و متلبسا به في الغد في الثاني» لا يخلو من مسامحة فان تلبسه و عدم تلبسه له خصوصية في كون القضية صادقة او كاذبة، و هذا لا ربط له بكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس حقيقة.

و يمكن ان يكون مراده: انه اذا لم يكن زيد متلبسا بالضرب في الامس و لا متلبسا به في الغد فمحافظة على صدق القضية ان الجري و ان كان بلحاظ الامس و الغد، إلّا انه لكونه كان متلبسا به فيما قبل الامس، و انه سيتلبس به فيما بعد غد، فيكون المثال الاول من مورد النزاع، و المثال الثاني من المتفق على مجازيته.

و اما حال النسبة فالمراد من النسبة اما النسبة الحكميّة: و هو الحال الذي يصح فيه نسبة الضارب الى زيد، حيث يصح تشكيل القضية، فيقال: زيد ضارب فان هذه القضية انما تصح حيث يكون زيد مطابقا لهذه القضية، و متلبسا بالضرب.

و لا يخفى انه لا سبيل الى ان المراد من الحال في العنوان هو حال النسبة بهذا المعنى، لوضوح ان حال النسبة متاخر بالطبع و الواقع عن تلبس زيد واقعا بالضرب، فزيد حال تلبسه قبل النسبة الحكمية هو مصداق و مطابق لعنوان الضارب.

و اما اذا كان المراد من حال النسبة هو حال انتساب الضرب واقعا الى زيد، لا حال القضية و الحمل، فهذا المعنى يرجع الى حال التلبس و ليس هو في قباله، فلا بد و ان يكون المراد من الحال في القضية هو حال التلبس، إلّا انه من الواضح ان قولهم: المتلبس في العنوان، يكفي عنه.

و لعله ذكر في العنوان للتوضيح لا للتأسيس.

و الحاصل: ان النزاع في ان مطابق المشتق هل هو الذي يكون المبدأ قائما به بالفعل، أو الاعم منه و من الذي قام به المبدأ و انقضى عنه.

ص: 198

الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال، كما هو قضية الاطلاق، و الغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجري و الاتصاف في الحال، و التلبس في الاستقبال (1).

و من هنا ظهر الحال في مثل زيد ضارب أمس و أنه داخل في محل الخلاف و الاشكال. و لو كانت لفظة أمس أو غد قرينة على تعيين زمان النسبة و الجري أيضا كان المثالان حقيقة.

______________________________

(1) لا يخفى ان الذي يظهر من المصنف موافقته على كون المثال ظاهرا في ان غدا في قولك: زيد ضارب غدا لبيان حال التلبس فقط، و ليس فيه ظهور على ان الجري بلحاظه ايضا، و ان القضية ظاهرة في ان الجري بلحاظ حال النطق و ان غدا لصرف بيان حال التلبس، إلّا انه لا يخلو من شي ء، فان غدا في المثال يصلح لأن يكون قرينة على كلا الامرين، و ان المثال المذكور حاله حال المثال السابق و هو قولهم: سيكون زيد غدا ضاربا، فيكون من موارد الحقيقة.

نعم المثال السابق اظهر في الدلالة على كون الجري بلحاظ حال التلبس، و لكن قولهم: زيد ضارب غدا ايضا ظاهر في ان الجري بلحاظ حال التلبس ايضا.

و على كل حال فان اتفاقهم على المجازية لو سلمت فانما هي حيث يكون الجري بلحاظ حال النطق، لا بلحاظ حال التلبس، فيكون الجري في الحال، و التلبس في الاستقبال، و هو من المجاز قطعا.

و ملخص مراد المصنف: انه لو كان هناك تصريح منهم: بان قولهم زيد ضارب غدا مجاز حتى لو كان الجري بلحاظ حال التلبس، لكان منافيا لما ادعيناه: من ان مرادهم من الحال حال التلبس.

اما نفس اتفاقهم على المجازية في المثال فلا منافاة فيه، لأن اتفاقهم على المجازية انما هو لأن الجري في حال النطق، و التلبس في الاستقبال، و هو من المسلم مجازيته.

ص: 199

و بالجملة: لا ينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة، فيما إذا جرى على الذات، بلحاظ حال التلبس، و لو كان في المضي أو الاستقبال، و إنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ حال التلبس في الاستقبال (1).

و يؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، و منه الصفات الجارية على الذوات (2) و لا ينافيه اشتراط العمل في بعضها

______________________________

(1) لا يخفى ان الظهور في مثل زيد ضارب امس كالظهور في زيد ضارب غدا لأن امس قرينة على حال الجري ايضا، و انه مثل قولهم: زيد كان ضاربا امس، لا لصرف بيان حال التلبس فقط. و يظهر من المصنف التسليم ايضا.

و على كل فانه لو سلم ظهور المثال في ان امس لبيان حال التلبس فقط، و ان الجري بلحاظ حال النطق، لكان من مورد النزاع.

فاتفاقهم على كونه من مورد النزاع لو سلم فانما هو لاجل ان الجري بلحاظ حال النطق و التلبس في الزمان الماضي.

نعم، لو صرحوا بان الجري بلحاظ حال التلبس ايضا- و مع ذلك هو من مورد النزاع- لكان منافيا لدعوى: ان مرادهم من الحال هو حال التلبس، و لكنهم لم يصرحوا بذلك، بل صرحوا بخلافه و هو ان الجري اذا كان بلحاظ حال التلبس يكون المثالان حقيقة.

(2) انما ذكره تاييدا لأن اتفاق اهل العربية لا يصح ان يكون دليلا، لانهم اتفقوا على دلالة الفعل على الزمان، و قد مضى منه عدم دلالة الفعل على الزمان.

و حاصل هذا التأييد: ان اهل العربية اتفقوا على عدم دلالة الاسماء على الزمان، و بها فرقوا بين الافعال، و الاسماء، فلو كان الحال المذكور في العنوان يراد

ص: 200

بكونه بمعنى الحال، أو الاستقبال، ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا و قد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال (1).

______________________________

منه زمان النطق، لكان لازم ذلك دلالة المشتق على الزمان و هو خلاف ما اتفقوا عليه: من عدم دلالة الاسماء على الزمان.

لا يقال: انه اذا اريد من الحال زمان التلبس ايضا يكون منافيا لما اتفقوا عليه من عدم دلالة الاسماء على الزمان.

فانه يقال: المراد من حال التلبس ليس زمان التلبس، بل هو ما ذكرناه من كون مطابق المشتق هو كون المبدإ له فعلية القيام بالذات: أي ان المطابق لهذا الوصف و المصداق الحقيقي له: هو كون مبدإ الوصف فعلا قائما بالذات، لا انه قام بها و انقضى عنه القيام فعلا: اي ان مطابق القائم مثلا هو كون الشي ء له فعلية الانتصاب حين وجود الانتصاب فيه، و ليس مطابقة الشي ء و لو كان قد انقضى عنه وجود الانتصاب الحال فيه.

(1) حاصله: انه لا يقال: انه ينافي ما ادعيت من اتفاق اهل العربية على عدم دلالة الاسماء على الزمان، هو انهم يشترطون في عمل بعض الاسماء كاسم الفاعل عمل الفعل: بان يكون اسم الفاعل بمعنى الحال او الاستقبال، و لذا قال ابن مالك في بداية الالفية:

كفعله اسم فاعل في العمل ان كان عن مضيه بمعزل 29]

و ظاهر كلامهم هذا: هو دلالة بعض الاسماء على الزمان و هذا مراده من قوله:

«و لا ينافيه- الى قوله- ضرورة».

فانه يقال: ان مرادهم من دلالة الاسم، كاسم الفاعل على الزمان ليس دلالته عليه بنفسه، بل بدلالة دال آخر على الزمان لا نفس الاسم. و الذي يدل على ذلك

ص: 201

لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه، و ادعي أنه الظاهر في المشتقات، إما لدعوى الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لانا نقول: هذا الانسباق، و إن كان مما لا ينكر، إلا أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه (1).

______________________________

انهم اشترطوا في العمل دلالة الحال أو الاستقبال، و من المعلوم ان الدلالة على الاستقبال تستفاد من القرينة، لأنهم اتفقوا على كون اسم الفاعل و ساير المشتقات مجازا في المستقبل. و لا اشكال ان المورد المجازي تتكفل الدلالة عليه القرينة، و الى هذا الجواب

اشار بقوله: «ضرورة ان المراد الدلالة على احدهما إلى آخره».

و فيه اولا: ان الاستقبال ليس مجازا دائما، بل فيما كان الجري بلحاظ حال الاستقبال فانه حقيقة.

و ثانيا: ان معنى دلالة القرينة: هو اعداد اللفظ للدلالة، فان أسدا بواسطة يرمي يكون بنفسه دالا على الرجل الشجاع، و ليس معنى دلالة القرينة هو كون اللفظ المستعمل مجازا اجنبيا عن الدلالة.

(1) المراد من لا يقال: الاشارة الى ما يمكن ان يكون مستندا الى من يدعى ان المراد من الحال في العنوان هو حال النطق.

و حاصله: انه لا اشكال في ان لفظ الحال إذا اطلق فالمنسبق منه عند اطلاقه هو حال النطق، فلفظ الحال له ظهور في حال النطق، و ايضا ان نفس المشتق اذا اطلق ايضا المنصرف منه هو تلبس الذات بالمبدإ في حال النطق و اذا، لم يكن للمشتق انصراف بنفسه الى حال النطق فلا اقل من ان قرينة الحكمة تعين حال النطق فاذا كان المتكلم في مقام البيان لظرف التلبس و قال: زيد قائم- مثلا- فقرينة الحكمة تدل على

ص: 202

.....

______________________________

ان زيدا متلبس بالقيام في حال النطق، اذ غير حال النطق يحتاج الى دليل، و حيث لم يذكر يتعين انه متلبس بالقيام في حال النطق. فحاصل هذا ينحل الى دليلين:

الاول: ان لفظ الحال المذكور ظاهر في حال النطق.

الثاني: ان انصراف المشتق الى حال النطق يجعل المشتق ظاهرا في ان مفهومه هو التلبس بالمبدإ في حال النطق، و قد اشار الى الاول بقوله: «كما هو الظاهر منه»:

أي من لفظ الحال «عند اطلاقه» و اشار الى الثاني بقوله: «و ادعى انه الظاهر في المشتقات» ... الى آخره.

و الجواب عن خصوص الاول انه لا ننكر ان المنسبق من لفظ الحال هو حال النطق، إلّا ان مرادهم منها في العنوان: هو حال التلبس، لما ذكرنا من اتفاقهم على ان المشتق في المثالين المتقدمين و هما: زيد كان ضاربا امس، و سيكون غدا ضاربا حقيقة و لو كان الحال هو حال النطق لكان مجازا كما تقدم بيانه.

و الجواب عن الثاني:

اولا: بان دعوى الانصراف من لفظ المشتق الى حال النطق، او تعيينه بمعونة مقدمات الحكمة هو اعتراف منهم: بان المشتق ليس بموضوع لمفهوم ينحصر مصداقه في المتلبس بالمبدإ في حال النطق، بل هو موضوع لمعنى يعم حال النطق و غيره، و ان حال النطق قد يكون احد افراده و هو حال التلبس، فانه ربما يتحد حال التلبس و حال النطق فيكون فردا له، و ربما لا يكون.

و ثانيا: ان انصراف المشتق الى حال النطق، او تعيين حال النطق بمعونة مقدمات الحكمة لا ينافي ما ذكرنا، لأن مرجع الانصراف الى دعوى: كون المشتق ينصرف منه عند اطلاقه ان مطابقه هو المتلبس بالمبدإ في حال النطق و لا ينافي هذا الانصراف ما ذكرنا: من كون المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس، لأنه لا يدل الانصراف المذكور على اكثر من كون حال التلبس متحدا مع حال النطق، و حيث قام الدليل على ان مرادهم من الحال في العنوان هو حال التلبس لتصريحهم بان

ص: 203

سادسها: إنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك، و أصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له (1)، و أما ترجيح

______________________________

المشتق حقيقة في المثالين و هما: زيد كان ضاربا، و سيكون غدا ضاربا فيتعين ان يكون مرادهم من الحال في العنوان هو حال التلبس، لا حال النطق، لانهم في هذا المقام في مقام تعيين ما هو الموضوع له، و في مقام بيان المفهوم، لا في مقام تعيين المصداق، و قد قام الدليل على ان مرادهم من الحال هو حال التلبس، لا حال النطق، و قد اشار إلى ما ذكرنا اجمالا بقوله: «هذا الانسباق و ان كان مما لا ينكر ... الى آخره».

(1)

تأسيس الاصل

الاصل المدعى في المقام لتعيين الموضوع له: هو اصالة عدم ملاحظة الخصوصية، فانه بعد العلم بكون اللفظ موضوعا اما للمعنى العام، او الخاص يرجع الى الشك في ان الخصوصية هل لحظت في مقام الوضع ام لا؟

لأن المعنى العام متيقن لحاظه فاما ان يكون قد لحظت معه خصوصية فيكون خاصا، او لم تلحظ معه فيكون المعنى الموضوع له عاما، فاذا جرى الاصل و هو اصالة عدم لحاظ الخصوصية تعين ان المعنى الموضوع له هو العام.

و فيه اولا: ان هذا الاصل انما يتم في ما اذا كان العام ملحوظا في ضمن الخاص بنحو التضمّن: بان يلحظ بنفسه ثم يلحق بالخصوصية، و المقام ليس من هذا القبيل، فان المشتق بناء على وضعه للاعم لا يكون هناك عام ملحوظ ثم الحق بالخصوصية، فان الضارب- مثلا- بناء على وضعه للاعم يكون موضوعا لما يساوق مفهوم من صدر منه الضرب الشامل للمتلبس و لمن انقضى عنه، و ليس هناك مفهوم عام قد لحقته الخصوصية، فان المشتق سواء كان موضوعا للاعم او لخصوص المتلبس معناه مفهوم بسيط في ناحية المفهومية، و هذا واضح جدا بناء على ان المشتق بسيط مفهوما لا تركيب فيه و لو تحليلا، و بناء على التركيب ايضا واضح فانه يكون

ص: 204

الاشتراك المعنوي على الحقيقة و المجاز إذا دار الامر بينهما لاجل الغلبة،

______________________________

من المركب المنحل الى المتعدد، لا انه مركب من مفاهيم متعددة، فهو كمفهوم الانسان المنحل الى الحيوان و الناطق، لا مثل اعتق رقبة مؤمنة فاتضح انه لم يتركب من مفهوم عام قد لحقته الخصوصية.

فاذا عرفت هذا يتضح: ان العموم و الخصوص في المقام مفهومان متباينان في ناحية المفهومية، و ان كانا في مقام الصدق ليسا كذلك و الكلام في مقام المفهومية، و تعيين المعنى الموضوع له.

و اذا كانا متباينين فاصالة عدم ملاحظة الخصوصية يرجع الى اصالة عدم لحاظ المفهوم الخاص، و حينئذ يعارضها اصالة عدم لحاظ العموم، و عدم ملاحظة المفهوم العام، و قد اشار الى هذا بقوله: «مع معارضتها باصالة عدم العموم».

و ثانيا: انه لا دليل على اعتبار هذا الاصل: و هو اصالة عدم لحاظ الخصوصية لأن الدليل على هذه الاصول:

اما بناء العقلاء و ليس للعقلاء بناء على انه اذا شكوا في كون اللفظ موضوعا للمعنى العام او للمعنى الخاص يجرون اصالة عدم الخصوصية، و يبنون على ان الموضوع له هو المعنى العام، بل الاصول العقلائية مجراها الشك في المراد، لا الشك فيما هو الموضوع له.

و اما الاستصحاب و هو ايضا لا مجرى له في المقام فان من شرائط جريان الاستصحاب ان يكون المستصحب إما امرا مجعولا للشارع بلا واسطة، او موضوعا لاثر مجعول بلا واسطة، و المستصحب في المقام ليس امرا مجعولا للشارع و هو واضح، و لا موضوعا لاثر مجعول بلا واسطة، فان المستصحب في المقام عدم لحاظ الخصوصية، و لازمه الوضع للمعنى العام، و لازم الوضع له هو ظهور اللفظ فيه، و لازم الظهور ارادة المتكلم له، و لازم ذلك ترتب الحكم الشرعي، و الى هذا اشار بقوله: «لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له».

ص: 205

فممنوع، لمنع الغلبة أولا، و منع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا (1) و أما الاصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل أكرم كل عالم يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الايجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.

______________________________

(1) يريد بهذا الاشارة الى اصل او دليل آخر على كون الموضوع له- المشتق هو الاعم، لا خصوص المتلبس.

و حاصله: انه اذا كان المشتق موضوعا للاعم يكون مشتركا معنويا بين المنقضى و المتلبس فيصح استعماله- كل منهما على نحو الحقيقة و المصداقية للجامع بينهما، و اذا كان موضوعا لخصوص المتلبس يكون استعماله فيما انقضى عنه مجازا، فيدور الامر بين الاشتراك المعنوي، و الحقيقة و المجاز و متى دار الامر بينهما يترجح الحمل على الاشتراك المعنوي لغلبته على الحقيقة و المجاز.

و فيه اولا: ان الغلبة ممنوعة، لأن المراد من الغلبة دعوى كثرة وجود الاشتراك المعنوي على الحقيقة و المجاز، و لم تتحقق هذه الدعوى. ثم ان الغلبة التي يستدل بها- بعض المقامات هي غلبة الاستعمال، لا غلبة الوجود، و هي توجب انصراف اللفظ الى بعض افراده بعد تعين ما هو الموضوع له.

نعم ربما يدعى: انه اذا كان احد محتملات الموضوع له كثير الوجود يكون خلاف الحكمة وضع اللفظ لما هو قليل الوجود و استعماله- الاكثر بنحو المجاز، و سيأتي التعرض لهذا عن قريب- ان شاء اللّه- و الجواب عنه.

و ثانيا: انه لو سلمنا غلبة الاشتراك على الحقيقة و المجاز لكنه لم ينهض دليل على الترجيح بالغلبة و تعيين الموضوع له بها، لما عرفت من انه ليس للعقلاء بناء على الاخذ بها لتعيين الموضوع له، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «لمنع الغلبة اولا و منع نهوض حجة .. الخ».

ص: 206

فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم أن الاقوال في المسألة و إن كثرت، إلا أنها حدثت بين المتأخرين، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين (1)،

______________________________

(1)

الخلاف في المشتق

لما فرغ من الكلام على الاصل اللفظي تعرض لبيان الاصل العملي.

و حاصله: انه مع الشك في ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس، او للاعم منه و ما انقضى عنه المبدأ فورد- مثلا- اكرم كل عالم.

فنقول: ان كان ورود الحكم بعد انقضاء المبدأ: بان كان زيد في حال ورود الحكم ليس بعالم، و لكنه كان عالما في الزمان المنقضي، فيشك فعلا في وجوب اكرامه، فحيث انه لا دليل لفظي يعين ان زيدا يصدق عليه العالم او اللاعالم، يكون وجوب اكرامه مشكوكا، و متى شك في اصل التكليف فالمرجع البراءة عن وجوب اكرامه.

لا يقال: انه لا داعي الى البراءة فان استصحاب عدم وجوب اكرامه يغني عن البراءة، لأن الاستصحاب اذا جرى يغنى عن البراءة.

فانه يقال اولا: ان معنى هذا اسقاط اصل البراءة و حصرها في موارد عدم جريان الاستصحاب و هي نادرة، فان اغلب موارد البراءة تجري فيها اصالة العدم.

ثانيا: ان هذا الاصل ليس الّا الاصل العدمي الازلي و هو لا ينبغي تقدمه على البراءة لأن هذا الاستصحاب معناه البناء على عدم التكليف و الحكم اصلا في مرحلة الظاهر، و البراءة تدل على كون التكليف الظاهري و الحكم المجعول في الظاهر هو ارخاء العنان و الحلية، فالاستصحاب بالنسبة اليها كنسبه اللااقتضاء و الاقتضاء. هذا اذا ورد اكرم كل عالم في حال انقضاء العالمية.

و اما اذا ورد الايجاب في حال كون زيد متلبسا بالعالمية ثم بعد زالت عنه فالاستصحاب يقتضي وجوب اكرامه، لانه كان واجب الاكرام و الآن نشك في وجوب اكرامه فيستصحب وجوب اكرامه، لكنه انما يجري فيما اذا كان الشك في ناحية الشبهة الموضوعية لا في المقام فان الشك فيه من ناحية الشبهة الحكمية و لا يجري

ص: 207

لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الاحوال، و قد مرت الاشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده، و يأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، و هو اعتبار التلبس في الحال، وفاقا لمتأخري الاصحاب و الاشاعرة، و خلافا لمتقدميهم و المعتزلة (1)، و يدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ

______________________________

فيها الاستصحاب، لأن الموضوع للحكم بحسب نظر العرف هو عنوان العالم، لا زيد فالاستصحاب لا يجري للشك في الموضوع و سيأتي- إن شاء اللّه تعالى- تحقيقه في مبحث الاستصحاب.

(1) الاقوال المنقولة للمفصلين على ما حكى ستة اكثرها التفصيل من ناحية المبادئ.

- كمن فصل بين كون المبدأ متعديا فانه للاعم، و كونه لازما فهو لخصوص المتلبس المنسوب الى صاحب الفصول.

- و منهم من فصل بين كون المبدأ سيّالا فهو للاعم، كالمتكلم و المتحرك، و بين كونه غير سيّال، كالقائم و القاعد مثلا- فانه لخصوص المتلبس.

- و منها: التفصيل بين المبدأ الحدثي التجددي، و غيره.

- و منها: التفصيل بين كونه اكثريا، كالبقال و الصائغ و امثالهما من اهل الحرف، فإن اكثر أوقاتهم مشغولون بالمبدإ، و فيه يدعى الوضع للاعم و في غيره لخصوص المتلبس.

- و منها: التفصيل بين تلبس الذات بضد المبدأ فهو لخصوص المتلبس، و بين كونه غير متلبس بضده فهو للاعم.

و لا بد ان يكون مراد هذا القائل من الضد هو الضد الاصطلاحي: و هو الموجودان المتعاقبان على موضوع واحد و يكون بينهما غاية البعد، كالسواد و البياض، لوضوح ان الضد العام لا يعقل ان يخلو عنه المحل المنقضي عنه المبدأ، فان الانقضاء معناه صدق نقيض المبدأ و هو ضد عام. و هذه التفاصيل ترجع الى دعوى

ص: 208

في الحال، و صحة السلب مطلقا عما انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، و ذلك لوضوح أن مثل: القائم، و الضارب، و العالم، و ما يرادفها من سائر اللغات، لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ، و إن كان متلبسا بها قبل الجري و الانتساب، و يصح سلبها عنه (1)، كيف

______________________________

الاختلاف في المبادئ فانه في بعض المبادئ يكون الوصف المشتق منها للاعم، و في بعضها يكون لخصوص المتلبس.

- و سادس هذه التفاصيل: كون المشتق محكوما عليه فانه يكون للاعم، ك السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، و بين كونه محكوما به فهو لخصوص المتلبس، و هذا التفصيل يرجع الاختلاف فيه الى احوال المشتق من كونه محكوما عليه او محكوما به، و هو من اختلاف احوال المشتق لا لاختلاف في نفس مبدئه، كما فيما تقدم من التفصيلات.

و قد عرفت مما تقدم ان السبب في اكثر هذه التفصيلات الراجعة الى الاختلاف في المبادئ نشأ من الخلط بين كيفيات أخذ المبادئ، فان بعضها يؤخذ بنحو الحرفة، و اخرى بنحو الملكة، و ثالثة بنحو الشأنية و الاقتضاء، و سيأتي التعرض لبعض التفصيلات، و الجواب عنها.

و على كل حال فالاولى جعل المسألة ذات قولين، كما كانت كذلك عند المتقدمين ذات قولين، لأن هذه التفصيلات عند المتاخرين و ان المشتق هل هو حقيقة في خصوص المتلبس، او انه موضوع لما يعم المتلبس و المنقضى عنه.

و المختار للماتن و لجملة المحققين المتاخرين: هو الوضع لخصوص المتلبس، و ان حال المنقضى عنه المبدأ كحال من سيتلبس بالمبدإ، فان كان الجري فيه بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة، و ان كان الجري في الحال فهو مجاز في كليهما، و استدل عليه بادلة ثلاثة ياتي ذكرها.

(1)

تبادر التلبس

هذا الدليل الاول.

ص: 209

.....

______________________________

و حاصله: دعوى ان المتبادر من المشتق خصوص المتلبس بالمبدإ في حال تلبسه، فان المشتق موضوع للمتلبس بالمبدإ الطارد وجوده لعدمه، و انه موضوع لمفهوم ينحصر مطابقه في خصوص المتلبس، و ليس المنقضى عنه مطابقا له، لانه في حال الانقضاء ليس له مبدأ يطرد وجوده العدم.

الدليل الثاني: هو قوله: و صحة السلب مطلقا عما انقضى عنه، و قد احتمل ان يكون مراده من الاطلاق: هو الحمل الشائع و الحمل الاولى.

اما صحة السلب بالحمل الشائع عمن انقضى عنه المبدأ فكونه دليلا على عدم وضعه للاعم واضح، لانه لو كان المشتق موضوعا للاعم لما صح سلبه بالحمل الشائع عمن انقضى عنه، لأنه احد فرديه، و لا يصح سلب الحقيقة بالحمل عن افرادها، فاذا صح سلبه عنه فهو دليل على انه ليس من افراده.

صحة السلب عن المنقضي

و اما صحة السلب بالحمل الاولى عمن انقضى عنه المبدأ فلا تنفع مدعى الوضع لخصوص المتلبس، لانه بناء على انه موضوع لمفهوم عام يعم المنقضى عنه و المتلبس يصح سلبه بالحمل الاولى عن خصوص من انقضى عنه، فصحة السلب بالحمل الاولى عمن انقضى عنه لا تضر مدعي الوضع للاعم، بل لازم وضعه للاعم صحة سلبه بالحمل الاولى عمن انقضى عنه، فلا بد و ان يكون مراده ممن انقضى عنه: هو المعنى العام الصادق على من انقضى عنه، فانه اذا صح سلبه بالحمل الاولى عن المعنى الاعم لا يكون موضوعا له، فلا بد ان يكون الموضوع له خصوص المتلبس.

و يحتمل ان يكون مراده من الاطلاق: هو ما تقدم من التفصيلات: أي ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس و يصح سلبه عمن انقضى عنه، سواء كان متعديا او معنى سيّالا الى آخر التفصيلات.

و لا يخفى انه لا اختصاص للمشتق باللغة العربية و هو موجود في ساير اللغات، و لا شبهة في صحة سلب ما يرادف المشتق باللغة العربية في ساير اللغات عمن انقضى عنه المبدأ، و لا يصدق لفظ (زننده)- مثلا- على من انقضى عنه المبدأ.

ص: 210

و ما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الاذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التّضاد بين القاعد و القائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى (1).

و قد يقرر هذا وجها على حدة، و يقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الاعم، لما كان بينها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ و تلبس بالمبدإ الآخر (2).

______________________________

(1)

المضادة دليل الاشتراط

قد جعل اولا دليل التضاد الارتكازي بين بعض المشتقات كتتمة لصحة السلب.

بان يقال: ان المنقضي عنه القيام- مثلا- اذا لم يصح سلب القائم عنه لصدق عليه القائم في حال كونه قاعدا، و الحال ان القائم و القاعد متضادان بحسب الارتكاز العرفي، فكيف لا يصح سلب القائم عمن انقضى عنه القيام، و لو لم يصح السلب للزم اجتماع المتضادين بحسب الارتكاز العرفي في محل واحد، و الى هذا البيان بجعل التضاد الارتكازي متمّما لدليل صحة السلب اشار بقوله: «كيف و ما يضادها الى قوله كما لا يخفى».

(2) هذا هو الدليل الثالث للوضع لخصوص المتلبس بجعل التضاد دليلا بنفسه، لا متمما لدليل صحة السلب.

و حاصله: انه لا ريب في ان بعض مبادئ المشتقات متضادات، كالقيام و القعود، و السواد و البياض، و الارتكاز العرفي يقضي بان هذا التضاد الموجود في المبادئ موجود ايضا في الاوصاف المشتقات من هذه المبادئ، و لو كان المشتق موضوعا للاعم لما كان بين القائم و القاعد، و الاسود و الابيض تضاد، فان القائم لو كان يصدق حقيقة على من انقضى عنه القيام لكان بينه و بين القاعد تخالف في بعض مصاديقه، و كذلك الاسود فانه لو كان يصدق حقيقة على من انقضى عنه السواد

ص: 211

و لا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة من المعاصرين: من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها (1).

______________________________

لكان بينه و بين الابيض تخالف في بعض افراده، و لكنه من البين ان الاسود و الابيض، و القائم و القاعد من المتضادين بحسب الارتكاز العرفي بجميع ما لهما من الافراد و المصاديق فهذا التضاد دليل على وضعها لخصوص المتلبس، و الّا لكانا من المتخالفين في بعض مصاديقهما كالسواد و الحلاوة، لا من المتضادين كالسواد و البياض.

(1) لقد احتمل ان يكون مراد بعض الاجلة في ايراده على دليل التضاد يرجع الى مثل ما اورد على دليل جعل التبادر من علائم الحقيقة: بان يكون مراده: انه لا يمكن ان يكون التضاد الارتكازي دليلا على الوضع لخصوص المتلبس، فان جعله دليلا معناه ان العلم بالتضاد يدل على بالوضع لخصوص المتلبس، و يكون العلم بالوضع لخصوص المتلبس متوقفا على العلم بالتضاد، و توقف العلم بكل مدلول على العلم بدليله، مع ان العلم بالتضاد معلول للعلم بالوضع لخصوص المتلبس، فانه لو لم يعلم بانه موضوع لخصوص المتلبس لما حصل العلم بالتضاد، فنتيجة ذلك الدور، لأن العلم بالتضاد المتوقف عليه العلم بالوضع لخصوص المتلبس هو متوقف ايضا على العلم بالوضع لخصوص المتلبس، و ليس الدور الّا توقف الشي ء على ما يتوقف عليه.

و الجواب عنه: هو ما تقدم من الاجمال و التفصيل المذكور هناك في الجواب عن التبادر: بان نقول: العلم بالتضاد متوقف على العلم بالوضع الاجمالي الارتكازي، و المتوقف على العلم بالتضاد هو العلم التفصيلي: بان المشتق موضوع لخصوص المتلبس، فاختلف الموقوف و الموقوف عليه.

ص: 212

إن قلت: لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط (1).

______________________________

و يحتمل ان يكون مراد بعض الاجلة غير هذا فان هذا الاشكال و الجواب عنه من الشائعات التي يبعد ان تخفى، و ان مراده هو ان التضاد الذي جعل دليلا للوضع لخصوص المتلبس هو من المصادرات، و ان القائل بالوضع لخصوص المتلبس يرى التضاد، و اما من يقول بالوضع للاعم فلا يرى تضادا بين القائم و القاعد، و لا بين الاسود و الابيض.

و الجواب عنه: ان التضاد المدعى لنا ليس هو التضاد عندنا، بل عند العرف الذي لا يعرف من هذا النزاع شيئا أو عند كل احد حيث يرجع الى فطرته و ارتكازه، و انكار التضاد الارتكازي مكابرة لا مصادرة، فان العرف يرى ان بين المفهوم الموضوع له لفظ الاسود، و المفهوم الموضوع له لفظ الابيض تضادا، و ان احدهما لا يجتمع مع الآخر بجميع ما له من المعنى، و انكار هذا التضاد مما لا ينبغي ان يرتاب في بطلانه، و اذا ثبت التضاد فلازمه الوضع لخصوص المتلبس، و قد اشار الى الايراد بقوله: «من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط» و الى الجواب بقوله: «لما عرفت من ارتكازه بينها كما في مبادئها»: أي لا فرق في المرتكزات بين المبادئ و مشتقاتها من ثبوت التضاد فيهما معا و اذا ثبت التضاد بين المشتقات فليس ذلك الا للوضع لخصوص المتلبس.

(1) و حاصله: أن التضاد لا يثبت الوضع لخصوص المتلبس، لجواز ان يكون موضوعا للاعم، و لكن ينصرف منه عند اطلاقه خصوص المتلبس، فالتضاد بين المشتقات لانصرافها الى خصوص المتلبس، لا لأن المتلبس هو الموضوع له، فليس التلبس شرطا في ما هو الموضوع له، بل هو احد افراد الموضوع له ينصرف اليه عند الاطلاق، و هذا معنى قوله: «لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط» أي ان المتلبس هو المنصرف اليه، لا أن التلبس شرط في الموضوع له.

ص: 213

قلت: لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر (1).

إن قلت: على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الاغلب مجازا، و هذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع (2).

______________________________

(1) و حاصله: ان الانسباق من الاطلاق إنما يكون لاجل كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس في الحال، و هذا ممنوع، فان استعمال المشتق في موارد انقضاء المبدأ اذا لم يكن اكثر من استعماله في خصوص المتلبس في الحال فلا اقل من كون الاستعمال في موارد انقضاء المبدأ كثيرا ايضا. و اذا كان الاستعمال في الانقضاء كثيرا فلا وجه لدعوى الانسباق من الاطلاق حيث لا كثرة لخصوص المتلبس، فاذا كان انسباق لخصوص المتلبس فلا بد ان يكون ذلك للوضع، لا للانصراف.

(2) لما منع كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس، و ادعى كثرة الاستعمال في الانقضاء، او اكثريته من الاستعمال في المتلبس توجه عليه: ان قلت هذه.

و حاصله: انه اذا كان الاستعمال في موارد الانقضاء كثيرا او اكثر، و مع ذلك يدعى ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس، فلازم ذلك ان يكون الواضع لالفاظ المشتقات قد وضعها لمعنى حقيقي يقل استعمال اللفظ فيه بالنسبة الى استعمال اللفظ في المعنى المجازي، و لا داعي عقلائي للواضع ان يضع اللفظ وضعا حقيقيا لمعنى، و يكون محتاجا غالبا ان لم يكن في الاغلب لأن ينصب القرائن للدلالة على المجاز، فان هذا بعيد و لا يلائم كون الواضع حكيما، فان الحكمة تقتضي ان يضع اللفظ لما لا يحتاج معه الى نصب القرائن للدلالة على المجازية، و وضع المشتق للاعم يرفع عنه كلفة نصب القرائن، فالوضع للاعم هو المناسب لحكمة الوضع، لان الاستعمال في موارد الانقضاء يكون حقيقيا لا مجازيا، اذ استعمال اللفظ الموضوع لمعنى عام في احد مصاديقه بما هو مصداقه، لا له بخصوصياته ليس من الاستعمال المجازي.

ص: 214

لا يقال: كيف؟ و قد قيل: بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك لو سلم، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد (1).

______________________________

(1) اورد هذا المعترض على نفسه: بأن ما تدعيه- من كون الحكمة تقتضي توسعة المعنى الموضوع له تقليلا للمجاز- ينافي ما هو المعروف من ان اكثر المحاورات مجازات.

و لو كانت المجازية منافية لحكمة الوضع لما كانت المحاورات المجازية اكثر من المحاورات الحقيقية، فان معنى كثرة المحاورات المجازية هو كثرة الاستعمال المجازي، فلا بد حينئذ ان لا تكون كثرة الاستعمال المجازي منافية لحكمة الوضع فاجاب عن ذلك بقوله:

«فان ذلك لو سلم ... الخ». و قد اجاب بجوابين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «لو سلم» و حاصله: انه لا نسلم هذا المعروف، بل نقول: ان الاستعمالات الحقيقية و المحاورات المبنيّة على استعمال اللفظ فيما وضع له اكثر من الاستعمالات المجازية.

و الثاني: انّا نسلم هذا المعروف، و لكن نقول: ان معنى قولهم اكثر المحاورات مجازات انما هو لأن المعاني المجازية متعددة، فان لفظ الاسد الموضوع للحيوان المفترس له مناسبات كثيرة: الرجل الشجاع، و الرجل الاغر، و الرجل الكريه المنظر، و الرجل الشرس الاخلاق، و غيرها فان مجموع هذه المجازات اكثر استعمالا من الاستعمال الحقيقي، لا ان كل واحد من المجازات اكثر من المعنى الحقيقي، فالمجازات باعتبار تعددها تكون اكثر، لا كل واحد منها يكون اكثر.

و المنافي لحكمة الوضع هو ان يكون كل واحد من المجازات استعمال اللفظ فيه اكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي و الى هذا اشار بقوله: «لو سلم فانما هو»:

أي لو سلم كثرة المحاورات المجازية فان هذه الكثرة انما هي لاجل تعدد المعاني المجازية، فهي بمجموعها اكثر من المعنى الحقيقي الواحد، لا كل واحد منها اكثر من المعنى الحقيقي.

ص: 215

نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك (1)؟

______________________________

(1) حاصله: ان المعنى المجازي تارة يكون بحسب طبيعته اكثر وجودا من المعنى الحقيقي، و اخرى لا يكون كذلك، بل اتفق انه عرضت حاجة غير متصورة للواضع حين الوضع اوجبت تلك كثرة الاستعمال، فان مثل هذه الكثرة لا تنافي حكمة الوضع، لان المعنى المجازي بحسب طبيعة وجوده هو اقل من المعنى الحقيقي، لكنه من باب الصدفة ان الحاجة اليه هي التي اوجبت كثرة الاستعمال فيه، فمثل هذا لا ينافي حكمة الوضع.

اما اذا كان المعنى المجازي بحسب طبيعة وجوده اكثر من وجود المعنى الحقيقي فالوضع لما هو قليل ينافي الحكمة، كما في مقامنا فان ازمنة الانقضاء اكثر وجودا من زمان حال التلبس فطبيعي وجود هذا المعنى المجازي دائما اكثر من المعنى الحقيقي، فوضع اللفظ لخصوص المتلبس الذي هو قليل بالنسبة الى موارد الانقضاء ينافي حكمة الوضع و هذا مراده من قوله: «نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة الى معنى مجازي لكثرة الحاجة اليه» لا لان طبيعي وجوده اكثر.

لكن اين هذا مما اذا كان دائما كذلك؟ فان مقامنا دائما يكون وجود طبيعي المعنى المجازي فيه اكثر من وجود المعنى الحقيقي، لما عرفت: من ان ازمنة الانقضاء اكثر.

ص: 216

فافهم (1).

قلت: مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمكان من الامكان، فيراد من جاء الضارب أو الشارب و قد انقضى عنه الضرب و الشرب جاء الذي كان ضاربا و شاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدإ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، و جعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه، ضرورة أنه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين (2).

______________________________

(1) ربما يكون اشارة الى ان كون وجود طبيعي المعنى المجازي اكثر لا يلازم كثرة الاستعمال، و المدار في حكمة الواضع ان يضع لما هو اكثر استعمالا: بان تكون الحاجة الى الاستعمال فيه اكثر.

(2) اجاب عن اشكال ان قلت بجوابين:

الاول: ان مجرد الاستبعاد لا يقاوم الادلة المتقدمة الموجبة للقطع بالوضع لخصوص المتلبس، و ان كون الواضع حكيما لعله مبني على ان الواضع هو غير العرب في اللغة العربية، كما يدعى بعضهم: ان واضع اللغات هو اللّه تبارك و تعالى، او الانبياء من طريق الوحي، أو الالهام، و ربما يقال: ان هذه مجرد دعوى لم يقم عليها برهان، بل الوجدان شاهد: بان منافي الحكمة في الاوضاع اللغوية من اللغة العربية و غيرها مما لا ينكر.

و على فرض الالتزام بحكمة الواضع مطلقا حتى على فرض كونه من العرب، فلعله لم يكن ملتفتا الى ان هذا المعنى المجازي الحاجة الى الاستعمال فيه اكثر من المعنى الحقيقي.

ص: 217

.....

______________________________

الثاني: ان استعمال المشتق فيما انقضى عنه و ان كان اكثر من استعماله في المتلبس في حال النطق، إلّا ان الاستعمال في حال الانقضاء لا يلازم كون الاستعمال مجازا، لأنه اذا كان الاستعمال فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال تلبسه بالمبدإ لا يكون الاستعمال مجازيا: بان يراد من جاء الضارب في حال انقضاء الضرب عنه انه جاء الذي كان ضاربا، لا ان يراد منه انه ضارب الآن لتحقق الضرب منه فيما مضى، فانه باللحاظ الاول: و هو لحاظ حال التلبس و الجري باعتباره، و اذا كان الجري بلحاظ حال التلبس يكون استعمالا حقيقيا، لانه استعمال للمشتق في المتلبس بلحاظ حال تلبسه.

نعم، اذا كان الاستعمال باللحاظ الثاني: و هو كونه ضاربا الآن لتحقق الضرب منه في ما مضى يكون الاستعمال مجازيا. و ما ذكرناه من الامرين هو مراده بقوله:

«ان ذلك»: أي الاستعمال في حال الانقضاء لا ينحصر في الاستعمال المجازي حتى يكون اكثر من استعمال المشتق في المتلبس و «انما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس» فانه اذا كان بلحاظ حال التلبس لا يكون الاستعمال مجازيا «مع انه بمكان من الامكان»: أي الاستعمال بلحاظ حال التلبس و على هذا يكون الاستعمال و ان كان في حال الانقضاء الّا انه حقيقي، لانه بلحاظ حال التلبس. نعم اذا كان الاستعمال باللحاظ الثاني: و هو كونه ضاربا الآن لتحقق الضرب منه فيما مضى يكون الاستعمال في حال الانقضاء مجازيا و الى هذا اشار بقوله: «لا حينه بعد الانقضاء» بان يكون المراد انه ضارب الآن لتحقق الضرب منه فيما مضى «كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال» أي بان يقصد انه ضارب الآن و يراد «جعله» فعلا «معنونا بهذا العنوان» أي بعنوان الضارب «فعلا بمجرد تلبسه» بالضرب «قبل مجيئه» فانه لو كان كذلك لكان الاستعمال مجازيا، بناء على ما هو الصحيح من كونه موضوعا لخصوص المتلبس.

ص: 218

و بالجملة: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الاطلاق، إذ مع عموم المعنى و قابلية كونه حقيقة في المورد- و لو بالانطباق- لا وجه لملاحظة حال أخرى، كما لا يخفى، بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإن استعماله- حينئذ- مجازا بلحاظ حال الانقضاء و إن كان ممكنا، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الامكان، فلا وجه لاستعماله و جريه على الذات مجازا و بالعناية و ملاحظة العلاقة (1)، و هذا غير استعمال اللفظ

______________________________

نعم، لو كان المشتق موضوعا للاعم لصح استعماله في حال الانقضاء حقيقة من دون لحاظ حال التلبس، لانه يكون له فردان: المتلبس في الحال، و المنقضى عنه.

و هذا مراده من قوله: «ضرورة انه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين» و يحتمل ان يكون مراده انه في حال الانقضاء بناء على الاعم يصح استعماله بلحاظ حال التلبس، و يصح استعماله بلحاظ حال الانقضاء ايضا، و العبارة قابلة للانطباق على كلا الامرين.

فتلخص مما ذكرناه: ان الاستعمال في حال الانقضاء و ان كان اكثر من الاستعمال في المتلبس في حال تلبسه الّا انه لا يلزم ان يكون الاستعمال مجازيا، فيكون المجاز اكثر من الحقيقة فينافي حكمة الوضع.

(1) لا يخفى انه لما نفى كثرة المجاز في حال الانقضاء، و ان الاستعمال يكون حقيقيا بلحاظ حال التلبس، و ان كان الاستعمال في حال الانقضاء، كأنه استشعر بورود توهم: و هو رجوع الايراد الاول: و هو احتمال كون ارتكاز التضاد للانسباق من الاطلاق فانه يكون المشتق اكثر استعمالاته في المتلبس- اراد رفع هذا الاحتمال بقوله:

«و بالجملة ... الخ».

ص: 219

.....

______________________________

و حاصله: انه لا اشكال في استعمال المشتق في حال انقضاء المبدأ عنه اكثر من استعماله في حال كونه متلبسا، فاذا كان موضوعا للاعم لا ينبغي ان يلاحظ فيه حال التلبس، لان ملاحظة حال التلبس في حال الانقضاء انما هو للفرار من الاستعمال المجازي و اذا كان المنقضى عنه المبدأ مع انقضائه عنه فردا من افراد ما هو الموضوع له و لو بالانطباق فلا داعي لملاحظة حال التلبس في حال الانقضاء، فان المنقضى عنه فرد من افراد المعنى الحقيقي، فمع كون المنقضى عنه فردا له لا داعي لملاحظة حالة اخرى و هي لحاظ حال التلبس، و انما يلحظ حال التلبس في مورد الانقضاء حيث يكون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس، لا للاعم فيلحظ حال التلبس فرارا من الاستعمال المجازي.

فاذا كثرة الاستعمال في المتلبس و لو في حال الانقضاء دليل على كونه موضوعا لخصوص المتلبس، و الّا لما كان هناك داع لملاحظة حال التلبس، فملاحظة حال التلبس- مع انه لا داعي له بناء على الوضع للاعم- دليل على ان الموضوع له هو خصوص المتلبس و الّا لما كان الاستعمال في خصوص المتلبس اكثر.

و الحاصل: انه لو كان موضوعا للاعم لما كثر استعماله في خصوص المتلبس، لأن المنقضي عنه المبدأ أحد فردي المعنى العام فيصح استعماله فيه بنحو الانطباق على احد فردي المعنى الحقيقي، فلا وجه لملاحظة الفرد الآخر و هو المتلبس. فبعد تسليم كثرة الاستعمال في المتلبس في حال الانقضاء لا وجه لدعوى الوضع للاعم، و ان السبب في ارتكاز التضاد هو كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس، لانه لو كان موضوعا للاعم لما كثر الاستعمال في المتلبس، اذ لا داعي له- حينئذ- بعد إمكان كون الاستعمال حقيقة في المنقضى عنه المبدأ مع لحاظ حال الانقضاء. و هذا بخلاف ما اذا كان موضوعا للمتلبس، فان السبب في الاستعمال في المتلبس و ملاحظة حال المتلبس في حال انقضاء المبدأ انما هو للفرار عن الاستعمال المجازي فان الاستعمال في المنقضى عنه من دون لحاظ حال التلبس يكون مجازا، فيكثر الاستعمال في المتلبس

ص: 220

فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة، كما لا يخفى (1) فافهم (2).

______________________________

للمحافظة على الحقيقة، فيلحظ حال التلبس للفرار من المجاز و ملاحظة العلاقات المجازية.

(1) أي انه فرق بين استعمال لفظ الاسد- مثلا- في الرجل الشجاع، و مقامنا فانه اذا استعمل الاسد في الرجل الشجاع لا يعقل الّا ان يكون بنحو المجاز و ملاحظة العلاقة، بخلاف مقامنا فانه بناء على الوضع لخصوص المتلبس فاذا استعمل في حال انقضاء المبدأ فانه يمكن ان يكون الاستعمال مجازيا لعلاقة التلبس و الجري بالفعل، و يمكن ان يكون الاستعمال حقيقيا: بان يكون مستعملا في خصوص المتلبس و الجري بلحاظ حال التلبس.

(2) لعله اشارة الى انه لا يتوهم انه من التمسك باصالة الحقيقة في مقام الشك، و دوران الامر بين المجاز و الحقيقة، فان التمسك بها انما هو في مقام الشك في المراد لا في الاستعمال، و المشكوك في المقام هو الاستعمال، و اما المراد و هو اطلاق اللفظ على ما انقضى عنه المبدأ فلا شك فيه، بل الفرض انه بعد اعتراف مدعي الوضع للاعم ان استعمال المشتق في خصوص المتلبس في حال انقضاء المبدأ عنه يقع كثيرا، و انه هو الداعي في ارتكاز المضادة ذكرنا له السبب في الاستعمال في خصوص المتلبس في حال الانقضاء، و ان الداعي لهم الى ذلك هو انه لا داعي الى تحمل المجاز و لحاظ العلاقة بعد امكان الاستعمال الحقيقي، فهذا هو المقتضي لهم لارادة خصوص المتلبس، و هذا الامر انما يدعو الى ذلك للابتعاد عن تكلف المجازية.

اما لو كان الموضوع له هو الاعم لما كان استعمال المشتق في خصوص المتلبس كثيرا، اذ لا داعي له بعد ان كان المنقضي عنه المبدأ من افراد المعنى الحقيقي.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 1 ؛ ص222

ص: 221


1- 30. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

ثم إنه ربما أورد على الاستدلال بصحة السلب، بما حاصله: إنه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقا، فغير سديد، و إن أريد مقيدا، فغير مفيد، لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق (1).

و فيه: إنه إن أريد بالتقييد، تقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق كما هو واضح فصحة سلبه و إن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه، إلا أن تقييده ممنوع، و إن أريد تقييد السلب، فغير ضائر بكونها علامة، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان منع تقييده أيضا، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جدا (2).

______________________________

(1)

اشكال على صحة السلب

حاصل الايراد على صحة السلب: ان مدعي الوضع للاعم يدعى: ان المشتق موضوع لمعنى مطلق له افراد، و من الواضح ان سلب الموضوع لمعنى عام، مطلق عن شي ء خاص لا يدل على انه ليس بموضوع لمعنى عام، مثلا لو ادعى مدع: ان الاسد موضوع لما يعم الحيوان المفترس، و الرجل الشجاع فسلبه عن زيد لا يدل على انه لا يصدق على عمرو، فلذلك ردد المورد في ايراده: ان الضارب مثلا- ان اريد سلبه مطلقا عن المتلبس و المنقضي عنه فالقضية كاذبة، و الذي هو علامة المجازية هو القضية الصادقة لا الكاذبة، و هو المراد بقوله: «فغير سديد و ان اريد» سلبه مقيدا بشي ء فلا يكون علامة على المجازية، لان سلب العام عن خاص لا يستلزم عدم وضعه للمعنى العام، فلا يكون علامة للمجاز، بل العلامة للمجاز هو السلب المطلق غير المقيد- مثلا- اذا صح سلب الاسد بما له من المعنى مطلقا و غير مقيد بقيد عن جميع افراد الانسان دل هذا السلب على ان استعمال الاسد في افراد الانسان مجاز لا حقيقة.

(2) ينبغي ان يجاب عن هذا الاشكال بترديده بين امور ليتضح المطلب.

ص: 222

.....

______________________________

فنقول: المراد من صحة السلب التي يراد بها في المقام نفي وضع المشتق للمعنى الاعم من المتلبس و المنقضى عنه: هي صحة السلب بالحمل الشائع، لا بالحمل الاولى، لأن الموضوع للمعنى العام يصح سلبه عن أي فرد من افراده بالحمل الاولى، فانه يصح ان نقول: ان مفهوم الانسان ليس هو مفهوم زيد، و لا عمرو، و انما لا يصح سلبه عن ماهية الحيوان الناطق. فالغرض في المقام هو صحة السلب بالحمل الشائع، فان المشتق لو كان موضوعا للاعم يكون له فردان المتلبس و المنقضى عنه، و لا ريب انه لا بد من صحة حمله على فرديه، لوضوح صحة حمل العام على الخاص بالحمل الشائع، فاذا صح سلبه عن احد فرديه فلا بد و ان لا يكون موضوعا لمعنى يشمل هذا الفرد. اذا عرفت هذا فنقول: ان حال الانقضاء اما ان يجعل قيدا للسلب بمعنى ان يتسلط السلب على حال الانقضاء لا على زيد و لا على الضارب:

بان نقول هكذا: ليس في حال الانقضاء زيد بضارب. و على هذا فحال الانقضاء ليس قيدا لزيد الذي هو المسلوب عنه، و ليس بقيد الضارب الذي هو المسلوب. فاذا صح هذا السلب اتضح: ان الضارب لم يوضع لمعنى يعم زيد في حال انقضاء الضرب، و الّا لما صح ان نقول: ليس في حال الانقضاء زيد ضاربا.

و اما ان يجعل حال الانقضاء قيدا للمسلوب عنه: بان نقول: زيد المنقضي عنه الضرب ليس بضارب حال الانقضاء، و هذا ايضا علامة للمجازية و أنّ الضارب لم يوضع لمعنى يعم زيد المنقضى عنه الضرب و الّا لما صح سلبه عنه بالحمل الشائع، لوضوح عدم صحة سلب المعنى عن احد افراده.

و اما ان يجعل حال الانقضاء قيدا للمسلوب: بان نقول: زيد ليس بضارب حال الانقضاء، و هذا ايضا علامة للمجازية، لان الضارب لو كان موضوعا للاعم، لما صح سلب الضارب المقيد بحال الانقضاء عن زيد الذي تلبس بالضرب فيما مضى، فان العام اذا قيد بما يوجب اختصاصه باحد افراده لا يصح سلبه عن ذلك الفرد الذي خصص به.

ص: 223

.....

______________________________

فاتضح من هذا: ان حال الانقضاء باي نحو مما ذكرنا اذا جعل قيدا كان علامة المجازية.

نعم، لو قيل هكذا: زيد ليس بضارب في حال الانقضاء بضرب اليوم لم يكن هذا علامة المجازية الّا ان هذا لا ينفع المدعي، لان في المثال تسلطا على سلب مادة ضارب، لا على هيئته، لوضوح انه لو كان موضوعا للمعنى الاعم فانه لا بد و ان يصدق على زيد المنقضى عنه الضرب انه ضارب، و ان لم يكن ضاربا بضرب اليوم، بل بناء على الأعمّ يصح ان يقال: زيد المنقضى عنه الضرب ضارب، و ليس بضارب بضرب اليوم، و لعل هذا مراد المصنف من قوله: «فصحة سلبه و ان لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه الّا ان تقييده ممنوع» أي تقييد المسلوب الذي هو مادة الضرب، لا هيئة الضارب، إلّا ان النزاع في هيئة الضارب، لا في مادته و هو الضرب، لانه من الواضح انه حال انقضاء الضرب لا ضرب، و قد اشار الى تقييد السلب بقوله: «و ان اريد تقييد السلب» أي ان حال الانقضاء يجعل قيدا للسلب، لا للمسلوب، و لا للمسلوب عنه، كما تقدم بيانه، و اشار الى تقييد المسلوب عنه و انه مع تقييده بحال الانقضاء يكون علامة للمجازية بقوله: «مع امكان منع تقييده ايضا» أي منع تقييد المسلوب و يكون التقييد للمسلوب عنه «بان يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق» أي المسلوب عنه الى آخر ما قال قدّس سرّه.

و اما قول الخصم: بان سلب الخاص عن عام لا ينافي وضعه للعموم فهو صحيح في غير المقام، و اما في المقام فسلبه عن هذا الفرد علامة عدم وضعه للعموم.

بيان ذلك: انه اذا احتمل ان للعام افرادا و صح سلبه عن بعض الافراد المحتملة، فان صحة هذا السلب لا يدل على انه ليس بموضوع للعموم، مثلا اذا احتملنا ان لفظ الدابة موضوع لما يعم من يدب على وجه الارض، فصحة سلبه عن الانسان- مثلا- لا ينافي ان يكون لفظ الدابة موضوعا لمعنى عام يشمل ساير افراد

ص: 224

ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ، بين كون المشتق لازما و كونه متعديا، لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب، و كان متلبسا به سابقا، و أما إطلاقه عليه في الحال، فان كان بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، و إن كان بلحاظ الحال، فهو و إن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون الاستعمال أعم منها كما لا يخفى، كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه، بين تلبسه بضد المبدأ و عدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس- أيضا- و إن كان معه أوضح.

و مما ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل (1).

______________________________

الحيوان عدا الانسان. و اما في المقام فان المفروض انه ليس لنا الّا فردان: المتلبس، و المنقضى عنه، فمعنى دعوى الوضع للعموم انه يشمل الفردين، و معنى وضعه للخاص انه لا يشمل غير المتلبس، فاذا صح سلبه عن المنقضى عنه دل هذا السلب على اختصاصه بخصوص المتلبس.

نعم، لو كان للمنقضى عنه فردان فصحة سلبه عن فرد لا يدل على عدم وضعه للعموم، إلّا انه ليس كذلك فانه ليس للمنقضى عنه الّا فرد واحد: و هو المنقضى عنه، فصحة سلبه عنه دليل على انه لا يشمل المنقضى عنه.

(1) الاقوال في المشتق ثلاثة:

- وضعه لخصوص المتلبس مطلقا.

- و وضعه للاعم مطلقا.

- و التفصيل فيه و اختلف القائلون بالتفصيل على انحاء ذكر المصنف تفصيلين منها:

ص: 225

.....

______________________________

الاول: هو الفرق بين كون المشتق متعديا و لازما، و ان المتعدي موضوع للاعم، و اللازم موضوع لخصوص المتلبس. و اظن ان سبب هذا التفصيل هو ما سيأتي الاشارة اليه في استدلال القول بالوضع للاعم: من صدق المقتول و المضروب على ما انقضى عنه المبدأ، و لا فرق بين اسم المفعول و اسم الفاعل. و هذان المثالان من المتعدي، فلذا قال هذا القائل: بوضعه فيه للاعم، و حيث انه يرى ان الذاهب و الماشي- مثلا- اللذين هما من اللازم لا يصدقان على الراجع و الواقف الذي كان ذاهبا و ماشيا، لذا قال بهذا التفصيل.

و الجواب عنه: اما عن المقتول و المضروب فسيأتي بيانه- إن شاء اللّه- و اما ساير المشتقات المتعدية فليس كذلك، لصحة سلبها عن ما انقضى عنه حال التلبس، فان الضارب في حال عدم تلبسه بالضرب يصح سلب الضارب عنه، و ان كان سابقا قد تلبس بالضرب، فانه يصح ان يقال: زيد ليس بضارب فعلا، و قد كان ضاربا بالامس. و لو كان موضوعا للاعم لما صح هذا السلب، و الى هذا اشار بقوله:

«لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب ... الى آخره».

نعم، يصح اطلاق الضارب على من انقضى عنه الضرب بنحوين: تارة بنحو الحقيقة، و لكنه لا بد و ان يكون المراد اطلاقه عليه بلحاظ حال التلبس، فيراد من اطلاق الضارب عليه انه كان ضاربا، و قد عرفت ان الاطلاق في حال الانقضاء بلحاظ حال التلبس من الاستعمال الحقيقي، إلّا انه لا يفيد الخصم.

و اخرى يصح استعمال الضارب فيمن انقضى عنه الضرب لا بلحاظ حال التلبس و هذا الاستعمال من الاستعمال المجازي و هو صحيح و ما اكثر المجاز، فصحة الاستعمال ليست من علائم الحقيقة، لأن الاستعمال اعم من الحقيقة و المجاز، فلا ينفع الخصم ايضا، فان النافع له هو صحة اطلاقه على المنقضى عنه بنحو الحقيقة، و قد عرفت انه لا يصح اطلاقه عليه كذلك في حال الانقضاء، بل يصح سلبه عنه، و صحة السلب لا يعقل ان تجامع صحة الاطلاق بنحو الحقيقة و الى هذا اشار بقوله:

ص: 226

حجة القول بعدم الاشتراط وجوه:

الاول: التبادر، و قد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس (1).

الثاني: عدم صحة السلب في مضروب و مقتول، عمن انقضى عنه المبدأ.

و فيه: إن عدم صحته في مثلهما، إنما هو لاجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال، و لو مجازا.

و قد انقدح من بعض المقدمات أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل البحث و الكلام و مورد النقض و الابرام، اختلاف ما يراد من المبدأ

______________________________

«و اما اطلاقه عليه في الحال فان كان بلحاظ حال التلبس فلا اشكال ... الى آخره».

و التفصيل الثاني: هو بين كون المحمول عليه المشتق متلبسا فعلا بضد المبدأ الذي كان متلبسا به، كالواقف الذي كان متحركا، و الاسود الذي كان أبيض، فانه في امثال ذلك المشتق يختص بخصوص المتلبس، و اما فيما اذا لم يكن متلبسا بضد المبدأ الذي كان متلبسا به، كالمعطي الذي اعطى في الماضي و لم يكن فعلا متلبسا بالمنع الذي هو ضد الاعطاء فانه موضوع للاعم.

و الجواب عنه: ما عرفت من صحة السلب فعلا عمن كان معطيا و لم يكن متلبسا بالعطاء فعلا، لصحة قولنا: انه كان معطيا، و اما بالفعل فليس بمعط. نعم في حال تلبسه بضد العطاء: و هو المنع يكون صحة السلب عنه اوضح، و الى هذا اشار بقوله: «كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه بين تلبسه بضد المبدأ» الى آخر كلامه.

(1)

ادلة كون المشتق حقيقة في المنقضي

استدل القائل بالاعم بالتبادر، و لا يخفى ان دعوى التبادر في جميع المشتقات و انها موضوعة للاعم لا يخلو عن عجب، لضرورة عدم صدق النائم و الآكل فعلا على المستيقظ الذي كان نائما، و على الصائم الذي كان آكلا، و قد عرفت ان مطابق المشتق هو المتلبس بالمبدإ حتى في مثل القاتل و الضارب و المعطي.

ص: 227

في كونه حقيقة أو مجازا، و أما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات، مما صدر عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس و الوقوع- كما عرفت- لا بلحاظ الحال أيضا، لوضوح صحة أن يقال:

إنه ليس بمضروب الآن بل كان (1)

______________________________

(1) و حاصل هذا الدليل هو عدم صحة السلب عمن قتل، فانه في حال انقضاء القتل لا يصح ان يقال: انه ليس بمقتول، و كذلك من ضرب في الزمن السابق في حال عدم الضرب لا يصح ان يقال: انه ليس بمضروب، و عدم صحة السلب عن المنقضى عنه المبدأ بالحمل الشائع دليل على انه من مصاديقه، فلا بد و ان يكون موضوعا للاعم من المتلبس حتى يكون المنقضى عنه احد المصداقين له، فاذا لم يصح سلبه عنه فلا بد و ان يصح حمله عليه.

فحاصل الدليل: ان المقتول و المضروب يصح حملهما على ما انقضى عنه المبدأ، و صحة الحمل دليل على انه من افراده، و الّا لما صح الحمل و لصح السلب، و قد عرفت انه لا يصح السلب و يصح الحمل.

و لا يخفى ان هذا انما يكون دليلا للمدعى بامور:

الاول: ان الحمل لا يكون بلحاظ حال التلبس فانه لو كان بلحاظه لما دل على ان المنقضى فرد له.

الثاني: ان يكون المراد ان المنقضى عنه مع الالتفات الى تقييده بحال الانقضاء هو مطابق و مصداق للمثالين.

الثالث: ان يكون المراد من القتل الذي هو المبدأ هو ازهاق الروح بتأثير مؤثر، لا عدم الروح بتأثير مؤثر، فانه لو كان المراد من القتل- مثلا- هو عدم الروح الحاصل بالتأثير في قبال الموت الذي يراد منه نفس عدم الروح لا ينفع المدعى لان عدم الروح ليس له انقضاء، بل هو دائم التلبس، فان المقتول بهذا المعنى متلبس بالمبدإ دائما، و ليس له حالة انقضاء، و انما يكون له حالتان التلبس و الانقضاء فيما

ص: 228

.....

______________________________

اذا كان المراد من القتل هو ازهاق الروح بالتأثير، فانه يكون له زمان الازهاق، و زمان انقضاء الازهاق.

فاذا سلمت هذه المقدمات يكون هذا دليلا للمدعى الوضع للاعم.

و فيه: ان هذا لو تم لدل على كون المقتول يراد منه الاعم لا جميع المشتقات، لوضوح عدم صدق المحموم و المعزول- مثلا- على من فارقته الحمى، و من رجع إلى منصبه، فلا يمكن دعوى الوضع للعموم في ساير المشتقات التي لا ينكر صحة سلبها، و عدم صحة حملها، فان من فارقته الحمى لا يصح ان يقال: انه محموم، و يصح ان يقال: انه ليس بمحموم، و كذلك من رجع إلى منصبه بعد العزل لا يصح ان يقال:

انه بالفعل معزول، بل يصح ان يقال- فعلا- ليس بمعزول.

و عدول القوم عن التمثيل بالقاتل و الضارب دليل على ان الصدق ليس بواضح عندهم في اسم الفاعل، فاذا لم يكن واضحا في اسم الفاعل من هذه المادة فكيف يصح ان يدعى الوضع للعموم في ساير المشتقات من غير هذه المادة التي قد عرفت وضوح صحة سلبها عن المنقضى، هذا اولا.

و ثانيا: ان صحة الحمل و عدم صحة السلب في المثالين انما هو لاجل انه اريد من المبدأ هو عدم الروح عن تأثير لا ازهاق الروح، و لذلك لو جعل بدل القتل ازهاق الروح فانه لا يصح حمله فعلا، بل يصح سلبه، لانه يصح ان يقال: هذا المقتول ليس بمتلبس بازهاق الروح بالفعل بل كان متلبسا بها، و قد اشار الى هذا بقوله:

«و فيه ان عدم صحته في مثلهما» أي في مثل المقتول و المضروب «انما هو لاجل انه اريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال» بان يراد من المقتول عدم الروح بالتأثير، و من الضرب من وقع عليه ضرب، لا من هو متأثر بالضرب بالفعل «و لو مجازا» لأن القتل الذي هو المبدأ موضوع في الظاهر للازهاق و كذلك الضرب فانه موضوع لنفس الحث المتأثر به المضروب بالفعل «و قد انقدح من بعض المقدمات انه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل البحث و الكلام و مورد النقض و الابرام

ص: 229

.....

______________________________

اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا» كما تقدم في المقدمة الرابعة: ان النزاع في المقام في هيئة المشتق، و انها هل هي موضوعة لخصوص المتلبس، او للاعم منه و من المنقضى؟

و اما المادة فمختلفة فتارة يراد منها الملكة، و اخرى يراد منها الحرفة و الصناعة، و ثالثة يراد من المبدأ معنى مجازيا مثلا- لا معناه الحقيقي، كما في المقام فانه اريد من القتل عدم الروح عن تأثير، لا ازهاقها فلا يكون لها حالة انقضاء، بخلاف الازهاق فان له حالة انقضاء، و لذا لو اريد الازهاق يصح ان يقال: هذا ليس بمقتول بالفعل، و ليس بمضروب بالفعل، بل كان مقتولا و كان مضروبا، و لذا قال قدّس سرّه: «و اما لو اريد منه نفس ما وقع على الذات مما صدر عن الفاعل» و هو الازهاق- مثلا- الحاصل من القاتل، و نفس الحدث الفعلي الحاصل من الضارب فانه على هذا يصح سلبه عن المنقضى عنه، و لا يصح حمله عليه في حال الانقضاء.

نعم، لو اريد من الحمل و عدم صحة السلب لحاظ حال التلبس: أي ان يراد من قولك: مقتول و مضروب انه كان مقتولا و مضروبا فيكون الحمل بلحاظ حال التلبس، و كذا عدم صحة السلب فانه لا يصح ان يقال: انه لم يكن مقتولا و لا مضروبا في الزمن السابق، و قد عرفت ان النزاع ليس بلحاظ حال التلبس، و انما النزاع في حملها على المنقضى عنه بالفعل باعتبار كونها فردا له حقيقيا بالفعل في حال انقضاء التلبس، فاذا اريد من القتل نفس الازهاق، و ان الحمل ليس بلحاظ حال التلبس فلا يصح الحمل، بل يصح ان يقال: ليس هذا بمقتول بالفعل، و لا بمضروب بالفعل و لذا قال قدّس سرّه: «فانما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس و الوقوع كما عرفت لا بلحاظ الحال ايضا لوضوح صحة ان يقال انه ليس بمضروب الآن، بل كان» أي لو اريد في مقام الحمل عدم لحاظ حال التلبس، و اريد من المبدأ في القتل نفس الازهاق و نفس الحدث الحاصل من الضارب فانه لا يصح

ص: 230

الثالث: استدلال الامام عليه السّلام تأسيا بالنبي صلوات اللّه عليه كما عن غير واحد من الاخبار بقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الامامة و الخلافة، تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة، و من الواضح توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للاعم، و إلا لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم و عبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة (1).

______________________________

الحمل و يصح السلب، فيصح ان يقال: انه ليس بمقتول الآن بالفعل، و ليس بمضروب الآن بالفعل، بل كان مقتولا و كان مضروبا.

(1) و توضيح الاستدلال بهذه الآية على الاعم يتم باشياء:

الاول: هذه الآية ذكرها الأئمة مستدلين بها على الامامة، و لا يخفى ان استدلال الأئمة بها لا بد و ان يكون بما لها من الظهور، اذ لو كان الاستدلال بغير ظهورها، بل كان بنحو التأويل من باب ان للقرآن بطونا و تأويلات لما كان مقنعا في مقام الخصومة مع منكري الامامة اذ للخصم ان ينكر ما هو خلاف الظهور.

الثاني: ان الاستدلال من الائمة عليهم السّلام لم يكن على الوجه الذي يرونه في مغتصبي منصب الخلافة، و انهم بالفعل متلبسون بالظلم الذي هو الكفر، بل الاستدلال كان مبنيا على ان المتولين لمنصب الخلافة كانوا مسلمين في ذلك الوقت، و ليسوا بكافرين.

الثالث: ان الاستدلال لا بد و ان يكون بالفاظ الآية المستعملة في معانيها بنحو الحقيقة اذ المجاز يحتاج الى قرينة، و لم يكن هناك قرينة تدل على ان الظالمين مستعمل فيمن انقضى عنه الظلم بنحو المجازية.

فاذا تمت هذه المقدمات اتضح: ان المشتق موضوع للاعم ممن انقضى عنه الظلم بنحو المجازية فاذا تمت هذه المقدمات اتضح ان المشتق موضوع للاعم ممن انقضى عنه المبدأ و المتلبس، لان معنى الآية: ان الظالمين: أي الذين ظلموا سلطان اللّه و سجدوا

ص: 231

و الجواب: منع التوقف على ذلك، بل يتم الاستدلال و لو كان موضوعا لخصوص المتلبس.

و توضيح ذلك: يتوقف على تمهيد مقدمة: و هي إن الاوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الاحكام تكون على أقسام:

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الاشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعا للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا.

ثانيها: أن يكون لاجل الاشارة إلى علية المبدأ للحكم، مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه، و لو فيما مضى.

______________________________

للاوثان لا ينالهم عهد اللّه تبارك و تعالى، لأنه كان هذا جوابا من اللّه لطلب ابراهيم منه ان يجعل ذريته أئمة و خلفاء و حججا منه على بريته، فاجابه تعالى: ان من سجد للاصنام لا ينالهم هذا العهد.

و بعد تسليم المقدمة الثانية: و هو ان هؤلاء كانوا في وقت تولى الخلافة مسلمين.

و المقدمة الاولى: و هو كون الاستدلال ليس مبنيا على التاويل.

و وضوح المقدمة الثالثة: و هو انتفاء قرينة المجاز.

- يتضح: ان اطلاق الظالمين على هؤلاء في وقت توليهم لمنصب الخلافة بنحو الحقيقة، و حيث كانوا مسلمين فمع كونهم مسلمين كانوا مصداقا حقيقيا للظالم، و ان انقضى عنهم التلبس بالظلم في ذلك الوقت، فلازم ذلك ان يكون الظالم موضوعا للاعم، و الّا لما كانوا مصداقا للظالم حقيقة في وقت انقضاء التلبس بالظلم و لم يشر المصنف إلى تفصيل هذه المقدمات و ادمجها في قوله: «و الّا لما صح التعريض» أي لما صح تعريض الأئمة، بهم بهذه الآية، و قد عرفت ان التعريض بهؤلاء الذين تولوا منصب الامامة لا يتم الّا بالمقدمات المذكورة.

ص: 232

ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري عليه، و اتصافه به حدوثا و بقاء.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم، لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الاخير، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق للاعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدإ ظاهرا حين التصدي، فلا بد أن يكون للاعم، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين، و لو انقضى عنهم التلبس بالظلم. و أما إذا كان على النحو الثاني، فلا، كما لا يخفى (1)، و لا قرينة على أنه على النحو الاول، لو لم نقل بنهوضها

______________________________

(1) قبل الشروع في جواب المصنف ينبغي تقديم امر:

و هو ان القول: بان المشتق موضوع لخصوص المتلبس معناه: ان مطابق هذا العنوان هو المتلبس، لا الاعم منه و من المنقضى عنه المبدأ.

و اما كون هذا التلبس هل هو في زمان النطق، او في زمان آخر فلا ينبغي ان يكون داخلا في النزاع.

نعم، فيما اذا كان المتكلم في مقام بيان زمان التلبس، و لم يعين زمانا خاصا متقدما أو متأخرا، و لم يكن في مقام الاهمال: من ناحية زمان التلبس، فالاطلاق- حينئذ- يعين كون زمان التلبس، زمان النطق. و اما اذا كان في مقام الاهمال: من ناحية زمان التلبس و كان الغرض لبيان نفس التلبس لا غير، فلا يتعين زمان النطق للتلبس، مثلا لو كان المتكلم في مقام الرد على من يزعم ان الحيوان لا ينام فقال له:

الحيوان نائم، فانه في هذا المقام لا يتعين كون مراد المتكلم ان الحيوان نائم في زمان النطق. و على كلّ فالمعين لزمان النطق هو الاطلاق، كما ان المعين لكون التلبس في ما مضى، او ما ياتي هو القرائن.

اذا عرفت هذا فنقول: ان المصنف قدم للجواب مقدمة.

و حاصلها: ان العناوين المأخوذة في الكلام و في مقام ترتب الاحكام على انحاء ثلاثة:

ص: 233

.....

______________________________

الاول: ان يكون العنوان اخذ لصرف الاشارة الى ما هو موضوع الحكم، و لا يكون للعنوان دخالة في الحكم اصلا، كقول الامام عليه السّلام في مقام جواب من سأله:

من أين آخذ معالم ديني، قال له عليه السّلام: عليك بهذا الجالس 31]. فانه من المعلوم انه لا دخل للجلوس في وثاقة المشار اليه، بل الموضوع للاخذ منه هو كونه بذاته ثقة.

و هذا هو الذي عناه المصنف بقوله: «احدها ان يكون العنوان لمجرد الاشارة ... الى آخر كلامه» و هو واضح.

الثاني: ان يكون مجرد تحقق المبدأ و بمحض تلبس الذات بها تتحقق علية الحكم و مناطه، و لا يحتاج الحكم في ترتبه إلى دوام تلبس الذات بالمبدإ، كالسرقة في آية حكم السارق، فانه بمجرد تلبس الذات بالسرقة يتحقق الموضوع لحكم القطع، لوضوح انه لا يكون الحكم بالقطع مشروطا باستمرار السرقة الى زمان تنفيذه و كقوله عليه السّلام: (الساهي يسجد للسهو)(1) فان السجود للسهو لا يتاتى الّا من الذاكر فيكون مجرد تلبسه بالنسيان علة لترتب حكم الاتيان بسجود السهو. ففي امثال هذه الاحكام يكفي صحة جري المشتق و حملها على الذات، و لو فيما مضى لترتبها، و لا يلزم استمرار تلبس الذات بالمبدإ لترتب الحكم، و هذا هو ثانيها في كلام المصنف، و العبارة واضحة.

الثالث: ان يكون تحقق المبدأ ايضا علة لترتب الحكم، و لكن لا يكفي مجرد التلبس به في ترتبه، بل ترتب الحكم يكون دائرا مدار استمرار تلبسه به. و لا بد في ترتب الحكم من صحة جري العنوان على الذات و اتصافها بالمبدإ حدوثا و بقاء، كعنوان الحاضر و المسافر في ترتب حكم التام و القصر، و الصوم و الافطار. و هذا هو الذي عناه المصنف بقوله: «ثالثها ان يكون لذلك» أي ان يكون العنوان لاجل الاشارة إلى

ص: 234


1- 32. ( 2) قد أورد الحديث بالمضمون راجع الوسائل ج 5: 317/ 1 باب 7.

على النحو الثاني، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الامامة و الخلافة و عظم خطرها و رفعة محلها، و إن لها خصوصية من بين المناصب الالهية، و من المعلوم أن المناسب لذلك، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا، كما لا يخفى (1).

______________________________

كون التلبس بالمبدإ علة لترتب الحكم، فهو كالثاني و يزيد عليه «مع» ذلك «عدم الكفاية» بصرف التلبس، «بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري» الى آخر عبارته قدّس سرّه.

فاذا عرفت هذا نقول: ان الظلم و الظالم الذي هو الموضوع في الآية، لأن لا يناله عهد اللّه لو كان موضوعا للحكم على النحو الثالث: بان كان الظلم الذي هو الكفر علة لعدم تولي منصب الامامة حدوثا و بقاء، مع فرض كونهم في زمان التولي مسلمين و ليسوا بكافرين بالفعل. فحينئذ يكون اطلاق الظالم و الكافر عليهم حقيقة في حال كونهم مسلمين يدل على ان المشتق موضوع للاعم، و هذا هو مراد المصنف بقوله: «ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين»: أي اطلاق الظالمين عليهم يكون- حينئذ- حقيقة، مع كونهم بالفعل مسلمين و ليسوا بكافرين فيكون اطلاق الكافرين عليهم حقيقة، مع كونهم في حال الاطلاق مسلمين دليلا على كون الظالمين موضوعا لما هو الاعم من المتلبس و المنقضى.

و اما اذا كان الظلم علة على النحو الثاني فلا يتم الاستدلال بهذه الآية على الاعم، لان مجرد تلبسهم بالظلم و لو فيما مضى كاف في العلية لعدم لياقتهم لمنصب الامامة.

(1) بعد ما عرفت: ان الاستدلال لا يتم الّا على النحو الثالث: بان يكون عنوان الظالم علة للحكم حدوثا و بقاء، فلا بد من احراز هذا الامر فيحتاج الى محرز، كما

ص: 235

إن قلت: نعم، و لكن الظاهر أن الامام عليه السّلام إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعا، لا بقرينة المقام مجازا، فلا بد أن يكون للاعم، و إلا لما تم (1).

______________________________

ان كون العنوان ماخوذا على النحو الثاني يحتاج الى قرينة ايضا. فاذا كلا الامرين يحتاج الى ما يعيّنه.

و يكفي في عدم تمامية استدلالهم بالآية على الاعم الشك في كون العنوان اخذ على النحو الثالث، اذا لم نقل: بان جلالة منصب الامامة و اختلافها عن بقية المناصب يعين النحو الثاني، فان منصب الامامة من المناصب الجليلة الرفيعة التي لا ينبغي ان يتولاها الّا من تقلب في الساجدين، فمن سجد للصنم و لو في زمان ما لا ينبغي ان يكون محلا لها، بخلاف بقية المناصب الالهية كولاية القاصرين، و الحكم بين المتخاصمين فانه لا مانع من ان يتولاها المجتهد العادل في حال التولي، و لا مانع من ان يكون قبل زمان التولي ليس بعادل و لا مجتهد.

(1) حاصله: انه بناء على وضع المشتق لخصوص المتلبس فيكون اطلاق الظالمين على هؤلاء المفروض كونهم مسلمين في حال التولي اطلاقا مجازيا مستندا الى القرينة، لفرض كونهم ليسوا بظالمين بالفعل، و الظهور المجازي ليس من الظهور الوضعي.

و اما بناء على كون المشتق موضوعا للاعم فيكون اطلاق الظالمين عليهم بنحو الحقيقة، و الاطلاق وضعي و لو كانوا بالفعل مسلمين.

و الظاهر من استدلال الامام ان اطلاق الظالمين عليهم كان اطلاقا وضعيا لم يعتمد فيه على القرائن، و ليس كذلك بناء على وضعه لخصوص المتلبس، فان الاطلاق لا بد و ان يكون مجازيا معتمدا فيه على قرائن، و اذا لم يكن الاطلاق مجازيا فلا بد و ان يكون وضعيا حقيقيا و لازم ذلك وضع المشتق للاعم، و الّا لما تم الاستدلال اذ المفروض ان الاستدلال كان بالظهور الوضعي لا بالقرينة و المجاز. فاذا كان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس لا يتم الاستدلال لانهم بالفعل ليسوا بظالمين.

ص: 236

قلت: لو سلم، لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازا، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس- كما عرفت- فيكون معنى الآية، و الله العالم: من كان ظالما و لو آنا في الزمان السابق لا ينال عهدي أبدا، و من الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس (1).

______________________________

(1) حاصله: انه اولا: لا نسلم كون الاستدلال مبنيا على الظهور الوضعي الحقيقي، بل الاستدلال يبتني على الظهور اعم من كونه وضعيا حقيقيا او مجازيا بالقرينة.

و فيه ما لا يخفى، فان الاستدلال من الامام كان بالآية فاما ان يكون للظالمين ظهور وضعي في كونهم في وقت التولي للامامة ظالمين فيتم الاستدلال، و لكن هذا انما يصح و يتم على الوضع للاعم. و اذا لم يكن الظهور وضعيا، كما هو بناء على الوضع لخصوص المتلبس، فلا بد من وجود قرينة في الآية تدل على ان الظالمين استعمل فيمن انقضى عنه الظلم، و المفروض انه لا قرينة.

و يمكن ان يقال: ان هناك ثلاثة افراد: فردين محققين معلومين لا يحتاجان الى بيان في القرآن، و فردا مشكوكا، و هو الذي يحتاج الى البيان- فرد متلبس بالسجود للصنم بالفعل، و فرد لم يسجد للصنم اصلا لا سابقا و لا لاحقا، و فرد سجد للصنم فيما مضى ثم اسلم و ترك عبادة الاوثان-.

و لا شبهة في انه من البديهي الضروري ان من كان متلبسا فعلا بالسجود للاصنام لا يعقل ان يكون في حال تلبسه بذلك اماما للخلق و هاديا لهم و واقعا في طريق ايصال الناس الى معرفة ربهم و موصلا لهم احكامه تبارك و تعالى.

و الفرد الثاني لا اشكال في امكان جعله اماما فانه لو لم يكن الامام من هذا القسم للزم ان ينزل اللّه أئمته من السماء، فان هذا القسم اعلى اقسام البشر الموجودين في زمان جعل الامامة.

ص: 237

و منه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه و المحكوم به، باختيار عدم الاشتراط في الاول، بآية حد السارق

______________________________

و الاخير هو المشكوك الذي يحتمل ان يكون اماما و ان لا يكون. فالبيان انما جاء لدفع هذا الاحتمال و ان السجود للصنم و لو في زمان يمنع عن منصب الامامة لجلالتها و علو مقامها فهذا القسم الاخير هو المحتاج الى البيان، و اما القسمان الاولان فغير محتاجين الى بيان في القرآن.

فموضوع الكلام هو النحو الثاني: و هو كون الظلم علة لأن لا ينال عهد اللّه من تلبس به و لو في زمان ما، و لذا لما احتج الامام بها على الخصم افحمه و لم يسعه المناقشة.

و ثانيا: انا نسلم ان الاستدلال كان مبنيا على الظهور الوضعي، و لكن لا يستلزم اطلاق الظالمين على هؤلاء اطلاقا مجازيا، لان اطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس من الاستعمال الحقيقي، و هو مراد المصنف بقوله: «لو سلم لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازا» و المراد من النحو الثاني هو كون مجرد التلبس بالمبدإ و لو في زمان ما علة للحكم في قبال النحو الثالث الذي يدور الحكم مدار تحقق المبدأ حدوثا و بقاء، فان اطلاق المشتق و جريه على المتلبس لا يكون من الاستعمال المجازي اذا كان الاطلاق بلحاظ حال التلبس، و لذا قال: «بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس».

ثم لا يخفى ان كون الموضوع على النحو الثاني يحتاج الى قرينة و ان كان الاستعمال حقيقيا ايضا. و القرينة اما ما ذكره المصنف و غيره: من علو منصب الامامة و رفعة مقامها، او ما ذكرناه: من انه هو مورد البيان في القرآن لانه القسم المشكوك دون القسمين الآخرين المعلومين، فان المعلوم لا يحتاج الى بيان.

ص: 238

و السارقة، و الزاني و الزانية، و ذلك حيث ظهر أنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع و الجلد مطلقا، و لو بعد انقضاء المبدأ (1)، مضافا الى وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محكوما عليه أو به، كما لا يخفى.

______________________________

(1) حاصل هذا التفصيل انه فرق بين كون المشتق محكوما به كقولك: (زيد قائم) و بين كونه محكوما عليه، كقوله تعالى في آية: السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما(1) و قوله تعالى ايضا في آية الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما(2) الى آخر الآية.

فالمشتق في المثال الاول محكوم به لانه خبر لزيد و في الآيتين المشتق محكوم عليه لان السارق و الزاني في موضع الابتداء، و جملة فاقطعوا و فاجلدوا في موقع الخبر و المبتدأ محكوم عليه، بخلاف الخبر كما في المثال المتقدم فانه محكوم به.

و المدعي لهذا التفصيل يرى ان السبب فيه هو ان المشتق في الآيتين وقع محكوما عليه و لا بد من القول بوضعه للاعم، بخلاف المثال المذكور الذي كان المشتق فيه محكوما به فانه لا ملزم للقول بكونه موضوعا للاعم.

و كيفية الاستدلال على هذه الدعوى بنحوين:

الأول: انه لا اشكال في كون السارق و الزاني في وقت اقامة الحد عليهما ليسا بمتلبسين بالمبدإ، و ظاهر الآيتين ان اطلاق السارق و الزاني عليهما في مقام عدم تلبسهما بالمبدإ اطلاق حقيقي، و لا يكون الاطلاق حقيقيا في مقام عدم التلبس بالمبدإ الّا بالالتزام بكون المشتق موضوعا للاعم.

و على هذا النحو من البيان يلتئم جواب المصنف، فان حاصل جوابه: ان اطلاق المشتق عليهما في حال عدم تلبسهما بالمبدإ اطلاقا حقيقيا لا يلزم القول بالوضع للاعم، لامكان ان يكون الاطلاق بلحاظ حال التلبس. فالقطع و الجلد ثابت لهما في

ص: 239


1- 33. ( 1) المائدة: الآية 38.
2- 34. ( 2) النور: الآية 2.

.....

______________________________

حال عدم تلبسهما بالسرقة و الزنا، و اطلاق السارق و الزاني عليهما في هذا الحال اطلاق حقيقي، لكنه بلحاظ حال التلبس، و هذا هو مراده ظاهرا من قوله: «حيث ظهر انه لا ينافي ارادة خصوص حال التلبس» بان يكون الاطلاق بلحاظ حال التلبس «دلالتها» أي دلالة آية السارق او آية الزاني «على ثبوت القطع و الجلد مطلقا» أي و لو في حال عدم التلبس. كما ذكر وجه الاطلاق بقوله:

«و لو بعد انقضاء المبدأ».

النحو الثاني في كيفية الاستدلال: ان يكون مركبا من مقدمات بعضها غير مقدمات النحو الاول.

الاولى: ان حكم القطع و الجلد ثابت للسارق و للزاني و وقوع هذا الحد خارجا عليهما يكون في وقت عدم تلبسهما بالسرقة و الزنا.

الثانية: ان ظاهر الآيتين ان اطلاق السارق و الزاني عليهما اطلاق حقيقي.

الثالثة: ان ظاهر الآيتين ان هذا الاطلاق الحقيقي عليهما، في وقت اقامة الحد عليهما فهما في وقت اقامة الحد سارق و زان، و لا يمكن ان يكون الاطلاق حقيقيا في وقت اقامة الحد، و هو وقت عدم تلبسهما بالمبدإ، إلّا بالالتزام بالوضع للاعم.

و الاستدلال بهذا الترتيب هو الذي ينقدح مما مر في الاستدلال بآية:

لا يَنالُ عَهْدِي 35] و الجواب عنه ينقدح ايضا من الجواب عنها.

و اما الاستدلال بالنحو الاول فلم ينقدح مما مر لا هو و لا جوابه.

و جواب المصنف ان الاطلاق في حال عدم التلبس لا ينافي كونه اطلاقا حقيقيا لامكان الاطلاق بلحاظ حال التلبس لا يصلح ان يكون جوابا عن الاستدلال بالنحو الثاني، و انما يكون جوابا عنه بالنحو الأول، لوضوح ان من مقدماته كون الظاهر في الآيتين اتحاد زمان الاطلاق الحقيقي فيهما مع زمان اقامة الحد، و ان الظاهر منهما

ص: 240

.....

______________________________

هو ان السارق سارق حقيقة، و الزاني زان حقيقة في وقت اقامة الحد عليهما، فلا يعقل ان يقال في الجواب: ان الاطلاق بلحاظ حال التلبس.

إلّا ان يقال: ان المصنف اشار الى بعض الجواب و اكتفى عن تفصيله بما تقدم في الجواب عن آية لا يَنالُ عَهْدِي

و على كل حال فالجواب عن هذا الاستدلال: هو منع المقدمة الاخيرة، و انه لا نسلم ان الظاهر كون الاطلاق حقيقيا في حال اقامة الحد.

فان السبب في هذه الدعوى، اما لزوم كون العنوان علة لحكمه حدوثا و بقاء، و قد عرفت ان العنوان لا يلزم ان يكون دائما علة حدوثا و بقاء، بل ربما يكون مجرد التلبس و لو في زمان ما علة للحكم كما في قوله عليه السّلام: (الساهي يسجد للسهو) و امثال ذلك، فان العنوان علة للحكم في هذه الاحكام حدوثا لا بقاء، و مجرد حدوثه و التلبس به كاف في ترتب الحكم.

و حينئذ ياتي لا يقال السابق: من ان الظاهر كون الاطلاق في حال عدم التلبس، اطلاقا حقيقيا. فيجاب عنه: انه لا منافاة في ذلك، فانه لا بأس بان يكون الاطلاق حقيقيا في حال عدم التلبس لكنه بلحاظ حال التلبس. و ان المراد من قوله تعالى في الآية وَ السَّارِقُ أي من كان سارقا.

و اما ان يكون السبب في هذه الدعوى: هو انه قد اطلق السارق على غير المتلبس، فاما ان يكون حقيقة بلحاظ حال التلبس، و اما ان يكون مجازا، و كلاهما يحتاج الى قرينة، و لا قرينة في المقام، فيتعين كون الاطلاق حقيقيا لا بلحاظ حال التلبس، و لازم ذلك الوضع للاعم.

و الجواب عنه: ما عرفت سابقا ان المشتق مطابقه هو المتلبس. و اما كون الجري بلحاظ حال النطق او بلحاظ حال التلبس او مجازا كل ذلك يحتاج الى معين.

غايته ان المعين في الاول هو مقدمات الحكمة، و في غيره هو القرينة. و من الواضح ان الغرض في هذه الآية بيان ان حكم السارق هو القطع و لم يسبق الكلام

ص: 241

و من مطاوي ما ذكرنا- هاهنا و في المقدمات- ظهر حال سائر الاقوال، و ما ذكر لها من الاستدلال، و لا يسع المجال لتفصيلها، و من أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات (1).

بقي أمور: الاول: إن مفهوم المشتق على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه بسيط منتزع عن الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ و اتصافها به غير مركب. و قد أفاد في وجه ذلك: أن مفهوم الشي ء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا، و إلا لكان العرض العام داخلا في الفصل، و لو اعتبر فيه ما صدق عليه الشي ء، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة، فإن الشي ء الذي له الضحك هو الانسان، و ثبوت الشي ء لنفسه ضروري.

هذا ملخص ما أفاده الشريف، على ما لخصه بعض الاعاظم (2).

______________________________

لبيان ان زمان الحكم متحد مع زمان الاطلاق الحقيقي. و مع تسليم الظهور المدعى نقول: ان الظهور انما يكون حجة في تعيين المراد لا في كيفية الاستعمال.

(1)

مفهوم المشتق

و حاصله ان لازم هذا التفصيل تعدد الوضع، و كون المشتق له وضعان: وضعه اذا كان محكوما به لخصوص المتلبس، و وضع آخر له في الاعم اذا كان محكوما عليه.

و من الواضح فساد تعدد الوضع، فان المشتق قد وضعت المادة فيه للمبدا، و الهيئة موضوعة فيه اما للمتلبس او للاعم، و ليس للهيئة وضعان و هو واضح لا خفاء فيه.

(2) تعرض الشريف لاقامة الدليل على بساطة المشتق في حاشيته على شرح المطالع 36] للرّد على الشارح في مقام جوابه عن الاشكال على تعريف القوم للنظر: بان ترتيب امور حاصلة لتحصيل غير الحاصل.

فاورد عليهم: بان هذا لا يشمل التعريف بالمفردات، كتعريف الانسان بالناطق او الضاحك و هي امر واحد لا امور.

ص: 242

.....

______________________________

فاجاب عن الايراد شارح المطالع: بان التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات كالناطق و الضاحك. و المشتق و ان كان في اللفظ مفردا، إلّا ان معناه شي ء له المشتق منه، فيكون من حيث المعنى مركبا. فاورد عليه المحقق الشريف: بان المشتق معناه بسيط لا مركب.

و يمكن ان يورد على شارح المطالع مع تسليم التركيب، و الغضّ عما اورد عليه الشريف من كون المشتق بسيطا: ان هذا التركيب لا يدفع ايراد القوم على التعريف المذكور، فان المفرد و ان انحل الى شي ء له المبدأ، إلّا انه ليس هذا الّا انحلالا بعد تعمل من العقل و إعمال الدقة، و ليس هو من ترتيب امور لتحصيل غير الحاصل، فان المفهوم من ترتيب امور ترتيب استلزامات تدل على غير الحاصل. و من الواضح انه لا يفهم من المشتق المفرد ترتيب استلزامات تؤدي الى غير الحاصل.

و على كلّ فحاصل ما اورده الشريف: هو ان المشتق ليس مفهوما مركبا، لأنه إما ان يكون مركبا من مفهوم الذات، أو الشي ء- اللذين هما من الاعراض العامة العارضة للمقولات باجمعها- و من النطق، أو يكون المشتق مركبا من مصداق الذات، أو الشي ء: أي ان الواضع- مثلا- لم يرد مفهوم الذات بما هو مضافا اليه النطق بل اراد ما يصدق عليه الذات أو الشي ء بنحو الوضع العام و الموضوع له الخاص، فيراد من الناطق- مثلا- هو مصداق الشي ء المضاف له النطق، و حيث ان المصاديق لا يمكن ان تتصور بذاتها فلا بد من تصورها بالمفهوم العام لها و هو الشي ء أو الذات.

و بعبارة اخرى: ان الواضع للناطق وضعه للنطق المضاف الى ما يصدق عليه الشي ء، او الذات.

فان اريد الاول: و هو كون المشتق مركبا من مفهوم الشي ء و النطق.

يرد عليه: انه لا يعقل ذلك، لان الناطق هو الفصل المقوم للجنس و هو الحيوان و جاعله نوعا من انواع الحيوان الذي هو الانسان. و الفصل من ذاتيات النوع و أحد جزئيه المتقومة منهما ماهيته المركبة: من جنسه و فصله، و لذا يذكر في مقام تعريف

ص: 243

.....

______________________________

حقيقة الانسان، و شرح ماهيته، فيقال: الانسان حيوان ناطق. و لو كان مفهوم الناطق مركبا من مفهوم الشي ء و النطق المضاف اليه بعد وضوح كون مفهوم الشي ء من الاعراض العامة لكافة المقولات و انواعها للزم ان يكون هذا العرض العام مقوما و داخلا في ذات النوع، لبداهة دخول فصله في حقيقة ماهيّته، فاذا كان فصله مركبا من مفهوم الشي ء و النطق كان مفهوم الشي ء داخلا في حقيقة النوع، لانه جزء من فصله الذي هو جزء ماهيّته، فيدخل العرض العام المعلوم خروجه عن ذاتيات الماهية في مقومات الماهية و ذاتياتها. و الى هذا اشار بقوله: «المشتق على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه بسيط منتزع عن الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ و اتصافها به» لأن المبدأ حيث لا يمكن حمله على الذات اللاحق لها بنفسه، لوضوح ان النطق أو الضحك أو الكتابة لا يصح حملها بانفسها، فلا يصح ان يقال: الانسان نطق أو ضحك، أو زيد كتابة و انما يصح الحمل بطريقين:

الاول: ان يضاف لها ذو فيقال: الانسان او زيد ذو نطق، او ذو كتابة.

الثاني: ان يحمل بواسطة الاشتقاق فيشتق من النطق الناطق، و من الضحك الضاحك، و من الكتابة الكاتب، ليحمل على من تلبّس بهذه المبادئ.

فالمشتق مفهوم انتزع من الذات باعتبار المبدأ الذي لحقها و تلبست به، ليصح حمل ذلك المبدأ عليها و يكون وصفا محمولا عليها و هو بسيط «غير مركب» لعدم صحة كونه مركبا «و قد افاد في وجه ذلك» أي في وجه كونه غير مركب، لأن التركيب اما من المفهوم أو من المصداق، و لا سبيل الى الأول لوضوح «ان مفهوم الشي ء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا» لانه لو اعتبر مفهوم الشي ء في مفهوم الناطق فان معنى اعتباره فيه كونه جزء من مفهوم الناطق، و لا يصح هذا الاعتبار «و إلّا لكان العرض العام» أي الشي ء الذي هو من الاعراض العامة «داخلا في الفصل» المقوم للحقيقة، فيلزم تقوم الذات من عرضها العام، و لا يعقل ان يكون المقوم

ص: 244

.....

______________________________

للذات و ما هو جزء ماهيتها من الاعراض الخاصة، فضلا عن كونه من الاعراض العامة، لان اعراض الشي ء الخاص منها و العام خارج عن الذات لا مقوما له و ذاتيا له.

و ان اريد الثاني: أي ان المشتق مركب من مصداق الشي ء او الذات و الكتابة على نحو الوضع العام و الموضوع له الخاص، فيكون ذات الموضوع الذي حمل عليه المشتق هو بنفسه الجزء الذي تركب الكاتب منه و من الكتابة فالكاتب المحمول على الانسان، و الكاتب المحمول على زيد مركب من نفس ذات الانسان، و ذات زيد مع الكتابة، فينحل قولنا: الانسان كاتب، أو زيد كاتب الى قولنا: الانسان انسان له الكتابة، و زيد زيد له الكتابة، فالموضوع بنفسه ماخوذ بنحو الجزئية في محموله.

و من الواضح انه اذا كان الموضوع بنفسه بعضا من محموله يكون ثبوت المحمول للموضوع ضروريا و ان كان المحمول مركبا من الموضوع، مع وصف مضاف له، لأن ثبوت الشي ء لنفسه ضروري في جميع حالاته و اوصافه و يستحيل ان ينسلخ عن نفسه مع ايّ حالة، و أيّ وصف كان، فان زيدا هو زيد بالضرورة في حال اتصافه بالكتابة او بغيرها من الاوصاف و يستحيل ان ينسلخ عن نفسه في أي حالة من الحالات، فاذا كان الكاتب ينحل الى زيد له الكتابة يكون جهة هذه القضية هي الضرورة، لا الامكان، الّا انه من المعلوم بالبداهة ان قضية زيد كاتب جهتها هي الامكان الخاص، لا الضرورة، لوضوح ان قضية زيد كاتب ليست كقضية زيد انسان او ناطق، فان الاولى ممكنة بالبداهة، كما ان الثانية ضرورية كذلك، لوضوح ضرورة ثبوت الكلي لفرده، و ضرورة ثبوت فصله لفرده ايضا. فالانقلاب انما يلزم في مثل قضية الانسان كاتب، او زيد كاتب، لا في مثل الانسان ناطق، او زيد انسان او ناطق، لان الجهة في القضيتين الاوليين الامكان، و في الاخريين هي الضرورة، و الى هذا اشار بقوله:

«و لو اعتبر فيه» أي في المشتق «ما صدق عليه الشي ء» لا مفهومه «انقلبت مادة الامكان الخاص» التي هي جهة القضية في قولنا: الانسان كاتب او ضاحك، فان الجهة في امثال هذه القضايا هي الامكان الخاص، و لذا تسمعهم يقولون: الانسان

ص: 245

و قد أورد عليه في الفصول، بأنه يمكن أن يختار الشق الاول، و يدفع الاشكال: بأن كون الناطق- مثلا- فصلا، مبني على عرف المنطقيين، حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، و ذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك (1).

______________________________

كاتب او ضاحك بالامكان الخاص، لانه يمكن ان يكون كاتبا، و يمكن ان لا يكون و يمكن ان يكون ضاحكا، و يمكن ان لا يكون و هذا معنى كون جهة هذه القضايا و مادتها هي الامكان الخاص الذي هو سلب الضرورة من طرفي الوجود و العدم، فليس وجود الضحك و الكتابة ضروريا للانسان، و لا عدمه ضروريا له.

و اذا كان الكاتب مركبا مما صدق عليه الشي ء و الكتابة، و الضاحك مركبا مما صدق عليه الشي ء و الضحك تنقلب جهة هذه القضايا من الامكان الى الضرورة و اللزوم «فان الشي ء الذي له الضحك هو الانسان» لأن الماخوذ جزء من الضاحك هو مصداق الشي ء و هو نفس الموضوع في هذه القضايا «و ثبوت الشي ء لنفسه ضروري»، لوضوح ضرورة ثبوت الشي ء لنفسه، و استحالة انسلاخه عنها مع أيّ حالة و أيّ وصف.

(1) حاصل ما ذكره في الفصول- جوابا عما اورده المحقق الشريف من دعوى بساطة المشتق و عدم تركبه، و انه ليس بمركب لا من مفهوم الشي ء و لا من مصداقه-: انه يمكن ان نختار الشق الاول: و هو ان المشتق مركب من مفهوم الشي ء و المبدأ، فالناطق ينحل الى مفهوم شي ء له النطق، و لا يلزم دخول العرض العام و هو الشي ء في الفصل، لان الناطق هو فصل للحيوان الذي به يكون انسانا و نوعا من انواع الحيوان، لان كون الناطق فصلا للحيوان و مكونا لنوعه انما هو في عرف المنطقيين في مقام تحديد الانسان، و تحليل ماهيته الى جنس و فصل. و لا بد لهم في هذا المقام بعد ان اعتبروا الناطق فصلا للحيوان، و انه الجزء الذي به تتم ماهية النوع ان يعتبروه

ص: 246

و فيه: إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى (1).

______________________________

مجردا عن مفهوم الذات و الشي ء، و لا يلزم اعتبار المنطقيين للناطق مجردا عن مفهوم الشي ء ان يكون موضوعا في اللغة لما هو المجرد عن مفهوم الشي ء.

فلنا ان نلتزم: بان الناطق في اللغة موضوع لما هو مركب: من مفهوم الشي ء و النطق، و لكنه في عرف المنطقيين حيث اعتبروه فصلا لا بد و ان يكون مجردا عنه، لانه لو دخل الشي ء فيه لما كان فصلا مقوما لماهية الانسان. و المشتق الذي نبحث عن بساطة مفهومه او تركيبه هو الموضوع له المشتق في اللغة، لا في عرف المنطقيين. و يجوز أن يكون الناطق في عرف المنطقيين غير ما هو الموضوع له عند اهل اللغة.

(1) حاصل ما اورده المصنف على دعوى صاحب الفصول- من امكان الفرق بين معنى الناطق عند المنطقيين و معناه في اللغة-: ان هذه الدعوى غير صحيحة و ليس للمنطقيين اصطلاح خاص في الناطق في مقام اعتباره فصلا، بل قد اعتبروه فصلا بما له من المعنى الموضوع له في اللغة، من غير تصرف من المنطقيين في معناه الموضوع له اصلا.

و يؤيد ما قاله المصنف- من كونه فصلا عند المنطقيين بما له من المعنى الموضوع له في اللغة- ان شارح المطالع صرح: بان التعريف بالمفردات انما هو بالمشتقات، و المشتق معناه مركب من الشي ء و المبدأ المشتق منه، فصرح: بان المشتق المذكور في التعريف هو مركب، و مثّل بالناطق و الضاحك. و لو كان للمنطقيين في مقام التعريف بالناطق اصطلاح خاص لما خفى على شارح المطالع، و لما صح له ان يجيب عن ايراد القوم على تعريف النظر بان التعريف بالمشتق تعريف باكثر من امر واحد، لان المشتق ينحل الى شي ء له المبدأ المشتق منه، فاذا ثبت تركيبه عند المنطقيين فلا مناص من دخول العرض العام في الفصل اذا كان الناطق مركبا من مفهوم الشي ء و النطق.

ص: 247

و التحقيق أن يقال: إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل و أظهر خواصه (1)، و إنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه، بل لا يكاد يعلم، كما حقق في محله (2)، و لذا

______________________________

(1) حاصل هذا التحقيق: هو ان اللازم من تركب الناطق باعتبار تركب المشتقات من الشي ء، و المبدأ اللاحق لها هو لزوم دخول العرض العام في الخاصة، لا دخول العرض العام في الفصل، لأن الناطق ليس بفصل حقيقي تتقوم به ماهية النوع، لان النطق إما ان يراد به التكلم فهو من الكيف المسموع القائم بالفاعل قياما صدوريا.

و إما ان يراد به الادراك للكليات المختص بالنوع الانساني، دون إدراك الجزئيات الموجود في بعض انواع الحيوان الاخرى و لا يختص بالانسان. و حقيقة الادراك من ماهية العلم و هو عرض ايضا، و ان اختلف فيه انه هل هو من الكيف النفساني، او من مقولة الاضافة، او من الانفعال، الّا انه لم يخرج عن كونه من المقولات العرضية.

و لا شبهة: ان الفصل المقوم لحقيقة الانسان من مقولة الجوهر، اذ لا يعقل تقوم الجوهر الانساني من العرض. فعلى كل حال النطق باي معنى كان لا يعقل ان يكون هو الفصل الحقيقي في ماهية الانسان.

نعم، النطق باي معنى اريد سواء اريد منه التكلم، او ادراك الكليات هو من خواص الفصل في الانسان، و من عوارضه المختصة به، دون الحيوان الذي هو الجنس فانه غير متكلم و لا مدرك للكليات.

(2) بعد ان لم يكن الناطق فصلا حقيقيا، و ليس من الذاتي الذي تتقوم به الماهية النوعية، فلا ينبغي ان يذكر في شرح ماهية الانسان، و بيان ما تتركب منه حقيقته المركبة: من جنسه و فصله الواقعيين الحقيقيين، و انما ذكره القوم في هذا المقام حيث لم يعرفوا الفصل الحقيقي، بل لا يعقل ان تدرك حقيقة الفصل الحقيقي و كنهه بنحو العلم الحصولي، لان ادراك الشي ء بكنهه بنحو العلم الحصولي انما يكون بمعرفة حد

ص: 248

ربما يجعل لا زمان مكانه إذا كانا متساويي النسبة إليه، كالحساس و المتحرك بالارادة في الحيوان، و عليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشي ء في مثل الناطق، فإنه و إن كان عرضا عاما، لا فصلا مقوما للانسان، إلا أنه بعد تقييده بالنطق و اتصافه به كان من أظهر خواصه (1).

و بالجملة: لا يلزم من أخذ مفهوم الشي ء في معنى المشتق، إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيدا (2).

______________________________

ذلك الشي ء، و الحد ليس هو الّا بيان ما تركبت منه الحقيقة. و من المعلوم ان الفصل لا تركب في ذاته بل هو بسيط، اذ لو كان الفصل مركبا في حقيقة ذاته لا بسيطا لما كان محصلا لماهية النوع، فان المفروض ان الماهية النوعية مركبة من جزءين لا غير، و هما الفصل و الجنس. فلو كان الفصل مركبا لكان مركبا من جنس و فصل ايضا، و هلم جرا، و هو خلف، لان المفروض ان الماهية النوعية انتهت الى تركيبها من جنس و فصل لا غير، و يلزم التسلسل و لا تحصل الماهية النوعية. و خلف- ايضا- اذ المفروض تركب الماهية من جنس و فصل لا غير.

فاذا لم يكن الفصل مركبا لا يمكن تحديده، و حيث لم يمكن تحديده لا يعقل ان يعلم به بنحو العلم الحصولي.

فحيث لم يعرفوا الفصل الحقيقي اضطروا ان يضعوا بدله اظهر خواصه، ليمتاز به.

فتبين مما ذكرنا: ان الناطق هو فصل مشهوري، لا فصل حقيقي.

(1) لا يخفى ان مراده ان الحساس و التحرك بالارادة لازمان لفصل الحيوان الجامع لجميع انواعه، و ليسا لازمين حالين محل الفصل في ماهية الانسان كما هو واضح.

(2) يطلق العرضي في مقامات:

فتارة: يطلق في قبال العرض فيراد من العرضي: هو المفهوم المنتزع باعتبار نفس العرض، كالابيض فانه مفهوم ينتزع بملاحظة نفس البياض، لأن الموجود في الخارج

ص: 249

ثم قال: إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، و يجاب بأن المحمول ليس مصداق الشي ء و الذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، و ليس ثبوته

______________________________

البياض الذي هو العرض، و موضوعه كالجسم، و ليس الموجود في الخارج ثلاثة اشياء: الجسم، و البياض، و الابيض.

و لذا قال الحكيم السبزواري قدّس سرّه:

و عرضى الشي ء غير العرض ذا كالبياض ذاك مثل الابيض 37]

فالابيض ينتزع باعتبار البياض.

و اخرى: يطلق العرضي في قبال اللازم الذاتي، فيقال: الزوجية- مثلا- من الذاتي للاثنين، و يراد منه عدم امكان انفكاك الاثنين عن هذا اللازم و هو الزوجية، و هي لازم لا يعقل ان تنفك الاثنين عنه، بخلاف التحرك- مثلا- فانه يمكن ان تنفك عنه الاثنين فقد يعرضها التحرك، و قد لا يعرضها، فيراد من العرضي: هو اللازم الذي يمكن ان ينفك في قبال اللازم الذي لا يمكن ان ينفك.

و ثالثة: يطلق العرضي في قبال الأجزاء التي تركبت منها ذات الماهية، فانهم يطلقون الذاتي على نفس الاجزاء التي منها تألفت الماهية، و يسمونها بالذاتيات، فيقولون: الماهية هي الذات و الذاتيات، فالذات هي المجموع و الذاتيات اجزاؤها.

و الذاتي بهذا المعنى الاخير هو الذاتي في كتاب إيساغوجي، كما ان الذاتي بالمعنى الثاني هو الذاتي في كتاب البرهان.

و من الواضح مراده قدّس سرّه من العرضي في المقام هو العرضى بالمعنى الثالث، لتصريحه: بان المراد من العرضي الخاصة الواقعة في قبال الفصل، و هي لا ريب من الذاتي بالمعنى الثاني، لا من العرضي، لوضوح عدم امكان انفكاكها عن ما اختصت به. و اما العرضي بالمعنى الاول فهو في قبال العرض، لا في قبال الذاتي.

ص: 250

للموضوع حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا انتهى (1).

و يمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان ذات المقيد و كان القيد خارجا، و إن كان التقيّد داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون (2)

______________________________

(1) حاصل مراد صاحب الفصول: هو انه يمكن ان نختار الشق الثاني مما ردّده المحقق الشريف: و هو ان المشتق مركب من مصداق الشي ء و الكتابة مثلا- لا من مفهوم الشي ء و الكتابة.

و لا يرد علينا ما ذكره: من انقلاب القضية الممكنة الى قضية ضرورية.

بان نقول: الانسان كاتب ينحل الى قولنا: الانسان انسان له الكتابة فالموضوع هو الانسان المطلق، و المحمول هو الانسان المقيد بالكتابة، و ليس ثبوت الانسان المقيد بقيد غير ضروري كالكتابة للانسان المطلق ضروريا، لأن المقيد بغير الضروري ليس بضروري. نعم، ثبوت الانسان المطلق للانسان المطلق ضروري، لضرورية ثبوت الشي ء لنفسه، و اما حمل الانسان المقيد بالكتابة- مثلا- التي هي غير ضرورية فليس بضروري الثبوت للانسان المطلق، إذ ليس كل انسان انسانا له الكتابة.

(2) هذا ايراد من المصنف على صاحب الفصول، و ملخصه: انه لا مناص من الانقلاب بناء على التركيب.

و توضيحه: ان المشتق المركب من مصداق الشي ء، و المبدأ الذي هو المحمول في القضية، كقولنا: زيد كاتب، او الانسان كاتب، ان كان الغرض من حمله على الموضوع في القضية كزيد- مثلا- هو حمل المقيد بالكتابة على زيد لكن لا بما هو مقيد:

أي لم يرد من الكاتب الّا حمل ذات المقيد و جعل القيد و هو الكتابة كمعرف.

و بعبارة اخرى: ان الغرض من حمل المحمول كالكاتب على موضوعه يتصور على انحاء ثلاثة:

ص: 251

.....

______________________________

الاول: ان يكون المحمول هو المقيد بما هو مقيد، فيراد حمل الكاتب على زيد بما للكاتب من المعنى، و سيتعرض لهذا في قوله: «و ان كان المقيد بما هو مقيد على ان يكون القيد داخلا».

الثاني: ان يكون القيد خارجا عن الغرض في الحمل، و لكن التقيد داخلا لتعرف حال المقيد، كالمقيدات التركيبية كغلام زيد و امثاله، فان المحمول فيها و ان كان مقيدا، الّا ان الغرض من الحمل هو حمل الغلام و جعل اضافته الى زيد للتعرف، فالاضافة قصدت كطريق الى معرفته و لم تقصد في الحمل، فهي كمعنى حرفي لم يقصد بذاته و مستقلا، بل اخذ آلة و طريقا، فالتقيد بالكتابة ملحوظ و لكن لم يرد الاخبار عن نسبة الكتابة اليه.

الثالث: ان يكون القيد و التقيد كلاهما خارجين عن الغرض في الحمل و يكون المراد من قولك الجالس ثقة- مثلا- هو الاشارة الصرفة الى نفس الذات كقولك: هذا ثقة من دون غرض في اضافته الى الجلوس او الاخبار عن جلوسه.

و لا ريب ان مراد المصنف هو النحو الثاني دون هذا النحو الثالث، لوضوح انه يلزم الانقلاب فيه، و لو كان المشتق بسيطا فانه اذا كان الغرض من المشتق هو صرف الاشارة لا غير، و المحمول في الحقيقة هو زيد و قد اخذ الكاتب لاجل الاشارة الصرفة اليه لا غير، فحينئذ يكون زيد هو المحمول على زيد، و هو من حمل الشي ء على نفسه و لا دخل فيه لكون المشتق مركبا او بسيطا، فلو قلنا ببساطة المشتق و كان الغرض منه هو الاشارة لا غير، و المحمول في الحقيقة هو زيد فانه لا ريب في الانقلاب على البساطة ايضا، فلا بد و ان يكون الغرض من قول المصنف: «و كان القيد خارجا و ان كان التقيد داخلا بما هو معنى حرفي»: أي آلي و طريقي هو النحو الثاني الذي كان القيد فيه ملحوظا، و لكن كان الغرض من لحاظه التعريف و لم يكن لصرف الاشارة كقولك: هذا.

ص: 252

ضرورية، ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان (1) و ان كان المقيد بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية الانسان ناطق تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية الانسان إنسان و هي ضرورية، و الاخرى قضية الانسان له النطق و هي ممكنة، و ذلك لأن الاوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا، فعقد الحمل ينحل إلى القضية (2)، كما أن عقد

______________________________

اذا عرفت هذا فنقول: انه اذا كان الغرض من الحمل هو هذا فالقضية لا محالة تكون ضرورية، لأن المفروض ان المشتق مركب من مصداق الشي ء و هو نفس الموضوع و القيد، و المفروض ايضا ان لا غرض من القيد الّا التعرف و الطريقية، فالمحمول في الحقيقة هو مصداق الشي ء و هو نفس الموضوع فيكون من حمل الشي ء على نفسه، و حمل الشي ء على نفسه من أبده الضروريات.

(1) لا يخفى ان التمثيل للمشتق المقيد بقيد غير ضرورى بالناطق لا يخلو من مسامحة على مذاق المشهور، فان المفروض الايراد على صاحب الفصول في ما ادعاه: من كون المقيد بقيد غير ضروري ليس بضروري، و المفروض ان القيد في الناطق و هو النطق ضروري لانه فصل عند القوم.

نعم على ما ذكره: من كون النطق ليس بفصل يصح التمثيل، و يمكن ان يكون نظره ان الكلام في المقام في الانقلاب و هو من ناحية حمل المصداق للشي ء على الموضوع، فالضرورة المبحوث عنها من هذه الناحية، لا من ناحية اخرى.

(2) انه اذا لم يكن القيد ملحوظا الّا للتعرف فالمراد من الحمل ليس الّا ذات المقيد، فتكون الجملة قد سيقت لاجل خبر واحد و هو حمل ذات المقيد على الموضوع على ما عرفت- في ما تقدم- من لزوم الانقلاب في القضايا الممكنة الى كونها ضروريات.

و اما اذا كان القيد داخلا فيكون الغرض من المحمول هو حمله بما هو مقيد على

ص: 253

.....

______________________________

الموضوع، ففي الحقيقة يكون ذات المقيد محمولا على الموضوع و القيد ايضا محمولا، فبناء على التركيب و كون الكاتب محمولا على زيد بما له من المعنى التركيبي و هو مصداق الشي ء و نسبة الكتابة له ينحل هذا الى ثبوت خبرين لزيد و ان لم يكن هذا بحسب الاصطلاح خبرين.

و توضيح ذلك: ان هناك قضية هي خبران بحسب الاصطلاح لموضوع واحد، كقولك: زيد عالم كاتب، فالعالم و الكاتب خبران اصطلاحا لزيد، و لذا يقال: زيد مبتدأ، عالم خبر، و كاتب خبر بعد خبر. و هناك قضية هي بحسب الاصطلاح ذات خبر واحد و وصف للخبر، كقولك: زيد كاتب مجيد في الكتابة، فان مجيدا ليس خبرا بعد خبر، بل هو وصف للكاتب الذي هو الخبر، إلّا انه ينحل الى اخبار عن زيد ايضا، لانك بعد ان وصفت زيدا بعد حمل الكاتب عليه: بانه مجيد فقد اخبرت عنه بذلك، لأن الاوصاف بعد العلم بها اخبار: أي ان الغرض من الوصف اولا و بالذات هو التوصيف و التعريف، إلّا ان السامع بعد ثبوت هذا الوصف قد تحصل له الاخبار عن زيد بهذا الوصف، فانه بعد ان لم يكن عالما بتوصيف زيد بهذا الوصف صار عالما بان زيدا قد ثبت هذا الوصف له كما ان الامر في الخبر بالعكس، فانك اذا قلت مخبرا عن زيد عالم أو كاتب يكون الغرض من هذه القضية هو الاخبار عنه و بعد ثبوت هذا الخبر عن زيد يكون زيد قد ثبت له وصف العالمية عند السامع، فالاوصاف قبل العلم بها هي اخبار: أي ان الغرض منها اولا بالذات هو التوصيف، و لكن حيث لم يكن السامع قد علم بثبوت هذا الوصف للموضوع و بعد التوصيف قد علم به فيكون خبرا، و الخبر الغرض منه اولا بالذات هو الخبرية، و لكن بعد الاخبار عن ثبوت الخبر للموضوع يكون هذا الخبر وصفا من اوصاف الموضوع، فالاوصاف قبل علم السامع بها تكون اخبارا، و الاخبار بعد الخبرية تكون اوصافا.

اذا عرفت هذا يتضح: انه اذا كان المشتق مركبا و كان محمولا بما هو مركب على موضوعه تنحل هذه القضية الواحدة الى خبرين و قضيتين، فالكاتب بعد فرض

ص: 254

الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ، و قضية ممكنة عند الفارابي (1)،

______________________________

تركيبه يؤول الى اخبار عن زيد: بانه زيد، و الى اخبار عنه ايضا: بان له الكتابة، فهنا قضيتان قد انحلت اليهما هذه القضية الواحدة و هو قولنا: زيد كاتب. و لا ريب ان احد القضيتين ضرورية، لأن كون زيد الذي هو الموضوع هو مصداق الشي ء الذي هو جزء من المشتق و هو زيد ايضا قضية ضرورية، و الثانية و هي كون الموضوع له الكتابة التي هي الجزء الثاني من المشتق المركب قضية ممكنة، و ان من المعلوم المسلم لديهم ان قضية زيد كاتب قضية لها جهة واحدة و هو الامكان، و ليست هي قضيتان لها جهتان: الضرورة لاحدها و الامكان للاخرى، فبناء على التركيب الانقلاب لازم في جزء هذه القضية حيث المراد من المحمول حمل المقيد بما هو مقيد، و لذا قال قدّس سرّه: «فقضية الانسان ناطق» كان الاولى ان يمثل بالانسان كاتب «تنحل الى قضيتين» لفرض كونه مركبا «احداهما» أحد جزئي المركب الذي هو مصداق الشي ء و هو «قضية الانسان انسان و هي ضرورية» لبداهة ضرورة ثبوت الشي ء لنفسه «و الاخرى قضية الانسان له النطق و هي ممكنة» و لا مناص عن هذا الانقلاب على التركيب، و هو لا يلتزم به القوم.

(1) ان سبب الخلاف بين الشيخ الرئيس، و المعلم الثاني: هو ان المراد في قضية الانسان حيوان هو حمل الحيوان على ما هو انسان بالفعل، او حمله على ما هو انسان بالامكان: أي ان الغرض ما هو انسان بالفعل فهو حيوان، او ان الغرض ما امكن ان يكون انسانا فهو حيوان.

و الاول رأي الشيخ، و الثاني رأي الفارابي، فعقد الوضع: أي الموضوع الذي هو الانسان يراد منه ما هو انسان بالفعل عند الشيخ و هذه هي قضيته، او ان الموضوع هو ما امكن ان يكون انسانا عند الفارابي و هي ايضا قضيته.

ص: 255

فتأمل (1).

______________________________

إلّا انه لا يخفى ان غرض المصنف هو تشبيه الانحلال في المقام على التركيب بانحلال عقد الوضع: أي انه في مقامنا على التركيب انحلال، كما ان لعقد الوضع انحلالا، و الّا فالانحلال في عقد الوضع غير الانحلال في المقام، لأن القضية المنحلة في عقد الوضع موضوعها و محمولها و جهتها جميعا تؤخذ من نفس عقد الوضع، فان الموضوع ما هو، و الخبر انسان، و الجهة هي الفعل عند الشيخ، و عند الفارابي الخبر انسان، و الامكان الجهة. فالموضوع و المحمول و الجهة ما هو انسان بالفعل، أو ما هو انسان بالامكان الكل ماخذها نفس عقد الوضع، و الانحلال في مقامنا ليس انحلال عقد الحمل بنفسه الى قضيتين، بل هو منحل الى قضيتين باعتبار كونه خبرين لموضوع القضية، و هذا غير انحلال عقد الوضع الى قضية فعليه عند الشيخ و ممكنة عند الفارابي.

(1) يمكن ان يكون اراد بالتامل الاشارة الى ما قلنا: من الفرق بين الانحلالين، و يمكن ان يكون اشارة الى ان المشتق على التركيب و ان انحل الى قضيتين في مثل الانسان كاتب الى الانسان انسان، و الانسان له الكتابة لا في مثل زيد كاتب، إلّا ان القضية الاولى يمكن ان يقال: إنها ليست ضرورية لأن الموضوع فيها هو الكلي، و المحمول و ان كان هو الانسان الّا انه ليس هو كلي الانسان، بل هو الحصة لأن الكلي بعد تقيّده يكون حصة إذ الفرق بين الكلي و الحصة هي التقيّد وحده من دون القيد، و لذا قال السبزواري:

و الحصة الكلي مقيدا يجي ءتقيد جزء و قيد خارجي 38].

و من الواضح ان حمل الكلي على الحصة ضروري، و لكن حمل الحصة على الكلي ليس من الضروري، لأن الانسان بلحاظ نفس تقيده ربما يكون له ثبوت في

ص: 256

لكنه قدّس سرّه تنظر فيما أفاده بقوله: و فيه نظر لأن الذات الماخوذة مقيّدة بالوصف قوة أو فعلا، إن كانت مقيّدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة، و إلّا صدق السلب بالضرورة، مثلا: لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة انتهى (1).

______________________________

الواقع و ربما لا يكون، فلا يكون ثبوت الحصة ضروريا للإنسان الكلي، لكنه لا يخفى ان هذا يتم في الانسان، لا في مثل زيد كاتب، فان المحمول على زيد نفس زيد لعدم كون زيد الذي هو الموضوع كليا فلا تغفل.

(1) توضيح مراد صاحب الفصول على مقتضى هذه العبارة التي نقلها المصنف عنه ان يقال: ان الموضوع في مثل قضية: زيد كاتب.

اما ان يكون ملحوظا مع الكتابة: أي بشرط الوجود، او يكون ملحوظا لا مع الكتابة: أي بشرط العدم، او يكون ملحوظا لا مع الكتابة، و لا مع عدم الكتابة:

أي لا بشرط.

فعلى الاول تكون جهة القضية هي ضرورة الوجود، لأن زيدا الملحوظ بشرط الكتابة يصدق عليه الكاتب بالضرورة لا بالامكان، و زيدا الملحوظ بشرط عدم الكتابة يكون عدم صدق الكاتب عليه ضروريا، فلا يصدق الكاتب عليه بالامكان فضلا عن ان يصدق عليه بالضرورة، نعم لو لحظ زيد لا بشرط يكون صدق الكاتب عليه بالامكان.

فحاصل مراد صاحب الفصول في هذا النظر على ما اورده على الشريف: هو ان الايراد الذي اوردناه على الشريف- من ان حمل المقيد بقيد غير ضروري لا يكون ضروريا و لا يلزم منه الانقلاب بناء على التركيب- لا يصح على اطلاقه، فانه لو كان الموضوع ملحوظا مع الكتابة يلزم الانقلاب، لوضوح صدق الكاتب بالضرورة على

ص: 257

و لا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة، بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية و لو كانت ممكنة، كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا، لضرورة السلب بهذا الشرط، و ذلك لوضوح أن المناط في الجهات و مواد القضايا، إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجّهة

______________________________

زيد الملحوظ مع الكتابة، و لذا قال: «لكن يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة».

و اما قوله: «لا يصدق زيد كاتب بالضرورة» هذا.

اما ان يكون مثالا لزيد الملحوظ لا بشرط فانه مع لحاظه لا بشرط يكون نسبة الكاتب اليه بالامكان، لا بالضرورة فلا يصح فيما اذا لحظت زيدا لا بشرط ان تحمل عليه الكاتب موجها بجهة الضرورة فتقول: زيد كاتب بالضرورة، و حينئذ يكون لحاظ زيد بشرط عدم الكتابة مسكوتا عنه في كلامه و لا مثال له.

و اما ان يكون هذا مثالا لزيد الملحوظ بشرط عدم الكتابة، فان زيدا الملحوظ كذلك يكون صدق عدم الكاتب عليه بالضرورة، و لا يصدق عليه الكاتب بالامكان فضلا عن الضرورة، فاذا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة. و قوله: «بالضرورة» يمكن ان يريد منه بالبداهة: أي انه لا يصدق بالبداهة على زيد الملحوظ مع عدم الكتابة انه كاتب، لأن عدم الكاتب ضروري له فلا يصدق عليه الكاتب بالامكان فضلا عن الضرورة، و يمكن ايضا ان يكون قوله: «بالضرورة» هو جهة القضية:

أي ان زيدا الملحوظ بشرط عدم الكتابة لا يصدق عليه انه كاتب بالضرورة، لانه على هذا لا يصح ثبوت الكتابة له بالامكان، فكيف يصح انه كاتب بالضرورة، و حينئذ يكون زيد الملحوظ لا بشرط مسكوتا عنه في كلامه و لا مثال له.

ص: 258

بأيّ جهة منها (1)، و مع أية منها في نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك، و إلّا كانت الجهة منحصرة بالضرورة،

______________________________

(1) حاصل ما افاده المصنف هو الايراد على صاحب الفصول في نظره الذي اورده على نفسه في ردّه على الشريف: من عدم لزوم الانقلاب و انه يلزم الانقلاب فيما اذا كان الموضوع ملحوظا بشرط الكتابة و مقيدا بها واقعا.

و ملخص ما اورده عليه المصنف: هو ان الانقلاب في القضية التي لحظ الموضوع فيها بشرط المحمول غير الانقلاب الذي يدعيه الشريف بناء على تركيب المشتق، فان الشريف يدعى الانقلاب في القضية التي كان الموضوع فيها ملحوظا فيها لا بشرط و ان جهتها بحسب المتفاهم العرفي هو الامكان تنقلب جهتها إلى الضرورة اذا كان المشتق كالكاتب- مثلا- مركبا من مصداق الشي ء و الكتابة، و هذا لا ربط له بما ذكره في هذا النظر: من ان زيدا اذا كان ملحوظا بشرط الكتابة تكون القضية ضرورية، لأن كل قضية كان ثبوت محمولها لموضوعها موجها بجهة الامكان اذا اخذ الموضوع بشرط المحمول تكون ضرورية.

و بعبارة اخرى: ان القضايا انما تنقسم الى الضروريات و الممكنات انما هو بلحاظ نسبة المحمول فيها الى الموضوع غير المقيد بثبوت المحمول له أو عدم ثبوته له، و إلّا فالقضية منحصرة في الضرورية دائما، فانه بلحاظ ثبوت المحمول له يكون الوجود ضروريا، و بلحاظ عدم ثبوته له يكون العدم ضروريا، فان المتقيد بقيد الكتابة كاتب لا محالة، و المتقيد بعدم الكتابة ليس بكاتب لا محالة فلا تصح قسمة القضية الى الضرورية و الممكنة، و انما تصح قسمتها اليهما فيما اذ لحظ نسبة المحمول الى الموضوع غير المتقيد، فان كانت نسبته له بالامكان كانت ممكنة، و ان كانت باللزوم كانت ضرورية، و لم ينظر القوم الى القضية بما هي متقيدة بالثبوت واقعا، او بعدم الثبوت واقعا.

ص: 259

ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب بلحاظ الثبوت و عدمه واقعا ضروريا، و يكون من باب الضرورة بشرط المحمول (1).

و بالجملة: الدعوى: هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة، فيما ليست مادته واقعا في نفسه و بلا شرط غير الامكان (2).

______________________________

(1) الضمير من لفظة منها راجع الى الجهة، و الضمير من لفظة نفسها راجع الى النسبة: أي ان المناط في جهات القضايا و بيان كيفية نسبة محمولاتها الى موضوعاتها هو لحاظ نسبة المحمول الى موضوعه الملحوظ بنفسه من دون تقيده بالمحمول و انها موجهة بأيّ جهة.

(2) أي ان دعوى الشريف الانقلاب انما هو في القضية الممكنة و هي ليست القضية بشرط المحمول، لأنها ضرورية بالبداهة فكيف يصح دعوى الانقلاب فيها. هذا بحسب العبارة التي نقلها المصنف عن الفصول، و لكنها مغلوطة و النسخ الصحيحة عبارتها غير ما نقله المصنف عنه، و مراد الفصول منها معنى آخر غير المعنى المذكور، و لا يريد القضية بشرط المحمول، و الّا يرد عليه ما اورده المصنف، و هناك امارات تدل على ما يريده صاحب الفصول في هذا النظر ليس هو القضية بشرط المحمول.

و العبارة الثابتة في النسخ الصحيحة هكذا: «و فيه نظر لأن الذات الماخوذة مقيدة بالوصف قوة او فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة، و الّا صدق السلب بالضرورة، مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة و لكن يصدق زيد زيد الكاتب بالفعل او بالقوة بالضرورة» انتهى كلامه.

و ليس مراد الفصول في عبارته هذه القضية بشرط المحمول، بل مراده من الذات في صدر عبارته هي الذات المنحل اليها المشتق بناء على التركيب، و ليس غرضه من الذات هو الموضوع، لوضوح ان الكلام في تركب المشتق و بساطته، و المتكرر بناء

ص: 260

.....

______________________________

على التركيب هو الموضوع و هو الذات، و على البساطة لا يكون الموضوع متكررا فيها.

و اما القضية بشرط المحمول فالمتكرر فيها هو المحمول فتقول: زيد الكاتب كاتب بالضرورة، بخلاف التركيب في المشتق فان المتكرر فيه هو الموضوع و يعود قولنا: زيد كاتب بالفعل او بالقوة الى قولنا: زيد زيد الكاتب بالفعل او بالقوة بالضرورة، كما هو مذكور في العبارة المصححة. هذا اولا.

و ثانيا: ان القضية بشرط المحمول الانقلاب فيها الى الضرورة لا يفرق فيه سواء قلنا بالتركيب في المشتق او بالبساطة، و المفروض ان الانقلاب انما يكون على التركيب دون البساطة، و في القضية بشرط المحمول يلزم الانقلاب و لو كان المشتق بسيطا، فان الانقلاب انما يلزم فيها لأخذ المحمول في الموضوع فسواء كان الكاتب بسيطا او مركبا اذا اخذ في الموضوع يلزم الانقلاب لا محالة. و حاصل ما اراده الفصول في هذا النظر هو ان ما قلنا: من ان المقيد بقيد غير ضروري لا يكون ضروريا ليس بصحيح، لانه بناء على التركيب يكون المحمول منحلا الى ذات لها الكتابة، فالمحمول اذا في نفسه قضية لها موضوع و نسبة و محمول و هذه النسبة مادتها هو الامكان فيكون هذا المحمول المنحل الى هذه القضية التي مادتها الامكان منسوبا و محمولا الى الموضوع، و لا ريب ان ثبوت امكان الكتابة لزيد بالضرورة لا بالامكان.

نعم، الكتابة المنسوبة للذات الماخوذة في نفس المحمول بحسب الانحلال هي بالامكان، و اما ثبوت هذه الكتابة للذات بالامكان، للذات التي هي الموضوع في القضية فهو بالضرورة لا بالامكان، فان ثبوت الكتابة لزيد ليس بالضرورة بل بالامكان، و لكن الكتابة الثابتة لزيد بالامكان بما هي ثابتة له بالامكان اذا حملت على زيد الذي هو الموضوع في (زيد كاتب) تكون بالضرورة لا بالامكان، و لا يلزم هذا بناء على البساطة لعدم تركب المحمول فلا يئول الى قضية مادتها الامكان ليكون

ص: 261

و قد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده رحمه اللّه بإبطال الوجه الاول، كما زعمه قدّس سرّه، فإن لحوق مفهوم الشي ء و الذات لمصاديقهما، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما، لا مطلقا، و لو مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا، و قد عرفت حال الشرط (1)

______________________________

حمله على زيد بالضرورة و يكون المثال الاول في عبارة الفصول و هو قوله: مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة هو مثال للبساطة.

و مثاله الثاني: و هو قوله و لكن يصدق زيد زيد الكاتب بالفعل او بالقوة بالضرورة هو مثال للتركيب، فلا يرد على الفصول بناء على هذا ما اورده المصنف.

نعم، يمكن ان يرد على الفصول غير ما اورده المصنف، و لكنا نعرض عن ذكره لأن المبنى في هذه الكتابة الاقتصار على التوضيح، و قد طال المقام في هذا الامر الاول.

(1) ينبغي ان نشير الى ما في الفصول متسلسلا ايضاحا للمطلب.

لقد ذكر في الفصول ما اورده الشريف على تركب المشتق بمنفصلة ذات شقين، فاورد صاحب الفصول على الشق الاول: و هو اخذ مفهوم الشي ء في المشتق بما عرفت، ثم اورد على الشق الثاني: و هو لزوم الانقلاب من اخذ مصداق الشي ء في المشتق بعدم الانقلاب، لأن المقيد بقيد غير ضروري ليس بضروري، ثم تنظر في هذا: بلزوم الانقلاب على كل حال، ثم بعد ان اثبت الانقلاب من اخذ المصداق قال قدّس سرّه: ان هذا كما يبطل هذا الوجه، كذلك يبطل الوجه الاول: يعني أن انقلاب الممكنة الى الضرورية الذي ذكر لابطال اخذ المصداق في المشتق هو ايضا يبطل الوجه الاول: و هو اخذ مفهوم الشي ء في المشتق، لأن ثبوت مفهوم الشي ء للانسان- مثلا- ضروري كثبوت الانسان لنفسه.

ص: 262

فافهم (1).

______________________________

فاورد عليه المصنف بقوله: «و قد انقدح بذلك» و حاصله: ان المقيد بقيد غير ضروري ليس بضروري، فان مفهوم الشي ء او الذات اذا حمل مطلقا و من غير قيد يكون ثبوته لعامة الاشياء ضروريا، و اما اذا لحق للاشياء و حمل عليها مقيدا بقيد غير ضروري لا يكون ضروريا.

نعم، لو كان الموضوع في القضية ملحوظا بنحو شرط المحمول يتم الانقلاب و تكون الممكنة ضرورية، الّا انك قد عرفت ان الكلام انما هو في القضايا الممكنة التي لم يلحظ الموضوع فيها مقيدا بوجود المحمول، و الى جميع هذا اشار بقوله: «و قد انقدح بذلك» وجه الانقداح انه يرد عليه عين ما اورده فيما تقدم الآن: من ان الكلام في غير القضية بشرط المحمول، بل هو في القضية التي اخذ الموضوع فيها لا بشرط و فيها لا يلزم الانقلاب «فان لحوق مفهوم الشي ء و الذات لمصاديقهما انما يكون ضروريا مع اطلاقهما» و هو فيما اذا حمل الشي ء او الذات مطلقا و من غير قيد، لا فيما اذا حمل «مطلقا و لو مع التقيد»- لو هنا وصلية- و لا يلزم الانقلاب «إلّا بشرط تقيد المصاديق به ايضا»: أي بنحو القضية بشرط المحمول «و قد عرفت حال الشرط»: أي ان الكلام ليس فيها بل الكلام في غيرها.

ثم لا يخفى، انه بناء على النسخة المصححة لعبارة الفصول: و هو كون المحمول بناء على التركيب في المشتق ينحل الى قضية: و هي كون الشي ء له الكتابة، و سواء كانت جهة هذه القضية المنحل اليها المشتق بناء على التركيب هي الامكان أو الضرورة، فان ثبوتها للانسان الذي هو الموضوع في القضية بالضرورة- كما مر بيانه، و هذا كما يبطل اخذ مصداق الشي ء في المشتق كذلك يبطل اخذ مفهوم الشي ء فيه فلا تغفل.

(1) يشير بقوله: فافهم الى ان عدم لزوم الانقلاب إنما هو على ما سلكه صاحب الفصول: من ان المقيد بغير الضروري غير ضروري، و اما على مسلك المصنف:

ص: 263

ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل، ضرورة أن مصداق الشي ء الذي له النطق هو الانسان، كان أليق بالشرطية الاولى، بل كان أولى لفساده مطلقا، و لو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشي ء في لازمه و خاصته، فتأمل جيدا (1).

______________________________

من لزوم انقلاب الممكنة الى ضرورية فيما اذا كان المحمول ذات المقيد، و القيد اخذ بنحو المعنى الحرفي: بان يكون التقيّد داخلا و القيد خارجا او الى ممكنة و ضرورية فيما اذا كان القيد كالمقيد داخلا ايضا، فان هذا كما يبطل اخذ مصداق الشي ء في المشتق كذلك يبطل الوجه الاول و هو اخذ مفهوم الشي ء في المشتق، فالمركب من مفهوم الشي ء و الكتابة اذا حمل على الانسان مثلا- بنحو دخول التقيّد و خروج القيد تنقلب الممكنة الى ضرورية، و اذا حمل بنحو اخذ مفهوم الشي ء و الكتابة تنقلب القضية الممكنة الى قضية ممكنة و قضية ضرورية.

(1) قد عرفت ان التالي في الشرطية الثانية في كلام الشريف: هو انقلاب مادة الامكان الى الضرورة، و يقول المصنف: لو جعل بدل هذا التالي: أي انقلاب الامكان الى الضرورة لزوم دخول النوع في الفصل لكان اليق، و للاليقية وجهان:

الاول: هو ان المثال في الشرطية الاولى التي هي لزوم دخول العرض العام في الفصل قولنا: الانسان ناطق، فالتالي فيها هو دخول العرض العام في الفصل و مثاله: الانسان ناطق فلو جعلنا التالي في الشرطية الثانية هو دخول النوع في الفصل لأن المشتق اذا كان مركبا من مصداق الشي ء فمصداقه في قولنا: الانسان ناطق هو نفس الانسان و هو النوع، فيكون داخلا في الفصل و بعضا من الفصل، و لا يعقل ان يكون النوع بعضا من فصله، و كيف يكون الكل بعضا من جزئه و يكون قولنا الانسان ناطق مثالا له ايضا، فالشرطيتان يردان في مورد واحد و المثال لهما واحد.

ص: 264

ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة، بضرورة عدم تكرّر الموصوف في مثل زيد الكاتب، و لزومه من التّركّب، و أخذ الشي ء مصداقا أو مفهوما في مفهومه (1).

______________________________

الثاني: ما ذكره بقوله: «بل كان اولى لفساده مطلقا» و حاصله: أن ما ذكره من التحقيق: من ان الناطق ليس بفصل حقيقي بل هو خاصة لا يضر في الشرطية الثانية كما اضر بالشرطية الاولى، لأن النوع كما لا يجوز دخوله في فصله كذلك لا يجوز دخول النوع في خاصته و لازمه، و كيف يعقل دخول الملزوم في لازمه فيلزم الفساد مطلقا سواء كان الناطق فصلا او خاصة.

(1) هذا دليل آخر على البساطة.

و محصله: ان المشتق لو كان مركبا اما من مفهوم الشي ء و الكتابة او من مصداقه و الكتابة للزم تكرر الموصوف في قولنا: زيد الكاتب فانه لو كان مركبا من مفهوم الشي ء للزم تكرر الموصوف و هو زيد لا باسمه، بل بعنوان كونه شيئا و يكون المتبادر من قولنا: زيد الكاتب زيد شي ء له الكتابة، و اذا كان المشتق مركبا من مصداق الذات لزم تكرر الموصوف بنفسه و باسمه، لأن لازم التركب من المصداق ان يكون الموصوف بنفسه ماخوذا في المشتق فيرجع قولنا: زيد الكاتب الى قولنا: زيد زيد له الكتابة، مع انه من الواضح عدم تبادر تكرر الموصوف عند قولنا: زيد الكاتب لا بعنوان انه شي ء و لا بنفسه. هذا كل ما امكن ان يكون دليلا على بساطة المشتق، و لكن الانصاف ان الوجدان و البرهان يثبتان تركب المشتق، و لكنه ليس مركبا من مفهوم الذات، و لا من مصداقه، بل بما هو مركب من المبدأ و امر مبهم من كل الجهات عدا كونه قائما به المبدأ.

اما الوجدان، فلوضوح تبادرنا من لفظ القائم- مثلا- ما له الانتصاب، لا نفس الانتصاب، و كذا الراكب المفهوم منه ما له الركوب لا نفس الركوب.

ص: 265

إرشاد: لا يخفى أن معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكا و تصورا، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شي ء واحد لا شيئان، و إن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الحجر و الشجر إلى شي ء له الحجرية أو الشجرية، مع وضوح بساطة مفهومهما.

و بالجملة: لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى، و بساطة المفهوم كما لا يخفى، و إلى ذلك يرجع الاجمال و التفصيل الفارقان بين المحدود و الحد، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا، فالعقل بالتعمل يحلل النوع، و يفصله إلى جنس و فصل، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا، و شيئا فاردا تصوّرا، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع و الرتق (1).

______________________________

و اما البرهان، فلان مناط الحمل في المشتقات هو اتحادها مع موضوعاتها، و كذا في الاتصاف هو اتحادها مع الموصوفات واقعا، و ما لم يكن اتحاد واقعا مصححا للحمل و الاتصاف لا يصح الحمل و لا يصح التوصيف، فان اعتبار الكتابة أو الركوب أو القيام لا بشرط لا يجعله متحدا مع زيد بحيث يصح ان يقال: هذا ذاك.

و قد ذهب الى هذا الراي و استدل عليه شيخنا المؤسس المحقق في حاشيته نهاية الدراية على الكفاية فليراجع اليه 39]. و لا يخفى انه لا يرد عليه شي ء مما ذكر لأن الماخوذ في المشتق امر مبهم من كل الجهات عدا كونه قائما به المبدأ فلا يلزم دخول مفهوم الشي ء في المشتق، لأن الامر المبهم ليس مفهوم الشي ء، و لا يلزم الانقلاب لأن الموضوع لم يؤخذ بنفسه و لا بعنوان من عناوينه في المشتق حتى يلزم الانقلاب.

(1) يظهر منه قدّس سرّه في هذا الارشاد ان النزاع في المشتق من حيث بساطته و تركيبه انما هو في مفهومه لا في حقيقته: أي ان من يدعى البساطة يقول: ان المفهوم من

ص: 266

.....

______________________________

المشتق عند تمثل صورته في الذهن و تصوره هو معنى واحد لحظ بنحو الانطواء، و ان كان مركبا حقيقة بعد التعمل من العقل فبساطة المشتق: هو انه واحد عند الادراك و التصور، و ان القائل بالتركيب يقول: انه مركب من مفهومين كمفهوم رامي الحجارة- مثلا-، فمن يقول بالبساطة يقول: ان مفهوم المشتق كمفهوم الانسان و مفهوم الحجر فانه عند الادراك و التصور الحاصل عند اطلاق هذين اللفظين يحصل في الذهن مفهوم واحد، و ان كان العقل بعد تعمله يحلل الانسان الى جنس و فصل، و تحليل الحجر أو الشجر الى ما له الحجرية و الشجرية: أي الى المادة و الصورة.

و لا ريب ان هذا المفهوم واحد و بسيط في التصور، و لكنه مركب بعد التحليل و التعمل من العقل، و ان القائل بالتركيب يدعي: ان المتصور و المدرك من لفظ المشتق مفهومان إما مفهوم الذات و الشي ء و المبدأ، و اما مصداق الذات و الشي ء و المبدأ و لذا قال قدّس سرّه: «و بالجملة لا ينثلم بالانحلال الى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى و بساطة المفهوم» فلا يضر على هذا كون المشتق مركبا عند التعمل و لكنه واحد و بسيط عند الادراك و التصور، و واضح هذا بقوله: «و الى ذلك يرجع الاجمال و التفصيل الفارقان بين المحدود و الحد» فان الانسان الذي هو المحدود له مفهوم واحد بسيط عند الادراك و التصور، و لكن العقل يحلله الى جنس و فصل و الى مفهومين ممتازين في المفهومية قد تركبت ذاته منهما حقيقة و هما جنسه و فصله فيحدد بالحيوان الناطق.

إلّا ان الظاهر من استدلال الشريف ان النزاع ليس في ما ذكره المصنف، بل النزاع في حقيقة المشتق و انه حقيقة مركب أو انه بسيط و غير مركب.

و يدل على هذا بوضوح استدلال الشريف على البساطة: بلزوم دخول العرض العام في الفصل، و انقلاب القضية الممكنة الى الضرورية، فان المشتق لو كان في مقام التصور و الادراك بسيطا و واحدا و لا تركيب فيه و لكن حقيقته كانت مركبة يلزم ما ذكره الشريف: من دخول العرض العام في الفصل حيث لو كانت حقيقته مركبة من

ص: 267

الثاني الفرق بين المشتق و مبدئه مفهوما، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدإ، و لا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس و نسب إليه كان غيره، لا هو هو، و ملاك الحمل و الجري إنما هو نحو من الاتحاد و الهوهوية (1)، و إلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق

______________________________

ما يؤول الى مفهوم الشي ء و المبدأ و يلزم الانقلاب لو كانت حقيقته مركبة من مصداق الشي ء و المبدأ، فالظاهر ان النزاع في التركيب و البساطة انما هو في ناحية ذاته و حقيقته لا في وحدته التصورية و تركيبها.

(1)

الفرق بين المشتق و المبدأ

لما تقدم مختاره بما برهن عليه بخروج مفهوم الذات و مصداقها عن المشتق فلم يبق في المشتق سوى المبدأ.

فتوجه السؤال: بانه أي فرق حينئذ بين المشتق و المبدأ. فعقد هذا الامر لبيان وجه الفرق، لأن الفرق بين المشتق و مبدئه مما لا يمكن انكاره، فان المبدأ لا يحمل على الذات و لا يصح حمله عليها الّا بالتاويل، كرجل عدل، و المشتق يصح حمله من غير تاويل بالبداهة، فان العادل يحمل بالبداهة من غير تاويل على الرجل، فيقال: هذا الرجل عادل.

و حاصل الفرق الذي ذكره: هو ان لحاظ اللابشرطية و البشرطلائية قد يلحظان بالنسبة الى ما هو خارج عن مفهوم الملحوظ، كلحاظ الكفر بالنسبة الى الرقبة فان لحاظه خارج عن مفهوم الرقبة، لانه لم يؤخذ الكفر في مفهوم الرقبة لا بنحو اللابشرطية و لا بنحو البشرطلائية، بل لفظ الرقبة موضوع لماهية الرقبة بلحاظ ذاتها و ذاتياتها من غير شي ء آخر اصلا، و انما تلحظ الرقبة بالنسبة الى الكفر في مقام الحكم عليها بالعتق و نحوه، فتارة تؤخذ لا بشرط، و اخرى تؤخذ بشرط لا، و ربما تكون اللابشرطية و البشرطلائية مأخوذين في نفس المفهوم كمقامنا، فان المبدأ اذا اخذ في صلب مفهومه الإباء عن الحمل: أي اخذ فيه كونه بشرط عدم الحمل وضع

ص: 268

بينهما، من أن المشتق يكون لا بشرط، و المبدأ يكون بشرط لا: أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، و مفهوم المبدأ يكون آبيا عنه، و صاحب الفصول رحمه اللّه حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة

______________________________

له لفظ الضرب أو البياض، و اذا اخذ في مفهومه عدم الإباء عن الحمل و هو لحاظ اللابشرطية وضع له لفظ الضارب و الابيض، و لذا لا يصح حمل الضرب و البياض على الذات، و يصح حمل الضارب و الابيض عليها، فالاباء عن الحمل و عدم الإباء عن الحمل داخلان في مفهوم الضرب و الضارب.

و السبب في هذين اللحاظين و دخولهما في المفهوم الموضوع له اللفظ: هو ان ماهية البياض- مثلا- تارة تلحظ بما انها كيف خاص و ماهية خاصة في قبال سائر الماهيات، فقد اخذ فيها بحسب هذا اللحاظ انها هي غير غيرها من سائر الجواهر و الاعراض، بل غير انواع الكيف ايضا، ففي هذا النظر منظورة بنحو المغايرة لغيرها و انها في قبال غيرها من سائر الاشياء، فهي ملحوظة بشرط لا و أنها ماهية خاصة تباين غيرها من الماهيات، و مع هذا الشرط و هذا اللحاظ وضع لها لفظ البياض، و لذا لا يصح حمله على غيره من سائر الماهيات.

و اخرى: تلحظ الماهية من جهة اتحادها مع غيرها الّا انها تقع وصفا لغيرها من الماهيات، و وقوعها وصفا لغيرها لا بد له من جهة اتحاد، و الّا لما صح التوصيف، لأن التوصيف حيثية كون الشي ء من لواحق غيره و كونه عارضا عليه، و في مقام كون الشي ء لاحقا لغيره و عارضا عليه لا بد له من جهة اتحاد معه، و في هذا اللحاظ و دخوله في مفهوم هذه الماهية وضع له لفظ الابيض، و لذا صرح قدّس سرّه: ان الفرق بين المشتق و مبدئه هو في ناحية المفهوم و ان مفهوم كل منهما غير مفهوم الآخر و انه داخل في مفهوم احدهما انه لا يأبى عن الحمل، و داخل في مفهوم الآخر الإباء عن الحمل، فلحاظ اللابشرطية و لحاظ البشرطلائية داخلان في صلب المفهوم و ليسا خارجين عن المفهوم كالكفر بالنسبة الى الرقبة.

ص: 269

بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطوارئ و العوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد أورد عليهم: بعدم استقامة الفرق بذلك، لاجل امتناع حمل العلم و الحركة على الذات، و إن اعتبر لا بشرط، و غفل عن أن المراد ما ذكرنا (1)، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس و الفصل،

______________________________

(1) لا يخفى ان دعوى رجوع ما ذكره اهل المعقول الى ما ذكره قدّس سرّه مقدمة للرد على صاحب الفصول: فان صاحب الفصول اورد على ما ذكره اهل المعقول: من الفرق بين المشتق و مبدئه بلحاظ اللابشرطية و البشرطلائية: بانه يلزم على ما ذكروه من الفرق بينهما باللحاظ انه يجوز لنا حمل العلم و الحركة على الذات اذا لحظناهما بنحو اللابشرطية، و من الواضح انه لا يصح حملهما على الذات و لو لحظا لا بشرط، و انما يجوز الحمل اذا استعملناهما في العالم و المتحرك، و استعمالهما في العالم و المتحرك غير لحاظهما لا بشرط.

و توضيح الحال: ان لازم ما ذكره المصنف من دخول اللابشرطية في مفهوم المشتق هو كون المشتق مركبا مفهوما من المبدأ و النسبة، لدخول حيثية عدم الإباء عن الحمل في نفس مفهومه، فاذا كان لحاظ اللابشرطية داخلا في المشتق، و لحاظ الإباء عن الحمل داخلا في مفهوم المبدأ لا يصح حمل المبدأ بمفهومه الموضوع له اذا لحظ لا بشرط، فان لحاظ اللابشرطية لا يعقل ان يغير المفهوم الذي اخذت البشرطلائية في نفسه.

نعم، اذا استعمل في غير مفهومه و غير ما وضع له صح حمله حينئذ، فلحاظ اللابشرطية داخلا في مفهوم المشتق، و لحاظ البشرطلائية داخلا في مفهوم المبدأ هو الذي فهمه المصنف من كلام اهل المعقول، و لذا رد على صاحب الفصول: بان ما اورده على القوم غير وارد عليهم، لانهم لم يردوا ان الفرق بين المبدأ و المشتق بلحاظ اللابشرطية و البشرطلائية الخارجين عن المفهوم، فيكون المفهوم في المبدإ

ص: 270

.....

______________________________

و المشتق واحدا، فاذا لحظ لا بشرط كان مشتقا، و اذا لحظ بشرط لا كان مبدأ فان المفهوم فيهما ليس واحدا، لدخول اللابشرطية و البشرطلائية في نفس المفهوم فيهما، و ان صاحب الفصول حسب انهم يريدون اتحاد المفهوم فيهما و الفرق باللحاظ الخارج عن المفهوم فاورد عليهم بما ذكر، و لكنهم لم يريدوا ذلك، بل ارادوا دخولهما في نفس المفهوم فلا يرد عليهم ما اورده.

و الذي دعا المصنف الى حمل كلام القوم على ما ذكر: هو ان لحاظ اللابشرطية و البشرطلائية الخارجيين لا يعقل ان يسبب تغييرا و فرقا بينهما في المفهوم مع كون الفرق بينهما في نفس المفهوم واضحا، فان مفهوم البياض بنفسه غير مفهوم الابيض، و كذلك الضرب غير الضارب فانه لا يصح الحمل في المبدأ بما له من المفهوم، و يصح في المشتق بمفهومه، فلا بد و ان يكون لحاظ الإباء و عدم الإباء داخلا في نفس مفهومهما.

الّا انه عند مراجعة كلام اهل المعقول يظهر ان ما فهمه صاحب الفصول هو صريح كلماتهم، فان كلامهم صريح في خروج النسبة عن مفهوم المشتقات كخروج الذات عنها، و قد عرفت ان لازم ما ذكره المصنف هو دخول النسبة و لحاظ اللابشرطية في مفهومها.

نعم، هناك شي ء خفي على المصنف و صاحب الفصول و هو ان الفرق الذي ذكروه انما هو بين المشتق و المبدأ الساري في جميع المشتقات و هو المبدأ الحقيقي الذي هو المادة لهيئات المشتقات، و لم يريدوا بالمبدإ المبدأ المشهور و هو المصدر، لأن المصدر عندهم مشتق من المشتقات لتألفه من مادة و هيئة، فلا يحسن الايراد عليهم من صاحب الفصول: بانه لا يصح حمل العلم و الحركة اذا لحظا لا بشرط فانهما مبدأ مشهوري لا مبدأ حقيقي، و كذلك الظاهر من المصنف من عدم صحة الحمل في المبدأ انما هو في المصدر بل هو في المبدأ الحقيقي عندهم، و المبدأ الحقيقي لا تحقق له الّا في ضمن الهيئات فلا حمل له بذاته حتى لا يصح حمله.

ص: 271

و بين المادة و الصورة، فراجع (1).

______________________________

(1) أي ان الفرق الذي ذكره المصنف بين المشتق و مبدئه من الإباء عن الحمل، و عدم الإباء هو ايضا الفرق الذي ذكره اهل المعقول بين الجنس و المادة، و الفصل و الصورة.

و توضيح ما ذكره: و هو انه لا اشكال عندهم: أي عند متاخري اهل المعقول هو ان الاتحاد بين المادة و الصورة و الجنس و الفصل حقيقي و ان فيض الوجود يسري من الفصل الى الجنس، و من الصورة الى المادة و انهما موجودان بوجود واحد فهما متحدان في الوجود، و لهما وجود واحد خارجا، فالحيوان و الناطق المركب منهما ماهية الانسان عند التحليل و التجزئة العقلية هما عين البدن و النفس الناطقة اللذين هما المادة و الصورة، إلّا انه يصح حمل الحيوان على الناطق و حمل الناطق على الحيوان، و لا يصح حمل النفس على البدن و لا حمل البدن على النفس. نعم، يصح حملهما مجتمعين على الانسان فيقال: الانسان نفس و بدن، و لكن لا يصح ان يقال:

البدن نفس و لا النفس بدن، بخلاف الحيوان و الناطق فانه يصح ان يقال: الحيوان ناطق، و الناطق حيوان.

و حاصل ما ذكره من الفرق بينهما: هو انه لا اشكال ان الانسان موجود بوجود واحد و ان كلا من جزئيه له حظ و نصيب من هذا الوجود، فاذا لحظ هذا الوجود بما له من الحد و المرتبة التي تخص الجزء كان مادة و صورة و هو معنى لحاظه بشرط لا، فان لحاظه بما له من الحد الخاص و المرتبة المعينة لكل واحد من جزئيه لازمه و مقتضاه هو كون كل من الجزءين ملحوظين بنحو المغايرة و المباينة، فان كل جزء بما له من المرتبة الخاصة به غير الجزء الآخر بما له من المرتبة الخاصة به، و مع هذه المغايرة و المباينة يكون كل منهما ملحوظا غير الآخر، بل في قبال الآخر و هو معنى لحاظ الجزءين بشرط لا، و في هذا اللحاظ يعبّر عن الجزءين بالمادة و الصورة، و اذا لحظ الجزءان بما انهما موجودان بوجود واحد و ان لهما تحققا واحدا في الخارج، و ان

ص: 272

الثالث: ملاك الحمل كما أشرنا إليه هو الهوهوية و الاتحاد من وجه، و المغايرة من وجه آخر، كما يكون بين المشتقات و الذوات، و لا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين، و اعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك واحدا، بل يكون لحاظ ذلك مخلا، لاستلزامه المغايرة بالجزئية و الكلية و من الواضح أن ملاك الحمل لحاظ بنحو الاتحاد بين الموضوع و المحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات و سائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها، كما هو الحال في طرف المحمولات، و لا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد، مع ما هما عليه من المغايرة و لو بنحو من الاعتبار.

______________________________

حيثية الجنس حيثية اللامتحصل، و حيثية الفصل حيثية المتحصل و المحصل للجنس، و لازم لحاظهما كذلك لحاظ الاتحاد بينهما و عدم لحاظهما بما لهما من المرتبة المختصة بهما من الوجود و التحقق، فلا يكونان ملحوظين بما ان كلا منهما في قبال الآخر، بل بما هما متحققان بتحقق واحد، و ان لهما وجودا واحدا ساريا بينهما، و مثل هذا اللحاظ هو لحاظ اللابشرطية و هو لحاظ الاتحاد، فلذلك يصح حمل كل منهما على الآخر، و في هذا اللحاظ هما جنس و فصل.

فتحصل من ذلك: ان الجنس و الفصل لحظا لا بما هما متغايران، و المادة و الصورة لحظا بما هما متغايران، و المتحدان يصح حملهما و المتغايران لا يصح حملهما، و ليس مرادهم انهما لحظا بما هما متحدان و بشرط الاتحاد، بل المراد انهما حيث كانا موجودين بوجود واحد و لم تلحظ المرتبة الخاصة لهما من هذا الوجود كان ذلك معنى لحاظهما لا بشرط، لا انهما ملحوظان بشرط الاتحاد، بخلاف الصورة و المادة فانهما لحظا بما ان لهما نصيبا و مرتبة خاصة من هذا الوجود، و لا ريب ان لازم ذلك هو كونهما ملحوظين بنحو المغايرة و لحاظ المغايرة هو لحاظ البشرطلائية.

ص: 273

فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام. و في كلامه موارد للنظر، تظهر بالتأمل و إمعان النظر (1).

______________________________

(1)

دفع اشتباه الفصول

هذا الامر عقد لمناقشة صاحب الفصول، و توضيح ما يقوله المصنف يتوقف على امرين:

الاول: ان الحمل اما ذاتي و اما شايع صناعي و يجمعهما معنى واحد و هو ان الحمل هو الهوهوية: أي هذا ذاك، أو ان الموضوع هو المحمول.

و لا يخفى انه لا بد في الحمل من اتحاد من جهة و مغايرة من جهة اخرى، لوضوح انه مع الاتحاد من كل جهة لا يصح الحمل، لانه قضية ذات نسبة قائمة بطرفين فلا بد فيها من تحقق طرفين، و مع الاتحاد في كل جهة لا يكون طرفان، بل طرف واحد و لا تقوم النسبة في القضية الّا بطرفين، و لا شبهة ان الحمل قضية ذات طرفين و نسبة فلا بد من تحقق مغايرة ما حتى يتحقق الطرفان، فانه مع وجود المغايرة يتحقق شيئان: مغاير و مغاير، فان معنى المغايرة هو كون هذا غير هذا و لو بنحو من انحاء المغايرة.

و لا يخفى ايضا: انه مع المغايرة من كل جهة لا يصح الحمل ايضا اذ الحمل هو كون هذا ذاك، فاذا لم يكن بينهما اتحاد اصلا كيف يعقل ان يكون هذا ذاك.

الثاني: ان الحمل الذاتي الذي معناه الاتحاد في الحقيقة و الماهية جهة اتحاده ما عرفت، و جهة المغايرة فيه اما ان تكون هي الاجمال و التفصيل، كما في الحدود الانسان: حيوان ناطق فإن حقيقة الانسان هي الحيوان الناطق، و لكنها اخذت بنحو الجمع و الرتق في الانسان، و بنحو التفصيل و الفتق في الحيوان الناطق، فالاختلاف بينهما في المفهوم مع الاتحاد في الحقيقة، فان المفهوم الاجمالي غير المفهوم التفصيلي، و اخرى تكون المغايرة مع الاتحاد في المفهوم ايضا فتنحصر المغايرة بينهما في اللفظ كالانسان بشر، و كذلك ساير المترادفات فان الحقيقة و المفهوم متحد في كليهما،

ص: 274

.....

______________________________

فالمغايرة انما هي في ان المفهوم في احدهما باعتبار انه مسمى بهذا اللفظ غير المفهوم نفسه بما انه مسمى بلفظ آخر. هذا وجه الاتحاد و المغايرة في الحمل الذاتي.

و اما الحمل الشائع الصناعي فالاتحاد فيه في الوجود و المغايرة فيه في المفهوم كقولك: الانسان ناطق او الحيوان انسان او ناطق فانه لا اتحاد فيهما من حيث الماهية، اذ لا يعقل اتحاد الكل و الجزء ماهية، و كذلك لا يعقل اتحاد الاجزاء من حيث الماهية، و الّا لزم الخلف من فرض انهما كل و جزء أو انهما جزءان لكل واحد منهما حقيقة غير حقيقة الآخر، فهما حقيقة و ماهية و مفهوما متغايران، و انما صح الحمل لاتحادهما في الوجود و لا يحتاج الحمل الى غير ما ذكرنا.

و ظهر مما ذكرنا: ان المتغايرين في الوجود لا يصح حمل احدهما لا بالحمل الذاتي لوضوح عدم اتحادهما في الماهية و الّا فكيف يتغاير المتحدان في الماهية في مقام الوجود، و لا بالحمل الشائع للزوم الاتحاد في الوجود فيه، و المفروض انهما متغايران في الوجود فلا يمكن الحمل في المتغايرين في الوجود بكلا قسميه.

إلّا ان صاحب الفصول زعم: امكان ان يتاتى الحمل في المتغايرين في الوجود بكيفية حاصلها ان يلحظ اولا: المتغايران بنحو اللابشرطية حتى لا يأبيا عن لحاظ وحدة لهما، ثم ثانيا: يلحظ لهذين الملحوظين لا بشرط مجموع واحد: أي بان يلاحظا من حيث المجموع واحد، فيكون لهما وحدة من حيث المجموع في افق اللحاظ و الاعتبار ليتحقق هناك وحدة يصح بواسطتها الحمل، و ثالثا: ان يلاحظ الحمل فيهما بالاضافة الى هذا المجموع من حيث الهيئة الاجتماعية ليصح الحمل في هذين المتغايرين في الوجود المتحدين في افق الاعتبار. ثم ذكر في آخر كلامه: ان الناطق و الحيوان من المتغايرين في الوجود فانما يصح حملهما بالكيفية التي ذكرها لصحة حمل المتغايرين في الوجود.

و قد اورد عليه المصنف قدّس سرّه بايرادين، ثم قال في آخر كلامه: ان هناك مواقع للنظر في كلام صاحب الفصول غير هذين الايرادين.

ص: 275

.....

______________________________

و حاصل الايراد الاول: ان لحاظ الوحدة من حيث المجموع للمتغايرين في الوجود ليحصل الاتحاد فيصح الحمل بهذا اللحاظ هو مخل بالحمل، لا انه يصحح، لأن لحاظ الوحدة المجموعية يرجع الى لحاظ كلّ لهذين المتغايرين و ان المتغايرين جزءان لهذا الكل، و لحاظ الكل و الجزء لحاظ المغايرة بينهما، و ليس هو لحاظ الاتحاد لهما، فما جعله مصححا للاتحاد و هو لحاظ ان لهما كلا هو موجب للمغايرة، فان الجزء مغاير للكل و مغاير للجزء الآخر، لأن فرض الكلية فرض مجموع له جزءان، و مقتضى هذا الفرض و هو فرض الكلية يلازمه فرض اجزاء لهذا الكل هو فرض كون الكل غير الجزء و كون كل واحد من الجزءين غير الكل و غير الجزء الآخر، فما جعله موجبا للاتحاد ليصح الحمل اوجب المغايرة فلا يصح الحمل، و الى هذا اشار بقوله: «بل يكون لحاظ ذلك مخلا الى آخر كلامه».

الايراد الثاني: ما اشار اليه بقوله: «مع وضوح عدم لحاظ ... الخ».

و حاصله: ان الحمل سواء كان ذاتيا كما في التحديدات و التعاريف او المترادفات او حملا شايعا كما في ساير القضايا المتعارفة لم يلحظ التركيب فيه و لم يفرض ان للموضوع و المحمول وحدة من حيث المجموع، بل الملحوظ في الموضوعات نفس المفاهيم و المعاني، كما ان الملحوظ في المحمولات ايضا هو نفس المفاهيم و المعاني و انما يصح الحمل فيهما لاجل اتحادهما بنحو من الاتحاد، و هو اما الاتحاد في الحقيقة او الاتحاد في الوجود مع لزوم مغايرة بينهما اما في الحقيقة كما في الحمل الشائع أو المغايرة الاعتبارية كما في المتحدين في المفهوم ايضا، فان مغايرتهما بصرف ان لهذا المفهوم اسما غير نفسه بما هو مسمى باسم آخر كما في حمل المترادفات.

نعم الذي يظهر من صاحب الفصول هو ان الكيفية التي ذكرها انما هي لامكان حمل المتغايرين في الوجود و ليست في كل متغايرين حتى المتغايرين بالمفهوم المتحدين في الوجود فيكون الحمل الشائع خارجا عن هذه الكيفية. و الذي يظهر من المصنف ان صاحب الفصول يدعى شمول هذه الكيفية لمطلق المتغايرين فتشمل الحمل الشائع.

ص: 276

الرابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما، و إن اتحدا عينا و خارجا، فصدق الصفات مثل: العالم،

______________________________

نعم في عد صاحب الفصول ان الانسان و الناطق، و الناطق و الحيوان من متغايري الوجود ليس بصحيح لانهما من المتغايرين بالمفهوم المتحدين في الوجود، بل هما من اظهر مصاديق الحمل الشائع الذي كان الاتحاد فيه في الوجود و التغاير في المفهوم، و لعل هذا هو الذي دعا المصنف الى ان ينسب الى صاحب الفصول شمول الطريقة التي ذكرها لكل متغايرين.

و لا يخفى: ان هذا و هو التمثيل للمتغايرين في الوجود بالانسان و الناطق، و الحيوان و الناطق من مواقع النظر التي اشار اليها المصنف.

- و من مواقع النظر: ان الاتحاد الذي ذكره في فرض ان لهما كلا واحدا من حيث المجموع هو اتحاد في افق الفرض و الاعتبار، و ليس اتحادا في الوجود كما صرح به في ضمن ذكر الكيفية، فانما يصح حملهما في افق اللحاظ و الفرض لا في افق الخارج.

- و منها: ان الاتحاد الذي يصحح الحمل عند العرف لا بد و ان يكون اتحادا حقيقيا اما في الحقيقة او في الوجود، و الاتحاد الفرضي ليس من مصححات الحمل.

- و منها: ان اعتبار اللابشرطية في المتغايرين في الوجود اذا كان لا يكتفى به في تصحيح الحمل فاعتبار ان لهما كلا فرضيا اعتباريا ايضا لا يصحح الحمل، لأن الاتحاد الحقيقي اذا كان لا بد منه في تصحيح الحمل فالوحدة الفرضية لا تجعل لهما اتحادا حقيقيا، و اذا كان الاتحاد الحقيقي غير لازم في مقام الحمل فصرف اعتبار اللابشرطية في المتغايرين في الوجود كاف و لا حاجة الى اعتبار ان لهما فرضا في افق اللحاظ و الاعتبار.

ص: 277

و القادر، و الرحيم، و الكريم، إلى غير ذلك (1) من صفات الكمال

______________________________

(1)

كيفية جري الصفات على اللّه تعالى

لا يخفى ان الحمل الذي لا بد فيه من مغايرة و اتحاد انما هو بين المشتق و ما يجري عليه: أي بين الموضوع و المحمول الذي هو المشتق، و المبدأ اجنبي عن الموضوع و المحمول، إلّا انه يظهر من المصنف و صاحب الفصول الاتفاق من العلماء على لزوم امر آخر، و هو لزوم المغايرة بين مبدأ المشتق و الموضوع الذي يجري عليه المشتق مع كون المبدأ اجنبيا عن الموضوع. و لعل السبب في ذلك هو ما اختاره من بساطة المشتق و انه لا فرق بينه و بين مبدئه الّا باللابشرطية و البشرطلائية، و اما نفس المفهوم و الحقيقة ففيهما واحد، و حيث انه لا بد من مغايرة بين الموضوع و المحمول فاذا لا بد من المغايرة بين مبدأ المشتق و الموضوع الذي يجري عليه المشتق، و لكن هذا التعليل انما يصح عند من يرى البساطة في المشتق، اما عند من يرى التركيب فلا ينبغي ان تشترط المغايرة بين الموضوع و مبدأ المشتق في صحة حمل المشتق على الموضوع، لكونه اجنبيا عن الحمل و عن المشتق، فاي داع لاشتراط هذه المغايرة.

و على كل حال فالخلاف بين المصنف و صاحب الفصول: هو انه عند المصنف يكتفى في المغايرة بين المبدأ و ما يجري عليه المشتق بالمغايرة المفهومية، و اما عند صاحب الفصول فلا بد من المغايرة الوجودية و لا يكتفى بالمغايرة المفهومية.

و استدل صاحب الفصول على لزوم المغايرة الوجودية بين مبدأ المشتق و ما يجري عليه باطباق العلماء على اشتراط هذه المغايرة، و لذا وقع في الاشكال من ناحية حمل هذه المشتقات، كالعالم و الرحيم عليه تعالى، فان صفاته و مبدأ صفاته عين ذاته، و انه عين القدرة و الحياة، و عين العلم و ساير صفاته الثبوتية المعبر عنها بالصفات الجمالية و الكمالية، فالتزم بانه لا بد من النقل او التجوز في هذه المشتقات بالنسبة اليه تعالى، لانه قد ثبت بالبرهان- في محله- انه تعالى ليس فيه حيث دون حيث و انه واحد من جميع الجهات بسيط من كل جهة، و يرى قدّس سرّه انه لا بد من

ص: 278

.....

______________________________

التغاير الوجودي بين مبدأ المشتق و ما تجري عليه هذه المشتقات، و فيه تعالى لا تباين و لا تغاير بين المبدأ و موضوع هذه المشتقات و هو نفسه تعالى، فلذا لا بد من التأويل في مقام إجراء هذه المشتقات و هي العالم و الرحيم- مثلا- عليه تبارك و تعالى اما بالالتزام بالنقل أو التجوز.

و المصنف بعد ان اعترف بانه لا بد من المغايرة ايضا الّا ان المغايرة التي لا بد منها بين مبدأ المشتق و الموضوع هي المغايرة المفهومية و هي القدر اللازم الجامع لجميع موارد حمل المشتقات على موضوعاتها، سواء الواجب و الممكن.

نعم في الممكن تضاف اليها المغايرة الوجودية ايضا، لوضوح كون العلم غير ذات العالم، و الرحمة غير الذات المتلبسة بالرحمة و لكن هذه المغايرة غير لازمة و القدر اللازم هي المغايرة المفهومية، و هي كما انها موجودة في الممكن موجودة في الواجب ايضا، لأن الذي دل عليه البرهان: من الاتحاد و العينية هو الاتحاد بين مصداق العلم و ذات الواجب، لا بين مفهوم العلم و ذاته تبارك و تعالى، و لذا لا داعي إلى النقل و لا إلى التجوز في حمل هذه المشتقات عليه- تبارك و تعالى- لأن المغايرة المفهومية بين الواجب و مبدأ هذه الصفات متحققة، لوضوح ان مفهوم واجب الوجود غير العلم و القدرة، و ان كان هو خارجا عين مصداق القدرة و العلم حقيقة، و لذا قال قدّس سرّه: «و منه قد انقدح ما في الفصول»: أي مما ذكرنا من انه يكتفى بالمغايرة المفهومية يظهر فساد ما ادعاه صاحب الفصول: من المغايرة الوجودية و فساد ما التزم به من النقل أو التجوز في إجراء هذه الصفات عليه تبارك و تعالى-، و ليس هناك اتفاق على غير المغايرة المفهومية، اذا لم نقل بانهم متفقون على عدم اعتبار المغايرة الوجودية، و يدل عليه صحة الحمل الاولي مع انه لا مغايرة وجودية بين الموضوع و مبدأ المشتق فيها، فان الانسان عين الحيوانية و النطق.

ص: 279

و الجلال (1) عليه تعالى، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته، يكون على الحقيقة، فإن المبدأ فيها و إن كان عين ذاته تعالى خارجا، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما.

و منه قد انقدح ما في الفصول، من الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى، بناء على الحق من العينية، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق، و ذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما، و لا اتفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى، و قد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات و مبادئ الصفات.

الخامس: إنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ و ما يجري عليه المشتق، في اعتبار قيام المبدأ به، في صدقه على نحو الحقيقة، و قد استدل من قال بعدم الاعتبار، بصدق الضارب و المؤلم، مع قيام الضرب و الالم بالمضروب و المؤلم بالفتح.

و التحقيق: إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الالباب، في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات و جريه عليها، من التلبس بالمبدإ بنحو خاص، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، و اختلاف الهيئات أخرى، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه، أو

______________________________

(1)

كيفية قيام المبادئ بالذات

هذا منه على خلاف اصطلاح القوم، فان صفات الجلال عندهم هي الصفات السلبية، كليس بجسم، و ليس بمتحيّز، و ليس بمركب و ليست له ماهية. و هم انما قالوا بالاتحاد و العينية بين الواجب و صفاته الثبوتية المعبّر عنها بالصفات الجمالية و الكمالية فلا بد و ان يكون الجلال في كلام المصنف تفسيرا للكمال، و هذا جار على غير اصطلاح القوم، كما ان الرحيم و العالم ليست من الصفات الجلاليّة بحسب الاصطلاح.

ص: 280

انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا، كما في صفاته تعالى، على ما أشرنا إليه آنفا، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه، كما في الاضافات و الاعتبارات التي لا تحقق لها، و لا يكون بحذائها في الخارج شي ء، و تكون من الخارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما، و قائما به عينا، لكنه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية، و كان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد و العينية، و كان ما بحذائه عين الذات، و عدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة، و لو بتأمل و تعمل من العقل. و العرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

و بالجملة: يكون مثل العالم، و العادل، و غيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى و على غيره جارية عليهما بمفهوم واحد و معنى فارد، و إن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد، و كيفية التلبس بالمبدإ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى، و بنحو الحلول أو الصدور في غيره، فلا وجه لما التزم به في الفصول، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى، كما لا يخفى، كيف و لو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان و ألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم و لا معلوم إلا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: إنه تعالى عالم، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشي ء فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك

______________________________

ص: 281

المعنى، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا، و إما أن لا نعني شيئا، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة، و كونها بلا معنى، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان قوله: «في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه» هو متعلق «بوقع الخلاف» و جملة: «بعد الاتفاق الى المشتق» مقحمة بين المتعلق و المتعلق.

و حاصله: ان القوم اتفقوا على اعتبار المغايرة بين المبدأ و ما يجري عليه المشتق، و قد عرفت ان الذي لا بد منه في المغايرة هي المغايرة المفهومية و هذا المقدار موضع وفاق، و قد عرفت ايضا ان هذه المغايرة لا تستوجب النقل او التجوز في اجراء الصفات عليه تبارك و تعالى.

و وقع الخلاف بينهم في انه هل يعتبر في صدق المشتق على ما يجري عليه صدقا حقيقيا ان يقوم المبدأ بالموضوع الذي يجري عليه؟

أو انه لا يعتبر في صدق المشتق على الموضوع صدقا حقيقيا ان يقوم به مبدأ المشتق؟

و فصل صاحب الفصول في انه في غير صفاته تعالى يعتبر القيام، و فيه لا يعتبر القيام، لأن صفاته غير قائمة به، بل هي عينه، فانه ذكر وجهين في لزوم النقل او التجوز في اجراء صفاته تبارك و تعالى عليه.

الوجه الاول: ما تقدم في الامر الرابع من لزوم المغايرة الوجودية بين المبدأ و ما يجري عليه المشتق، و قد تقدم الكلام فيه و ان المغايرة المعتبرة هي المغايرة بحسب المفهوم، و لا يقتضي اجراء الصفات عليه تعالى من هذه الجهة نقلا و لا تجوزا.

الوجه الثاني: ما تعرض المصنف لرده في هذا الامر، و حاصل ما ذكره صاحب الفصول: هو انه يعتبر قيام المبدأ بالموضوع في اجراء الوصف عليه حقيقة و في واجب الوجود- تعالى شانه- لا قيام للمبدا به، فان قيام شي ء بشي ء يقتضي الاثنينية و لا اثنينية بينه و بين صفاته بل هي عينه تبارك و تعالى، فلا بد من النقل أو التجوز في

ص: 282

.....

______________________________

صفاته من هذه الجهة ايضا، و سيأتي في التحقيق الذي ذكره المصنف ما يتضح به فساد هذا الوجه ايضا، و لا موجب للتفصيل الذي ادعاه صاحب الفصول.

و استدل القائلون بعدم اعتبار صدق المشتق على ما يجري عليه قيام مبدأ المشتق به: بانه لا اشكال و لا ريب في ان الضارب و المؤلم يصدقان صدقا حقيقيا على من أوجد الضرب و الالم، و من الواضح ان الضرب و الالم ليسا بقائمين بالضارب و المؤلم، بل هما قائمان بالمضروب و المؤلم.

و اختار المصنف قدّس سرّه وفقا لاجلة الاساطين انه لا بد من قيام المبدأ بالموضوع في صدق المشتق عليه صدقا حقيقيا. و في التحقيق الذي ذكره لبيان معنى القيام الذي هو شرط في صدق المشتق على ما يجري عليه يتضح فساد القول بعدم اشتراط القيام، و يتضح فساد تفصيل ما ذكر في الفصول.

و حاصل التحقيق: ان المراد من قيام المبدأ بالموضوع الذي يجري عليه المشتق هو كونه متلبسا بالمبدإ، و كون المبدأ حاصلا للموضوع الذي يجري عليه، و تلبس الموضوع بالمبدإ و قيامه به و حصوله له مختلف على انحاء، فتارة يكون سبب اختلاف التلبسات من ناحية الهيئات كهيئة اسم الفاعل و هيئة اسم المفعول باقسام المفاعيل، فان هيئة الضارب تدل على ان الموضوع فاعل الضرب، فتلبسه به تلبس فاعلي للضرب و واقع منه، و هيئة اسم المفعول تدل على ان تلبسه به تلبس مفعولي و ان الضرب واقع عليه، و اخرى يكون السبب في اختلاف التلبسات هي المواد و ان تلبس الموضوع بالمواد مختلف على انحاء:

- فمن المواد ما يكون السبب في تلبس الفاعل بها هو ان يكون مصدرا لها و علة لها، كالضرب فان معنى قيام المبدأ به و تلبسه به و حصوله هو انه المصدر للضرب و علته، فالقيام في مثل هذه المادة قيام صدوري.

ص: 283

.....

______________________________

- و من المواد ما يكون تلبس الفاعل بها بنحو ان يكون الفاعل محلا لها كمات زيد و مرض و امثال ذلك، فان زيدا لم يصدر الموت و انما كان محلا له فالتلبس تلبس حلولي.

- و من المواد ما يكون التلبس بها لكون المبدأ حاصلا لما يجري عليه المشتق و محصلا له كما في قولنا: الماهية موجودة فان السبب في جري الموجود عليها هو كون المبدأ الذي هو الوجود حاصلا للماهية و محصلا لها.

- و من المواد ما يكون التلبس بها للموضوع الذي تجري عليه لكون حصول المبدأ اعلى درجات الحصول، كما في قولنا: الوجود موجود، و السواد اسود فانه اذا كان سبب صدق الاسود على الجسم لكون السواد حاصلا له فحصول الشي ء لنفسه و ذاته اعلى درجات الحصول، فالسواد اولى بصدق الاسود عليه من الجسم الذي حصل له السواد، و كذلك في صدق الموجود على الوجود فان الموجود يصدق على الماهية لكون الوجود محققا لها و محصلا اياها، فصدق الموجود على ما هو تحقق بنفسه و تحصل بذاته اولى.

- و من المواد ما يكون السبب في التلبس بها هو كون الموضوع و المبدأ مفهومين يؤخذان من شي ء واحد في الخارج، فان العالم يصدق على الموضوع لحصول الانكشاف له، فصدقه على من كان ذاته عين الحضور و الانكشاف اولى، فان ذاته التي يؤخذ منها مفهوم واجب الوجود هي عين الانكشاف و الحضور، و من الواضح ان مفهوم واجب الوجود غير مفهوم الحضور و الانكشاف، و هذا مراده من قوله:

«او انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا كما في صفاته تعالى».

- و من المواد ما لا يكون لها وجود بذاتها في الخارج و ليس للمبدا تحقق بنفسه، بل الموجود في الخارج ما هو منشأ الانتزاع، و هذا النحو على قسمين: فانه تارة يكون السبب في الانتزاع هو كون منشأ الانتزاع متحيثا بحيثية واقعية اقتضت الانتزاع كانتزاع الفوق مما هو متحيث بحيثية واقعية، فان ما هو فوق باعتبار اضافته الى ما هو

ص: 284

.....

______________________________

تحت حيثية واقعية، و لكن الموجود في الخارج ذات ما هو فوق و حيثية اضافته الى ما هو تحت ليست شيئا له ما بحذاء في الخارج، إلّا انه امر واقعي لا اعتباري، نظير حيثية امكان الممكن، و اخرى تكون هذه الحيثية ليست واقعية بل اعتبارية، كرقية الرق و زوجية الزوج فانه مضافا الى انه ليس لهذه الحيثية ما بحذاء في الخارج ان هذه الحيثية ليست امرا واقعيا، بل هي امر اعتباري و هذا النحو الاخير مراده من قوله:

«و تكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة» فان المحمول بالضميمة ما كان له ما بحذاء في الخارج فيكون منضما الموضوع الى الذي يحمل عليه، كالسواد و البياض، و الكم كطول الشي ء و عرضه.

فاتضح مما ذكرنا: فساد قول المستدل لعدم اعتبار القيام لصدق الضارب و المؤلم مع انه لا قيام للمبدا بالضارب و المؤلم. و وجه الفساد: ان المبدأ قائم بالفاعل الّا ان قيامه به بنحو الصدور، لما عرفت من اختلاف انحاء التلبسات و اختلاف كيفياتها في قيامها بما يجري عليه المشتق.

و اتضح فساد تفصيل صاحب الفصول: من ان قيام المبدأ الذي هو شرط صدق المشتق على ما يجري عليه انما هو في الممكن، و اما في الواجب فلا قيام و انه لا بد من التأويل بالنقل او التجوز في صفاته تعالى.

و وجه فساده: انه قد اتضح مما ذكر انه من اعلى درجات القيام، فان العالم من له العلم، و العلم هو الانكشاف و وصف الممكن به لعروض الانكشاف له اقل درجة ممن كان حصول الانكشاف له، لأن ذاته عين حقيقة الانكشاف، فالعالم- مثلا- بما له من المفهوم الموضوع له و هو من له الانكشاف يصدق على الممكن و الواجب صدقا واحدا. غاية الامر: ان كيفية التلبس بالانكشاف في الممكن بسبب انضمام الصورة العلمية اليه، و في الواجب لان ذاته عين الانكشاف.

ص: 285

.....

______________________________

فان قلت: العرف يفهم من العالم من انضم اليه العلم دون من كان العلم عين ذاته، و كذلك الاسود من انضم اليه السواد لا نفس السواد، فلا يصح اطلاق العالم عليه تعالى، و لا الاسود على السواد.

قلت: العرف انما يرجع اليه في تعيين مفهوم العالم و الاسود فيشخص العرف ان العالم من له العلم و الاسود من له السواد، و اما كيفية التلبس التي اقتضت كون الواجب مصداقا، و كون السواد مصداقا فلا يرجع فيه الى العرف، فربما يدرك العرف المصداقية و التلبس و ربما لا يدرك المصداقية، بل يكون المدرك للمصداقية هو العقل بتأمل و تدقيق، و لذا قالوا: ان العرف حجة في تعيين المفاهيم لا المصاديق.

فان قلت: القيام و التلبس يحتاج الى اثنينية، قائم و مقام به، و متلبس به و متلبس و اذا لم يكن انضمام لا يكون قيام و لا تلبس.

قلت: نعم لازم مفهوم المشتق ان هناك متلبسا و متلبسا به و لا يلزم ان تكون هذه الاثنينية خارجية: بان يكون المتلبس غير المبدأ المتلبس به في الخارج، بل يكفي ان تكون هذه الغيرية الموجبة للاثنينية اعتبارية.

و توضيح ذلك: ان لازم مفهوم الاسود ان يكون مصداقه من له السواد، و لا اشكال ايضا ان مفهوم السواد غير مفهوم الاسود، فاذا صح في تامل من العقل ان يكون الاسود صادقا على مفهوم غير مفهوم الاسود، و لو بان يكون ذلك المفهوم هو مفهوم السواد، لانه اذا صح للعقل ان ينتزع الاسود ممن له السواد في الخارج مع انه غير السواد يصح له ان ينتزع من السواد بنحو من الاعتبار انه له السواد، لأن السواد عند العقل اولى بان ينتزع منه انه له السواد من الجسم المنضم اليه السواد، فالاثنينية في السواد و الاسود اعتبارية، و الاثنينية في الجسم و الاسود خارجية، و القيام و التلبس يحتاج الى اثنينية و لو اعتبارية و لا يحتاج الى اثنينية خارجية، فاذا صح هذا الاطلاق و المصداقية في السواد و الاسود صح الاطلاق في الواجب و صفاته بطريق اولى، لوضوح اختلاف مفهوم الواجب و مفهوم العالم بصورة واضحة، و ان

ص: 286

.....

______________________________

كان مصداق الواجب هو مصداق العالم خارجا، فالاثنينية واضحة و ان لم تكن خارجية، و لذا قال قدّس سرّه: «ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما و قائما به عينا»: أي خارجا «لكنه بنحو من القيام لا بان يكون هناك اثنينية»: أي اثنينية خارجية، و اما الاثنينية الاعتبارية فموجودة قطعا، و لذا فسر الاثنينية بقوله: «و كان ما بحذائه غير الذات» و هي الاثنينية الخارجية لأنها هي التي يكون ما بحذاء المبدإ في الخارج غير ما بحذاء المتلبس فيه «بل بنحو الاتحاد»: أي بل القيام بنحو الاتحاد «و العينية» في الخارج «و كان ما بحذائه»: أي المبدأ «عين الذات» و القيام و التلبس بنحو من الاعتبار فالاثنينية اعتبارية.

و لما فرغ المصنف من تحقيق معنى القيام و التلبس و انه مختلف و على انحاء، و اتضح منه فساد مذهب صاحب الفصول و غيره ذكر برهانا في رد صاحب الفصول بقوله قدّس سرّه: «كيف و لو كانت بغير معانيها ... الخ» و هذا البرهان ذكره القوم في مسألة اشتراك الوجود.

و حاصل ما ذكره المصنف من البرهان: هو انه اذا قلنا: اللّه عالم او غيره من الصفات الجارية عليه تعالى كقولنا: قادر وحي، فاما ان يراد من هذه الصفات اطلاقها عليه بما لها من هذه المعاني العامة المفهومة منها فهو المطلوب، و عليه فلا يكون هناك نقل و لا تجوز، لأن العالم- مثلا- قد اطلق بما له من المعنى العام و هو من ينكشف لديه الشي ء، و هو بهذا المعنى يطلق عليه تعالى و على غيره فلا نقل و لا تجوز، غايته: ان الانكشاف في غيره انضمامي و فيه تعالى عين ذاته.

و اما ان يطلق العالم عليه تعالى بغير هذا المفهوم العام و هو من ينكشف لديه الشي ء، و حينئذ فاما ان يكون في مقام اطلاقنا عليه هذا اللفظ قد قصدنا من هذا اللفظ معنى او لم نقصد شيئا، فان قصدنا بهذا اللفظ شيئا و ذلك لا بد ان يكون غير من ينكشف لديه الشي ء، و حينئذ يكون المقصود ما يقابل من ينكشف لديه الشي ء، و من المعلوم ان مقابل ما ينكشف له شي ء هو من لا ينكشف لديه الشي ء و هذا عين

ص: 287

و العجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، و هو كما ترى، و بالتأمل فيما ذكرنا (1)، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين و المحاكمة

______________________________

الكفر، لأن من لا ينكشف لديه الشي ء هو الجاهل تعالى عن ذلك علوا كبيرا-، و اما ان لا نقصد بهذه الالفاظ معنى اصلا فلا يحصل من مخلوق لخالقه مدح و لا شكر و لا إطراء و لا ثناء، لأنها الفاظ تطلق بلا معنى و هي صرف لقلقة لسان فاين الاوراد و الاذكار و السلوك اليه بالثناء و الاطراء عليه و معرفة جماله و كماله و نعوته القدسية و اسمائه الحسنى؟ و هذا باطل بالضرورة.

و لكن لا يخفى ان هذا يرد على من انكر اشتراك الوجود في اطلاق الموجود عليه تعالى، و لا يرد على صاحب الفصول، لانه يقول انها تطلق عليه بمعنى و هو غير المعنى العام الذي هو الانضمامي، بل تطلق عليه بعد النقل و التجوز من المعنى الانضمامي الى المعنى الاتحادي، فالعمدة في رده ما تقدم: من انه لا نقل و لا تجوز و ان انحاء القيام و التلبس مختلفة على ما قدمنا تفصيله.

(1) حاصله: ان العلة في النقل او التجوز في هذه الالفاظ عما وضعت له من المعنى عند صاحب الفصول هو صدقها على الممكن، فلا بد و ان تصدق عليه تعالى بغير المعنى الذي صدقت به على الممكن، و قد عرفت ان صدقها على الممكن بما انه المنكشف لديه الشي ء فانه لا بد و ان تصدق عليه تعالى بما لها هذا المعنى و هو المنكشف لديه الشي ء، و الّا لكانت اما جهلا تعالى عنه- أو لقلقة لسان و ان الاختلاف بين الممكن ليس في ناحية مفاهيم هذه الالفاظ، بل في مصداق التلبس، فان مصداقه في الممكن يكون بنحو الانضمام و في الواجب بنحو الاتحاد، فالمرتبة بين الممكن و الواجب محفوظة كلفظ الوجود فانه بمفهومه الواحد يصدق على الواجب و الممكن، و لكن مصداقه في الممكن عين الفقر و الامكان، و مصداقه في الواجب عين الغنى بالذات و الوجوب بالذات، فما جعله صاحب الفصول سببا للتجوز، و النقل

ص: 288

بين الطرفين (1) فتأمل (2).

السادس: الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق و جريه على الذات حقيقة، التلبس بالمبدإ حقيقة و بلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به و لو مجازا، و مع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فاسناد الجريان إلى الميزاب، و إن كان إسنادا إلى غير ما هو له و بالمجاز، إلا أنه في الاسناد، لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي، و إن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي، و لا منافاة بينهما أصلا، كما لا يخفى.

و لكن ظاهر الفصول بل صريحه، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، و كأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد و المجاز في الكلمة، و لهذا صار محل الكلام بين الاعلام، و الحمد للّه، و هو خير ختام (3).

______________________________

الموجب للاختلاف في المفهوم هو بنفسه سبب لعكسه من لزوم الاتحاد في المفهوم و الاختلاف في المصداق.

(1) اما الخلل في استدلال القائلين باعتبار القيام فلعله لانهم لم يوضحوا كيفية القيام و التلبس، فان المفهوم الواحد ربما يكون قيامه انضماميا و ربما يكون اتحاديا، و اما الخلل في استدلال القائلين بعدم اعتبار القيام و التلبس فقد ظهر واضحا مما ذكرنا.

(2) لعله يشير الى ان القوم لم يختلفوا، و ان القائلين باعتبار القيام يريدون منه التلبس و انحاء التلبسات مختلفة، و القائلين بعدم اعتبار القيام يريدون عدم اعتبار القيام بنحو الانضمام او بنحو الحلول و لا يريدون انكار اصل اعتبار القيام.

(3) توضيح هذا الامر انه لا اشكال في ان انطباق المشتق على موضوعه انطباقا حقيقيا لا بد فيه من تلبس الموضوع بمبدإ ذلك المشتق تلبسا حقيقيا، و الّا فلا يكون الانطباق حقيقيا.

ص: 289

.....

______________________________

ثم لا يخفى ايضا ان المجاز على قسمين: مجاز في الكلمة و مجاز في الاسناد، و لازم المجاز في الكلمة ان يكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له، كاستعمال الاسد في الرجل، و لازم المجاز في الاسناد هو استعمال اللفظ فيما وضع له، و التصرف في الاسناد بادعاء انه من مصاديقه- كما ذكره السكاكي في الاستعارة-.

اذا عرفت هذا نقول: انه اذا لم يكن انطباق المشتق على موضوعه انطباقا حقيقيا بل كان انطباقا مجازيا لا يلزمه ان يكون لفظ المشتق قد استعمل في غير ما وضع له، بل يمكن ان يكون مستعملا فيما وضع له و كان المجاز مجازا في الاسناد لا في الكلمة، ففي قولنا: الميزاب جار قد استعمل جار في معناه الذي وضع له و ادعي: ان الميزاب من افراد ما له الجريان، فالمجاز في دعوى: كون الميزاب له الجريان و أنه من افراد ما له الجريان، فاسناد الجاري الى الميزاب اسناد الى غير ما هو له، لأن الذي له الجريان حقيقة هو الماء الذي في الميزاب لا الميزاب نفسه.

فظهر مما ذكرنا: انه لا يعتبر في استعمال المشتق في معناه حقيقة تلبس الموضوع بمبدئه حقيقة، و انما يعتبر تلبسه به حقيقة في انطباق المشتق عليه حقيقة لا في استعماله، و هذا هو مراده: من قوله قدّس سرّه: «انه لا يعتبر في صدق المشتق و جريه على الذات حقيقة»: أي في جريه على الذات و استعماله في معناه حقيقة «التلبس بالمبدإ حقيقة و بلا واسطة في العروض» الواسطة في العروض في المقام: هو كون التلبس بالعرض و المجاز، و غير الواسطة في العروض هو التلبس فيكون قوله: «بلا واسطة في العروض» شرحا للتلبس الحقيقي: أي لا يشترط في استعمال المشتق في معناه حقيقة التلبس الحقيقي، و انما يشترط التلبس الحقيقي في الانطباق حقيقة لا في الاستعمال في معناه حقيقة، و يكفي التلبس المجازي و على نحو الواسطة في العروض في استعمال لفظ المشتق في معناه، كما عرفت في المجاز في الاسناد، و لذا قال قدّس سرّه: «بل يكفي التلبس به و لو مجازا و مع هذه الواسطة»: أي بواسطة في العروض «كما في الميزاب الجاري» فان الجاري مستعمل في معناه مع كون تلبس الميزاب بالجريان تلبسا

ص: 290

.....

______________________________

مجازيا و على نحو الواسطة في العروض: أي ليس تلبسا حقيقيا و لذا قال: «فاسناد الجريان الى الميزاب و ان كان اسنادا الى غير ما هو له»: أي اسنادا مجازيا و بالعرض و المجاز الّا ان هذه المجازية و التصرف ليس في استعمال لفظ الجاري في معناه، بل الجاري مستعمل في معناه و التصرف في ادعاء كون الميزاب من افراده، و هو المعبر عنه بالمجاز في الاسناد، و ليس من المجاز في الكلمة الذي لازمه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، و المصنف يدعي: ان ظاهر الفصول انه يشترط في استعمال لفظ المشتق في معناه حقيقة تلبس ما يجري عليه المشتق بمبدإ المشتق حقيقة و هو مراده من قوله: «بل صريحه»: أي صريح الفصول «اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة»:

أي يعتبر اسناد مبدإ المشتق حقيقة الى الموضوع في مقام استعمال المشتق في معناه حقيقة، و لذا عقبه بقوله: «و كانه من باب الخلط ... الخ»: أي ان هذا الاشتراط سببه الخلط بين المجاز في الكلمة الذي معناه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، و المجاز في الاسناد الذي لازمه استعمال اللفظ في ما وضع له و التصرف في غير الاستعمال.

و لا يخفى انه اذا كان ما يقوله الفصول هو انه يشترط في استعمال المشتق في معناه حقيقة تلبس الموضوع بمبدإ المشتق حقيقة، فالحق مع المصنف لما عرفت: من ان في المجاز- في الاسناد- اللفظ مستعمل في معناه حقيقة مع ان الموضوع لم يتلبس بالمبدإ حقيقة، و اذا كان مراد صاحب الفصول انه يشترط في انطباق المشتق على موضوعه انطباقا حقيقيا تلبس الموضوع بمبدإ المشتق تلبسا حقيقيا فالحق مع صاحب الفصول، لان المجاز في الاسناد و ان كان استعمال اللفظ فيه استعمالا حقيقيا الّا ان الانطباق فيه ليس انطباقا حقيقيا، لضرورة انه يشترط في الانطباق الحقيقي التلبس الحقيقي.

ص: 291

ص: 292

.....

______________________________

المقصد الاول فى الأوامر

ص: 293

ص: 294

المقصد الاول في الأوامر

اشارة

و فيه فصول:

الاول: فيما يتعلق بمادة الامر

اشارة

من الجهات، و هي عديدة (1):

الاولى: إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة (2).

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم (المقصد الاول: في الاوامر) (1) رتب المصنف هذا الكتاب مشتملا على مقدمة و تبتدي بموضوع علم الاصول و تنتهي بانتهاء مسألة المشتق، و مقاصد و تبتدي بالاوامر و تنتهي بالتعادل و التراجيح، و خاتمة تتعلق بالاجتهاد و التقليد.

و الكلام- الآن- في المقصد الاول و هو يتضمن البحث في ضمن فصول:

الفصل الاول: في المباحث الراجعة لمادة الامر، و مراده من مادة الامر لفظ الامر، و البحث فيه قد كان في جهات.

(2) الظاهر ان هذه المعاني السبعة التي ذكرها المصنف: و هي الطلب، و الشأن، و الفعل المطلق، و الفعل العجيب، و الشي ء، و الحادثة، و الغرض، و زاد عليها في القوانين معاني أخر ادعى ان لفظ الامر يدل عليها، و ظاهرهم في هذا التعبير كون لفظ الامر مشتركا بينها اشتراكا لفظيا، لانه لو كان مشتركا معنويا لما كانت هذه معاني للامر، بل تكون افرادا للمعنى الجامع، مضافا الى ان المصنف صرح في كون مختاره اشتراك لفظ الامر بين الطلب و الشي ء، و يبعّد الاشتراك المعنوي ايضا ان من جملة المعاني التي ذكروها الشي ء، و ليس هناك جامع اعم منه، لان الشي ء اعم الالفاظ فلا يكون هناك جامع يعمه مع بقية المعاني التي ذكروها له، و لو كان حقيقة في بعضها مجازا في البقية لنبهوا عليه، و لما صحّ ان يعدّ من معاني لفظ الامر.

ص: 295

- و منها الطلب، كما يقال، أمره بكذا.

- و منها الشأن، كما يقال: شغله أمر كذا.

- و منها: الفعل، كما في قوله تعالى: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (1).

- و منها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا*.

- و منها: الشي ء، كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا.

- و منها: الحادثة، و منها الغرض، كما تقول: جاء زيد لامر كذا.

و لا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم، ضرورة أن الامر في جاء زيد لامر كذا ما استعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض، نعم يكون مدخوله مصداقه، فافهم (2)،

______________________________

نعم، لو كان غرضهم ذكر موارد الاستعمال لا غير لما كان ظاهرا في الاشتراك اللفظي.

(1) ذكر هذا مثالا للفعل المطلق، و لكن سياق الآية بملاحظة ما قبلها يدل على ان الامر فيها لم يرد منه الفعل، بل اريد منه الطلب فان الآية هكذا فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ(1) و الظاهر من الاتباع في المقام هي الاطاعة، فلا بد و ان يكون لفظ الامر فيما قبلها اريد منه معنى الطلب، و لا اشكال ان لفظ الامر فيما بعدها هو المراد منه فيما قبلها، و اما كون الاتباع قد يستعمل فيمن يفعل مثل فعل من سبقه بفعل فيقال: اتبعه في فعله فلا ننكره، إلّا ان الاتباع في المقام حيث كان من رعية الى ملكها كان ظاهرا في ان معنى الاتباع هو الاطاعة.

(2) لا يخفى ان اشتباه المصداق بالمفهوم يكون في مقامين:

الاول: ان يكون لفظ موضوعا لمعنى له مصاديق، ثم يدعي مدع: انه قد وضع ايضا لاحدها بالخصوص، فيقال في مقام الرد عليه: انه اشتبه عليه المصداق

ص: 296


1- 40. ( 1) هود: الآية 97.

و هكذا الحال في قوله تعالى فلما جاء أمرنا يكون مصداقا للتعجب، لا مستعملا في مفهومه، و كذا في الحادثة و الشأن (1). و بذلك ظهر ما في

______________________________

بالمفهوم، كما لو ادعى احد ان لفظ الميزان موضوع لذات الكفتين مع الاعتراف بانه موضوع اولا لكل ما يوزن به.

الثاني: ان يكون لفظ موضوعا لمعنى له مصداق و لذلك المصداق لفظ وضع له فيدعي مدع: ان هذا اللفظ الموضوع لذلك المصداق موضوع لذلك المفهوم الصادق عليه، كما في المقام فان لفظ الغرض موضوع لما هو غرض بالحمل الاولي و له مصاديق و من مصاديقه ما هو موضوع له لفظ الامر، فادعى: ان لفظ الامر موضوع للغرض، فلذا قال المصنف: ان الامر في قولهم: جاء لامر كذا ليس بموضوع لمفهوم الغرض، بل هو موضوع للشأن- مثلا- أو للشي ء و قد صار هذا الذي وضع له لفظ الامر مصداقا للغرض كما دل على ذلك اللام، و وقوعه مصداقا للغرض بواسطة اللام سبب اشتباههم: بان مفهوم الغرض مما وضع له لفظ الامر، و الحال انه لم يوضع لمفهوم الغرض و لا لمصداق الغرض بما انه مصداق الغرض، بل وضع له باعتبار كونه شأنا أو شيئا أو فعلا. و قوله: «فافهم» لعله اشارة الى ان المعروف في استعمال قولهم: انه من اشتباه المصداق بالمفهوم هو المعنى الاول.

(1) لا يخفى ان هذا من اشتباه المصداق بالمفهوم بالمعنى الاول، فان لفظ الامر في قوله تعالى: جاءَ أَمْرُنا*(1) لم يستعمل في الفعل العجيب، بل استعمل في معناه و هو الفعل أو الشي ء، و هذا المستعمل فيه صار مصداقا لكونه فعلا عجيبا بسبب اضافته اليه تعالى و انه فعله- جل و علا- بل يمكن ان يقال: انه لم يستعمل في المقام الّا بمعنى الطلب ايضا حيث ان الانتقام منهم صار قضاء الزاميا، فناسب ان يستعمل فيه

ص: 297


1- 41. ( 1) هود: الآية 82.

دعوى الفصول، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين (1)، و لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة و الشي ء، هذا بحسب العرف و اللغة (2).

و أما بحسب الاصطلاح، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، و مجاز في غيره (3)، و لا يخفى أنه عليه لا يمكن منه

______________________________

باعتبار كون الامر هو الطلب الالزامي، و قد جاء مثل هذا في جملة من موارد الانتقام في القرآن.

(1) مختار صاحب الفصول ان الامر مشترك لفظي بين الطلب و الشأن.

و يرد عليه: انه لا يصح ارادة الشأن فيما لو راى فعلا، فيقول: رأيت امرا، فان الشأن لا يطلق على الفعل.

و اذا تم ما يقوله المصنف: من كونه مشتركا بين الطلب و الشي ء يكون استعماله في الشأن باعتبار انه من مصاديق الشي ء، فيكون من باب اشتباه المصداق بالمفهوم.

(2) اما كون لفظ الامر مشتركا بين الطلب و غيره فلعل الدليل عليه اختلاف الجمع، فان الامر بمعنى الطلب يجمع على اوامر و لا يجمع على امور، و الامر لغير معنى الطلب يجمع على امور، و لا يجمع على اوامر و اختلاف الجموع دليل على تعدد المعنى الموضوع له.

و اما كون المعنى الثاني هو الشي ء فربما يبعده ان الامر لا يطلق على الاعيان، و انما يطلق على الافعال، فان من راى حيوانا او شجرة لا يصح ان يقول: رأيت امرا، و لو كان الامر بمعنى الشي ء لصح ذلك، و اما قوله: «في الطلب في الجملة» فلما سيأتي ان الامر هو خصوص الطلب من العالي الى السافل.

(3) لا يخفى ان المعنى الاصطلاحي لا يحتاج الى نقل الاتفاق، بل يثبت بدعوى واحد من ارباب الفن المطلعين، فيمكن ان يكون دعوى الاتفاق منهم انما هو لبيان انه ليس مطلق الطلب موضوعا له لفظ الامر، بل خصوص الطلب بالقول

ص: 298

الاشتقاق، فإن معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا، مع أن الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبر (1).

______________________________

المخصوص: أي الطلب بالصيغة، فيكون الاتفاق المذكور على ما هو الموضوع له في اللغة لا المعنى المنقول اليه بحسب الاصطلاح.

(1) حاصله: انه اذا كان لفظ الامر موضوعا للقول المخصوص و هو افعل لا يمكن الاشتقاق منه، لان الذي يقبل الاشتقاق هو المبدأ القابل لتوارد النسب عليه، فاذا كان غير قابل لتوارد النسب اما لكونه شيئا لا تتوارد عليه النسب كالشجر و الحجر و الانسان، او كان بذاته قابلا لتوارد النسب عليه و لكنه وردت عليه احدى النسب فلا يكون بعد ورودها عليه قابلا لورود نسبة اخرى، فلا يكون قابلا للاشتقاق كالفعل و اسم الفاعل- مثلا- و المصدر المشهور فانه بعد ان وردت عليه نسبة لا يكون قابلا لورود نسبة اخرى، فان المصدر المشهور فيه نسبة ناقصة، و لذا فليس هو مبدأ للمشتقات، بل هو احد المشتقات، و اذا كان لفظ الامر موضوعا للقول المخصوص الذي هو مشتق من المشتقات لا يكون قابلا للاشتقاق منه، فان المعنى القابل للاشتقاق هو الشي ء القابل لتوارد النسب، فما يكون غير قابل لتوارد النسب أو كان قابلا و لكن اخذ حظه: بان وردت عليه إحدى النسب لا يكون معنى قابلا للاشتقاق، و هذا مرادهم: من كون المبدأ القابل للاشتقاق ما كان معنى حدثيا.

و لا يخفى ان الاشتقاق عندهم من لفظ الامر ببناء الافعال منه كأمر و يأمر و اسم الفاعل كآمر و ساير مشتقاته انما هو بالمعنى الذي قالوا: انه حقيقة فيه و هو القول المخصوص الذي يرى المصنف انه عندهم هو المعنى المصطلح و ليس الاشتقاق من لفظ الامر باعتبار كونه حقيقة في الطلب.

ص: 299

و يمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه (1)، نعم القول المخصوص أي صيغة الامر إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

و كيف كان، فالامر سهل لو ثبت النقل (2)، و لا مشاحة في الاصطلاح، و إنما المهم بيان ما هو معناه عرفا و لغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة (3)، و قد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب و السنة، و لا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة و المجاز. و ما ذكر في الترجيح، عند تعارض هذه الاحوال، لو سلم، و لم يعارض بمثله، فلا دليل على الترجيح به، فلا بد مع

______________________________

(1) فيكون قولهم الطلب بالقول لتعيين الحصة الخاصة من الطلب، و القول بنفسه خارج عما هو الموضوع له لفظ الامر جزءا و قيدا، فالموضوع له على هذا هو الحصة الخاصة من الطلب و هو مدلول الصيغة لا غير، و احسن شي ء يعرف به المدلول هو الدال.

(2) حاصله: ان المنشأ بالقول المخصوص: أي صيغة افعل حيث تصدر من العالي يكون المنشأ بها هو من مصاديق ما وضع له لفظ الامر، لأن الالفاظ موضوعة لمفهوم الطلب المقيد، و الفرد لذلك المفهوم الموضوع له هو مصداق لما هو الموضوع، و ذلك الفرد يحصل بانشائه بالصيغة، فما ينشا بالصيغة يكون فردا و مصداقا لما هو الموضوع له لفظ الامر الموضوع اما لمفهوم الطلب المطلق أو لمفهوم خاص من الطلب، و ليس المنشأ بالصيغة هو مدلول ما وضع له لفظ الامر: أي الامر ليس بموضوع لنفس الصيغة، بل الطلب مدلول ما وضع له لفظ الامر.

(3) قد عرفت فيما تقدم ان الطلب بالقول ليس معنى اصطلاحيا، بل هو لغوي عندهم.

ص: 300

التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل (1)، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه، و لو احتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق، فليحمل

______________________________

(1) قد تقدم منه انه مشترك لفظي بين الطلب- في الجملة- و الشي ء و انه لم يستعمل في المعاني التي ذكروها و انما هي من باب اشتباه المصداق بالمفهوم، فلا يخلو كلامه هذا من منافاة لما ذكره، إلّا ان يكون جاريا منه على المماشاة مع الذين يدعون انها معاني الامر، فيكون حاصل مرامه: ان ما ذكر ليس الّا موارد للاستعمال، و الاستعمال اعم من كونه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي، أو الحقيقة في احدها و المجاز في المعاني الأخر، فلم يبق لهم الّا الترجيح بالمرجحات التي ذكروها في مقام تعارض الاحوال، و الترجيحات المذكورة هناك غير مسلمة:

اولا: لعدم بناء من العقلاء عليها، نعم ربما كان المسلم عند العقلاء هو اصالة عدم القرينة و هي انما تجري في مقام الشك في المراد فيكون موردها فيما كان للفظ حقيقة معلومة و مجاز كذلك، و شك في انه اراد المتكلم من هذا اللفظ المعنى الحقيقي او المعنى المجازي، لا فيما اذا كان المراد من اللفظ معلوما و كان الشك في ان الاستعمال كان حقيقيا او مجازيا.

و ثانيا: على فرض تسليمها معارضة بمثلها، و قد مر الكلام فيها في تعارض الاحوال.

نعم يمكن ان يقال: ان المقام ليس مما يدور امره بين الاشتراك اللفظي و المعنوي، و الحقيقة و المجاز، لان اختلاف الجمع- و ان الامر بمعنى الطلب يجمع على اوامر، و لا يجمع على امور، و الامر في غير الطلب بجمع على امور و لا يجمع على اوامر- دليل واضح على نفي الاشتراك المعنوي، و الّا كان هذان الجمعان جمعا لمعنى واحد، فلا بد و ان يجمع الامر في الطلب على اوامر و امور مع انه ليس كذلك، و يدل هذا ايضا على نفي المجازية لان المجاز لا جمع له فيكون الجمعان للمعنى الحقيقي، و لازمه صحة ان يكون الامور جمعا للامر بمعنى الطلب و قد عرفت انه لا يجمع على

ص: 301

عليه، و إن لم يعلم أنه حقيقة فيه. بالخصوص، أو فيما يعمه (1)، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الاول.

الجهة الثانية (2): الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا، و لو أطلق عليه كان بنحو من العناية، كما

______________________________

غير الاوامر، فاذا الاشتراك اللفظي بين الطلب و غيره مما لا بد منه، و لكن الاشكال في ان غير الطلب الموضوع له لفظ الامر أي معنى هو؟ و هل معنى واحد أو معان متعددة؟

(1) قد ذكر انه لا دليل على الترجيح بما ذكروه عند تعارض هذه الامور، فلا يمكن ان يتعين للفظ ظهور في احدها بواسطة الترجيحات التي ذكرت، فلا بد عند عدم ظهور لفظ الامر في شي ء لا بواسطة القرائن و لا بواسطة الانصراف من الرجوع الى ما يقتضيه الاصل العملي.

و الحاصل: أنه لا يمكن ان يحصل الظهور بواسطة ما ذكر، فان ما ذكروه انما هو لاجل ان يحصل بواسطتها ظهور للفظ في شي ء فيرجع الى الاصل العملي. اما اذا حصل للفظ ظهور في احد المعاني فلا حاجة الى ما ذكروه، لانها انما ذكرت لتحصيل الظهور، فاذا حصل الظهور سقطت تلك الترجيحات و لا بد من الاخذ، بالظاهر، و هذا الظهور كما يحصل من القرائن يحصل من الانسباق من الإطلاق: أي من الانصراف، و عند حصوله يعمل على طبقه سواء كان لانه حقيقة فيه بالخصوص فيكون سبب هذا الظهور هو الوضع، أو كان سببه الانصراف و ذلك فيما كان موضوعا لما يعمه، و لكن يكون له انصراف بواسطة كثرة الاستعمال في بعض مصاديقه الى ذلك المصداق، و حيث لم يعلم سبب الظهور فلا معين لاحد الامرين.

(2)

اعتبار العلو في الامر

يظهر منه (قدس سره) ان للفظ الامر ظهورا في المعنى الاول: و هو الطلب، و لم يعلم انه حقيقة فيه بالخصوص او انه موضوع لما يعمه و هذا الظهور للانصراف، و هذا

ص: 302

أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمرا و لو كان مستخفضا لجناحه. و أما احتمال اعتبار أحدهما فضعيف، و تقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، و توبيخه بمثل: إنك لم تأمره، إنما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، و إنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه، و كيف كان، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل، و لو كان مستعليا كفاية (1).

______________________________

ايضا ينافي ما ذكره في قوله فيما سبق: من انه لا يبعد ان يكون لفظ الامر مشتركا لفظيا بين الطلب في الجملة و الشي ء.

(1) المعروف ان الطلب من العالي الى السافل امر، و من المساوي للمساوي التماس، و من السافل الى العالي رجاء او دعاء، فكون الطلب صادرا من عال الى السافل مقوم لصدق الامر، و الظاهر انه لم يذهب احد الى ان الامر كالطلب يصدق على هذه الثلاثة باجمعها كما يصدق عليها الطلب، فان الملتمس و الراجي مع عدم استعلائهما لا يصدق عليهما الامر.

و انما الكلام في انه هل يكفي العلو الواقعي في الامر؟ أو لا بد مع كونه عاليا في الواقع مظهرا لذلك العلو بأن يكون مستعليا؟ أو ان حقيقة الامر تتقوم بالاستعلاء لا بالعلو الواقعي؟ فاذا كان الملتمس او الراجي مدعيا للاستعلاء و انه عال بحسب ادعائه صدق على الصادر منه الامر، و اذا كان العالي في الواقع خافضا لجناحه و مظهرا نفسه بعنوان الملتمس او الراجي لم يصدق على طلبه الامر، او ان المدار على احد امرين على سبيل منع الخلو: أي ان صدق الامر منوط باحد امرين: اما العلو الواقعي فما يصدر منه من الطلب امر و ان كان خافضا لجناحه، او استعلاء الطالب فيصدق على طلب الراجي و الملتمس الامر اذا كانا مستعليين.

و المختار للمصنف: ان الامر يتقوم بكونه من عال واقعا فقط، و لا يشترط مع كونه عاليا في الواقع ان يكون مظهرا لذلك فيصدق الامر على طلبه و ان كان العالي

ص: 303

.....

______________________________

في الواقع مستخفضا لجناحه، و لو كان اظهار العلو شرطا مع العلو الواقعي لما صدق على طلبه الامر اذا كان خافضا لجناحه.

و الدليل على كون العلو الواقعي مقوما لصدق الامر هو التبادر، و ان مرادفه بالفارسية (فرمودن) و الدليل على عدم اشتراط اظهار العلو هو صدق الامر على طلب العالي المستخفض لجناحه بالوجدان و عدم صحة سلب الأمر عنه، و بهذا انتفى الاحتمال الثاني أو القول الثاني، و من رد القول الاخير يظهر فساد القول الثالث ايضا.

و حاصل ما استدل به الذاهب الى القول الاخير: انه لا اشكال في كون الطلب الصادر من العالي واقعا امرا و ان كان مستخفضا لجناحه. و اما صدق الامر على طلب المستعلي و ان لم يكن عاليا في الواقع فدليله ما أشار اليه بقوله: «و تقبيح الطالب السافل» و حاصل هذا الدليل: ان السافل اذا استعلى و اظهر نفسه بعنوان كونه عاليا ادّعاءً يقبح في ذلك، و يقال له لم تامر، فيطلق على طلبه انه امر، و لذا يقال له: انه لم تامر من هو اعلى منك، و لو لم يكن ما صدر منه امرا، لما قيل له:

لم تامر و لما اطلقوا على ما صدر منه الامر.

و الجواب عنه: ان اطلاق الامر انما هو على سبيل المجازية، لانه حيث ادعى العلو و جعل نفسه ادّعاءً آمرا و صار طلبه بحسب ادعائه امرا فاطلقوا عليه الامر بعناية هذا الادعاء، فالاطلاق مجازي بهذه العناية لا انه بعد استعلائه صار طلبه امرا حقيقة، و لو كان هذا الاستعلاء يجعل طلبه امرا واقعا لما صح سلب الامر عنه في تلك الحال فان المقبحين له- بقولهم: لم تامر- لو سألوا في ذلك الحال ان طلب هذا المستعلي هل هو امر حقيقة لقالوا: بانه ليس بامر، و صحة سلب الامر عنه في تلك الحالة دليل على ان الاطلاق كان مجازا، و الّا لما صح السلب.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 1 ؛ ص304

مما ذكرنا ظهر: ان التقبيح للسافل على استعلائه و اظهار نفسه آمرا انما ذكر في مورد استعمال لفظ الامر في ذلك المقام، فالتقبيح من المدعي لكون الاستعلاء يكفي

ص: 304


1- 42. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

الجهة الثالثة: لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب، لانسباقه عنه عند إطلاقه، و يؤيده قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ و قوله: صلّى اللّه عليه و سلّم (لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) و قوله: صلّى اللّه عليه و سلّم لبريرة بعد قولها: أ تأمرني يا رسول اللّه (لا، بل إنما أنا شافع) إلى غير ذلك، و صحة الاحتجاج على العبد و مؤاخذته بمجرد مخالفة أمره،

______________________________

في اطلاق الامر حقيقة على طلب السافل المستعلي انما ذكر مورد الاطلاق الامر في تلك الحال، إلّا ان غرض المستدل الاستدلال بنفس التقبيح على كون الاستعلاء كافيا في صدق الامر. و الدليل على خروج التقبيح عن الاستدلال انه:

اولا: ان الاستدلال انما يكون لصحة الاطلاق و عدمه و نفس التقبيح اجنبي عن الاطلاقات اللفظية.

و ثانيا: انه لو فرضنا انه لا تقبيح للعقلاء على ذلك، فالاستدلال يتم ايضا لو صح الاطلاق مع استعلاء السافل.

و اتضح مما ذكرنا ايضا ان جواب المصنف عن التقبيح انه انما كان على استعلاء السافل الذي لا ينبغي منه الاستعلاء على العالي عليه، و ليس على نفس امر السافل المستعلي لانه اجنبي عن مورد استدلال المستدل، لما عرفت: من ان استدلاله كان بالاطلاق في مورد التقبيح لا بالتقبيح.

ثم لا يخفى ايضا بعد ان عرفت ان الاستعلاء لم يؤخذ مفهوما لما وضع له لفظ الامر لا شرطا للعلو الواقعي و لا عدلا له تعرف بطلان القول الثالث: و هو دعوى ان المقوم لصدق الامر هو الاستعلاء فقط، لوضوح ان لازم هذا القول انه لا يصدق الامر على طلب العالي واقعا المستخفض لجناحه، و انه مع الاستعلاء من السافل على العالي يصدق الامر على طلبه، و قد تبين ان الامر يصدق على طلب العالي المستخفض لجناحه و انه لا يصدق على طلب السافل المستعلي.

ص: 305

و توبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (1).

______________________________

(1)

افادة الامر الوجوب

العمدة فيما استدل به على كون الوجوب و الالزام ماخوذا فيما وضع له لفظ الامر: هو التبادر و الانسباق الى هذا الطلب المقيد بكونه بالغا حد الالزام من اطلاق لفظ الامر المستند ذلك الانسباق الى حاق لفظ الامر بحيث عند ما يسمع احد لفظ الامر المجرد عن كل شي ء او لفظ: امر زيد عمرا من دون قرينة حال او مقال يتبادر السامع منه ان الطلب هو الطلب الوجوبي، و هذا لو تم كان دليلا تاما على وضع الامر لخصوص الطلب الوجوبي، إلّا ان المنكر يمنع هذا التبادر، و يدعي: ان الامر موضوع للطلب الصادر من العالي لا خصوص الالزامي منه، و لذا يصح الاستفهام عنه، و ان الامر هل كان بنحو الالزام، و لو كان الالزام دخيلا فيه لما صح الاستفهام لوضوح المعنى و عدم احتماله الّا لشي ء واحد خاص: و هو الطلب الالزامي.

نعم، فيما كان الآمر لا يامر الّا بالطلب الالزامي كان المفهوم من الامر هو الوجوب، إلّا ان هذا للقرينة لالحاق لفظ الامر كأوامر السلاطين و الحكومات بالنسبة الى امرائهم و منصوبيهم، و لكنه كما عرفت انه للقرينة و غير مستند لحاق اللفظ.

و دعوى عدم صحة حمل لفظ الامر على الطلب الاستحبابي ممنوعة، فانه يصح حمله عليه حملا غير مستند الى لحاظ علاقة اصلا ليكون صحة الحمل بلحاظ المجازية.

و على كل حال فدليل المصنف على دعواه: هو التبادر، و ذكر مؤيدات اربعة لهذه الدعوى و هو اختصاص لفظ الامر بخصوص الطلب الالزامي.

الأول: من المؤيدات قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ 43] و يمكن بيانه بوجهين:

ص: 306

.....

______________________________

(الأول): انه لا اشكال في كون الامر في هذه الآية هو خصوص الطلب الالزامي، لان التحذير عن المخالفة انما يصح في الطلب الالزامي، و اما غير الالزامي فلا حذر في مخالفته و لا تحذير عليه، فاما ان يكون الطلب الالزامي المفهوم من لفظ الامر في هذه الآية مستنده لفظ الامر فيتم المطلوب، لوضوح انه لو لم يكن موضوعا له لما فهم من حاق نفسه.

و اما ان يكون مستندا الى القرينة و لا قرينة في الآية. و يمكن الخدشة في هذا: بانه كان مستندا الى القرينة و القرينة موجودة و هي نفس التحذير، فان التحذير لا يكون إلّا في الطلب الالزامي، و لا اقل من احتمال هذه القرينة و لازمه احتمال كون فهم الطلب الالزامي مستندا اليها، لا الى نفس لفظ الامر، فلا يتم التأييد على هذا الوجه.

(الثاني): ان نقول: انه رتب طبيعة الحذر على طبيعة الامر، و لو لم يكن طبيعة الامر مستلزمة للحذر لا يحسن ترتبه عليها، و من الواضح ان الحذر لا يترتب الّا على الطلب الالزامي، فلو لم يكن الامر هو الطلب الالزامي لما ترتب على طبيعته الحذر لانه انما يحسن ترتب اللوازم على ملزوماتها، فاذا لم يكن الملزوم مستلزما للازم لا يحسن ترتبه عليه.

و يمكن الخدشة فيه: بان ترتب الحذر على طبيعة الأمر انما يدل على ان طبيعة الامر مختصة بالطلب الالزامي حيث يدل دليل خارجي على ان هذا اللازم من مختصات هذا الملزوم.

و اما اذا كان نفس هذا اللازم يعين ملزومه و كان ملزومه احد مصاديق المعنى العام الموضوع له اللفظ كما يدعيه منكر وضع الامر لخصوص الطلب الالزامي، فانه لا دلالة فيه على ان هذا الكلام سيق لبيان ترتب اللازم على ما وضع له هذا اللفظ، بل غاية دلالته ان المترتب عليه الحذر هو خصوص الطلب الالزامي و لا دلالة فيه ان الموضوع له لفظ الامر هو الطلب الالزامي.

ص: 307

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: انه انما يكون هذا الظهور حيث لا يدل اللازم بنفسه على ان موضوعه امر خاص، مضافا الى ان سياق الآية باعتبار الجملة السابقة عليها ان هناك طلبا الزاميا من الشارع في حضور خطبة الجمعة، و نهى عن خروج الحاضرين إلّا باذن من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فامره الذي حذر عن مخالفته هو ذلك الطلب السابق فتخرج عن الظهور في كونها لبيان ترتب الحذر على طبيعة الامر.

نعم لو كان ذلك الطلب بلفظ الامر و كان غير مصحوب بقرينة تدل على انه اريد منه الطلب الالزامي لتم هذا الظهور.

و ربما يورد على هذا الظهور: بان الظهور انما يكون حجة في تعيين المراد لا في كيفية الاستعمال، فلو سلمنا ظهور الآية في ترتب الحذر على طبيعة الامر لما دل على وضع الامر لخصوص الطلب الالزامي.

و فيه: ان الظهور هنا ايضا لتعيين المراد، فان هذا الظهور انما دل على ان المراد هو ترتب الحذر على طبيعة الامر، و الذي يدل على الوضع لخصوص الطلب الالزامي هو لازم هذا الظهور، فمدلول هذا الظهور و هو ترتب الحذر على طبيعة الامر هو العلة في الدلالة على وضع الامر لخصوص الطلب الالزامي، و ليس هذا الظهور قائما بنفسه على ان المراد من الامر هو الطلب الالزامي حتى يقال: انه حجة في تعيين المراد دون كيفية الاستعمال، بل حيث كان الظهور حجة في تعيين المراد، فيدل هذا الظهور على ان المراد في الآية هو هذا الترتب و الذي يدل على الوضع هو هذا الترتب الذي قامت الحجة عليه.

التأييد الثاني: قوله صلّى اللّه عليه و سلّم (لو لا ان أشقّ على امتي لامرتهم بالسواك)(1) و حيث كانت المشقة من لوازم الطلب الالزامي دون مطلق الطلب الشامل للوجوبي و الندبي

ص: 308


1- 44. ( 1) الوسائل ج 1: 354/ 4 باب 3 من أبواب السواك.

.....

______________________________

فيتأتى بيانه في الدلالة على وضع الامر لخصوص الوجوب بالنحوين المذكورين في الآية السابقة، و الجواب: الجواب، مضافا ان غاية دلالة هذا الخبر على ان الامر الذي يوجه الى الناس بالسواك هو الوجوبي، و لعل الامر الذي يوجهه صلّى اللّه عليه و سلّم الى الناس يكون بصيغة افعل لا بلفظ الامر.

التأييد الثالث: قوله صلّى اللّه عليه و سلّم (لا بل انما انا شافع)(1) و حاصله: ان بريرة طلب منها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الرجوع الى زوجها فعبرت عن طلبه بانه امر، و قد فهم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من لفظ أ تامرني هو الطلب الالزامي، و لذا قال: لا بل انا شافع و فهمه من لفظ الامر ذلك دليل على ان الامر موضوع لخصوص الطلب الالزامي.

و الجواب عنه: ان قول بريرة أ تامرني يدل على ان هناك طلبا منه صلّى اللّه عليه و سلّم وجه لها، و لعل الطلب الذي وجه اليها منه كان بصيغة الامر لا بلفظ الامر، و سيأتي ان الصيغة اما ان تدل على الوجوب بالوضع، أو اطلاقها يدل عليه، و ليس في هذا الخبر دلالة واضحة على كونه صلّى اللّه عليه و سلّم فهم الوجوب من لفظ الامر.

التأييد الرابع: صحة الاحتجاج من العقلاء على العبد بمجرد مخالفته للامر الصادر اليه بلفظ: آمرك، و صحة توبيخه بمجرد مخالفته لذلك الامر الصادر بلفظ آمرك، و قد وبخ اللّه تعالى ابليس- لعنه اللّه- على نفس مخالفته للأمر بقوله تعالى:

ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ(2) فاللّه تعالى يوبخ ابليس و يقول له: ما لذي منعك عن امتثال امري اياك بالسجود، و الذي امتنع عنه ابليس هو امتثال الامر، فقوله تعالى: أَلَّا تَسْجُدَ بيان لامتناع ابليس و ان المتحصل من ذلك الامتناع هو عدم السجود فإن لا تسجد بيان المتحصل من الامتناع، و على كل فهذا التوبيخ منه تعالى لابليس على مخالفة الامر يدل على صحة التوبيخ على مخالفة الامر، و صحة التوبيخ

ص: 309


1- 45. ( 1) مستدرك الوسائل المجلد الثاني: 600/ 3 باب من أبواب نكاح العبيد و الإماء.
2- 46. ( 2) الاعراف: الآية 12.

و تقسيمه إلى الايجاب و الاستحباب، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه، و صحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى (1)، و أما ما أفيد من أن الاستعمال

______________________________

انما تكون على الطلب الالزامي فلا بد و ان يكون مدلول الامر هو الطلب الالزامي، و لازم ذلك كون لفظ الامر موضوعا لخصوص الطلب الالزامي الذي هو الوجوب.

و الجواب عنه: ان القائل بوضع الامر للاعم، منهم من يقول بان الامر لا يدل على الوجوب بالوضع، و لكنه يدل على الوجوب بقرينة الحكمة و الاطلاق، و ان الندبي منه يحتاج الى البيان، فحيث لا يكون المولى في مقام الاهمال و لم ينصب قرينة على الندب فالاطلاق يعين ان المراد من لفظ الامر هو الوجوب، فلو قال المولى لعبده: امرك يدل هذا على الوجوب بالاطلاق و حيث كان الوجوب مدلولا بالاطلاق صح الاحتجاج و التوبيخ، و لكنه لا يدل ذلك على كون الامر موضوعا للوجوب، لان الوجوب قد دل عليه الاطلاق لا لفظ الامر، و اما من ينكر الاطلاق- ايضا- فهو لا يعترف بصحة هذا الاحتجاج و التوبيخ، و اما التوبيخ في الآية فلا دلالة فيه اصلا، لأن الامر الذي صدر منه تعالى كان بصيغة الامر لا بلفظ الامر و هو قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ*(1). و لعل المصنف لهذه المناقشات ذكر هذه الامور الاربعة بلسان التاييد، دون الاستدلال.

(1) هذا شروع في ادلة المنكرين لوضع لفظ الامر لخصوص الطلب الوجوبي، بل هو موضوع للاعم منه و من الطلب الندبي، و عمدة ادلتهم هو إنكار تبادر الوجوب من لفظ الامر، بل المتبادر منه الطلب الجامع للوجوب و الندب، و حيث لم يكن تحقق للجامع الّا في ضمن احد فرديه، فلا بد من تعيينها اما بالقرائن الخاصة أو الاطلاق، و اذا انتفى الامر ان كان لفظ الامر مجملا من ناحية الخصوصية الوجوبية و الندبية،

ص: 310


1- 47. ( 1) الحجر: الآية 29، ص: الآية 72.

.....

______________________________

و لم يشر المصنف لهذا الاستدلال و تعرض لادلة أخر ذكرت لهم.

- منها: ما اشار اليه بقوله: «و تقسيمه الى الايجاب و الاستحباب».

و حاصله: ان يطلق لفظ الامر بما له من المعنى فيجعل مقسما للوجوب و الاستحباب، فيقال: الامر ينقسم الى وجوبي و استحبابي، و لا شبهة في ان الذي يصح تقسيمه الى الايجاب و الاستحباب هو الجامع بينهما و القدر المشترك لهما و هو الطلب المطلق، و لو كان لفظ الامر موضوعا لخصوص الوجوب لما صح تقسيمه، اذ لا ينقسم الشي ء الى نفسه و الى غيره، لأن معنى الانقسام بيان افراد أو انواع ما وضع له اللفظ، و الامر لو كان موضوعا لخصوص الوجوب لا يكون الندب نوعا منه و لا فردا له فلا يصح التقسيم، و صحة التقسيم مما لا ريب فيها فتدل على ان المقسم موضوع لمطلق الطلب لا خصوص الطلب الالزامي و هو الوجوب.

و الجواب عنه: ما اشار اليه بقوله: «انما يكون قرينة ... الى آخره» و توضيحه ان التقسيم الى الايجاب و الاستحباب لا يدل على اكثر من انه اريد بلفظ الامر في مقام التقسيم مطلق الطلب لا الطلب الوجوبي، و اما ان هذا المراد من لفظ الامر هو الموضوع له لفظ الامر فلا تدل عليه صحة التقسيم الّا بضميمة احد امور ثلاثة:

الأول: ان يقال ان صحة التقسيم قد دلت على ان المراد من لفظ الامر هو الطلب المطلق فاما ان يكون موضوعا له فيتم المطلوب، و الّا فلا بد من ان يكون بالقرينة، و لا قرينة في المقام.

و الجواب عنه: ان كونه في معرض التقسيم يصلح ان يكون قرينة اذا كان لفظ الامر موضوعا لخصوص الوجوب.

الثاني: ان يقال بعد ان كان المعنى العام هو المراد فاصالة الحقيقة تدل على انه هو المعنى الحقيقي.

و الجواب عنه اولا: بان اصالة الحقيقة و غيرها من الاصول العقلائية اللفظية انما بنوا عليها في مقام الشك في المراد، لا فيما اذا شك في الوضع، فهي حجة في تعيين

ص: 311

فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد، لما مرت الاشارة إليه في الجهة الاولى، و في تعارض الاحوال، فراجع (1).

______________________________

المراد و ذلك فيما كان للفظ معنى حقيقي و معنى مجازي فشك في ان المراد هو الحقيقي، أو المجازي، لا فيما اذا كان المراد معلوما و شك في انه هل هو معنى حقيقي او مجازي، و المقام من قبيل الثاني لا الاول.

و ثانيا: ان اصالة الحقيقة ليست اصلا بذاتها في قبال اصالة عدم القرينة، و في قبال ان الاصل في الاستعمال ان يكون على نحو الحقيقة، فان رجعت الى اصالة عدم القرينة، فالجواب عنها ما عرفت، و ان رجعت الى اصالة الاستعمال فسيأتي الجواب عنها.

الثالث: ان يقال: ان المراد من الامر في مقام التقسيم هو الطلب المطلق، فلفظ الامر مستعمل في مطلق الطلب و الاصل في الاستعمال ان يكون على نحو الحقيقة.

و الجواب: انه لا صحة لهذا الاصل و ليس للعقلاء بناء عليه، و صحة الاستعمال اعم من الحقيقة و المجاز، و يحتمل ان يكون قد اشار المصنف الى الاول بقوله: «انما يكون قرينة على ارادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه» و الى المعنى الثالث بقوله:

«و صحة الاستعمال في معنى اعم من كونه على نحو الحقيقة».

(1) هذا بيان لكون الاصل في الاستعمال الحقيقة بغير ما ذكر، و هو ان يقال: ان معنى قولهم في المقام ان الاصل في الاستعمال الحقيقة يرجع الى ان المراد و هو مطلق الطلب قد ثبت في مقام التقسيم، فيدور الامر بين كونه هو المعنى الحقيقي لا غير و هو المطلوب، و الّا فاما ان يكون مشتركا لفظيا: بان يكون لفظ الامر قد وضع للطلب الوجوبي و لمطلق الطلب على سبيل الاشتراك اللفظي، و اما يكون استعماله في مطلق الطلب على نحو المجاز، و الاصل عدم الاشتراك، للزومه تعدد الوضع، و عدم المجاز لاحتياجه الى القرينة و الاصل عدم القرينة.

ص: 312

و الاستدلال بأن فعل المندوب طاعة، و كل طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، و إلا لا يفيد المدعى (1).

______________________________

و الجواب عنه: ما اشار اليه بقوله: «غير مفيد» و حاصله: قد مر مثل هذا الكلام في الجهة الاولى في دوران لفظ الامر بين كونه موضوعا لخصوص الطلب لا غير، و استعماله في بقية المعاني التي ذكرت: من الشي ء و الفعل و الغرض و غيرها يلزم منه اما الاشتراك اللفظي او المجازية و هما خلاف الاصل.

و الجواب عنه اولا: لا صحة لهذه الاصول عند العقلاء.

و ثانيا: انها معارضة بمثلها و قد مر تفصيل ذلك في تعارض الاحوال.

(1) و بيان هذا الاستدلال على كون الامر موضوعا للطلب المطلق الشامل للوجوب و الندب بتقديم مقدمة له:

و هو ان نقول: ان صدق المشتق على المتحمل للمبدا الذي بسببه صدق المشتق عليه لا بد و ان يكون تحمله للمبدا و انضمام المبدأ على نحو الحقيقة، مثلا: اذا صدق الضارب على شخص صدقا حقيقيا فلا بد و ان يكون ضاربا حقيقة و الضرب منضما اليه حقيقة، لا ان انضمام الضرب اليه على نحو المجازية، فاذا تمت هذه المقدمة نقول:

انهم استدلوا- على ما ادعوه: من كون الامر موضوعا للاعم- بهذا الشكل: و هو انه لا اشكال ان فعل المندوب طاعة، و كل طاعة هي فعل المامور به، فينتج ان فعل المندوب فعل المامور به، فيصدق المامور به على فعل المندوب صدقا حقيقيا، و لازم ذلك ان المبدأ و هو الأمر قد تحمله فعل المندوب و انضم اليه انضماما حقيقيا، فيصدق على المندوب انه مامور به حقيقة، و لازم ذلك كون الامر موضوعا لما يعم المندوب و الّا لكان صدق المامور به عليه على نحو المجاز دون الحقيقة.

و الجواب عنه: منع الكبرى تارة لان قولهم كل طاعة لا بد و ان يصدق عليها لفظ المامور به صدقا حقيقيا ليست بمسلمة فكلية الكبرى ممنوعة، لانه لا نسلم ان فعل

ص: 313

الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا، بل طلبا إنشائيا، سواء أنشئ بصيغة افعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الامر، أو بغيرها (1).

______________________________

المندوب يصدق عليه لفظ المامور به صدقا حقيقيا، بل الذي يصدق عليه انه فعل المطلوب حقيقة، لا انه مامور به حقيقة، بل بعض مصاديق الاطاعة يصدق عليها انها مامور بها حقيقة و هي الاطاعة الوجوبية. و اخرى تسليم الكبرى و لكنه لا يثبت المطلوب، و ذلك إذا اريد من المامور به في قولهم: كل طاعة هي فعل المامور به الاعم من المعنى الحقيقي: بان يكون المراد من المامور به هو المطلوب، فلا يتم الاستدلال على كون الامر موضوعا للاعم، و هذا معنى قوله: «فيه ما لا يخفى من منع الكبرى»: أي منع كليتها «لو اريد من المامور به معناه الحقيقي» و هو انه لا بد و ان يصدق على كل طاعة عنوان المامور به صدقا حقيقيا «و الّا لا يفيد المدعى» لوضوح انه لو كان المامور به ليس بمعناه الحقيقي، بل اريد به المطلوب، فلا يفيد ما ادعاه: من كون لازم هذا القياس كون لفظ الامر موضوعا للاعم، و لكنه لا يخفى ان لازم ما ذكره ان الامر المتعلق بالمندوب لا يسمى أمرا حقيقة و هو بعيد جدا، لصدق الأمر عليه من دون عناية.

(1)

الطلب و الارادة

لا يخفى عليك ان الالفاظ موضوعة لنفس الماهيات المجردة عن الوجود بكلا قسميه من الذهني و الخارجي، و لذا يحمل عليها الوجود و العدم، فيقال: الانسان موجود و الانسان معدوم، و الموضوع له اللفظ هو المسمى بالكلي الطبيعي.

و لا يخفى ايضا ان للماهية فردين قطعا الموجود الذهني و الموجود الخارجي، كالنار و الشجر و الانسان و البياض و السواد، فان لفظ النار- مثلا- موضوع لماهية النار و له فرد خارجي و هي النار التي يمكن ان يترتب عليها الآثار كالحرارة و الاحراق، و لها فرد ذهني و هي صورة النار المتصورة في الذهن، و هناك من الماهيات

ص: 314

.....

______________________________

لها فرد ثالث و هو الوجود الانشائي مثل الطلب و البيع، فان لفظ الطلب موضوع لماهية الطلب و له فرد خارجي و هو الشوق الموجود في افق النفس في مرحلة شوقها و اشتياقها، و فرد ذهني و هو الصورة الحاصلة في افق الذهن و التصور و له فرد انشائي و هو وجود الطلب المنشأ بصيغة افعل او بمادة الامر او بلفظ اريد.

و لا يخفى انه ليس لكل ماهية فرد انشائي، بل بعض الماهيات ليست لها فرد انشائي لأنها ليست قابلة للانشاء، فان ماهية الانسان- مثلا- ليس لها فرد انشائي لأن الانشاء و ان كان ايجاد المعني باللفظ لا بقصد الحكاية، إلّا ان من المعاني بذاتها تكون في حقيقتها و وجودها لا تحتاج الى اكثر من قصد ايجادها باللفظ كالاستفسار و الاستفهام فان السؤال عن شي ء هو بذاته معنى لا يحتاج الى اكثر من قصد ايجاده باللفظ المقرر له كهمزة الاستفهام- مثلا- و من المعاني، ما يكون لها وجود في افق من افاق التكوين، إلّا ان لقصد ايجادها باللفظ اثرا من الآثار عند العقلاء، كانشاء الطلب، و ماهية الانسان ليست بذاتها كماهية الاستفسار، و ليس لقصد ايجاد مفهوم الانسان باللفظ اثر عند العقلاء.

و على كل حال فان بعض الماهيات ليست قابلة للانشاء، و هذه الماهيات لها ثلاثة مقامات: مقام المفهوم و نفس الماهية، و مقام وجودها الخارجي، و مقام وجودها الذهني.

و الماهيات القابلة للانشاء لها اربعة مقامات: الثلاثة المذكورة، و ينضم اليها مقام وجودها الانشائي.

و لا يخفى ايضا ان حمل اللفظ الموضوع لمعنى على فرده ليس من الحمل الذاتي، لأن مناط الحمل الذاتي الاتحاد في الماهية، و مناط حمل المفهوم على المصداق الاتحاد في الوجود، و المعروف في كلمات القوم السابقين- لصاحب الاسفار- هو ان حمل المفهوم على كلا فرديه الموجود الذهني و الموجود الخارجي من الحمل الشائع، إلّا ان الذي يظهر من صاحب الاسفار ان الحمل الشائع الصناعي هو خصوص حمل

ص: 315

.....

______________________________

المفهوم على مصداقه الخارجي الذي هو منبع الآثار المرغوبة و المطلوبة به لاهل الصناعات دون الموجود الذهني، فحينئذ يكون بحسب هذا الاصطلاح ان حمل المفهوم على غير الموجود الخارجي: أي على غير فرده الخارجي هو من حمل المفهوم على مصداقه و ليس هو من الحمل الذاتي، إلّا انه ليس من الحمل الشائع الصناعي ايضا، فحمل المفهوم على الفرد الانشائي ليس من الحمل الشائع الصناعي، لانه ليس هو الفرد الخارجي، و على هذا الاصطلاح جرى المصنف في المقام لانه قال:

«ان الطلب الذي يكون هو معنى الامر ليس هو الطلب الحقيقي» لوضوح انه من اراد شيئا حقيقة و تعلق به شوقه و طلبه الحقيقي و لم ينشا طلبه لا يقال له: انه امر به، فالامر- حينئذ- هو خصوص الطلب الانشائي الذي أنشأه و اظهر به ارادته الحقيقية و طلبه الحقيقي، و اما كون الامر ليس هو الفرد الذهني للطلب فواضح، فانحصر الامر بالفرد الانشائي من الطلب، فالامر المنشأ به الطلب ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع، لأن حمل مفهوم الطلب على فرد الطلب الحقيقي الحاصل للنفس في افق الشوق هو من حمل الشائع الصناعي بحسب الاصطلاح عنده «بل الطلب الانشائي»: أي ان معنى الامر هو خصوص الطلب الانشائي «الذي لا يكون بهذا الحمل»: أي بالحمل الشائع الصناعي «طلبا مطلقا»: أي غير مقيد فانه اذا حمل الطلب على فرده بالحمل الشائع الصناعي يختص بحمل مفهوم الطلب على فرده الحقيقي و هو الطلب الحاصل للنفس في مرحلة الشوق.

و حاصل مرامه: ان الطلب اذا حمل على فرده حملا شايعا ينحصر الفرد المحمول عليه بالطلب الحقيقي دون الطلب الانشائي، لاختصاص الحمل الشائع الصناعي بالطلب الحقيقي، ثم قال (قدس سره): «بل طلبا انشائيا»: أي بل يكون طلبا انشائيا: أي ان معنى الامر ليس هو الطلب الحقيقي الموصوف بما ذكره من كون حمله حملا شايعا، بل معناه هو الطلب الانشائي سواء أنشأ الامر بصيغة افعل أو

ص: 316

و لو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، و ذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي، كما أن الامر في لفظ الارادة على عكس لفظ الطلب، و المنصرف عنها عند إطلاقها هو الارادة الحقيقية و اختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة، من المغايرة بين الطلب و الارادة، خلافا لقاطبة أهل الحق و المعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، و إن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما لم تكن عن

______________________________

بمادة الطلب: بان قال: اطلب، او بمادة الامر: أي بلفظ امر او بغيرها كما لو انشأ بالاشارة.

و بعبارة اوضح: ان مفهوم الطلب اذا حمل بالحمل الشائع الصناعي فلا يحتاج الى تقييده بشي ء، لأن الحمل الشائع الصناعي هو حمل الماهية على فردها ذي الأثر في الخارج و الفرد ذو الاثر في الخارج لماهية الطلب هو الطلب الحقيقي، فلا يحتاج في مقام حمل الطلب بالحمل الشائع الى تقييد الطلب بشي ء لانحصاره في الطلب الحقيقي لأن ذا الاثر في الخارج منحصر به، بخلاف ما اذا اردنا حمل الطلب على فرده الآخر كالانشائي فلا بد و ان يذكر له قيد الانشائي، لأن حمله عليه ليس من الحمل الشائع حتى يتعين، و حيث ان له مصداقا آخر و هو الذهني فلا بد من التقييد لمعرفة أي المصاديق مراد في هذا الحمل الذي ليس هو حملا ذاتيا و لا حملا شايعا صناعيا، بل هو حمل الماهية على مصداقها و حيث لها مصداق آخر فلا بد من التقييد بالانشائي، فلا ينافي هذا ما سيذكره بعد: من ان الطلب اذا اطلق ينصرف منه الى الانشائي، فانه هنا في مقام الحمل، و هناك في مقام الانسباق من لفظ الطلب اذا اطلق و تعيين المراد منه.

ص: 317

المحذور خالية، و الاعادة ليست بلا فائدة و لا إفادة، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا (1)

فاعلم أن الحق كما هو عليه أهله وفاقا للمعتزلة و خلافا للاشاعرة:

هو اتحاد الطلب و الارادة، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم

______________________________

(1) حاصله ما استدل به على كون الامر هو خصوص الطلب الانشائي هو التبادر، و يمكن ان يستدل عليه: بانه من المعلوم ان من اراد شيئا حقيقة و لم يظهر طلبه بانشاء او اشارة لا يقال له: انه امر بشي ء، و لو كان الامر هو الطلب الحقيقي او انه من مصاديق الامر لصح ذلك في حقه، و من الواضح ايضا ان المنشأ بصيغة الامر- مثلا- ليس هو الطلب الذهني فيتعين ان المنشأ بها هو الطلب بمرتبته الانشائية، لوضوح ان مفهوم الطلب لا يراد الّا في مقام التقسيم و الحدود، فاذا لم يكن المنشأ بالصيغة هو الطلب الحقيقي و لا الطلب الذهني و لا مفهوم الطلب تعين انه هو الطلب الانشائي، و لما كان المصنف في صدد التعرض لبحث اتحاد الطلب و الارادة تنزل عن هذا و ادعى انه لو قلنا: ان مفهوم الامر هو الطلب المطلق و لكن لا اقل من انصراف الامر عند اطلاقه الى الطلب الانشائي لكثرة ما يستعمل فيه، و لا ريب ان كثرة الاستعمال توجب الانصراف، و هذا الانصراف الى الطلب الانشائي لا يختص به لفظ الامر بل لفظ الطلب ايضا مثله، فانه اذا اطلق ينصرف منه الى فرده الانشائي، بخلاف لفظ الارادة فانها اذا اطلقت ينصرف منها الى الفرد الحقيقي من الارادة.

و الفرق بينهما في هذا الانصراف اوجب ان يميل بعض اصحابنا من العدلية الى مذهب الاشاعرة المدعين للمغايرة بين الطلب و الارادة، خلافا للعدلية- في هذه المسألة- القائلين باتحاد الطلب و الارادة.

و الحق: هو اتحاد الطلب و الارادة مفهوما و مصاديق كما هو رأي اهل الحق: أي العدلية و جماعة المعتزلة ايضا، خلافا للاشاعرة القائلين بالمغايرة.

ص: 318

واحد و ما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، و الطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية.

و بالجملة: هما متحدان مفهوما و إنشاء و خارجا، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الارادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس و أبين من الامس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية و الاتحاد، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شي ء و الامر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان، فإن الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها، يكون هو الطلب غيرها، سوى ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشي ء و الميل و هيجان الرغبة إليه، و التصديق لفائدته، و هو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لاجلها.

و بالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة و الارادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيص الّا عن اتحاد الارادة و الطلب، و أن يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في ارادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك، مسمى بالطلب و الارادة كما يعبر به تارة و بها أخرى، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) ذهب الاشاعرة الى مغايرة الطلب للارادة، و هو من مصاديق الكلام النفسي الذي جعلوه من صفاته تبارك و تعالى في قبال العلم و الارادة كما يظهر من استدلالهم الآتي ان الطلب الحقيقي متحقق في الاوامر الامتحانية، و حيث لا ارادة حقيقية فلا بد و ان يكون الطلب غير الارادة، و قد انكر العدلية الكلام النفسي من رأس و انكروا تغاير الطلب و الارادة الذي ادعى الاشاعرة انه من موارد الكلام النفسي.

و حاصل ما ادعاه العدلية: ان الطلب عين الارادة مفهوما و ما هو مصداق احدهما هو مصداق الآخر، لضرورة انه اذا كانا موضوعين بازاء مفهوم واحد فلا بد

ص: 319

.....

______________________________

و ان تتحد مصاديقهما، فمفهوم الطلب عين مفهوم الارادة و مصداق الارادة الحقيقة، و هي الشوق الحاصل في النفس عند تصورها للشي ء الملائم لها فتشتاق اليه بحيث تهيج رغبتها الى تحققه في الخارج و يكون متعلق ارادتها، و هذه الارادة في هذه المرحلة هي الطلب الحقيقي، فان كانت الرغبة الى تحصيله تعلقت بان يوجده الطالب و المريد بنفسه تحركت العضلات اليه، و ان كانت الرغبة في ان يكون المحصل له الغير دعا ذلك الى انشاء الارادة و الطلب.

فاتضح: انهما متحدان في المفهوم و في الخارج و هو تحققهما في افق القوة الشوقية، فان خارجية كل شي ء بحسبه و خارجية الارادة و الطلب بتحققهما في مرحلة القوة الشوقية، و ايضا هما متحدان في مرتبة الانشاء، فالمراد من الاتحاد اتحاد كل مرتبة بمرتبتها، فمرتبة المفهوم اتحاد الارادة و الطلب مفهوما، و مرحلة الخارج اتحادهما خارجا، و في مرحلة الانشاء اتحادهما إنشاء، و بعد ان كانا متحدين مفهوما فلا بد و ان يتحدا في كل مصداق بحسب افق ذلك المصداق، و لا يعقل ان يدعى كون الطلب بمرحلته الانشائية متحدا مع الارادة بمرحلتها الحقيقية، لأن مرجع ذلك الى اتحاد الارادة بمرحلتها الانشائية بالارادة بمرحلتها الحقيقية، و هما مصداقان في افقين مختلفين كيف يعقل دعوى اتحادهما؟

نعم الفارق بين الطلب و الارادة: ان المنصرف من لفظ الطلب هو فرده الانشائي، و المنصرف من الارادة عند اطلاقها هو فردها الحقيقي، و ذلك لكثرة استعمال الطلب في الفرد الانشائي و كثرة استعمال الارادة في فردها الحقيقي، و الاختلاف في الانصراف لا يوجب اختلافا فيما هو الموضوع له كل منهما و لا يوجب اتحاد مرتبة الانشاء بمرحلة الحقيقة. هذه دعوى العدلية في الاتحاد و العينية بين الطلب و الارادة.

و استدلوا على هذا الاتحاد بينهما بما اشار اليه المصنف بقوله: «ففي مراجعة الوجدان ... الى آخره» و حاصله: انه لو كان مصداق الطلب الحقيقي غير الارادة

ص: 320

.....

______________________________

الحقيقية لكنا نحسه في انفسنا، لوضوح انه لنا طلب حقيقي و ارادة حقيقية و طلب انشائي و ارادة انشائية، فاذا رجعنا الى ما نحسه و نجده في انفسنا انا نتصور الشي ء فيوجد الشي ء في مرحلة التصور و هو احد قسمي العلم، و حيث تكون لذلك الشي ء فائدة و بعد تصورها و كونها ملائمة لنا يحصل الميل منا له و تهيج رغبتنا اليه، و بعد هذا يحصل التصديق من النفس: بان هذه الفائدة الملاءمة المرغوب اليها ينبغي تحصيلها بتحصيل ما فيه تلك الفائدة و هو الذي سماه المصنف ب «الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه» و قد ذكر القوم في ترتيب المقدمات نحوا آخر و ترتيبا غير ما ذكره المصنف، فانهم قالوا: ان مقدمات الارادة العلم و هو تصور الشي ء بما له من الفائدة و التصديق بان له فائدة ملائمة، فيحصل الميل اليه و هو شوق بمرتبة ضعيفة الى تحققه و حيث يحصل هذا الشوق يكون المتصور في صدد التفكير في الموانع التي تمنع عن تحقق هذا الذي وقع متعلقا للميل أو الشوق، فيجزم بانه لا مانع عن ذلك و بعده يكون بصدد تحصيله و هي مرتبة العزم و بعد تلك المرتبة تحصل الارادة المحركة للعضلات من نفس المتصور اذا كان الميل الاولي لذلك الشي ء بنحو ان يتولى هو ايجاده و تحصيله بالمباشرة، و اذا كان بنحو ان يتولى تحصيله غيره: أي لا بالمباشرة تحصل الارادة له لأن يحرك الغير اليه، و مرحلة الارادة المحركة لعضلاته أو لغيره هي مرحلة الارادة الحقيقية و هي مرحلة الطلب الحقيقي.

و اتضح مما ذكرنا انه ليس بعد تحقق المقدمات المذكورة شي ء غير الارادة الحقيقية، لانه اما يكون بعد حصول المقدمات المذكورة ان لا يحصل لنا طلب حقيقي و هو واضح الفساد، لأن الكل متفقون على انه لنا طلب حقيقي، و اما ان يكون لنا بعد تمامية المقدمات امران طلب حقيقي و ارادة حقيقية، و لا نجد في انفسنا بعد تمامية المقدمات الّا شيئا واحدا، و اما ان يكون ذلك الشي ء الواحد هو الطلب الحقيقي و هو الارادة الحقيقية فيتحد الطلب و الارادة و هو المطلوب، و لذا قال (قدس سره):

«و بالجملة لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة و الارادة» في مقام طلب الشي ء: أي

ص: 321

و كذا الحال في سائر الصيغ الانشائية، و الجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجي و التمني و العلم إلى غير ذلك، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، و قد دل اللفظ عليها، كما قيل:

إن الكلام لفي الفؤاد و إنماجعل اللسان على الفؤاد دليلا (1).

______________________________

انا اذا طلبنا شيئا لا نجد غير العلم: أي تصوره و تصور فائدته و الشوق الضعيف اولا، ثم الجزم ثم العزم ثم الارادة، و ليس هناك شي ء نسميه بالطلب الحقيقي بعد تمام مقدمات الارادة يكون ذلك غير الارادة فليس «هناك صفة اخرى قائمة بها»: أي بالنفس «يكون هو الطلب» الحقيقي: أي يكون ذلك الشي ء الذي هو غير الصفات المعروفة و الارادة هو الطلب الحقيقي و اذا لم يكن غير المقدمات المذكورة و الارادة شي ء يكون هو الطلب «فلا محيص عن اتحاد الارادة و الطلب» و إلّا لزم اما ان لا يكون لنا طلب حقيقي و هو فاسد قطعا، أو يكون لنا شيئان حقيقيان الارادة الحقيقية و الطلب، و لا نجد في انفسنا الّا شيئا واحدا أو يكون الطلب الحقيقي هو الارادة و حيث لا نجد في انفسنا شيئا غير ذلك فلا بد «و ان يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في ارادة فعله بالمباشرة أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو اراده لا كذلك»: أي لا على نحو المباشرة «مسمى بالطلب و الارادة» فيتحد الطلب و الارادة «كما يعبر به تارة» فيقال بعد تمام المقدمات المذكورة: طلب المولى أو حصل الطلب الحقيقي، و يعبر «بها اخرى» فيقال: اراد المولى أو حصلت الارادة.

(1) لا يخفى ان الاشاعرة القائلين بالكلام النفسي- و انه صفة من صفاته تعالى قديمة- قالوا: انه في الاوامر و النواهي هو غير الارادة و سموه بالطلب، و لذا قالوا:

بمغايرتهما و ان الكلام النفسي في الجمل الخبرية هو غير العلم، و في الاستفهام و الترجي و التمني هو غير الحقيقي منها، و لم يذكروا له اسما.

ص: 322

.....

______________________________

و بعد ما عرفت الحق في الاوامر، و ان الطلب هو عين الارادة فيها، نقول ايضا: انه في الجمل الخبرية هناك مدلول للجملة الخبرية اللفظية و هو ثبوت النسبة و لا ثبوتها كما سيأتي بيانه، و هناك علم بثبوت النسبة و لا ثبوتها و ليس وراء مدلول الجملة و العلم بثبوتها و لا ثبوتها شي ء آخر في النفس يكون مدلولا للكلام اللفظي المسمى عند الاشاعرة بالكلام النفسي، و كذلك الاستفهام و الترجي و التمني فان الموجود في انفسنا هو الشوق الى الاستفسار حقيقة و الشوق لما يتوقع حصوله و الشوق لما لا يحصل، و لا مانع من تعلق الشوق بما لا يحصل فان المحال ارادة ما لا يمكن ان يحصل، اما الميل الذي سببه ملائمة الصور في افق الشوق فلا مانع من حصول الميل الى تلك الصور في تلك المرحلة، فاذا رجعنا الى انفسنا فانا لا نجد غير هذه الاشياء و ثبوتها في النفس في افق الشوق و هي المسماة بالاستفهام الحقيقي، و الترجي الحقيقي، و التمني الحقيقي، و اما مدلول صيغتها فليس الّا الانشاء كما سيأتي الكلام فيه، فاين الكلام النفسي فيها؟ الذي هو غير الاستفهام الحقيقي، و الترجي الحقيقي، و التمني الحقيقي الذي جعلوه مدلولا للكلام اللفظي قائما في النفس، و قالوا:

ان الكلام لفى الفؤاد و انماجعل اللسان على الفؤاد دليلا

و هذا الشعر بنفسه اجنبي عن الدلالة على ما ادعوه: من كون الكلام النفسي امرا غير الصفات المذكورة، فان دلالة هذا البيت على ان الكلام اللفظي الدال على مدلوله المتصور منه يدل بحسب الملازمة ان هناك شيئا في نفس المتكلم يلازم هذه الدلالة اللفظية عبر عنه بالكلام النفسي، و ان هناك شيئا غير مدلول الكلام اللفظي.

و على كل فالكلام النفسي الذي ادعوه امر غير موجود في انفسنا. نعم، تحقق هذه الصفات: أي الاستفهام الحقيقي، و الترجي و التمني الحقيقين في ذات الواجب تعالى محال، لاستلزامه الجهل او محالا آخر، إلّا انه ليس لازم ذلك ان يكون لمدلولات هذه الصيغ لازم آخر في الواجب غير ما هو اللازم لها في الممكن، بل معناه

ص: 323

و قد انقدح مما حققناه، ما في استدلال الاشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الارادة، كما في صورتي الاختيار و الاعتذار من الخلل، فإنه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، و الذي يكون فيهما إنما هو الطلب الانشائي الايقاعي، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، و لم يكن بينا و لا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الارادة الانشائية.

و بالجملة: الذي يتكفله الدليل، ليس إلا الانفكاك بين الارادة الحقيقية، و الطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما و هو مما لا محيص عن الالتزام به، كما عرفت، و لكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا لمكان هذه المغايرة و الانفكاك بين الطلب الحقيقي و الانشائي، كما لا يخفى (1). ثم إنه يمكن مما حققناه أن يقع الصلح بين الطرفين، و لم يكن

______________________________

قيام البرهان على عدم الملازمة في الواجب، و حيث لا مانع عنها في الممكن فالدلالة الالتزامية موجودة في الممكن دون الواجب.

(1) من جملة ما استدل به الاشاعرة على مغايرة الطلب و الارادة هذا الذي اشار اليه.

و حاصل الاستدلال و تقريبه: انه لا اشكال في موردي الاوامر الاختبارية و الاعتذارية من تحقق الطلب الحقيقي و لا ارادة حقيقية، و لازمه كون الطلب الحقيقي غير الارادة الحقيقية فتتحقق المغايرة، و توضيحه ببيان امرين:

الاول: ان الفرق بين الاوامر الاختبارية و الاعتذارية: هو انه في المورد الاول يكون غرض المولى اختبار حال عبده، و انه هل هو ممن يطيع أوامره او يعصيها فيامره لاجل هذا الغرض، و في المورد الثاني يكون الغرض ان يكون امر العبد منكشفا لمولاه و انه ممن لا يطيع اوامره و من العاصين لاوامره، إلّا انه لا يستحق تقبيحه او عقابه من دون امره له فيأمره بشي ء يكون الغرض من امره هو اظهار حقيقته لمن ربما

ص: 324

.....

______________________________

يلومه على تقبيحه او عقابه، و لا اشكال انه في كلا الموردين لا ارادة حقيقية للمولى فيما تعلق به امره.

الثاني: انه لا اشكال و لا ريب ان الامر من دون كونه مسبوقا بالطلب الحقيقي لا يجب امتثاله على العبد، و الذي يجب امتثاله ما كان مسبوقا بالطلب الحقيقي.

فاتضح انه في هذين الموردين قد تحقق الطلب الحقيقي لانه شرط امتثال الامر و انه لا ارادة حقيقية، لأن المفروض ان الغرض من الاول هو اختبار العبد و لا غرض للمولى فيما تعلق به امره، و حيث لا غرض له بذلك لا ارادة له حقيقية لما تعلق به الامر، و في الثاني ايضا الغرض من الامر الاعتذار فيما لو اراد المولى تقبيح العبد او عقابه و لا غرض له ايضا فيما تعلق به الامر فلا ارادة حقيقية ايضا، و قد عرفت ان الامر مشروط امتثاله بالطلب الحقيقي فلا بد في هذين الموردين من تحقق الطلب الحقيقي، و اذا تحقق الطلب الحقيقي و لا ارادة حقيقية فلا مناص من المغايرة بينهما، فثبت المطلوب. و لا يخفى انا جعلنا الطلب الحقيقي في تقريب استدلالهم شرطا للامر انما هو لإعطاء استدلالهم صورة، و الّا فكلامهم صريح في ان الطلب الحقيقي هو مدلول الامر، لأن الطلب الحقيقي عندهم هو الكلام النفسي المدلول للكلام اللفظي، و سيأتي التعرض له عند شرح قول المصنف: دفع وهم: «لا يخفى انه ليس غرض الاصحاب ... الى آخره».

و الجواب ما اشار اليه بقوله: «من الخلل» و تفصيله: انه في هذين الموردين الطلب الانشائي متحقق، و كما انه لا ارادة حقيقية فيهما كما عرفت لا طلب حقيقي.

و اما قولهم: انه لا بد في لزوم امتثال الامر من الطلب الحقيقي.

فالجواب عنه: ان الاوامر في الموردين بعد انكشاف امرهما و انهما ليسا أوامر حقيقية لا يعقل ان تكون اختبارية أو اعتذارية قبل انكشاف امرهما، فالظاهر انها اوامر حقيقية، فالعقل و العقلاء انما يلزمون بامتثالهما لهذا الظاهر، و بهذا تفترق هذه الاوامر عن الاوامر الجدية، فان الامر الجدي ما كان انشاء الطلب في الامر

ص: 325

ص: 326

ص: 327

و الحقيقي من الارادة، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا (1)، فافهم (2).

______________________________

(1) و حاصله: ان مدعي المغايرة يريد بها مغايرة الطلب الانشائي و الارادة الحقيقية، و مدعى الاتحاد يريد اتحاد كل مرتبة من الطلب بالارادة في تلك المرتبة لا في غيرها من المراتب، و لعل السبب في هذا الصلح و ان مراد اهل المغايرة هي مغايرة الطلب الانشائي و الارادة الحقيقية، لا الارادة الحقيقية و الطلب الحقيقي هو ان اهل المغايرة قالوا: ان الطلب غير الارادة و حيث كان المنصرف من لفظ الطلب هو فرده الانشائي، و المنصرف من لفظ الارادة هي الارادة الحقيقية و هي الفرد الحقيقي للارادة توهم القائلون بالاتحاد: ان مراد القائلين بالمغايرة هي مغايرة الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية، إلّا انه يمكن ان يكون مرادهم هو ان الطلب بما له من المعنى الذي ينصرف اليه الاطلاق لفظ الطلب مغاير لما هو المنصرف من اطلاق لفظ الارادة، و على هذا يرجع النزاع بينهما لفظيا، لانه يرجع الى ان المنصرف من لفظ الارادة غير المنصرف من لفظ الطلب، و القائلون بالاتحاد لا ينكرون هذا المعنى، و انما ينكرون كون الطلب الحقيقي غير الارادة الحقيقية، و هذا ايضا لا ينكره القائلون بالمغايرة.

(2) لعله امر بالفهم اشارة الى عدم صحة هذا الصلح، و كلام اهل المغايرة يابى عن ان يكون مرادهم من الطلب المغاير للارادة هو الطلب الانشائي للارادة الحقيقية، بل كلماتهم صريحة في ان مدعاهم هو مغايرة الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية، كما عرفته في مبنى استدلالهم بالاوامر الاختبارية و الاعتذارية بعد ان صرحوا ان الطلب الحقيقي الجدي شرط في لزوم امتثال الامر، و ادعوا انه موجود فيها دون الارادة الحقيقية، هذا اولا.

و ثانيا: ان الاشاعرة القائلين بالمغايرة السبب في قولهم ذلك هو انهم اثبتوا له تبارك و تعالى صفة قديمة و هي كونه متكلما، فالمتكلم من صفاته القديمة بقدم ذاته و هي من صفات الذات عندهم، لا من صفات الفعل التي لا بد من القول بحدوثها

ص: 328

دفع وهم: لا يخفى أنه ليس غرض الاصحاب و المعتزلة، من نفي غير الصفات المشهورة، و أنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي، كما يقول به الاشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.

______________________________

كصفة الخالق عن عامة ذوي الاديان القائلين بحدوث العالم، و انه كان اللّه و لم يكن معه شي ء، و بعد ان التزموا: بان صفة التكلم له- جل و علا عن ذلك- هي قديمة بقدم الذات، و قد صرحوا: بانها غير الارادة و العلم، و قالوا: بقدم القرآن بما هو كلام، لا بما هو متعلق العلم، و هذا الكلام القديم هو المسمى بالكلام النفسي، و لا اشكال و لا ريب ان مداليل الالفاظ القرآنية و هي المعاني المستعملة فيها الفاظ القرآن الحادثة عند نزول القرآن على لسان جبرئيل هي حادثة، فلذلك قالوا: بان وراء هذا الكلام اللفظي كلام آخر هو الكلام النفسي، و هو غير الارادة و العلم و هو الطلب في الاوامر القرآنية، و غير العلم في جملة الخبرية و غير الاستفهام و الترجي الى آخر ما قالوا. و من هذا الرأي و هو الكلام النفسي نشأت دعوى المغايرة بين الطلب و الارادة، لأن الطلب الحقيقي هو الكلام النفسي في الاوامر القرآنية و اذا كان الطلب الحقيقي هو عين الارادة الحقيقية تكون صفة المتكلم هي صفة المريد، فلا تكون هناك صفة اخرى قديمة مسماة بالكلام النفسي و هي غير الارادة، و اذا كان الطلب الحقيقي هو الكلام النفسي عندهم فلا بد و ان يكون الطلب الحقيقي غير الارادة الحقيقية، و الّا لاتحدت صفة المتكلم و المريد مفهوما و ان لا يكون هناك كلام نفسي قديم هو غير الارادة و العلم.

فالصلح لا يعقل ان يتاتى بين الطرفين لصراحة كلماتهم بذلك، و ان دعوى المغايرة هنا بين الطلب و الارادة من فروع قولهم بالكلام النفسي القديم الواقع في قبال الارادة.

ص: 329

ص: 330

ص: 331

و أما الصيغ الانشائية، فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا موجدة لمعانيها في نفس الامر، أي قصد ثبوت معانيها و تحققها بها، و هذا نحو من الوجود (1)، و ربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا

______________________________

بنحو فنائه في مطابقه مستفاد من نفس الحكاية، لوضوح ان الالفاظ موضوعة للمعاني، و الاستعمال ايجاد للفظ بالذات و للمعنى بالعرض، و هو المراد من كونه ايجادا و وجودا تنزيليا للمعنى المجرد عن كل حيثية، و ان فناءه في مطابقه ليس جزء المعنى الموضوع له، بل هو من شئون الاستعمال، و ان الغرض من هذا الاستعمال هو الطريق الى المطابق و هو معنى قصد الحكاية، و ليس هو داخلا في المستعمل فيه، و هذا مراد المصنف من قوله: «فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها او نفيها» اي سلب النسبة في القضية السالبة، فثبوت النسبة في الجملة الخبرية الايجابية و نفي النسبة و سلبها في القضية الخبرية السالبة «في نفس الامر» الاعم من الذهن و الخارج، و لكن هذه الدلالة مستفادة من قصد الحكاية لوضوح ان لفظي الموضوع و المحمول في القضية انما يدلان على معناهما المجردين، و النسبة بينهما المستفادة اما من هيئة الجملة او من الادوات تدل على ثبوتها بين الطرفين، و أما كون هذا الثبوت في الخارج او الذهن فليس مدلولا لالفاظ القضية. نعم هو مستفاد من قصد الحكاية، فالجملة بواسطة قصد الحكاية على ان المراد من هذا الثبوت او السلب تحققه او نفيه في نفس الامر، لا ان نفس الامر بعض الموضوع له في الجملة.

(1) لا يخفى ان نفس الامر الذي ذكره في بيان شرح حقيقة الصيغ الانشائية غير نفس الامر الذي ذكره في بيان الجمل الخبرية، فان المراد من نفس الامر في الجمل الخبرية هو المحل لمطابق الجمل الخبرية الذي كانت الجمل الخبرية بما لها من الثبوت أو السلب طريقا اليه، اما نفس الامر في الصيغ الانشائية فالمراد منه هو الواقع الذي يحصل بالانشاء، لأن الانشاء ليس فيه حكاية حتى تكون هناك مطابقة اولا مطابقة، و ليس وراء قصد الانشاء هناك شي ء، فلا بد و ان يكون المراد من نفس الامر هو الواقع

ص: 332

.....

______________________________

الذي يحصل بنفس الانشاء في الصيغ الانشائية الصادرة بقصد الجد، فهي موجدة لمعانيها في الواقع، و لذا فسره بقوله: أي قصد ثبوت معانيها و تحققها: أي تحقق معانيها «بها»: أي بانشاء هذه الصيغ و ليس وراء هذا شي ء، ثم قال: «و هذا نحو من الوجود».

و قد اورد عليه:

اولا: بان الماهيات ينحصر وجودها في مقامين الذهن و العين: أي الخارج، لوضوح ان المحقق للماهيات هو الوجود، و الوجود منحصر في الذهني و الخارجي، و ليس للموجود مقام آخر غير هذين المقامين، فما معنى قوله: و هذا نحو من الوجود؟

ثانيا: بانه ما معنى وصف الصيغ الانشائية بانها موجدة لمعانيها دون الجمل الخبرية؟ فان المراد من الايجاد للمعاني ليس الّا كونها بهذا الاستعمال تحصل معانيها، و هذا المعنى مشترك بين الجمل الخبرية و الانشائية، فانه بعد ان كانت الالفاظ وجودا تنزيليا للمعنى بواسطة العلقة الوضعية، فلا بد و ان يكون وجود الالفاظ وجودا لها بالذات و للمعنى بالعرض و التنزيل، فتكون الالفاظ بهذا المعنى موجدة لمعانيها، إلّا ان هذا مشترك بين الجمل الخبرية و الانشائية.

و ثالثا: انهم صرحوا: بان الاخبار لا يزيد على الانشاء الّا بقصد الحكاية، فجملة (بعت) الاخبارية لا تزيد على جملة بعت الانشائية الّا بانها قصد بها الحكاية دون (بعت) الانشائية. فاين النحو من الوجود الآخر المتحقق في الانشاء دون الاخبار؟ الذي يشير اليه بقوله: «و هذا نحو من الوجود»، فان كان المراد بهذا النحو من الوجود هو وجود المعنى باللفظ الحاصل بالاستعمال فهو متحقق في الجمل الخبرية ايضا، و ان كان المراد ان هناك شيئا آخر يوجد في الصيغ الانشائية دون الجمل الخبرية فانا لا نجد فرقا فيما يحصل بجملة بعت الخبرية و بعت الانشائية سوى ان المقصود في الاولى الحكاية دون الثانية.

ص: 333

ص: 334

ص: 335

أو عرفا آثار، كما هو الحال في صيغ العقود و الايقاعات (1).

نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب و الاستفهام و الترجي و التمني بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما لاجل وضعها لايقاعها، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها، لاجل قيام الطلب و الاستفهام و غيرهما قائمة بالنفس، وضعا أو إطلاقا (2).

______________________________

(1) فان الشارع او العرف قد رتب ملكية المبيع للمشتري و ملكية الثمن للبائع بعد انشاء البائع جدا و قبول المشتري كذلك، و هو عقد البيع المركب من الايجاب و القبول، و كذلك في انشاء الحرية و البينونة في العتق و الطلاق اللذين هما من الايقاعات غير المركبة من الايجاب و القبول، بل هي قائمة بطرف واحد، بخلاف العقود فانها تقوم بطرفين الموجب و القابل، و قد رتب الشارع على انشاء الطلاق بقصد الجد الفرقة و على انشاء العتق الحرية.

(2) قد عرفت ان المستعمل فيه في الالفاظ سواء كانت جملا خبرية أو انشائية هو المعاني فقط، ففي الجمل الخبرية المستعمل فيه هو ثبوت النسبة و لا ثبوتها لا غير، و اما كون هذا الثبوت أو اللاثبوت طريقا إلى نفس الامر فهو مستفاد من غير الفاظ الجملة، و كذلك الصيغ الانشائية فان صيغة الامر- مثلا- مادتها تدل على متعلق الامر و هيئتها تدل اما على إنشاء الطلب أو على انشاء البعث و التحريك لا غير، و اما كون هذا الطلب المنشأ كان بداعي كون المتعلق له هو ايضا متعلق للشوق في افق الشوق، و هو معنى كون هذا الطلب المنشأ بداعي الطلب الحقيقي فلا دلالة لبقية الطلب على ذلك لا بالدلالة المطابقية و لا بالدلالة التضمنية، فان الدلالة المطابقية مقطوعة العدم لعدم كون الطلب الحقيقي تمام المدلول قطعا على فرض الدلالة، و اما

ص: 336

.....

______________________________

الدلالة التضمنية فحيث عرفت انها انما تدل على نفس المعاني فقط فلا دلالة تضمنية ايضا.

نعم، لا بأس بدعوى الدلالة الالتزامية على كون الداعي لانشاء الطلب او انشاء الاستفهام أو انشاء الترجي او انشاء التمني هو ثبوت هذه الاشياء في افق النفس، فيكون الداعي لانشاء الطلب هو الشوق الى تحقق هذا المتعلق للطلب المنشأ من المكلف، و كذلك الداعي لانشاء الاستفهام عن وجود زيد مثلا هو المعرفة و الوقوف على كونه موجودا ام لا، و كذلك الامر في الترجي و التمني، و السبب في هذه الدلالة الالتزامية اما كون هذه الدوال التي ينشا بها هذه المعاني موضوعة لهذه المعاني بشرط ان يكون الداعي هو ثبوت هذه المعاني في افق النفس في مقام شوقها في مقام الطلب، و أداة الاستفهام لأن ينشأ بها الاستفهام فيما اذا كان الداعي لانشائه هو التعرف و الوقوف على كون زيد موجودا او معدوما، و هذا هو شرط الوضع الذي بنى عليه المصنف في بحث المعاني الحرفية.

و اما كون سبب هذه الدلالة الالتزامية هو كثرة استعمال هذه الادوات التي ينشأ بها هذه المعاني فيما يكون الداعي للانشاء هو ثبوت هذه المعاني في النفس من دون ان يكون هناك شرط من الواضع فيكون المنصرف من استعمالها في هذه المعاني المنشأة بها خصوص ما اذا كان الداعي لذلك تحقق هذه المعاني في افق النفس واقعا، و الاول هو الذي اشار اليه بقوله: «اما لاجل وضعها لايقاعها»: أي لانشاء هذه الاشياء بها مشروطة «فيما اذا كان الداعي اليه»: أي لهذا الايقاع و الانشاء هو «ثبوت هذه الصفات» و الى الثاني اشار بقوله: «او انصراف اطلاقها الى هذه الصورة» فاذا لم تكن هناك قرينة على ان الداعي لهذا الانشاء هو امور أخر كالاختبار في الطلب او الانكار في الاستفهام تكون هذه الالفاظ المنشأ بها هذه الامور دالة بالالتزام على ثبوت هذه المعاني في النفس اما للوضع او للاطلاق.

ص: 337

ص: 338

ص: 339

.....

______________________________

متعلقها عين الذات و هي عين المراد، لأن المراد فيها ذاته، و صفاته تبارك و تعالى عين ذاته فهي قديمة لا حادثه.

فاتضح مما ذكرنا: ان الكلام في الفرق بين الارادة التكوينية و الارادة التشريعية هو بيان الفرق بين الارادة في مقام الفعل المتعلقة بايجاد عالم الكون و بين الارادة التشريعية المتعلقة بالتكاليف الشرعية الموجهة الى المكلفين.

فهنا ارادتان تكوينية و تشريعية، و متعلق الاولى هو موجودات عالم الكون الداخلة في مصلحة النظام الكامل التام للعالم، فمصلحة النظام الكوني في الموجودات هو الداعي لتعلق الارادة التكوينية بها، و الارادة التشريعية حيث ان متعلقها التكاليف لأنها ذات مصلحة تخص المكلفين دون العالم الكوني تضمن لهم رقيهم و بلوغهم الى سعاداتهم الدنيوية و الاخروية به. نعم نفس الارادة التشريعية متعلقها هو موجود من موجودات عالم الكون تقتضيه مصلحة من مصالح النظام الكوني، و هو المعبر عنه باللطف الذي يقتضي ايضا انزال الكتب و بعث الرسل، لأن متعلق الارادة التشريعية لما كان ذا مصلحة خاصة ترجع الى نفس المكلف و المصلحة الكونية التي من بعضها اللطف و هو الايجاد من اللّه ما يمكن ان يكون هاديا و موصلا للناس الى مصالحهم انزل اللّه جل و علا الكتب السماوية و بعث الرسل و شرع التكاليف. فجعل الاوامر انما هو بداعي ما يمكن ان يكون داعيا للمكلف لو لم تمنعه موانع من شروره و شهواته، أما متعلق هذه الارادة فمصلحة خاصة ترجع الى ذات المكلف كما عرفت.

فتبين: ان الذي لا يمكن ان يتخلف عن الارادة هو عالم الموجودات الكونية و منها نفس الاوامر التشريعية، اما متعلق هذه الاوامر فليس بمتعلق للارادة التكوينية لعدم كونه ذا مصلحة تخص العالم الكوني، و انما هو متعلق الارادة التشريعية.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان الارادة التشريعية هو نفس الامر بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا و محركا للمكلف على ايجاد متعلق التكاليف، و ليس هناك شي ء آخر

ص: 340

إن قلت: إذا كان الكفر و العصيان و الإطاعة و الإيمان، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا (1).

______________________________

وراء هذا. و قد ظهر ايضا: ان متعلق الارادة التشريعية لا يضر تخلفه عنها اذا لم يؤمن الكافر و لم يطع العاصي. و قد ظهر ايضا: ان الداعي واحد في الكافر و المؤمن و المطيع و العاصي، لأن الامر في الجميع انما هو لكون متعلقه ذا مصلحة ترجع الى نفس المكلف.

نعم، نفس فعل المكلف بما انه موجود من عالم الموجودات الكونية، و مفيض الوجود هو اللّه تعالى وحده ففعل المكلف بما انه لو تحقق لكان موجودا من الموجودات يكون متعلقا للارادة التكوينية، فان سبق تعلق الارادة التكوينية به فلا بد من تحققه فتتحقق الاطاعة و الايمان، و ان لم يكن قد سبق تعلق الارادة التكوينية به فلا يتحقق و يتحقق الكفر و العصيان.

نعم، ظاهر عبارة المصنف هنا ان الارادة التكوينية هي نفس العلم بالصلاح المتعلق بالنظام الكامل الكوني التام، و ان الارادة التشريعية هي نفس العلم بالصلاح الخاص الراجع الى نفس المكلف، و قد عدل عنه في ما يأتي قريبا، فانه سيصرح بان العلم يتحد مصداقا مع الارادة فيه تبارك و تعالى، لا أن مفهوم الارادة و العلم واحد، و اختلافهما هو الصحيح، لأن العلم غير الارادة فان العلم هو الحضور و الارادة هي الشوق المؤكد.

(1) لما قال المصنف في آخر كلامه: فاذا توافقتا فلا بد من الاطاعة و اذا تخالفتا فلا محيص عن ان يختار الكفر و العصيان لم يحتج ما ذكره بقوله: ان قلت الى تقديم مقدمة للايراد، و لو اكتفى بالفرق بين الارادة التكوينية و الارادة التشريعية لاحتاج هذا الايراد الى مقدمة، و هي انه و لو كان فرق بين الارادتين الّا ان فعل العبد من الموجودات، و كل موجود لا بد و ان يكون مسبوقا بالارادة التكوينية، و ما لا يوجد

ص: 341

قلت: إنما يخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الارادة بها

______________________________

فلا بد و ان لا يكون متعلقا للارادة الربانية، فان كان الكفر عدم الايمان فلا بد و ان لا يتحقق، لعدم تعلق الارادة منه تعالى به، و ان كان امرا وجوديا و هو عقد القلب على الكفر و الاعتقاد به كان هو ايضا امرا متعلقا للارادة التكوينية، و كذلك عصيان العصاة، و حينئذ يأتي ما ذكره بقوله: ان قلت.

و حاصله: انه اذا كان الكفر و العصيان و الاطاعة و الايمان بارادته التكوينية، لانه اذا توافقتا فلا بد من الاطاعة و الايمان، و اذا تخالفتا فلا محيص عن الكفر و العصيان، فيكون كفر الكافر و عصيان العاصي و ايمان المؤمن و اطاعته من متعلقات الارادة التكوينية، و ما كان متعلقا لها فلا يكاد يعقل ان يتخلف عن المراد و ما لا تخلف له عن مراده تبارك و تعالى يكون ضروري التحقق و خارجا عن اختيار المكلف، و ما كان كذلك لا يصح تعلق التكليف به و لم يفد الفرق بين الارادة التكوينية و التشريعية إلّا بصحة صدق الطلب الحقيقي و الارادة الحقيقية في مقام التشريع و انه لا يلزم ان يوجد متعلقهما و انه لا مانع من تخلف المراد عن الارادة فيهما، إلّا انه وقعنا في ايراد آخر و هو ما ذكر من خروجهما عن نطاق التكليف، لكون الكفر و العصيان و الاطاعة و الايمان من ضروريات التحقق و لا اختيار للمكلف فيهما فلا يصح التكليف و لزم الجبر، و من الواضح ان من شرائط صحة التكليف عقلا عند العدلية هو كون متعلق التكليف لا بد و ان يكون امرا اختياريا، و لا يصح التكليف بالامر غير الاختياري عقلا عندهم في قبال الاشاعرة القائلين بامكان تكليف غير المختار.

ص: 342

مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، و إلا فلا بد من صدورها بالاختيار، و إلا لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوا كبيرا (1).

______________________________

(1) حاصل الجواب: ان اللّه تبارك و تعالى تحقيقا لعدله و لمحالية الظلم عليه اعطى العباد القدرة بحيث يستطيع العبد ان يفعل، و ان لا يفعل، و الاختيار، بحيث اذا اراد فعل و ان لم يرد ان يفعل لا يفعل، فموجودات العالم على نحوين:

منها ما تتعلق به الارادة التكوينية بنفسه، كايجاد كافة الموجودات عدا ما يتعلق بافعال العباد فلا محيص ان يوجد من غير توسيط الارادة التكوينية و مرادها.

و النحو الثاني و هو افعال العباد التي منها متعلق التكاليف، فما يفعل العبد و يدخل في دار الوجود فقد تعلقت الارادة التكوينية بان يوجد باختيار المكلف، فما به وجود الفعل هو اختيار المكلف، فاذا كان تعلق الارادة التكوينية بهذا النحو الذي يتوسط اختيار المكلف فيه ارتفع الاشكال، فان الذي لا يصح ان يكون متعلقا للتكليف هو ما كان المكلف مضطرا اليه، و قد عرفت ان المكلف مختار فيما يفعل لا عطاء اللّه له القدرة و الاختيار، فلا محذور في تعلق الارادة التكوينية به على هذا النحو، فانه بعد ان كان قد تعلقت الارادة التكوينية بوجوده على نحو ان يكون المكلف قادرا عليه و مستطيعا لأن يفعله و ان لا يفعله و مختارا فيه، بحيث ان اراده اوجده و ان لم يرده لم يوجده، فلا يعقل ان يكون تعلق الارادة التكوينية به على هذا الفرض موجبا لأن يكون من الامور غير الاختيارية التي لا يصح ان تكون متعلقا للتكليف لانه خلف واضح، لما عرفت انه قد كان متعلقا للارادة التكوينية بوصف كونه لا يدخل في دار الوجود الّا بسبب اختيار المكلف، فدعوى كونه من الامور غير الاختيارية خلف بين، بل لا بد و ان يكون من الامور الاختيارية، لانه لو وجد على نحو ان يكون من الامور الاضطرارية التي لا اختيار للمكلف فيها لزم الخلف لفرض كونه متعلقا للارادة التكوينية بشرط كونه من الامور الاختيارية، ففرض كونه من الامور غير الاختيارية- الاضطرارية- فرض عدم تعلق الإرادة

ص: 343

إن قلت: إن الكفر و العصيان من الكافر و العاصي و لو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف و قد سبقهما الارادة الازلية و المشية الالهية، و معه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار (1)؟

______________________________

التكوينية به و لا يوجد الّا ما كان متعلقا للارادة التكوينية، فلا بد و ان يدخل الوجود متصفا بكونه من الامور الاختيارية للمكلف، و هذا معنى قوله: «انما يخرج بذلك»: أي بتعلق الارادة التكوينية به «عن الاختيار» فيما اذا تعلقت الارادة التكوينية به بنفسه من دون توسط اختيار المكلف اما «لو لم يكن» كذلك بل كان «تعلق الارادة بها» أي: بالكفر و الايمان و الاطاعة و العصيان كانت موصوفة بوصف و مشروطة بشرط و هو كونها «مسبوقة بمقدماتها الاختيارية و إلّا»: أي و حيث كانت الارادة التكوينية متعلقة بها بنحو مسبوقيتها بمقدماتها الاختيارية «فلا بد من صدورها بالاختيار» لما عرفت من كونه شرطا في دخولها في دار الوجود «و إلّا»: أي و لو صدرت من دون اختيار المكلف «لزم تخلف ارادته عن مراده تعالى» لفرض كون الارادة التكوينية تعلقت بها مشروطة بذلك، فلو وقعت على خلاف النحو الذي تعلقت به الارادة التكوينية لزم تخلف مراده عن ارادته.

(1) لا يخلو كلامه (قدس سره) في هذا الايراد من اجمال فانه ان كان مراد هذا المورد ان الكفر و العصيان و ان كانا بارادة و اختيار من العبد الّا انه لما كانا متعلقين للارادة الازلية التكوينية فلا بد من وقوعهما، و ما لا بد من وقوعه لا يكون اختياريا، فهذا يرجع إلى الاشكال الأول المتقدم بقوله: «ان قلت ان كان الكفر الخ».

و جوابه: ما عرفت من أن الارادة التكوينية لم تتعلق بهما مطلقا، بل تعلقت بما هما اختياريان، و متى توسط الاختيار ارتفع اللااختيار و الاضطرار، و لكن هذا الاحتمال بعيد فانه لا داعي الى الاعادة، فلا بد و ان يكون المراد غيره.

ص: 344

.....

______________________________

و يحتمل ان يكون غرض هذا المورد انه و ان كان الكفر و العصيان امرين اختياريين الّا انه حيث كان نفس اختيار العبد امرا غير اختياري له، لوضوح ان واهب الاختيار و الارادة له هو اللّه تبارك و تعالى و قد تعلقت الارادة التكوينية به من دون توسط للاختيار، لأن نفس الاختيار ليس اختياريا و الّا لتسلسل الاختيار، و كل معلول تكون علته غير اختيارية فهو غير اختياري، لا من حيث ذاته لفرض كونه مسبوقا بالاختيار، بل من حيث ان علته و هي الاختيار امر غير اختياري فيعود المحذور، و عودة المحذور ينبغي ان يكون من ناحية التكليف و هكذا ينبغي ان يكون التفريع، و معه كيف يصح التكليف؟ لكنه (قدس سره) اعرض عن هذا التفريع و فرع عليه عدم صحة المؤاخذة و العقاب، و لعله انما فرع بعدم صحة العقاب و المؤاخذة على ما يرجع بالاخرة الى غير الاختيار، لامكان ان يكتفي في مقام صحة التكليف بتوسط الاختيار في البين، إلّا انه لا يمكن ان يصح عقاب العبد على الفعل من معاقب كان علة ذلك الفعل تستند اليه لا الى العبد.

و لا يخفى ايضا انه على هذا البيان للايراد يكون مراده (قدس سره) من قوله:

«كيف و قد سبقهما الارادة الازلية» انه كيف لا يكون الكفر و العصيان منتهيين بالاخرة الى ما لا بالاختيار و قد سبقهما تعلق الارادة التكوينية بنفس الاختيار الذي هو العلة لهما.

و يحتمل ايضا: ان يكون غرض المورد ان الفعل و ان كان يصدر عن مبادئه الاختيارية الّا انه لا بد و ان يبلغ درجة الوجوب من ناحية علته، لوضوح ان الممكن ما لم يجب لم يوجد، و اذا بلغ درجة الوجوب و اللزوم من ناحية علته و هي ارادته بحيث تتحرك العضلات و يصدر الفعل يكون صادرا بالوجوب فيعود المحذور، لرجوعه بالاخرة إلى الاضطرار و اللزوم فلا يكون صادرا بالاختيار.

ص: 345

قلت: العقاب إنما يتبع الكفر و العصيان التابعين للاختيار (1) الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما،

______________________________

(1) لا يخفى ان الجواب عن هذا الاحتمال الاخير واضح، فانه لا يلزم ان يكون الفعل الاختياري اختياريا الى الاخير، فان كثيرا من الافعال الاختيارية التي تصح العقوبة عليها تكون مقدورة و اختيارية بالواسطة، فان من القى شخصا من شاهق فاصطدم بالارض- مثلا- فمات يعاقب على إماتته مع ان موته استند الى الاصطدام، و لكنه حيث كانت مقدمته اختيارية فهو اختياري، و المقام و ان كان ليس في المقدور مع الواسطة، بل في المقدور بلا واسطة من الافعال الاختيارية، إلّا انهما مشتركان في الجواب، فان الارادة التي هي الجزء الاخير من العلة و ان كانت بالوجوب تصدر الفعل الّا ان هذه الارادة الاخيرة ليست هي إلّا قوة الشوق الذي تاكد و بلغ الى هذا المقدار، و حيث كان هذا الشوق قبل ان يبلغ هذه المرتبة في استطاعة العبد الاعراض عنه و جعل المانع عنه من ناحية العقل الذي يدرك ان الشوق اذا بلغ الى حد الوجوب و لزوم صدور الفعل عنه يترتب عليه تبعة العقاب، و بامكان العبد و قدرته و استطاعته و اختياره ان لا يرخى لهذا الشوق العنان حتى يبلغ حد الوجوب، فهو اختياري له و صادر عن اختياره فلذا صح العقاب عليه، و لا يعقل ان يكون كالاضطراري الذي لا دخل لشوق العبد و قدرته فيه، مضافا الى ان هذا الاحتمال بعيد عن مساق العبارة، فانه لا ربط لهذا الايراد على هذا الاحتمال بالارادة الازلية، مع ان ظاهر الاشكال انه بنحو يرتبط بالارادة الازلية لقوله (قدس سره): «كيف و قد سبقهما الارادة الازلية».

فالاقرب ان المراد منه هو الاحتمال السابق على هذا الاحتمال: و هو كون نفس الاختيار غير اختياري.

و الجواب عنه: هو انه بعد ما عرفت ان الاختيار هو كون الفاعل قادرا بحيث يستطيع ان يفعل و لا يفعل، و كونه بحيث ان شاء فعل و ان لم يشأ لم يفعل،

ص: 346

فإن السعيد سعيد في بطن أمه، و الشقي شقي في بطن أمه و الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة، كما في الخبر، و الذاتي لا يعلل،

______________________________

فالاختيار بحسب ذاته و هويته نقيض اللااختيار و ضد الاضطرار فلا مانع من ان يكون هذا الاختيار الذي هو نفس حقيقته و هويته كون الفاعل ان اراد فعل و ان لم يرد لم يفعل و انه نفس فعلية القدرة و الاستطاعة غير اختياري، فان كون ما حقيقة ذاته نفس القدرة و الاختيار لا يضر كونه موهوبا للفاعل و مخلوقا فيه و غير اختياري له، لوضوح ان كون الاختيار غير اختياري لا يجعل الاختيار لا اختيار لمحالية انقلاب الحقيقة عما هي عليها مع فرض كونها هي نفس تلك الحقيقة، فنفس الاختيار ليس كالافعال و ما سواها، فان الافعال غير الاختيار تكون اختيارية اذا صدرت عن اختيار و تكون اضطرارية اذا صدرت عن اضطرار، بخلاف الاختيار نفسه فانه لا يعقل انقلابه عن حقيقة ذاته و هويته، مضافا الى النقض عليهم باختيار نفس واجب الوجود- عزّ و جل و علا- فانه مختار و له اختيار و افعاله اختيارية مع ان العلة في اختياره نفس ذاته، فاختياره ليس بالاختيار لكون علة اختياره نفس ذاته، فهو مختار بالاضطرار و الوجوب.

فاتضح: انه لا منافاة بين ان يكون الفعل اختياريا و كون نفس الاختيار لا اختياريا، و لا يوجب هذا كون الفعل اضطراريا و لا كون الاختيار لا اختيارا.

و اتضح ايضا: انه اذا سبق الاختيار امور غير اختيارية واقعة في سلسلة علل الفعل و اعداده يفصل بينها و بين تحقق الفعل نفس الاختيار ايضا لا تضر في صحة العقاب و لا تقلب الفعل الاختياري الى كونه غير اختياري، فانه لو تقدم على الاختيار الف أمر و كلها غير اختيارية لا تمنع من كون الفعل يصدر عن اختيار، لأن علته الاخيرة هي الاختيار و القدرة بحيث يستطيع ان يفعل و ان لا يفعل و يقدر ان يريد فيفعل و ان لا يريد فلا يفعل، فلا بأس بان: تتقدم على هذا امور غير اختيارية بلغت ما بلغت.

ص: 347

فانقطع سؤال: إنه لم جعل السعيد سعيدا و الشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه و الشقي شقي كذلك، و إنما أوجدهما اللّه تعالى، قلم اينجا رسيد سر بشكست ... قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام، و من اللّه الرشد و الهداية و به الاعتصام (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان نفس القدرة و الاختيار هو من اللّه تبارك و تعالى فانه فاعل الوجود، و هذا الاختيار و هو القدرة على ان يشاء فيفعل و ان لا يشاء فلا يفعل موجود قبل صدور الفعل في الخارج بالقوة، و عند صدور الفعل في الخارج لا بد و ان يكون علته و هي القدرة و الاختيار تخرج من حد القوة الى الفعل، فان العلة ما لم تكن بالفعل لا يكون الفعل الذي هو معلول القدرة و الاختيار بالفعل، و خروج هذه القدرة من حد القوة الى الفعل يكون العلة فيها- و لو بنحو العلة الاعدادية- هو الملاءمة للنفس، فان كان الشخص من اهل التقوى يكون من ملائماته فعل الخير و الاطاعة، و ان كان من ذوي الشقاء تكون ملائماته الشر و الكفر و العصيان، ففي مقام فعلية القدرة و الاختيار لترجيح احد طرفي الفعل من الوجود و العدم تتدخل الشقاوة و السعادة، فان ملائم السعيد الخير و ملائم الشقي الشر، و قد عرفت انه لا يضر ان يتقدم على الاختيار امور غير اختيارية فلا تضر في صدور الفعل الاختياري بالاختيار. هذا هو مراده من قوله: «قلت العقاب انما يتبع الكفر و العصيان» لصدورهما عن المكلف بالاختيار فانهما من «التابعين للاختيار» لأن العلة في صدورهما هو الاختيار، فهما تابعان له و موصوفان بانهما من الافعال الاختيارية الصادرة بالاختيار، و ان كان نفس الاختيار بالفعل لجهة الشر من الكفر و العصيان ينشأ عن مقدمات تقتضي ترجيح الشر و هي كونه ملائما له، و السبب في هذه الملاءمة- و لو بنحو الاعداد ايضا- هو نفس شقاوته التي هي من ذاتيات الشخص و ملازمات ذاته اللازمة لخصوص ذاته، و كذلك السعيد فانه يفعل الفعل بالاختيار لملاءمة الخير لذاته التي سببها هو سعادة ذاته.

ص: 348

.....

______________________________

و توضيح كون السعادة و الشقاوة من ملازمات ذات السعيد او الشقي ان السعادة هي كون ماهية الشخص تامة، و الشقاوة هي كون ماهيته ناقصة، و الكمال و النقصان في الماهية من لوازمها، و لوازم الماهية غير متعلق للافاضة القدسية، و لذا قالوا: ان الذاتي لا يعلل، و الى هذا يشير كلام الشيخ ابن سينا ان اللّه لم يجعل المشمش مشمشا، و انما اوجده، و الى هذا يرجع ما ورد في بعض الآثار عن أئمة الهدى:

الشقي شقي في بطن أمه، و السعيد سعيد في بطن أمه، و الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة ... الى غير ذلك من امثال هذه المضامين.

بقي شي ء: و هو تفسير الكلمة المعروفة الواردة عن أئمة الحق و هي انه لا جبر و لا تفويض و انما هو امر بين امرين ففيه احتمالات:

الاول: انك قد عرفت ان واهب الوجود للموجودات هو اللّه جل و علا، فافعال العباد و ما يصدر منهم في الخارج، كالقتل- مثلا- فان القاتل الذي يقتل النفس المحرم قتلها اذا قتل فان الذي يصدر منه هو الاعداد التام الذي يتعقبه قبض روح المقتول لزوما، و اما نفس قبض روح المقتول فهو فعل اللّه لا غير، فلا جبر حيث ان الاعداد التام الذي لا بد ان يتعقبه وجود المعلول هو من الفاعل، و لا تفويض حيث ان صورة وجود المعلول هي منه تبارك و تعالى، فاذا هو امر بين امرين.

الثاني: ان الفاعل المباشر للفعل هو ذات العبد، فوجود العبد و علمه و قدرته و اختياره هو الفاعل القريب للفعل، و حيث ان واهب وجود العبد و علمه و قدرته و اختياره هو اللّه تبارك و تعالى فهو فاعل ايضا و لكنه فاعل بعيد، فبالنظر الى الفاعل المباشر القريب لا جبر، و بالنظر الى الفاعل البعيد لا تفويض، بل هو امر بين امرين.

الثالث: ان نفس فعل العبد له انتسابان انتساب الى العبد باعتبار انه به وجود الفعل لانه لولاه لما صدر، و انتساب الى اللّه باعتبار انه منه وجود كافة الموجودات و هو الفاعل الذي منه الوجود، فمن نظر الى الجهة الاولى قال: بالتفويض، و من نظر

ص: 349

وهم و دفع: لعلك تقول إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل، لزم بناء على أن تكون عين الطلب كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم، و هو بمكان من البطلان.

لكنك غفلت عن أن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجا لا مفهوما، و قد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي، و لا غرو أصلا في اتحاد الارادة و العلم عينا و خارجا (1)، بل

______________________________

الى الجهة الثانية قال: بالجبر، و العارف لا بد ان ينظر الى كلا الانتسابين و يراعى كلتا الجهتين فيقول بالعدل و انه امر بين امرين.

(1) حاصله انه تقدم منه في صدر هذه المسألة ان الارادة التشريعية هي العلم بالصلاح الخاص بشان المكلف، و الارادة التكوينية هي العلم بالصلاح المتعلق بالنظام التام، و قد تقدم ايضا ان الطلب و الارادة متحدان مفهوما و ذهنا و خارجا و إنشاء، فاذا كان الطلب عين الارادة، و الارادة هي العلم بالصلاح فلازم ذلك ان المنشأ بصيغة الطلب هو العلم ايضا بحكم قياس الاتحاد و هو واضح الفساد، لانه لا دلالة لهيئة افعل- مثلا- على العلم اصلا و انما تدل على طلب الفعل لا غير.

و دفع هذا الوهم: ان الارادة اتحادها مع العلم غير اتحادها مع الطلب، فانها انما تتحد مع العلم فيه تبارك و تعالى مصداقا لا مفهوما، و مصداقا كما هي مع الطلب و الاتحاد بحسب المصداق فيه جل و علا من جهة اتحاد صفاته و ذاته، اما مفهوما فهما غير متحدين، لوضوح كون مفهوم العلم غير مفهوم الارادة، و قد عرفت ان المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب، و باعتبار كونه قصد به تحقق ماهية الطلب فهو وجود انشائي في قبال لفظ الطلب الذي اريد منه احضار نفس المفهوم كما في التعاريف.

فتبين ان المنشأ بالصيغة مفهوم الارادة و الطلب، و قد عرفت ايضا ان هذا الوجود الانشائي في قبال الوجود الخارجي، و المتحد مع العلم هو الوجود الخارجي للارادة و هو ليس منشأ بالصيغة.

ص: 350

لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و كمال توحيده الاخلاص له، و كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه (1).

(الفصل الثاني): فيما يتعلق بصيغة الامر و فيه مباحث (2)

اشارة

: الاول: إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، و قد عد منها:

الترجي، و التمني، و التهديد، و الانذار، و الاهانة، و الاحتقار، و التعجيز، و التسخير، إلى غير ذلك، و هذا كما ترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها (3)، بل لم يستعمل إلا في إنشاء

______________________________

نعم، لو كان هو المتحقق بالصيغة لجاء هذا الوهم، لأن مصداق الارادة خارجا هو نفس العلم خارجا فيه تبارك و تعالى، و قد اشار الى هذا بقوله: «و قد عرفت ان المنشأ ليس الّا المفهوم»: أي ان المنشأ هو مفهوم الطلب، لا فرد الطلب الخارجي حتى يجي ء الاشكال باعتبار اتحاد الارادة خارجا مع العلم.

(1) لا يخفى ان اتحاد ذاته و صفاته تبارك و تعالى انما هو في صفاته في مقام الذات دون صفاته في مقام الفعل، فانها غير متحدة مع ذاته كما برهن عليها في محلها، و دلت الاخبار على كونها حادثة، فلا يخلو هذا من خلط بين المقامين.

(2) هذا الفصل معقود لمباحث صيغة الامر بعد الفراغ عما يتعلق بمباحث مادة الامر، و الفرق بينهما: ان الامر و هو الطلب أو البعث و التحريك يستفاد من المادة و هو لفظ امر، و في مباحث الصيغة مستفاد من الهيئة.

(3) قد ذكر القوم للصيغة: أي لصيغة الامر معاني كثيرة و يظهر منهم عدها في قبال دلالتها على الطلب، فظاهر كلامهم في تعداد هذه المعاني للصيغة انها قد استعملت في هذه المعاني كاستعمالها في الطلب، و قد ذكر المصنف بعضها: الترجي،

ص: 351

.....

______________________________

كقوله تعالى: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ 48] و التمني، كقول امرئ القيس: ألا ايها الليل الطويل الّا انجلي فان امر الليل بالانجلاء مما لا يرجى حصوله من الليل.

و التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ 49] و الاهانة، كقوله تعالى:

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ 50] و الانذار، كقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ 51] و الاحتقار، كقوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ 52] و التعجيز، كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ 53] و التسخير، كقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ*(1) و غير ذلك مما لم يذكر المصنف كالارشاد و هو قوله تعالى:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ 55] و التكوين، كقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ*(2) الى غير ذلك ايضا مما ذكروه، و قد عرفت ان ظاهر عد هذه المعاني لصيغة الامر هو كونها في قبال استعمالها في الطلب، و انها مستعملة في هذه المعاني كما هي مستعملة في الطلب و هذا واضح البطلان، لانه:

اولا: ان هذه الامور هي من دواعي الاستعمال، و ما كان من قبيل الداعي الى الاستعمال لا يكون مستعملا فيه.

و ثانيا: ان ظاهر جعلها في مقابل الطلب كون هذه المعاني مدلولة للهيئة لا للمادة، و الهيئة انما تدل على الطلب الواقع نسبته بين المخاطب و المخاطب و الفعل المبعوث اليه الذي هو المادة، و هذه المعاني لا يصح ان تكون نسبة كذلك، فان التعجيز- مثلا- ليس هو مما يصح ان يقع نسبة كذلك، بل الواقع نسبة بين الآمر المعجّز و المامور العاجز عن فعل الشي ء، و فعل الشي ء هو الطلب من الآمر للمامور المتعلق بالشي ء الذي يعجز عنه المامور و المخاطب.

ص: 352


1- 54. ( 7) البقرة: الآية 65.
2- 56. ( 9) يس: الآية 82.

الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك، كما يكون تارة هو البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى أحد هذه الامور، كما لا يخفى (1).

______________________________

و ثالثا: ان الطلب في جميع ما ذكروه من المعاني للصيغة هو المتبادر و المفهوم منها عند اطلاقها في هذه الموارد، فان المفهوم من قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ هو طلب الاتيان بالسورة. نعم، الداعي لهذا الطلب ليس هو الطلب الجدّي لاتيانهم بالسورة، بل هو تعجيزهم.

فاتضح ان كون هذه المعاني هي المستعمل فيها صيغة افعل واضح البطلان، و لذا قال (قدس سره): «ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها» فان ظاهر كلامهم هو كون هذه المعاني مدلولة لهيئة الامر، و قد عرفت بطلانه، و لذا قال: و هذا كما ترى.

(1) لما عرفت عدم كون هذه المعاني من المستعمل فيها الصيغة فلا تكون من معاني الصيغة حقيقة و لا من معانيها مجازا: بمعنى كون اللفظ مستعملا في معنى مباين للمعنى الحقيقي لمناسبة له مع المعنى الحقيقي، كاستعمال اللفظ الموضوع للحيوان المفترس في الرجل الشجاع، فان هذا النحو من المجازية لا مساغ له في المقام، لأن المجازية بهذا المعنى تستلزم كون هذه المعاني مدلولة للصيغة، و قد اتضح ان هيئة الامر لم تستعمل في هذه المعاني، بل هذه المعاني من دواعي استعمال الصيغة.

نعم، يمكن دعوى المجازية بنحو آخر، و ذلك بسبب اختلال شرط الوضع، فان المجازية كما تكون باستعمال اللفظ الموضوع لمعنى في معنى مباين له، كذلك تكون باستعمال اللفظ في نفس المعنى الموضوع له اذا اختل شرط الوضع في مقام الاستعمال، فالصيغة في هذه الموارد كلها لم تستعمل الّا في الطلب الّا انه ليس بداعي البعث و التحريك جدا.

فيمكن ان يدعى ان الصيغة موضوعة للطلب لكن بشرط ان يكون الداعي له هو البعث و التحريك الجدي، فاذا استعملت في الطلب لا بهذا الداعي بل بداع آخر

ص: 353

و قصارى ما يمكن أن يدعى، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب، فيما إذا كان بداعي البعث و التحريك، لا بداع آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة، و إنشاؤه بها تهديدا مجازا، و هذا غير كونها مستعملة في التهديد و غيره، فلا تغفل (1).

______________________________

كالتعجيز و التسخير و غيرها من الامور و الدواعي التي ذكروها كان هذا الاستعمال استعمالا مجازيا، و هذا هو الذي ذكره بقوله: «و قصارى ... الخ».

(1) أي أقصى ما يمكن ان يدعى لا ثبات كون استعمال الصيغة في الطلب لا بداعي الجدّ بل باحد الدواعي المذكورة من الاستعمال المجازي هو اشتراط كون الداعي الى الطلب هو داعي الجد، فالصيغة موضوعة للدلالة على الطلب الذي يكون سببه هو الداعي الجدي الى طلب المبعوث اليه و هذا من شرائط الوضع الخارج عن حقيقة الموضوع له، فحينئذ يكون استعماله في غير ما كان الطلب بداعي الجدّ بل باحد الدواعي المذكورة منافيا لما اشترط في الوضع فيكون مجازا لمنافاته لشرط الوضع، لا لاستعماله في حقيقة اخرى غير ما هو الموضوع له.

و من البعيد جدا دعوى كون واضع الصيغة اشترط هذا الشرط بالوضع التعييني، بل يمكن ان يدعى ان هذا الشرط حصل بواسطة الوضع التعيّني لا الوضع التعييني، و سببه كثرة الاستعمال فيما كان بداعي الجد بحيث حصل بسبب هذه الكثرة الاستعمالية علقة وضعية اوجبت اختصاص الصيغة بالطلب الذي يكون بداعي الجد، و على هذا يكون الاستعمال في الطلب بغير هذا الداعي استعمالا مجازيا.

و هناك طريق آخر لاثبات داعي الجدّ في الصيغة التي لم تقم قرينة على انها بداع آخر غير داعي الجد بواسطة الاصل العقلائي، و هو دعوى سيرة العقلاء على تطابق الارادة الاستعمالية للارادة الجدّية، و ان ما استعمل فيه اللفظ هو المراد بالارادة الجدّية ما لم تقم قرينة على خلافه، و هذا الطريق لاثبات داعي الجد لا يستلزم كون

ص: 354

إيقاظ: لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الامر، جار في سائر الصيغ الانشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام.

بصيغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة، يكون الداعي غيرها أخرى، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها، و استعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك و تعالى (1)، مما لازمه العجز أو الجهل، و أنه لا وجه له، فإن المستحيل

______________________________

استعمال الصيغة في غير داعي الجد من الاستعمال المجازي، لأن الاصل المثبت للارادة الجدّية لا يثبت كونها من شرائط الوضع كما هو واضح.

(1) حاصل هذا الايقاظ ان القوم قالوا: ان ادوات الاستفهام و الترجي و التمني موضوعات للاستفهام الحقيقي و هو ارادة الفهم واقعا، و للترجي الحقيقي و هو ارادة ما يرجى حصوله، و للتمني الحقيقي و هو ارادة ما لا يرجى حصوله، فاشكل عليهم الامر في استعمال هذه الادوات في القرآن في غير موارد الحكاية عن غيره تبارك و تعالى، فان موارد الحكاية عن غيره تبارك و تعالى لا اشكال فيه.

و حاصل الاشكال ان الاستفهام الحقيقي يلزمه عدم علمه تبارك و تعالى و الجهل في حقه محال، و كذلك الترجي الحقيقي فان الذي يرجو ما يحتمل تحققه لازمه عدم علمه ايضا بحصوله و عدم حصوله و هو محال في حقه جل و علا، و اما التمني الحقيقي فلازمه عجزه عما يتمنى تحققه و هو محال ايضا- فالتزموا بانسلاخها عن معانيها و استعمالها في غيرها، فذكر هذا الايقاظ للتنبيه على تخطئتهم و بيان سبب الاشتباه عندهم.

و حاصله: ان هذه الادوات موضوعة للمعاني الانشائية لا غير فادوات الاستفهام موضوعة لانشاء الاستفهام بها، و اما طلب الفهم واقعا فهو داع لانشاء الاستفهام، و ما كان داعيا لا يعقل ان يكون داخلا فيما هو المستعمل فيه، فصيغة الاستفهام المستعملة في الذكر الكريم قد استعملت في انشاء الاستفهام، و انشاء الاستفهام ليس

ص: 355

إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة، كما عرفت، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا، لا لاظهار ثبوتها حقيقة، بل لامر آخر

______________________________

مما يستحيل في حقه تعالى، و انما المستحيل في حقه هو ارادة الفهم واقعا و طلب المعرفة حقيقة، و ارادة الفهم و طلبه حقيقة من دواعي هذا الانشاء الاستفهامي، فالمحال في حقه تعالى هو الداعي لهذا الانشاء الاستفهامي الذي قد يعبر عنه بالاستفهام الحقيقي، لا نفس انشاء الاستفهام.

و لا يخفى انه كما كان يمكن ان يكون السبب لانشاء الاستفهام هو طلب الفهم واقعا كذلك يمكن ان يكون الداعي له هو الانكار كقوله تعالى: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ 57] او اظهار المحبة كقوله تعالى: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 58].

فاتضح مما ذكرنا: انه لا وقع للاشكال اصلا، لأن المحال في حقه هو داعي طلب الفهم واقعا لا نفس انشاء الاستفهام. و منه اتضح ايضا انه لا وجه للالتزام بانسلاخها عن معانيها في كلامه تعالى، بل هي مستعملة في معانيها، غاية الامر انها ليست بداعي طلب الفهم واقعا، و لا بداعي ترجي الحصول، و لا بداعي تمني ما لا يحصل، بل بدواع أخر دعت لانشاء هذه المعاني.

نعم، اذا ثبت ان هذه الادوات كأدوات الاستفهام موضوعة لانشاء معناها بشرط ان يكون الداعي لانشاء الاستفهام- مثلا- هو طلب الفهم واقعا يكون استعمالها في انشاء الاستفهام بها لا بداعي طلب الفهم من الاستعمال المجازي لاختلال شرط الوضع، و اما اذا كان اثبات هذه الدواعي بواسطة الاصل و تطابق الارادة الاستعمالية و الارادة الجدّية فلا يكون استعمالها في غير هذه الدواعي الحقيقية من الدواعي الأخر من الاستعمال المجازي اصلا.

ص: 356

حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك (1)، و منه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا (2).

______________________________

(1) قد عرفت ان العجز لازم التمني الحقيقي، و الجهل لازم الترجي و الاستفهام الحقيقيين.

(2) قد عرفت ان القوم ذكروا لصيغة الامر معاني أخر و ان ظاهر كلامهم ان الصيغة مستعملة في نفس تلك المعاني في قبال استعمالها في نفس الطلب، و قد تبين انهم خلطوا بين ما هو المستعمل فيه و داعي الاستعمال، و ان هذه الامور و المعاني من دواعي استعمال الصيغة في الطلب كما ان الداعي الجدي و الطلب الحقيقي يكون من داعي استعمال الصيغة في انشاء الطلب، فانهم ذكروا في صيغ الاستفهام و الترجي و التمني مثل ذلك، و ان ظاهر كلامهم ان أداة الاستفهام تستعمل في الاستفهام الحقيقي و تستعمل في غيره من المعاني التي ذكروها من الانكار و اظهار المحبة و غير ذلك.

و الحق: ان الحال هنا كصيغة الامر فان ادوات الاستفهام تستعمل دائما في انشاء الاستفهام و ان الداعي لانشاء الاستفهام كما يكون هو الاستفهام الحقيقي و طلب الفهم واقعا، كذلك يكون غيره من المعاني الأخر كالانكار و اظهار المحبة سببا و داعيا لانشاء الاستفهام، فصيغ الاستفهام لم تستعمل الّا في انشاء الاستفهام و ليست بمستعملة في المعاني التي ذكروها لها، و حتى في الاستفهام الحقيقي فان صيغة الاستفهام لم تستعمل، بل هي مستعملة دائما في انشاء الاستفهام، و الاستفهام الحقيقي يكون داعيا لانشاء الاستفهام كما ان غيره كالانكار و اظهار المحبة يكون داعيا ايضا لانشاء الاستفهام فلا معنى لما يظهر منهم ان هذه المعاني التي ذكروها هي معان لصيغة الاستفهام، بل هي دواع لانشاء الاستفهام، مثل الاستفهام ساير الصيغ

ص: 357

المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال، و لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، و يؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب (1)، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو

______________________________

الآخر التي ينشا بها الترجي أو التمني، و كذلك المعاني التي ذكروها لها، فانها ليست معاني لها بل هي دواع للانشاء و كما عرفت الحال في الاستفهام.

(1)

في ان الصيغة حقيقة في أي معنى

الوجوه و الاقوال ذكرها في المتن اربعة:

الأول: كونها حقيقة في الوجوب فقط.

الثاني: كونها حقيقة في الندب فقط.

الثالث: كونها مشتركة بينهما اشتراكا لفظيا، و هو الذي اراده من قوله: أو فيهما، فان معنى كون الصيغة حقيقة فيهما معا، مع جعله في قبال الاشتراك المعنوي لا بد و ان يكون هو الاشتراك اللفظي.

الرابع: الاشتراك المعنوي: بان تكون الصيغة موضوعة للجامع بينهما، فكل من الوجوب و الندب فرد له.

و قد اختار المصنف عدم الاستبعاد في دلالتها على الوجوب، لاجل التبادر بدعوى: انها اذا اطلقت يتبادر منها الطلب الصادر بنحو الحتم و الالزام، و لعل ذكره للتبادر هنا بنحو الاستبعاد لا بنحو القطع و البت هو ان الشرط الراجع إلى الوضع- في مقامنا- بعيد ان يكون للتنصيص من الواضع على ذلك، فهو انما يكون من الامور الحاصلة بسبب كثرة الاستعمال فيبقى مجال للشك في بلوغ كثرة الاستعمال الى حد الوضع و لعلها باقية على الانصراف، لأن الوضع التعيّني يتدرج من الانصراف الى ان يبلغ درجة الوضع.

ثم ذكر (قدس سره) لدليل التبادر مؤيدا، و حاصل التأييد: هو عدم صحة الاعتذار من العبد في مخالفة الطلب الصادر من المولى بصيغة الامر: بانه كلام يحتمل

ص: 358

مقال (1)، و كثرة الاستعمال فيه في الكتاب و السنة و غيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا، مع أن الاستعمال و إن كثر فيه، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة، و كثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا فيه، ليرجح أو يتوقف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف؟ و قد كثر استعمال العام في الخاص، حتى قيل: ما من عام إلا و قد خص و لم

______________________________

الندبية و الاذن في الترك، مع اعتراف العبد: بان كلام المولى لم يكن مشفوعا بقرينة من القرائن الحالية او المقالية التي تدل على الندب، فان العبد اذا اعترف بعدم وجود القرينة في كلام المولى لا يصح اعتذاره عند العقلاء في مخالفة امر المولى: بان كلام المولى يحتمل الندبية، و لا اختصاص له بالوجوب و الحتم.

فعدم صحة الاعتذار من العبد عند العقلاء دليل: بان هذا الكلام عندهم يدل على الوجوب، اذ لو لم يكن دالا على الوجوب لصح اعتذار العبد عندهم.

و انما ذكر هذا مؤيدا لا دليلا لإمكان ان يقال: ان عدم صحة الاعتذار عند العقلاء لا دلالة له على كون الصيغة موضوعة للوجوب، لجواز ان يكون عدم صحة الاعتذار عندهم لأن هناك أصلا عقلائيا في حمل كلام المولى الصادر منه- من غير قرينة على الوجوب، كالاصل العقلائي السابق في حمل الصيغة على كونها صادرة بداعي الجد لا بداع آخر من دواعي الطلب. فالسبب في عدم صحة الاعتذار هو الاصل فلا ملازمة بين عدم صحة الاعتذار، و بين كون الصيغة موضوعة للوجوب.

(1) أي دلالة الكلام عليه: أي على الندب لوضوح ان العبد اذا كان تركه للامتثال لدعوى وجود القرينة في كلام المولى، لا لأن كلام المولى يحتمل الندبية يخرج عن موضوع كلامنا و يكون من باب التداعي، فان موضوع الكلام في هذا التاييد ان العقلاء لو لم يكن دلالة للصيغة بنفسها على الوجوب لصح الاعتذار عندهم، فلا بد من فرضه في كلام مسلم عند المولى و العبد انه كان مجردا عن القرائن الحالية و المقالية.

ص: 359

ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص (1).

______________________________

(1) يتعرض المصنف في قوله هذا لرد صاحب المعالم (قدس سره)، حيث انه بعد ان اختار دلالة الصيغة على الوجوب توقف في الصيغة المستعملة في خصوص الكتاب و السنة، لكثرة استعمالها في الكتاب و السنة في غير الوجوب، و كثرة الاستعمال هي الموجبة لتوقف صاحب المعالم 59]، و هي ترجع الى احتمالين:

اما احتمال بلوغ كثرة الاستعمال الى حد وضعه للندب في خصوص لسان الشارع.

او احتمال كون كثرة استعماله في الندب أوجبت كون الندب من المجاز المشهور.

فاجاب المصنف عن الاحتمالين بثلاثة اجوبة:

الأول: ان كثرة الاستعمال في الندب انما يوجب حمله على الندب لكونه مجازا مشهورا، أو لانه بلغ درجة الوضع انما هو حيث يكون الاستعمال في الوجوب قليلا و ليس كذلك، بل استعمال الصيغة في الوجوب في الكتاب و السنة كثير ايضا، و الى هذا اشار بقوله: «و كثرة الاستعمال فيه»: أي في الندب في الكتاب و السنة و غيرهما «لا توجب نقله»: أي لا توجب الوضع «او حمله عليه» لكونه مجازا مشهورا «لكثرة استعماله»: أي استعمال الامر بالصيغة في الوجوب ايضا، فلا قلة في الطرف المقابل للندب حتى يكون كثرة الاستعمال فيه موجبة لاحد الامرين:

الوضع للندب، او حمل الصيغة على الندب لكونه من المجاز المشهور.

اذا قلنا في المجاز المشهور لا بالتوقف، بل بترجيحه على المعنى الحقيقي، فان المجاز ينقسم الى اقسام:

- المجاز المتعارف: و هو الذي يكون استعماله اقل من الاستعمال في المعنى الحقيقي.

ص: 360

.....

______________________________

- و المجاز الراجح: و هذا كالمجاز المتعارف بالنسبة الى المعنى الحقيقي فان المعنى الحقيقي ارجح منه، إلّا انه يختص بكونه ارجح من بقية المجازات الأخر، كاستعمال الاسد في الرجل الشجاع، فانه ارجح من استعماله في الأبخر او في بعض الحيوانات المقاربة للاسد في الفتك او الشجاعة.

- و المجاز المشهور: و هو الذي يكثر استعماله حتى يكون اكثر من المعنى الحقيقي، و هذا هو الذي وقع الخلاف فيه، فذهب بعض الى تقديمه على المعنى الحقيقي، و ذهب بعض الى التوقف فيه فلا يقدمونه على الحقيقي و لا يقدمون المعنى الحقيقي، و هو الذي ينبغي ان يكون مراد صاحب المعالم، فان الظاهر من كلامه ان كثرة استعمال الصيغة في الندب في لسان الشارع اوجب التوقف في حمل كلام الشارع على الوجوب، و ان كانت الصيغة في نفسها موضوعة للوجوب.

الثاني: من الاجوبة ما أشار اليه في قوله: «مع ان الاستعمال».

و حاصل هذا الجواب: هو ان الوضع التعيني الحاصل بسبب الاستعمال لا يعقل ان يتحقق، و هذا اشكال يذكر في الوضع التعيني، فان الوضع التعيني معناه حصول العلقة بين اللفظ و المعنى بسبب كثرة الاستعمال، و اذا لم يكن اللفظ موضوعا بالوضع التعييني فلا بد و ان يكون الاستعمال في المعنى غير الموضوع له مع القرينة، و متى كان الاستعمال مع القرينة لا يحصل بين اللفظ المجرد و المعنى علقة، لأن الاستيناس الحاصل بين اللفظ و المعنى انما حصل بين اللفظ المصحوب بالقرينة، لا بين نفس اللفظ غير المصحوب بالقرينة و المعنى، و الى هذا اشار بقوله: «مع ان الاستعمال و ان كثر فيه الّا انه كان مع القرينة المصحوبة» و لم يكن بين نفس اللفظ المجرد و المعنى.

و من هنا اتضح: ان هذا الاشكال كما يمنع الوضع التعيني كذلك يمنع من حصول المجاز المشهور الذي وقع الخلاف في كونه يقدم على المعنى الحقيقي او يتوقف فيه، فانه اذا كان الاستعمال مع القرينة المصحوبة لا يكون الاستعمال في المعنى

ص: 361

.....

______________________________

المجازي و ان كان اكثر من المعنى الحقيقي موجبا لكون المجاز مشهورا، دون المجاز المشهور الذي يقدم على المعنى الحقيقي او يتوقف فيه هو المجاز الذي لا يكون مصاحبا للقرينة، بل تكون القرينة فيه محذوفة يعتمد عليها المتكلم لشيوعها، فهذا هو المجاز المشهور الذي وقع الخلاف فيه، و اما المجاز الذي يكثر استعماله على المعنى الحقيقي و لكن مع القرينة المصحوبة فليس هو المجاز المشهور الذي وقع الخلاف فيه، و الى هذا اشار المصنف بقوله: «و كثرة الاستعمال كذلك»: أي مع القرينة المصحوبة «في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا الخ».

الثالث: من الاجوبة ما أشار اليه بقوله: «و قد كثر ... الخ» و حاصل هذا الجواب الثالث هو النقض بكثرة استعمال العام في الخصوص، فان العام بعد تخصيصه لا بد و ان يكون مستعملا في الخاص، و استعمال العام في الخاص من المجاز، و تخصيص العمومات كثيرة حتى قيل: انه ما من عام الّا و قد خص، و لم يتوقف صاحب المعالم و لا غيره في حمل العام على عمومه قبل انكشاف التخصيص و ظهور القرينة الدالة على تخصيصه اللازم منها استعماله في الخاص، فلا بد و ان يكون كثرة الاستعمال في غير المعنى الموضوع له مع القرينة لا توجب نقلا و لا مجازا مشهورا يكون موضع الخلاف في تقديمه او التوقف فيه، و هذا الجواب الثالث من المصنف الزامي لصاحب المعالم القائل: بان العام بعد تخصيصه يكون مستعملا في الخاص مجازا.

و اما على مذهب المصنف الموافق لقول سلطان العلماء في ان العام بعد تخصيصه لا يكون مستعملا في الخاص، بل هو باق على عمومه لأن التخصيص لا يمس الارادة الاستعمالية، بل هو راجع الى تضييق الارادة اللبية فلا يكون هناك استعمال للعام في الخاص، فلا مجازية و لا نقل، لأن المجازية و النقل لا بد فيهما من استعمال اللفظ في غير الموضوع له، و اذا كان التخصيص راجعا الى الارادة اللبية دون الاستعمال لا يكون استعمالا للعام في الخاص، فلا يرد هذا النقض و انما يرد على مذاق المشهور فهو الزامي.

ص: 362

المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب و البعث مثل يغتسل، و يتوضأ، و يعيد ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات فيها، و ليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار، بثبوت النسبة و الحكاية عن وقوعها الظاهر الاول، بل تكون أظهر من الصيغة (1)، و لكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية

______________________________

(1)

الجمل الخبرية المستعملة في الطلب

عنون المصنف هذا المبحث اولا على نحو ما عنونه القوم، و ظاهر عنوانهم ان الجملة الخبرية التي اريد بها الطلب هي مستعملة في الطلب، و لذا قال: الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب، فيظهر منهم ان الطلب مدلول للجملة الخبرية بالدلالة المطابقية.

و بعد تطابقهم على هذا اختلفوا في ان المعنى المطابقي لها هل هو الوجوب و انها ظاهرة فيه كظهور صيغة الامر في خصوص الطلب الوجوبي؟

أو انها لا ظهور لها في الطلب الوجوبي لانها لم تستعمل في معناها الحقيقي قطعا و انما هي مستعملة مجازا في غير معناها الموضوعة له فلا يتعين الوجوب لتعدد المجازات، فانه كما يحتمل الوجوب كذلك يحتمل الندب و يحتمل ايضا الرجحان الجامع بين الوجوب و الندب، فلا تعين لخصوص الوجوب الّا بمعين خاص و قرينة تدل عليه، و المفروض ان الكلام خال عن القرينة المعينة للوجوب، فالقدر المتيقن هو عدم استعمالها في معناها الحقيقي و هو الاخبار و الاعلام بثبوت النسبة خارجا و الحكاية عن تحققها و وقوعها، و انما هي مستعملة في الطلب و لكن لا يتعين الوجوب بخصوصه لتعدد الاحتمالات المجازية.

و قد وافق المصنف مدعى ظهورها في الطلب الوجوبي، فقال: «الظاهر الاول بل تكون» في دلالتها على الوجوب «اظهر من الصيغة» في دلالتها عليه، و ليس ظهورها فيه لكونها مستعملة فيه مجازا و انه اقرب المجازات، بل هي ظاهرة فيه مع انها مستعملة في معناها، و هذا هو السبب في كونها اظهر من الصيغة في الدلالة على

ص: 363

الواقعة في ذلك المقام أي الطلب مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الاعلام، بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغ الانشائية، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواع أخر، كما مر (1).

______________________________

الطلب الالزامي، لأنها من الكناية التي هي ابلغ من التصريح و كدعوى الشي ء ببينة، و استدل على هذا بقوله: «و لكنه لا يخفى ... الى آخره».

(1) لا يخفى ان المصنف في هذا الكلام يريد التنبيه على خطأ القوم فيما تطابقوا عليه و هو: ان الجمل الخبرية في مقام دلالتها على الطلب قد استعملت مجازا في الطلب و تكون دلالتها عليه بالمطابقة، بل الجمل الخبرية الدالة على الطلب لم تستعمل الا في معناها الموضوعة له و هو ثبوت النسبة في الخارج و الحكاية عنه.

غاية الامر: ان الداعي لهذا الاستعمال ليس هو قصد الاعلام بثبوت النسبة في الخارج، بل الغرض منه هو الطلب و ارادة ايجاده، فهي تدل على الطلب بالالتزام لا بالمطابقة، و لازم هذا ان لا يكون هناك استعمال مجازي، لأن الجملة مستعملة في معناها الحقيقي، غايته ان الجملة الخبرية- المستعملة في غير مقام الطلب- تستعمل في الدلالة على ثبوت النسبة في الخارج بقصد الاعلام عن تحققها و ثبوتها، و في مقام الطلب- ايضا- تستعمل في معناها لكن لا بقصد الاعلام و الاخبار عن ثبوت النسبة، بل بقصد الطلب و التحريك لايجادها، فهي على هذا تدل على الطلب بالالتزام لا بالمطابقة، فان الجملة الخبرية في مقام الطلب تستعمل في الحكاية عن ثبوت النسبة خارجا، فان الامام عليه السّلام يقول- مثلا-: الجنب يغتسل، فهو يخبر عن وقوع الغسل من الجنب في الخارج، و انما يكون الغسل مفروضا له التحقق حيث يكون مطلوبا بحيث يكون لا بد من وقوعه، و انما يكون لا بد من وقوعه حيث يكون الطلب الزاميا،

ص: 364

.....

______________________________

فاذا الجملة الخبرية مستعملة في معناها لكن لا بداعي الاخبار و الاعلام عن تحقق متعلقها، بل بداعي سبب مفروغية التحقق الذي اخبر عنه بهذه الجملة هو الطلب الذي يكون التحقق و الثبوت لا ينفك عنه، و ليس هذا الّا الطلب الالزامي الذي لا يرضى المولى بتركه، و لو كان مما يرضى بتركه لما كان التحقق و الثبوت مما لا ينفك عن الطلب.

فحينئذ تكون الجملة الخبرية المقصود بها الطلب اظهر في الدلالة على الوجوب و الالزام من صيغة الامر، لأنها بنحو الكناية، و الكناية ابلغ من التصريح، لأنها كدعوى الشي ء ببيّنة فانها اخبار عن ثبوت الملزوم لثبوت لازمه، فالداعي للاخبار عن تحقق الغسل- مثلا- و انه مفروغ عن تحققه و لا بد من ثبوته ليس هو تحققه في الخارج حقيقة، كما في الجملة الخبرية التي لا بداعي الطلب، بل بداعي الاعلام عن تحقق المتعلق للاخبار في الخارج، بل الداعي لفرض التحقق و المفروغية عنه هو وجود ما يكون مقتضيا و علة لتحققه و هو الطلب، و من الواضح ان الطلب الذي لا ينبغي ان ينفك المتعلق عنه هو الطلب الالزامي.

فاتضح: ان الجملة الخبرية المستعملة بداعي الطلب اظهر في الدلالة على الوجوب، لأن الصيغة غاية دلالتها ان الطلب فيها الزامي، و لا دلالة فيها على كون الطلب الزاميا و امرا مفروغا عنه، بخلاف الجملة الخبرية بداعي الطلب فانها تدل على مفروغية كون الطلب الزاميا، لأن المفروغية عن تحقق المتعلق يلازمه المفروغية عن تحقق علته و هو الطلب الالزامي، و لذا قال: (قدس سره): «إلّا انه»: أي الّا ان استعمالها في معناها «ليس بداعي الاعلام» كما في ساير الجمل الخبرية «بل بداعي البعث بنحو آكد» و السبب في الآكدية ما اشار اليه بقوله: «حيث انه اخبر بوقوع مطلوبه» و اخباره بوقوع مطلوبه و المفروغية عن وقوعه «في مقام طلبه» فيه دلالة واضحة و «إظهار منه بانه» لا يرضى الّا بوقوع المتعلق فيكون هذا النحو من الدلالة على الطلب الالزامي اكد من دلالة الصيغة عليه.

ص: 365

لا يقال كيف و يلزم الكذب كثيرا، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى اللّه و أولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.

فإنه يقال: إنما يلزم الكذب، إذا أتي بها بداعي الاخبار و الاعلام، لا لداعي البعث، كيف و إلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذبا، إذا قيل كناية عن جوده، و لو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا، و إنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال (1)

______________________________

و على كل فالحال في الجملة الخبرية الدالة على الطلب هو كالحال في الصيغ الانشائية الايقاعية التي يكون الداعي لاستعمالها في معانيها دواعي أخر غير دواعيها الحقيقية، و قد عرفت انها لم تستعمل في المعاني التي ذكروها لها بل هي دائما مستعملة في معانيها، و انما الاختلاف في الدواعي، فالداعي للاستفهام في مقام الانكار ليس هو طلب الفهم بل الانكار، و الفرض ان مخالفته للقوم في المقام و انهم أخطئوا في توهم انها مستعملة في الطلب بنحو المجاز قد سبق نظيره في الصيغ الانشائية من مخالفته لهم، و انها لم تستعمل مجازا في غير معانيها الموضوعة لها.

و قد تبين مما ذكره هنا ايضا: انه لو أعرض عن هذا التحقيق، و قال بمقالة القوم:

من كونها مستعملة مجازا في الطلب- لكان الطلب الالزامي هو اقرب المجازات، لانه الذي يناسب ملازمته ثبوت المتعلق في الخارج، فاذا خرجت الجملة عن معناها الحقيقي و هو ثبوت المتعلق في الخارج، فالانسب ان تكون مستعملة فيما يلازم ثبوته ثبوت المتعلق في الخارج و تحققه، و ليس هو الّا الطلب الالزامي.

(1) هذا ايراد على ما ذكره: من التحقيق في كون الجملة الخبرية- المراد بها الطلب- مستعملة في معناها، و دلالتها على الطلب بالدلالة الالتزامية الكنائية، فان لازم استعمالها في معناها هو دلالتها على ثبوت متعلقها في الخارج و الحكاية عنه، و من الواضح ان الحكاية عن تحقق الشي ء في الخارج يدور صدق القضية و كذبها مدار

ص: 366

.....

______________________________

تحقق المحكى عنه و عدم تحققه، فاذا لم يتحقق كانت القضية كاذبة و اذا تحقق كانت صادقة، و من البديهي ان الجمل الخبرية التي اريد بها الطلب لا يتحقق متعلقها في الخارج دائما، و انما يتحقق متعلقها اذا كان المكلف مطيعا، اما اذا كان عاصيا فلا يكون متعلقها متحققا في الخارج، فكيف يقصد الامام عليه السّلام الحكاية في الجملة الخبرية؟ مع ان متعلقها قد لا يتحقق، فان لازم ذلك و هو عدم تحقق المتعلق كون كلامه عليه السّلام غير مطابق و لا موافق للواقع، و ليس الكذب في القضية الّا عدم مطابقتها للواقع، و لا يعقل الكذب عليهم عليهم السّلام، و انما يلزم هذا حيث تكون مستعملة في معناها الخبري الحكائي، و اما اذا كانت مستعملة مجازا في الطلب نفسه بنحو المطابقة فلا يلزم الكذب لعدم الحكاية، بل تكون مستعملة في الانشاء و الايقاع، و لا كذب و لا صدق في القضايا الانشائية كما هو اوضح.

و حاصل الجواب الذي اشار اليه بقوله: «فانه يقال» ان الكذب و الصدق و ان كان هو المطابقة و اللامطابقة، إلّا ان المطابقة و اللامطابقة اللتين يدور مدارهما الصدق و الكذب هما المطابقة و اللامطابقة بحسب غرض المتكلم في الجملة الخبرية، فان كان غرض المتكلم في الجملة الخبرية هو الاخبار و الاعلام عن تحقق الجملة و عدم تحققها كان الكذب و الصدق يدور مدار ثبوت الجملة و عدم ثبوتها في الخارج، و ان كان الغرض ليس الاخبار و الاعلام، بل الغرض هو الدلالة على كون الداعي له هو الطلب فالقضية صادقة دائما لفرض تحقق الطلب في المقام.

و الذي يدلك على ان الصدق و الكذب و المطابقة و اللامطابقة مرتبطان بالقصد هو صدق الكناية في قول القائل: زيد مهزول الفصيل او كثير الرماد في مقام مدحه و الاخبار عن كرمه، و ان لم يكن له فصيل و لا رماد اصلا اذا كان زيد كريما، و كذب الكناية اذا لم يكن كريما، فصدقها و كذبها يدور مدار المعنى الالتزامي و هو الكرم دون المعنى المطابقي و هو هزال الفصيل أو كثرة الرماد، مع ان المدلول المطابقي فيهما هو هزال الفصيل أو كثرة الرماد الذي قد دلت الجملة الخبرية على ثبوته و تحققه في

ص: 367

هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم (1).

______________________________

الخارج، و لكن حيث كان القصد فيهما ليس هو الاخبار و الاعلام عن هذا الثبوت، بل الغرض هو اللازم و هو الكرم كان الصدق و الكذب يدور مدار ثبوت الكرم و عدم ثبوته، لا مدار تحقق كثرة الرماد أو الهزال في الخارج و عدم تحققه.

و مقامنا من هذا القبيل فان الغرض في الجملة الخبرية هو تحقق الطلب بها و المفروض تحققه و الدلالة عليه بنحو آكد من دلالة الصيغة عليه، كما عرفت فلا يلزم الكذب.

(1) حاصل ما ذكره فيما سبق هو ان الجملة الخبرية لها دلالة التزامية على ان الطلب الذي هو الداعي لها هو الطلب الذي لا يرضى المولى بتركه و هو الطلب الالزامي، فالعرف يرى الملازمة بين الجملة الخبرية- التي جي ء بها لا لأجل الاخبار و الاعلام بل بداعي الطلب- و الطلب الالزامي، بحيث ينتقل من مجرد سماع الجملة الخبرية التي سيقت لاجل الطلب الطلب الالزامي.

و الآن يريد ان يتنزل عن هذه الدعوى و انه سلم ان العرف لا يفهم هذه الملازمة، بحيث من مجرد سماع الجملة الخبرية بداعي الطلب ينتقل الذهن الى الطلب الالزامي، و انما يفهم من هذه الجملة الخبرية هو الطلب من دون خصوصية الالزام، فليس في المقام دلالة التزامية لفظية.

لكنه يمكن اثبات الطلب الالزامي دون الندبي ببركة مقدمات الحكمة.

و حاصلها: انه اذا كان المولى في مقام البيان: بان الغرض من هذه الجملة هو الطلب، و لم ينصب قرينة خاصة لفظية او حالية على خصوص الوجوب او الندب،

ص: 368

المبحث الرابع: إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون، قيل: بظهورها فيه، إما لغلبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده أو أكمليته، و الكل كما ترى، ضرورة أن الاستعمال في الندب و كذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر.

و أما الاكملية فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة

______________________________

إلّا انه لا بد و ان يريد احدهما واقعا، فحينئذ نقول: انه اذا اراد الوجوب لا يكون ناقضا لغرضه، و اذا كان يريد الندب يكون ناقضا لغرضه، لأن العلة التي لا تنفك بحسب الاقتضاء عن تحقق هذه الجملة الخبرية في الخارج هو الطلب الوجوبي، و اما الطلب الندبي فحيث ان لازمه الاذن في عدم الامتثال يكون منفكا بحسب الاقتضاء و العلية عن تحقق الجملة الخبرية و ثبوتها في الخارج، فاذا كان الغرض من هذه الجمل هو الطلب و كان في مقام بيان ما يريده يتعين بحسب هذه النكتة ان يكون مريدا للوجوب، فلو كان مع ذلك يريد الندب لكان ناقضا للغرض، فهذه النكتة اذا لم تكن عند العرف بحيث توجب الدلالة الالتزامية لكانت موجبة لتعيين الوجوب من بين ساير المحتملات، حيث يكون المولى بصدد البيان و انه يريد فردا خاصا من افراد الطلب.

ثم عقب هذا بقوله: «فافهم» و يمكن ان يكون اشارة الى ان هذه الدقة، و هي ان الذي لا ينفك عن تحقق الجملة الخبرية هو خصوص الطلب الالزامي لا يتكل عليها في مقام البيان اذا لم تكن ملازمة عند العرف بين الجملة الخبرية و الطلب الالزامي، بحيث من سماع هذه الجملة ينتقل الى الطلب الالزامي. فاما ان تكون الجملة الخبرية دالة دلالة التزامية لفظية على الطلب الالزامي، و الّا فهذه المناسبات التي لا يفهمها العرف الّا بعد التامل و التعمل لا يصح الاتكال عليها في مقام البيان.

ص: 369

أنس اللفظ بالمعنى، بحيث يصير وجها له، و مجرد الاكملية لا يوجبه، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1)

دلالة صيغة الامر على الوجوب

حاصل هذا المبحث ان الصيغة كما ذكر سابقا تدل على الوجوب للتبادر، فهي ظاهرة في الوجوب ظهورا وضعيا بنحو شرط الوضع كما تقدم بيانه.

اما اذا لم نقل بالتبادر فهل هناك شي ء آخر يوجب ظهور الصيغة في الوجوب ام لا؟

و قد ذكر له وجوه ثلاثة كلها مخدوشة، و حاصل هذه الوجوه: هي دعوى انصراف الصيغة الى الطلب الوجوبي، و لكن السبب الموجب مختلف.

فالوجه الاول: للانصراف و ظهور الصيغة في خصوص الوجوب هو دعوى غلبة الاستعمال، و ان استعمال الصيغة في الطلب الالزامي اكثر من استعمال الصيغة في الطلب الندبي.

و هذا الوجه يمكن المناقشة فيه اولا من جهة الصغرى مع تسليم الكبرى، و هو ان غلبة الاستعمال توجب استيناس الذهن لكثرة حصوله في الذهن بسبب كثرة الاستعمال فيه، و استيناس الذهن بالمعنى يوجب حضوره و انصراف الذهن اليه عند سماع اللفظ الذي كثر استعماله في ذلك المعنى، الّا ان الصغرى ممنوعة لأن استعمال الصيغة في الوجوب ليس باكثر من استعمالها في الندب، اذا لم يدّع مدّع ان الاستعمال في الندب اكثر.

و يمكن ايضا منع الكبرى بدعوى ان مطلق اكثرية الاستعمال لا توجب الانصراف، بل لا بد من بلوغها الى مقدار بحيث يستأنس الذهن به، و لم يعلم بلوغها الى هذا المقدار الموجب للاستيناس الذي يلزمه انصراف الذهن الى المعنى بمجرد سماع اللفظ.

الوجه الثاني: هو كثرة وجود الواجبات بالنسبة الى الافراد الندبية فكثرة الوجود توجب ظهور اللفظ في الاكثر وجودا.

ص: 370

.....

______________________________

و هذا الوجه مخدوش كبرى و صغرى، اما الكبرى فلان كثرة الوجود لا توجب الظهور اللفظي انصرافا، فان الموجب للانصراف هو استيناس الذهن بحضور المعنى كثيرا عنده مستفادا من اللفظ، و اما كثرة الوجود فلا توجب استيناسا للذهن و ربطا شديدا بين اللفظ و المعنى، و اما الصغرى فممنوعة ايضا لوضوح ان افراد الندب المستفاد من الصيغة اذا لم يكن اكثر من افراد الوجوب المستفاد منها فهو ليس باقل من الوجوب.

الوجه الثالث: ان الموجب للظهور هو كون الوجوب اكمل من الندب، فان الوجوب هو تاكد الارادة بحيث لا يرضى بتركه، و من المعلوم ان شدة الوجود و تاكده كمال في الوجود.

و هذا الوجه ممنوع كبرى لا صغرى، فانا نسلم ان الارادة الوجوبية آكد و اشد و اكمل في الوجود من الارادة الندبية، و لكن نمنع كون الاكملية توجب الظهور، فان الظهور مربوط بعالم الالفاظ و الاستعمال، و لا ربط له باكملية الوجود، و قد اشار المصنف الى الوجوه الثلاثة بقوله: «قيل بظهورها»: أي الصيغة «فيه»: أي في الوجوب «اما لغلبة الاستعمال فيه»: أي في الوجوب و هو الوجه الاول «او لغلبة وجوده»: أي وجود الوجوب و هو الوجه الثاني «او اكمليته» و هو الوجه الثالث، و قد اشار الى المناقشة في هذه الوجوه بقوله: «و الكل كما ترى».

و قد ناقش في الاول و الثاني بمنع الصغرى، فقال: «ضرورة ان الاستعمال في الندب و كذا وجوده»: أي وجود الندب «ليس باقل لو لم يكن اكثر» فاغلبية الاستعمال في الوجوب ممنوعة، و كثرة وجود الوجوب ايضا ممنوعة، فان الندب اذا لم يكن اغلب استعمالا و اكثر وجودا فلا اقل من تساويه مع الوجوب استعمالا و وجودا، و ناقش في الوجه الثالث فقال: «اما الاكملية فغير موجبة للظهور ... الى آخر كلامه».

ص: 371

نعم فيما كان الآمر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد و التقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب و لا تقييد، فإطلاق اللفظ و عدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان، كاف في بيانه (1)

______________________________

(1) و حاصله انه اذا لم نقل بكون الصيغة ظاهرة في الوجوب للتبادر، أو لما مر من الوجوه يمكن ان نقول: ان الصيغة لها الظهور في الوجوب لمقدمات الحكمة.

و حاصلها: انه اذا كان الآمر في مقام البيان، و علمنا بانه يريد فردا من افراد الطلب و لا قرينة لفظية أو حالية تعينه، نقول: انه لا بد و ان يريد بالصيغة هو الطلب الوجوبي دون الطلب الندبي، لأن الفرق بين الطلب الوجوبي و الندبي بعد اشتراكهما في اصل الطلب: هو ان الطلب الوجوبي يزيد على الجامع بشدة الارادة و تأكدها، فزيادته من جنس ما به الاشتراك بينه و بين الندب، فحقيقة فصله الذي به يمتاز عن الندب من نفس طبيعة جنسه و هو اصل الطلب و الارادة، و الطلب الندبي هو المرتبة الضعيفة من الطلب بحيث لم تبلغ مرتبة الشدة التي لا يرضى المولى تركها، ففصله الذي يمتاز به عن الوجوب هو عدم تاكد الارادة و عدم شدتها، فالوجوب حقيقته نفس الطلب لكن بمرتبة شديدة و المرتبة الشديدة هي من طبيعة الطلب، و الندب حقيقته طلب و عدم شدة و تاكد، ففصله امر عدمي و فصل الوجوب امر وجودي من نفس حقيقة الطلب.

فاذا تمت هذه المقدمة نقول: بعد ان كان المولى يريد فردا من الطلب، فاذا كان مريد الفرد الوجوبي لا يحتاج الى ضم شي ء الى حقيقة الطلب لبيان فصل الوجوب، لما عرفت ان فصله من نفس طبيعة الطلب، فتكون الدلالة على الطلب كافية فيه، بخلاف ما اذا كان مريدا للندب فانه يحتاج الى ان يضم الى الطلب شيئا خارجا عن حقيقة الطلب و هو الامر العدمي، و حيث ان المفروض انه لم ينصب دالا على هذا العدم، فلو كان مريدا له لكان ناقضا لغرضه، فيتم الظهور للصيغة في الوجوب

ص: 372

فافهم (1).

المبحث الخامس: إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا، فيجزي إتيانه مطلقا، و لو بدون قصد القربة، أو لا؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته و توصليته إلى الاصل. لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات (2).

______________________________

ببركة مقدمات الحكمة، و هذا الذي ذكرناه هو مراده من قوله: «فان الندب كانه يحتاج الى مئونة بيان التحديد و التقييد بعدم المنع من الترك»: أي يحتاج الى ضم الفصل العدمي للطلب، و هو عدم تاكد الارادة الذي لازمه عدم المنع من الترك و هو «بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه للطلب و لا تقييد» لما عرفت من ان فصله من نفس طبيعته، فان فصله هو شدة الطلب و تاكده، فلا يحتاج الى ضم شي ء خارج عن حقيقة الطلب الى الطلب فيما اذا كان مراده الفرد الوجوبي «فاطلاق اللفظ و عدم تقييده مع كون المطلق»- بالكسر- «في مقام البيان كاف في بيانه».

(1) لعله يشير الى ان هذا الوجه مما لا يفهمه الخواص من اهل العلم فضلا عن العرف من غير اهل العلم، فلا يصح الاتكال عليه في مقام البيان، فان الذي يصح للمولى الاتكال عليه في مقام البيان ما يفهمه عامة الناس، لا خواص الخواص.

(2)

في التعبدي و التوصلي

لا يخفى ان التعبدية امر زائد على الطبيعة المتعلق بها الامر، فان قصد الامتثال الذي هو المعنى القربي اللاحق لطبيعة الصلاة شي ء زائد على نفس طبيعة الصلاة، فالامر المتعلق بالصلاة بقصد القربة غير الامر المتعلق بالصلاة من دون اخذ القربة فيها.

فاذا فرضنا إمكان اخذ القربة في الصلاة المتعلق بها الأمر، و ورد الامر بالصلاة من دون اخذ القربة فيها، و احتملنا اخذ القربة فيها كان هناك مجال لنفي هذا الاحتمال بالاطلاق: بان نقول: المولى في مقام البيان، و لم ياخذ القربة، فلا بد و ان

ص: 373

إحداها: الوجوب التوصلي، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب، و يسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن

______________________________

لا تكون دخيلة في متعلق الامر، و الّا لكان المولى ناقضا لغرضه، فيصح لنا التمسك بالاطلاق لنفي اخذ القربة.

و اما اذا فرضنا عدم امكان اخذ القربة في متعلق الامر، لما سيأتي من الادلة على امتناع ذلك، فلا يصح التمسك بالاطلاق لنفي دخالة قصد القربة في امتثال الامر الذي تعلق بالصلاة، لما هو المعروف: من انه اذا لم يمكن التقييد لم يمكن الاطلاق، لأن معنى التمسك بالاطلاق ان يقال: انه لو لم يذكره لكان ناقضا لغرضه، و هذا انما يتاتى فيما يمكن ان يذكره المولى في ضمن خطابه في متعلق امره، اما فيما لم يمكن ان يجعله من متعلقات امره فلا معنى لأن يقال: انه لو لم يأخذه لكان ناقضا لغرضه، فتقابل الاطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة، و لا بد ان يكونا في مقام له قابلية لأن يؤخذ و لان لا يؤخذ، اما في ما لا يمكن ان يؤخذ فلا معنى للتمسك بنفيه بالاطلاق، و اذا لم يمكن التمسك بالاطلاق، فاذا شككنا في التعبدية و التوصلية فلا بد من الرجوع الى ما تقتضيه الاصول، اذ هي المرجع بعد عدم امكان التمسك بالاطلاق، و لذا قال (قدس سره): «ان اطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا» لوضوح ان قصد القربة امر زائد، فاذا كان مما يمكن اخذه و المفروض انه لم يؤخذ فالاطلاق ينفيه «فيجزي اتيانه»: أي اتيان متعلق الصيغة «مطلقا» و هذا معنى التمسك بالاطلاق، و معناه ان متعلق الامر- مثلا- هو الصلاة فيحصل الامتثال باتيانها سواء قصد القربة ام لا، و لذا قال (قدس سره): «و لو بدون قصد القربة اولا»: أي أو انه لا مجال للاطلاق لعدم امكان التقييد بقصد القربة و اخذه في متعلق الامر، و عليه فلا بد من الرجوع الى ما تقتضيه الاصول فيما احتمل قصد القربة فيه، و هذا مراده من قوله: «فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته و توصليته الى الاصل».

ص: 374

الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لا بد في سقوطه و حصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى (1).

ثانيتها: إن التقرب المعتبر في التعبدي، إن كان بمعنى قصد الامتثال و الاتيان بالواجب بداعي أمره (2)، كان مما يعتبر في الطاعة

______________________________

(1) هذه المقدمة الاولى لبيان الفرق بين التوصلي و التعبدي.

و التوصلي: هو الواجب الذي يكون الغرض الداعي لامر المولى به مترتبا على وجود المتعلق للامر في الخارج، سواء اتى بهذا الواجب بقصد القربة ام لا، كدفن الميت- مثلا- فان الغرض الداعي للامر بالدفن هو مواراة الميت، فاذا حصلت المواراة حصل الغرض سواء كانت المواراة بقصد القربة ام لا، فيسقط الامر بالدفن لحصول الغرض الداعي الى الامر بالدفن بمجرد حصول المواراة و الدفن.

و الواجب التعبدي: هو الذي يكون الغرض الداعي للامر به لا يحصل بمجرد وجوده، بل لا يحصل الغرض منه الّا اذا اتى به بداعي القربة.

و ظهر مما ذكر: ان وصف التوصلية و التعبدية اولا و بالذات مما يلحق متعلق الوجوب و هو الواجب، و اما الوجوب فوصفه بالتعبدية و التوصلية وصف له بحال متعلقه.

(2) اتيان الشي ء بداعي القربة و التقرب الى اللّه تبارك و تعالى يقع على انحاء.

- منها: اتيانه بداعي امتثال امره المتعلق بالشي ء، و هو محل الكلام في المقام: من امكان اخذه في متعلق الامر ام لا.

- و منها: اتيانه بداعي كون المولى اهلا لأن يعبد و يخضع له، و هذا يتوقف على احراز كونه مما يصح ان يعبد به اللّه و يخضع له به، و هو ما كان عبادة بذاته، لوضوح انه ليس كل شي ء مما يصح ان يخضع للّه به و ان يعبد به اللّه.

- و منها: اتيانه بداعي حسنه، و هو ايضا انما يصح حيث ينطبق على الشي ء عنوان يكون به من مصاديق العدل في عبودية العبد بالنسبة الى مولاه.

ص: 375

عقلا (1)، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا، و ذلك لاستحالة أخذ ما

______________________________

- و منها: اتيانه بداعي المصلحة، و لا يخلو هذا من اشكال، فان المقرب الى المولى لا بد و ان يكون مما يضاف الى المولى، و نفس المصلحة ما لم ينطبق عليها عنوان يضاف الى المولى لا تكون مقربة، و اذا انطبق عليها عنوان آخر مضاف الى المولى فذلك العنوان هو المقرب.

- و منها: اتيانه بداعي المحبوبية، و احراز المحبوبية اما بان يكون الشي ء عبادة بذاته، كالخضوع له و الشكر و الحمد لجنابه بما ينبغي ان يخضع و يشكر و يحمد به، و اما بان يكون متعلقا لامره فيستكشف محبوبيته من تعلق امره به.

و الحاصل ان الكلام في التعبد بمعنى قصد امتثال امره المتعلق بالشي ء و الاتيان بالواجب بداعي هذا الامر، و انه هل يمكن اخذه في متعلق الامر أو لا يمكن؟

(1) و حاصل ما يريده المصنف ان عنوان قصد امتثال امر المولى المتعلق بالشي ء مما يعتبره العقل في عنوان الاطاعة: أي ان الاطاعة عند العقل مقيدة بقصد الامتثال، فلا اطاعة عنده حيث لا يقصد الامتثال، فقصد الامتثال مما يشترطه العقل في تحقق عنوان الاطاعة، و اما كونه مما يمكن ان يأخذه في متعلق امره فسيأتي الكلام في امكان ذلك و عدم امكانه.

ثم لا يخفى ان الاطاعة لها معنيان:

احدهما: ما به يحصل الامان من العقاب، و الاطاعة بهذا المعنى يشترط في صدقها على المأتي به قصد الامتثال، فان الامن من العقاب يحصل بايجاد ما فيه الغرض، فاذا كان الغرض يترتب على ذات المأتي به في الخارج، كما في التوصليات تحصل الاطاعة من دون قصد الامتثال.

ثانيهما: الاطاعة بمعنى ما يستحق به العبد المدح و الثواب، و الاطاعة بهذا المعنى مما يشترط فيها قصد الامتثال عند العقل، لوضوح ان العبد لا يستحق المدح و الثواب إلّا باتيان ما يضاف الى المولى، و يكون عدلا في مقام العبودية، و في غير العبادة

ص: 376

لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشي ء في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا (1)، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر، لا يكاد يمكن

______________________________

الذاتية انما يضاف الشي ء الى المولى باتيانه بقصد امتثال امره المتعلق بذلك الشي ء، فمراد المصنف بقوله: «كان مما يعتبر في الطاعة عقلا» هي الاطاعة بالمعنى الثاني، لا بالمعنى الاول.

(1) ان في اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر وجوها من الاشكال:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «و ذلك لاستحالة الى آخره» و حاصله: انه لا يعقل ان يأمر المولى بشي ء و يأخذ في ضمن كلامه و امره قصد الامتثال، بان يقول:

صلّ بقصد امتثال هذا الامر، للزوم الدور او غائلة الدور و هو التقدم و التاخر.

و بيانه: ان الامر في مقام تحققه يتوقف على متعلقه، لوضوح ان الامر من الاشياء التعليقية فلا يعقل تحققه من غير متعلق، لعدم معقولية تحقق الامر من دون شي ء يكون متعلقا للامر، فالامر محتاج و متوقف في مقام تحققه الى مامور به يتعلق به، و الامر من غير مامور به لا يوجد.

فاتضح ان الامر يتوقف على المتعلق و المامور به، فمتعلّقه له التقدم عليه، و لا ريب ان متعلق الامر اذا كان الصلاة- مثلا- مع قصد امتثال الامر يكون بعض متعلق الامر هو قصد امتثاله، و قصد امتثال الامر انما يكون له ثبوت و تحقق حيث يكون امرا، ثم يكون له قصد الامتثال، فقصد امتثال الامر يكون متاخرا عن الامر و متوقفا على ثبوت الامر، و قد تقدم ان تحقق الامر و ثبوته يتوقف على ما يتعلق به، فاذا كان ما يتعلق به و لو بعضه متوقفا عليه لزم توقف الشي ء على نفسه، و لزم تقدم الشي ء على نفسه لما عرفت من توقف الامر على متعلقه، فاذا توقف متعلقه عليه لزم كون الامر متوقفا على شي ء، ذلك الشي ء يتوقف على نفس الامر، فحينئذ يكون تحقق الامر متوقفا على نفسه، لتوقفه على ما يتوقف عليه، و معنى هذا لزوم كون الامر متقدما في مقام تحققه على تحقق نفسه.

ص: 377

.....

______________________________

و لا فرق على ما ذكرنا بين كون الامر من مقولة الارادة و الشوق النفساني، فانه في مقام تحققه في مرتبة الشوق يتوقف على المتعلق له في افق الشوق، فلا يعقل ان يكون متعلقه في افق الشوق متوقفا عليه او يكون من قبيل البعث و التحريك، فان البعث كالشوق يحتاج الى المتعلق فلا يعقل ان يتوقف متعلقه في مقام البعث و التحريك عليه.

و ايضا لا فرق في محالية اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر بين اخذه بنحو الشرطية أو اخذه على نحو الشطرية و الجزئية، أما اخذه على نحو الشرطية فبأن يكون تقيّده داخلا و اما نفس القيد فهو خارج: بان يكون متعلق الامر هو الصلاة المقيدة بقصد امتثال الامر، و اما نفس الامر و امتثاله فهو خارج عن المامور به، كالطهارة و تقيّد الصلاة بها فان المامور به هو الصلاة عن طهارة، و اما نفس الطهارة فليست من اجزاء الصلاة، و كذلك قصد الامتثال يكون بنفسه خارجا عن نفس الصلاة و لكن تقيد الصلاة به داخلا، فان الصلاة المقيّدة بما هي مقيّدة هي متعلق الامر فيلزم تقدمها عليه لأنها متعلق له، و حيث فرضت مقيّدة و المقيّد يتوقف على قيده، و قد فرض ان القيد نفسه هو قصد الامر، و قصد الامر لا يتحقق الّا بالأمر فيأتي الدور و غائلته.

و اوضح من ذلك: اذا اخذ قصد الامر بنحو الشطرية و الجزئية: بان يكون قصد امتثال الامر جزء المامور به، فان المامور به بجميع اجزائه له التقدم على الامر المتعلق به و الامر يتوقف عليه، فلا يعقل ان يكون بعض المامور به متوقفا على نفس الامر، و قد فرض ان بعض المامور به هو قصد امتثال ذلك الامر و هو يتوقف على الامر، فيكون الامر متوقفا على ما يتوقف عليه، و الى هذا اشار بقوله: «لاستحالة اخذ ما لا يكاد يتاتى الّا من قبل الامر بشي ء» و هو قصد امتثال الامر، فانه لا يتأتى و لا يتحقق قصد امتثال الامر بالصلاة الّا بعد تحقق الامر بالصلاة- مثلا- فمثل هذا لا يعقل اخذه «في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا او شطرا» كما عرفت بيانه.

ص: 378

إتيانها بقصد امتثال أمرها (1).

و توهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، و إمكان الاتيان بها بهذا الداعي، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة، و التمكن من

______________________________

(1) ظاهر هذا العبارة انها تفريع على ما ذكره من الاستحالة، و انه اذا لم تكن نفس الصلاة من دون اخذ قصد الامتثال متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال امرها، لعدم معقولية الامر بها كذلك، إلّا انه يمكن ان يشير الى وجه آخر من الاستحالة ذكره في حاشيته على الرسائل.

و حاصله: انه كما يلزم الدور في مقام تعلق الامر في افق تحققه و ثبوته، و هو ما اشار اليه بقوله: «لاستحالة اخذ ما لا يكاد يتاتى ... الى آخره»- كذلك يلزم تحقق الدور و غائلته في مقام الامتثال.

و توضيحه: ان الامر في مقام كونه فعليا و محركا للعبد تتوقف فعليته على تحقق موضوعه، مثلا: الامر باكرام زيد لا يكون فعليا الّا اذا كان زيد متحققا، و الامر بشرب الدواء لا يكون فعليا الّا اذا كان الدواء متحققا، فتتوقف فعلية الامر بالصلاة الماخوذ فيها قصد امتثال الامر على تحقق ما هو موضوع للامر و هو الصلاة و قصد امتثال الامر، و لا يكون قصد امتثال الامر ممكن التحقق الّا بعد تحقق نفس الامر حتى يكون له قصد الامتثال، فتتوقف فعلية الامر على نفسه و هو الدور، فلذا قال (قدس سره): «فما لم تكن نفس الصلاة» من دون قصد الامتثال «متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها» و امتثالها «بقصد امتثال امرها»، اما اذا كانت الصلاة مأخوذا فيها قصد الامتثال فلا يكون الامر بها فعليا لتوقف فعليته على قصد الامتثال المتوقف قصد الامتثال على نفس الامر و هو الدور.

ص: 379

إتيانها كذلك، بعد تعلق الامر بها، و المعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر (1)، واضح

______________________________

(1) توضيح هذا التوهم ان الدور الذي اشار اليه المصنف انما يلزم حيث يكون الماخوذ في الصلاة قصد امتثال هذا الامر الشخصي الذي تعلق بها، اما اذا لم يكن الماخوذ فيها هو قصد امتثال هذا الامر الشخصي، بل الماخوذ في الصلاة هو قصد امتثالها بداعي الامر، و الملحوظ هو طبيعة الامر لا هذا الامر الشخصي حتى نبتلي بالدور المذكور.

و تصور الصلاة مقيدة بقصد اتيانها بداعي طبيعة الامر ممكن في مرحلة تصورها كذلك، فاذا تصورناها كذلك يتعلق بها الامر الشخصي بها مقيدة بداعي الامر، لأن الماخوذ فيها ليس قصد امتثاله بخصوصه حتى يلزم الدور، بل قصد امتثالها بامر ما، و بعد تصورها كذلك و تعلق الامر بها يستطيع المكلف ان ياتى بها بداعي هذا الامر الشخصي الذي تعلق بها مقيدة بداعي الامر.

و استشعر هذا المتوهم بايراد يرد عليه فدفعه.

و حاصل الايراد: انه يلزم المحذور من ناحية القدرة، و بيانه: ان الامر الفعلي لا يتعلق بشي ء الّا اذا كان مقدورا، و هذه الصلاة التي تصورناها مقيدة بقصد الامر ليتعلق بها هذا الامر الشخصي غير مقدور اتيانها بداعي الامر قبل تعلق هذا الامر الشخصي بها، و انما يمكن اتيانها بداعي الامر بعد تعلق هذا الامر الشخصي بها فيقصده المكلف في مقام الامتثال، فهو انما يستطيع قصده بعد تعلقه، ففي حال التعلق الصلاة المقيدة بقصد الامر غير مقدورة.

فاجاب عنه: بان القدرة التي هي شرط في فعلية التكليف هي القدرة في ظرف الامتثال، لا في ظرف التعلق، و المفروض انه في ظرف الامتثال يستطيع المكلف من اتيانها بقصد الامر، و يقدر ان يقصد اتيانها بداعي هذا الامر الشخصي الذي تعلق بها، و قد اشار الى ما ذكرنا من امكان تصورها مقيدة بقصد الامر و تعلق الامر بها

ص: 380

الفساد (1)، ضرورة أنه و إن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان، إلا أنه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها، لعدم الامر بها، فإن الامر

______________________________

كذلك بقوله: «و توهم امكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر و امكان الاتيان بها بهذا الداعي» بعد تعلق الامر بها «ضرورة امكان تصور الامر بها مقيدة» الى قوله: «و المعتبر من القدرة عقلا ... الى آخره» و بهذا اشار الى الجواب عما استشعر من الاشكال في ناحية القدرة.

(1) هذا خبر لقوله: و توهم.

و بيان الجواب عن هذا التوهم انه لا نقول إن تصور الصلاة مقيدة بقصد الامر كما تصوره هذا المتوهم غير ممكن، بل هو ممكن، و لا نقول: إنه لا بد من القدرة في حال تعلق التكليف و لكن مع ذلك لا قدرة عليها في حال الامتثال، لوضوح ان هذا الامر الشخصي انما تعلق بالصلاة التي قصد بها امتثال الامر، فلا بد و ان يكون هناك امر قد تعلق بالصلاة غير هذا الامر الشخصي، و المفروض انه لا امر واقعا غير هذا الامر الشخصي، و انما كان هناك صرف تصور صلاة تؤتى بقصد امرها، فهذا الامر الشخصي يدعو الى صلاة تؤتى بقصد الامر، و حيث لا امر واقعا الّا هذا الامر الشخصي فمتعلق هذا الامر الشخصي لا يمكن امتثاله، لأن هذا الامر الشخصي انما يدعو الى الشي ء الذي تعلق به، و المفروض ان متعلقه هو الصلاة المأتي بها بقصد الامر، و المفروض ايضا انه ليس هناك امر واقعي، و الموجود ليس إلّا صرف تصور صلاة تؤتى بقصد الامر، و ليس هناك امر آخر قد تعلق بالصلاة حتى يكون هذا الامر الشخصي يدعو الى دعوة ذلك الامر، فالامر المتعلق بالصلاة المقيدة بقصد الامتثال كما تصورها هذا المتوهم لا يمكن امتثاله، لانه انما يكون ممكن الامتثال حيث يكون للصلاة امر غير هذا الامر، و المفروض انه ليس هناك امر آخر غير هذا الامر الشخصي، فهذا الامر الشخصي لا يصلح لأن تؤتى الصلاة بقصد امتثال نفسه، لأنه لم يتعلق بالصلاة التي يقصد بها امتثال نفسه، و انما تعلق بالصلاة المقيدة بأمر،

ص: 381

حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الامر، و لا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.

إن قلت نعم، و لكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورا بها بالامر بها مقيدة (1).

قلت: كلا لأن ذات المقيد لا تكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب

______________________________

و الامر لا يدعو الّا الى الذي تعلق به، و ما تعلق به لا أمر له واقعا حتى يقصد امتثاله، فالمتعلق لهذا الأمر الشخصي على ما تصوره هذا المتوهم لا قدرة على امتثاله، و لذا قال (قدس سره): «و ان كان تصورها كذلك بمكان من الامكان الّا انه لا يكاد يمكن الاتيان بها»: أي الاتيان بالصلاة المقيدة بداعي الامر «بداعي امرها لعدم الامر بها» لا واقعا لفرض انه لم يكن هناك امر آخر حتى يقصد، و هذا الامر الشخصي لم يتعلق بالصلاة المقيدة بقصد امتثال نفسه حتى يستطاع قصد امتثاله، فلا يمكن امتثال هذا الامر الشخصي، و لذا قال: «فان الامر»: أي هذا الامر الشخصي «حسب الفرض تعلق بها»: اي بالصلاة «مقيدة بداعي الامر» و المفروض انه ليس هناك امر آخر «و لا يكاد يدعو» هذا «الامر الّا الى ما تعلق به» و ما تعلق به لا امر له واقعا و هو لم يتعلق بالصلاة غير المقيدة حتى يستطاع قصد امتثاله نفسه، بل على الفرض انه تعلق بالصلاة المقيدة، و لا يدعو الامر الّا الى ما تعلق به «لا الى غيره»: أي الى غير ما تعلق به.

(1) و حاصله انه صحيح لا يمكن قصد امتثال الامر الشخصي المتعلق بالمجموع من الصلاة و قيدها، إلّا انه بعد تعلقه بالصلاة و قيدها صار لنفس الصلاة حصة من هذا الامر المتعلق بالمجموع فيقصد امتثال هذا الحصة من الامر المتعلقة بالصلاة، و لا يلزم في قصد الامتثال الموجب للتقرب قصد امتثال الامر المتعلق بالمجموع.

ص: 382

بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة (1).

إن قلت: نعم لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، و أما إذا أخذ شطرا، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد، يكون متعلقا للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالاسر، و يكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل، و يصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه (2).

______________________________

(1) حاصل الجواب ان المقيد و ان كان ينحل الى ذات المقيد و هو الصلاة و تقيدها بقصد الامتثال، إلّا ان المدار في الوحدة و التعدد كيفية تعلق الامر، فان الامر المتعلق بالمقيد بحسب مقام لحاظه و تعلق الامر به لم يلحظ الّا المقيد بما هو مقيد، فالملحوظ شي ء واحد و هو المقيد بما هو مقيد، و لم يلحظ في مقام تعلق الامر ذات المقيد و التقيد حتى يكون لذات المقيد بما هي حصة من تعلق الامر المتعلق بالمجموع، فانه لم يكن في مقام تعلق الامر مجموع اشياء حتى يكون لكل واحد منها شي ء من الامر المتعلق بالمجموع، فليس هناك أمر بذات المقيد حتى يمكن ان يقصد امتثاله. و هذا مراده من قوله: «فان الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب».

(2) حاصله: ان ما ذكرت: من ان الأمر بالمقيد ليس لذات المقيد فيه شي ء من الامر المتعلق بالمقيد بما هو مقيد، فليس لذات الصلاة بنفسها نحو من تعلق الامر حتى يمكن اتيانها بقصد امتثاله، انما يتم هذا فيما اذا اخذ قصد الامتثال في الصلاة بنحو القيدية، فيكون نفس قصد الامتثال خارجا، و تقيد الصلاة به داخلا، كسائر القيود التي تؤخذ في المقيدات كالطهارة الماخوذة في الصلاة، فان المامور به هو الصلاة عن طهارة، اما الطهارة بنفسها فهي خارجة عن الامر المتعلق بالصلاة المقيدة بالطهارة.

و اما اذا اخذ قصد الامتثال بنحو الجزئية: بان يكون المطلوب مجموع شيئين:

الصلاة و قصد الامتثال، فالمأمور به ذو جزءين: الصلاة جزء و قصد الامتثال جزؤه الآخر فلا يتم ما ذكر، لأن نفس الصلاة على هذا تكون بنفسها متعلقة للامر المتعلق

ص: 383

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري، فإن الفعل و إن كان بالارادة اختياريا، إلا أن إرادته حيث لا تكون بإرادة أخرى، و إلا لتسلسلت ليست باختيارية، كما لا يخفى.

إنما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، و لا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال، بداعي امتثال أمره (1).

______________________________

بها و بالجزء الآخر، لما سيأتي توضيحه في مقدمة الواجب ان الاجزاء ليس لها امر غيري، لكنه لها حصة من تعلق الأمر المتعلق بالمجموع و ان كان الامر واحدا لكنه منبسط على المجموع، فلكل جزء من اجزاء المامور حصة من تعلق هذا الامر الواحد المنبسط على جميعها، و اذا كان للجزء هذا النحو من الامر يمكن اتيانها بداعي ما لها من الامر الذي تعلق بالمجموع، و يكفي في اتيانها بقصد القربة اتيانها بقصد هذا الامر المتعلق بالمجموع بما لها من هذا الامر المتعلق بالمجموع، و لذا قال (قدس سره): «يكون متعلقا للوجوب»: أي الصلاة تكون بنفسها مما تعلق بها الامر «إذ المركب» الذي يكون متعلقا للامر «ليس الانفس الأجزاء بالاسر و» حينئذ «يكون تعلقه بكلّ»:

أي يكون تعلق الامر بكل جزء من اجزاء المركب «بعين تعلقه بالكل» المركب من هذه الاجزاء، و حينئذ يمكن ان يؤتى بالصلاة بقصد امتثالها كما عرفت.

(1) يتضمن كلامه جوابين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «مع امتناع ... الى آخره»، و حاصله: انه اذا كان قصد الامتثال مأخوذا بنحو الجزئية يكون هو ايضا مامورا به و قصد الامتثال ليس إلا أرادة الاتيان بالاجزاء الأخر، و على هذا تكون نفس ارادة الاتيان متعلقة للامر و مرادة ايضا، و من الواضح انه لا بد في كل ما كان متعلقا للامر ان يكون امرا اختياريا، و كل شي ء غير نفس الارادة يكون اختياريا بالارادة، اما نفس الارادة و الاختيار فليس باختياري، و اذا كان الاختيار و الارادة متعلقين للامر يلزم تعلق

ص: 384

.....

______________________________

الامر بما هو غير اختياري، لوضوح ان نفس الارادة و الاختيار ليس من الامور الاختيارية، لانه لو كانا اختياريين للزم التسلسل لما عرفت: من ان الاختياري ما كان له ارادة، فكون الارادة اختيارية لازمه ان يكون للارادة ارادة، فننقل الكلام الى تلك الارادة و نقول: هل هي اختيارية ام لا؟ فان كانت اختيارية يلزم ان يكون لها ارادة اخرى لما عرفت: من ان الاختياري ما كان له ارادة و هلمّ جرّا، فتتسلسل الارادات الى ما لا نهاية، و اذا لم تكن هذه الارادة الثانية اختيارية كانت الارادة الاولى التي تعلق الامر بها ايضا غير اختيارية بحكم تساوي الامثال، و لذا قال (قدس سره): «فان الفعل» غير الارادة «و ان كان بالارادة» يكون «اختياريا إلّا ان ارادته» لا يعقل ان تكون اختيارية «حيث» انه لا تكون اختيارية الّا اذا كانت لها إرادة اخرى و «لا تكون» الارادة «بارادة اخرى و الّا لتسلسلت» لما عرفت:

من نقل الكلام اليها و هلمّ جرّا.

قوله: «ليست باختيارية» هذا خبر قوله: «إلّا ان ارادته».

الجواب الثاني: ما اشار اليه بقوله: «انما يصح ... الى آخره» و توضيحه: ان الامر المتعلق بمجموع اجزاء انما يصح اتيان بعض اجزائه بداعي الأمر المتعلق بالمجموع حيث يمكن ان يكون هذا الامر المتعلق بالمجموع داعيا و باعثا بالفعل الى جميع الاجزاء الذي تعلق بها، فانه حيث لا يكون له قابلية الدعوة إلى بعض اجزائه لا يكون له قابلية الدعوة إلى اجزائه الآخر، لأن دعوته إلى بعض اجزائه انما تكون حيث له دعوة إلى كل اجزائه، فان المركب الارتباطي لا يعقل ان يدعو إلى بعض اجزائه دون بعضها، و دعوة هذا الامر المتعلق بالصلاة و قصد الامتثال لا يعقل ان يكون داعيا إلى جميع ما تعلق به، لأن من جملة ما تعلق به نفس دعوته و نفس قصد القربة، و لا يعقل ان يكون للدعوة دعوة و لا لقصد القربة قصد القربة، فان القصد القربي ليس له قصد قربي، و نفس الدعوة لا يعقل ان يكون لها دعوة، للزوم كون الشي ء علة لعليته، فان نفس الامر حيث انه بداعي جعل الداعي فله العلية و الدعوة

ص: 385

إن قلت: نعم لكن هذا كله إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد، و أما إذا كان بأمرين: تعلق أحدهما بذات الفعل، و ثانيهما بإتيانه بداعي أمره، فلا محذور أصلا، كما لا يخفى. فللأمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه و مقصده، بلا منعة (1).

______________________________

الى ما تعلق به، فاذا كان علة لدعوته كان علة لنفس عليته، و لذا قال (قدس سره):

«و لا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال امره».

(1) و محصله: انه اذا كان قصد الامتثال مأخوذا في الصلاة بامر واحد يتعلق بالصلاة بقصد امرها: بان يقول: صلّ بقصد امتثال امر الصلاة فانه يلزم الدور كما تقدم، سواء اخذ على نحو الشرطية او الجزئية اذا كان الماخوذ قصد امتثال هذا الامر الشخصي المتعلق بالصلاة، و يلزم عدم امكان امتثال الصلاة اذا لم يكن قصد الامتثال الماخوذ في الصلاة هو قصد امتثال شخص هذا الامر، بل كان بنحو ما تصور في التوهم لعدم الامر بناء على اخذه بنحو الشرطية، و عدم امكان امتثال البعض الّا اذا امكن امتثال المجموع، و بعض المجموع لا يمكن امتثاله لمحالية اتيان قصد القربة بداعي قصد القربة كما مر تفصيله.

و اما اذا كان بامرين: بان يتعلق امر بنفس الصلاة فيقول الآمر: صلّ، ثم يأمر ثانيا فيقول: ائت بقصد الامر في الصلاة، فان كلا الامرين توصليان، الاول تعلق بنفس الصلاة، و الثاني تعلق بقصد القربة و قصد القربة بذاته تعبدي.

و نتيجة هذين الامرين هو اتيان الصلاة بقصد القربة، لأن الصلاة من العبادات التي لا يترتب الغرض الّا باتيانها بقصد القربة، فالغرض حيث يدعو الى اتيان الصلاة بقصد القربة و لا يمكن اخذ قصد القربة في الصلاة بامر واحد، فيتوصل الآمر الى غرضه بامرين: احدهما يتعلق بالصلاة، و الآخر بقصد القربة فيها، و لا يلزم محذور اصلا من المحاذير التي تقدم ذكرها.

ص: 386

قلت: مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، كغيرها من الواجبات و المستحبات، غاية الامر يدور مدار الامتثال وجودا و عدما فيها المثوبات و العقوبات، بخلاف ما عداها، فيدور فيه خصوص المثوبات، و أما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة و مطلق الموافقة (1).

______________________________

(1) حاصله يتضمن جوابين عن اخذ قصد القربة بتوسط امرين يتعلق احدهما بذات الفعل، و الثاني باتيانه بقصد الامتثال و القربة.

الجواب الاول: ان ما ذكرتموه هو صرف امكان في اخذ قصد القربة في متعلق الاوامر العبادية، اما وقوعا فلا تحقق له و لا اثر منه في الاوامر الوجوبية المتعلقة بالعبادات، و ليس في الاوامر العبادية الوجوبية الّا امر واحد، كغيرها من الاشياء غير العبادية و هي الواجبات التوصلية او المستحبات العبادية، و لم يرد في لسان الشارع امران: امر متعلق بذات العبادة، و امر متعلق باتيانها بقصد امتثال امرها، و الذي ورد في القرآن و السنة صلوا، و زكوا، و صوموا، و حجوا و هو امر واحد متعلق بها و ليس هناك امران.

ثم استطرد (قدس سره) إلى ذكر الفرق بين الاوامر التوصلية و الاوامر العبادية بما حاصله: انه بين الامتثال في الواجبات التوصلية و الواجبات العبادية فرقان:

الاول: هو ان الواجبات التوصلية يمكن ان يتاتى فيها الاطاعة الموجبة لاستحقاق الثواب و هي اتيانها بنحو يضاف اليه تبارك و تعالى، و هي الاطاعة الموجبة للمدح و كون العبد مؤديا وظيفة العبودية، و قائما بما هو عدل في مراسم الرقيّة، و هو اتيانها بقصد امتثال امرها لا بقصد آخر، و هذا هو معنى الاطاعة بمعنى ما يوجب استحقاق المدح و الثواب.

و الثاني: انه يمكن ان يتحقق فيها الاطاعة بمعنى المؤمّن من تبعة العقاب فقط من دون استحقاق للمدح و الثواب، و هو اتيان متعلق الامر فيها لا بداعي امتثال الامر بل بداع آخر، كمثل ان يدفن الميت لا بقصد امتثال امر اللّه بدفنه، بل اما لمحبته

ص: 387

.....

______________________________

للميت فيستره و يواريه، او للفرار عن فساده و رائحته، و حيث ان الغرض فيها يحصل بمجرد اتيان متعلق الامر من دون قصد القربة فلا محالة يسقط الامر لتحقق الغرض منه، و لا عقوبة على المكلف لاتيانه بمتعلق الامر، فان العقوبة مترتبة على ترك ما أمر به المولى، و المفروض انه لم يترك، و لذا قال (قدس سره): «و اما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة و مطلق الموافقة»: أي ترك مطلق الموافقة، و المراد من الاطاعة هنا هي الاطاعة بالمعنى الثاني المؤمّن من تبعة العقاب.

و اما الواجبات العبادية فليس لها نحوان من الامتثال، بل ليس لها الّا امتثال واحد، لأن الغرض مترتب فيها على اتيانها بقصد القربة، فحصول الغرض فيها و الاطاعة بمعنى ما يوجب المدح و الثواب متلازمان، و ليس لها اطاعة بمعنى صرف المؤمّن من تبعة العقاب، لأن هذه الاطاعة انما تكون فيما كان مترتبا على ذات المتعلق، لا على اتيانه بقصد القربة. نعم، في التوصليات يتاتى ذلك كما عرفت، ففي التوصليات ربما تكون مثوبة و هو فيما اذا اتى بها بقصد امتثال امرها، و ربما تكون لا مثوبة و لا عقوبة و هو فيما اذا اتى بها لا بقصد القربة، فلا مثوبة لعدم اضافته الى اللّه و لا عقوبة لحصول الغرض و سقوط الامر.

و اما العقوبة فلا تترتب الّا على الترك و عدم اتيان متعلق الامر.

و اما العبادات فامرها دائر بين امرين: اما مثوبة و هو فيما اتى بها محصلة للغرض و هو اتيانها بقصد امتثال الامر، و اما عقوبة و هو اذا لم يات بمتعلق الامر، و ليس فيها وسط: أي لا مثوبة و لا عقوبة، و لذا قال (قدس سره): «غاية الامر»: أي في الواجبات العبادية «يدور مدار الامتثال» الذي لا يحصل الّا باتيانها بقصد امرها «وجودا و عدما فيها المثوبات و العقوبات» و هذا فاعل يدور «بخلاف ما عداها»:

أي التوصليات «فيدور فيه خصوص المثوبات»: أي يدور مدار قصد الامتثال فيها المثوبات، و لكن ربما تكون لا مثوبة فيها و لا عقوبة كما عرفت.

ص: 388

ان الامر الأول إن كان يسقط بمجرد موافقته، و لو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الامر الثاني، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة و الوسيلة، و إن لم يكد يسقط بذلك، فلا يكاد يكون له وجه، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، و إلا لما كان موجبا لحدوثه، و عليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه، فيسقط أمره هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال (1).

______________________________

(1) و هذا هو الجواب الثاني، و حاصله: انه لا يمكن ان يتوصل الآمر الى تمام غرضه بامرين كما ذكر: امر متعلق بذات العبادة، و امر ثان يتعلق باتيانها بقصد القربة و الامتثال، لأن الامر الأول المتعلق بذات العبادة اما ان يسقط بمجرد اتيان ذات العبادة من دون قصد القربة و يكون حاله حال الامر الثاني المتعلق باتيانها بقصد امرها، فان الامر الثاني لا اشكال في سقوطه بمجرد اتيان متعلقه لأن متعلقه عبادة بذاته، فان قصد الاتيان بداعي الامر هو من العبادات الذاتية لانه مضاف الى اللّه بنفسه، و هذا هو معنى قوله (قدس سره): «كما هو قضية الامر الثاني»: أي الامر المتعلق بنفس قصد القربة، و على هذا: أي اذا كان الامر الأول يسقط بمجرد اتيان ما تعلق به و هو ذات العبادة فلا محالة لا يبقى مجال لامتثال الامر الثاني، مع حصول الموافقة للامر الأول و سقوطه باتيان ما يوافق امره الذي تعلق به لأن الامر الثاني على الفرض متمم للامر الأول، و قد فرضنا سقوط الامر الاول بموافقته فلا يبقى مجال لتتميمه بالامر الثاني، اذ لا داعي للتتميم مع حصول الموافقة له. هذا اذا كان يسقط الامر الاول بمجرد موافقته باتيان ذات العبادة لا بقصد القربة.

ص: 389

و أما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحة

______________________________

و اما اذا كان الامر الاول لا يسقط بمجرد اتيان ذات ما تعلق به، بل لا بد من اتيانه بقصد القربة و داعي امتثال الامر فلا سبب لعدم سقوطه مع انه قد تعلق بذات العبادة الّا لأن ذات ما تعلق به الامر لا يفي بالغرض الداعي للامر، و ما لم يحصل الغرض الداعي الى الامر لا يعقل سقوط الامر و الّا يلزم الخلف، لأن ما فرض علة للامر وداع له- و هو ترتب الغرض على المامور به- لم يكن علة و لا داعيا، فحينئذ يكون عدم سقوط الامر مع انه قد تعلق بذات العبادة انما هو لعدم حصول الغرض باتيان ذات العبادة، و ان الغرض الداعي للامر بها لا يترتب على نفس ذاتها من دون قصد القربة، و مع معرفة العقل ان هذا الامر المتعلق بذات العبادة لا يسقط بمجرد اتيان ذات العبادة، فلا بد و ان لا يكون توصليا يترتب الغرض فيه على ذات ما تعلق به، بل هو عبادي و الامر العبادي لا بد من قصد امتثاله، لانه به يتم الغرض الداعي الى الامر العبادي، و اذا عرف العقل هذا حكم به و أرشد الى انه لا بد من قصد الامتثال في الامر المتعلق بذات شي ء، و لكن كان لا يسقط بمجرد اتيان ذات ما تعلق به الامر لعدم حصول الغرض بمجرد ذلك، و مع حكم العقل بلزوم قصد القربة لا داعي الى المولى لان يتوسل الى غرضه بامر آخر يتعلق باتيان متعلق الامر الاول بقصد القربة، لاستقلال العقل بلزوم اتيان ما به يحصل غرض المولى و قد فرضنا انه لا يحصل الغرض الّا بقصد القربة.

فنتيجة ذلك ان الامر العبادي يتعلق بذات العبادة الّا انه لا يسقط بمجرد اتيان متعلقه، لعدم حصول الغرض بذلك، فيستقل العقل بلزوم تحصيل الغرض باتيانه بقصد القربة، و مع اتيانه بقصد القربة يسقط الامر لحصول تمام الغرض، فليس في العبادات الّا امر واحد كالواجبات التوصلية، إلّا انه فيها يسقط بمجرد اتيان المتعلق و في العبادات لا يسقط الامر الّا بقصد الامتثال و القربة، تحصيلا للغرض و هو بحكم العقل و استقلاله فيه لا بامر آخر من الشارع.

ص: 390

أو له تعالى، فاعتباره في متعلق الامر و إن كان بمكان من الامكان، إلا أنه غير معتبر فيه قطعا، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال، الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة. تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الاعلام (1).

______________________________

(1) قد عرفت- فيما سبق- ان قصد التقرب اليه تبارك و تعالى يكون بانحاء، منها ما اشار اليه هنا: و هو اتيان الفعل بداعي حسنه، و منها اتيانه بداعي المصلحة.

و لا يخفى ان اخذهما في متعلق الامر العبادي لا يلزم منه المحاذير المذكورة، لانهما لا يتفرعان على قصد الامر، بل عنوان كون الماتي به من الحسن الذي حكم العقل بمدح فاعله و استحقاقه المثوبة عليه لا يتفرع على الامر و لا يتوقف عليه، بل يتوقف على كونه من مصاديق العدل الذي حكم العقلاء بمدح فاعله، و مثله كون المأتي به ذا مصلحة، فان كونه ذا مصلحة مما يتبع ذات الفعل و لا ربط له بالامر و لا يتفرع عليه لتلزم المحاذير المتقدمة، فاخذه في حد ذاته في متعلق الامر العبادي ممكن، إلّا ان هذين الامرين غير معتبرين شرعا في التقرب بالامر العبادي قطعا.

و الدليل على كونهما غير معتبرين قطعا: انهما اما ان يكونا معتبرين تعيينا بمعنى ان قصد الامتثال و الاتيان بداعي الامر لا دخالة له في الامر العبادي، و ان قصد القربة مختص بهما في حصول الغرض عند الشارع، و هذا مقطوع العدم لضرورة حصول الغرض في الامر العبادي اذا قصد اتيانه بداعي امره، غاية الامر: انه لا يمكن اخذه في متعلق امره.

و اما ان يكونا ماخوذين عند الشارع على نحو التخيير بينهما و بين قصد الاتيان بداعي امتثال الامر، و هذا ايضا غير ممكن، لأن المحاذير المذكورة كما ترد على اخذ قصد الامتثال بداعي الامر تعيينا، كذلك ترد فيما اذا اخذ قصد الامتثال بداعي الامر على نحو التخيير بينه و بين غيره من الدواعي، كداعي الحسن و داعي المصلحة، مضافا الى ما عرفت من ان الاتيان بداعي حسن الشي ء انما يتاتى فيما له عنوان

ص: 391

ثالثتها: إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه و لو كان مسوقا في مقام البيان على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه (1).

______________________________

حسن، و هو العبادة الذاتية كتعظيم المولى، اما فيما ليس له هذا العنوان، كمثل جملة من اعمال الحج فلا يتاتى ذلك، و التقرب فيها منحصر بقصد امتثال امرها، و اما اتيانه بداعي المصلحة فكونها من مصاديق القربة محل اشكال لما عرفت: ان الفعل العبادي لا بد من اضافته و نسبته الى المولى، فاما ان يكون مضافا بذاته كتعظيم المولى و هو العبادة الذاتية، أو لاتيانه بعنوان يضاف اليه كداعي امره، و اتيانه بداعي المصلحة ليس عبادة بذاته و لا مضافا اليه.

(1) حاصل هذا الثالث: هو ان التمسك بالاطلاق لنفي اخذ قصد القربة في متعلق الامر فيما اذا شك في دخالته في حصول الاتيان بالمامور به، و امتثاله انما يمكن فيما اذا كان اخذ قصد القربة في متعلق الامر ممكنا، اما اذا كان اخذه في متعلق الامر ممتنعا لما تقدم من المحاذير المذكورة فلا يعقل التمسك بالاطلاق لنفيه، لأن تقابل الاطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة لا تقابل السلب و الايجاب: بمعنى ان تقابلهما تقابل العمى و البصر، لا تقابل البصر و اللابصر، و تقابل العدم و الملكة مشروط بقابلية ما فيه التقابل لهما، فان العمى يقابل البصر، و يكون الموضوع مما لا يعقل ان يجتمعا فيه، و لا ان يرتفعا عنه انما هو في الانسان القابل لأن يكون بصيرا و لان يكون اعمى فلا يعقل ان يكون بصيرا و اعمى و لا يعقل ان لا يكون بصيرا و لا يكون اعمى، بل لا بد اما ان يكون بصيرا، و اما ان يكون اعمى، اما الحجر فلا تقابل للعمى و البصر فيه، لجواز ان لا يكون بصيرا و لا يكون اعمى، لأن العمى ليس هو محض عدم البصر، بل هو عدم البصر مما من شأنه ان يكون بصيرا، فلا يصح ان يقال للحجر اعمى.

ص: 392

فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها (1)، و لا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل

______________________________

نعم البصر و اللابصر متقابلان بتقابل السلب و الايجاب، فلا يعقل ان يجتمعا في أي شي ء من الاشياء، و لا يعقل ان يرتفعا عن أي شي ء من الاشياء، فالحجر يصح ان يقال: لا بصر له و ان كان لا يصح ان يقال انه اعمى كما عرفت فان اللابصر هو سلب البصر فقط من دون اخذ القابلية، و الحجر لا بصر له، و الاطلاق ليس هو صرف عدم القيد حتى لا يمكن ان يخلو عنهما شي ء من الاشياء، لامتناع ان يخلو عن الايجاب أو السلب كل شي ء، بل هو عدم القيد عما من شانه ان يكون له ذلك القيد، فهما متقابلان بتقابل العدم و الملكة فلا بد و ان يكون الاطلاق و هو عدم اخذ القيد فيما يمكن اخذ القيد فيه، و قد ثبت بما مر ان اخذ قصد القربة في متعلق الامر مما لا يمكن اخذه، فلا يعقل ان يكون للكلام الذي لم ياخذ فيه قصد القربة اطلاق به نتمسك، لعدم تقييد متعلق الامر بقصد القربة.

و بعبارة اخرى: ان المتحصل من الاطلاق هو ان نقول: ان المولى لو اراده لبيّنه، و اذا لم يمكن للمولى ان يبينه في متعلق امره فكيف يمكن ان نقول: لو اراده لبيّنه؟

لامكان ان يكون قد اراده و لكنه لا يمكنه ان يبيّنه و ياخذه في متعلق امره، فلو كان المولى في مقام البيان لكل ما يمكن اخذه في متعلق امره و لم يبين اخذ القربة لا نستطيع ان نقول: انه لم يرده، لانه إنما يكون عدم بيانه دليلا على عدم ارادته حيث يمكنه بيانه، اما اذا لم يمكن بيانه باخذه في متعلق امره فلا دلالة لعدم اخذه في متعلق امره على عدم ارادته له واقعا، و لذا قال (قدس سره): «فلا يكاد يصح التمسك به الا فيما يمكن اعتباره فيه».

(1) لا يخفى ان التوصلي و التعبدي من التقسيمات اللاحقة للواجب و هو المادة و متعلق الطلب، و اما الوجوب و هو المستفاد من نفس الهيئة بذاته فلا ينقسم الى التوصلية و التعبدية، لوضوح ان نفس الوجوب في التوصلي و التعبدي لم يختلف

ص: 393

.....

______________________________

حاله، فانه ليس هو الّا طلب متعلقه طلبا يقتضي الالزام بما تعلق به، و هذا المعنى موجود في التوصلي و التعبدي على حد سواء.

نعم متعلق الوجوب و الالزام مختلف، لانه تارة يكون الغرض مترتبا على بيان ذات ما تعلق به الوجوب كدفن الميت، و اخرى لا يكون الغرض مترتبا على صرف ذات ما تعلق به، بل على اتيانه باضافة شي ء اليه و هو كونه بداعي امتثال الامر كغسل الميت و الصلاة عليه.

فاتضح: ان المنقسم الى التوصلي و التعبدي متعلق الوجوب، و هو المستفاد من المادة لا نفس الوجوب المستفاد من الهيئة، فالاطلاق لو صح لكان اطلاقا في ناحية مادة الصيغة لا هيئتها.

و لا يخفى ايضا: ان التوصلي فرد من الواجب: و هو ما كان الغرض مترتبا فيه على ذات المتعلق، و التعبدي فرد آخر من الواجب و هو ما كان الغرض فيه مترتبا على الواجب بقصد امتثال امره، فالتوصلي و التعبدي كلاهما عنوانان ثبوتيان، و الاطلاق لو امكن التمسك به لدل على عدم اخذ قصد القربة فما يثبت به هو عنوان عدمي، و هو عدم اخذ قصد القربة.

و من الواضح: ان العنوان العدمي غير العنوان الثبوتي، و هو عنوان التوصلية و كون الغرض مترتبا على نفس المتعلق الّا انه لما لم يكن لنفس العنوان الثبوتي خصوصية في مقام عمل العامل، و المكلف يكفيه ان القربة غير مأخوذة لدلالة الاطلاق- لو تم- على عدم اخذها، و لا يحتاج إلى اثبات عنوان التوصلية و هو العنوان الثبوتي و يكفي العنوان العدمي في مقام العمل، و لذا تراهم يطلقون التوصلي على ما لم يكن فيه قصد القربة، كما اطلق المصنف التوصلية على الذي لم يؤخذ فيه قصد القربة، فقال- بعد امكان التمسك بالاطلاق لنفي قيد القربة-:

«فانقدح بذلك انه لا وجه لاستظهار التوصلية من اطلاق الصيغة بمادتها»: أي بعد امكان التمسك بالاطلاق لنفي قيد القربة اتضح: ان التوصلية لا يمكن استظهارها

ص: 394

الامر، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها (1)، نعم إذا كان الامر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه، و إن لم يكن له دخل في متعلق أمره، و معه سكت في المقام، و لم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، و إلا لكان سكوته نقضا له و خلاف الحكمة، فلا بد عند الشك

______________________________

من الاطلاق لما عرفت من انهما متقابلان بتقابل العدم و الملكة، فما لا يمكن التقييد به في متعلق الامر لا يمكن التمسك لنفيه بالاطلاق، و قد اشار بقوله: «بمادتها» الى ما ذكرناه اولا: من ان الاطلاق لو تم لكان اطلاقا في مادة الامر لا في صيغته بنفسها كما عرفت.

(1) الاصطلاح في نية الوجه هو قصد عنوان الوجوب و الاستحباب: أي انه بعد ما عرفت من عدم امكان اخذ قصد القربة في متعلق الامر اتضح: انه لا يمكن التمسك بالاطلاق لنفي قيد الوجه ايضا، لأن الوجه زيادة وصف في قصد القربة، و اذا لم يمكن اخذ الموصوف فلا يعقل التمسك بالاطلاق لنفيه، فبطريق اولى لا يمكن التمسك بالاطلاق لنفي الوصف المتصف به، و لبداهة ان السبب الداعي لعدم امكان اخذ قصد القربة هو كونه مما يتوقف على الامر، و قصد الوجوب ايضا كذلك، لأن قصد الوجه هو اتيان متعلق الامر بقصد امتثال امره الوجوبي و توقف قصد امتثال الوجوب على الوجوب واضح، و انه من متفرعات تحقق الامر في افق تحققه، فلا يعقل اخذه في متعلق الامر فلا يمكن التمسك بالاطلاق لنفيه كما عرفت، و لذا قال:

«و لا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه»: أي انه انقدح مما ذكرنا في عدم امكان التمسك بالاطلاق لنفي قيد قصد القربة انه لا يمكن استظهار عدم اعتبار قصد الوجه في متعلق الامر الذي هو كقصد القربة من متفرعات ثبوت نفس الامر بتوسط التمسك بالاطلاق، و هذا معنى قوله: «مما هو ناشئ من قبل الامر من إطلاق المادة في العبادة» لما عرفت: من ان الإطلاق على فرضه فهو اطلاق مادة الصيغة لا هيئتها.

ص: 395

و عدم إحراز هذا المقام، من الرجوع إلى ما يقتضيه الاصل و يستقل به العقل (1).

______________________________

(1) توضيحه ان الاطلاق تارة يكون مجراه متعلق الامر كما لو قال المولى: اعتق رقبة، و احتملنا ارادته خصوص المؤمنة يصح التمسك بالاطلاق لعدم اخذ قيد المؤمنة: بان نقول: لو اراده لجعله في قيود المامور به، و يكفي في هذا المقام احراز ان المولى في مقام بيان المامور به و اجزائه و قيوده اما بالقطع أو بالاصل، و لا يحتاج الى احراز كون المولى في مقام بيان جميع ما يتعلق بغرضه و هذا يسمى بالاطلاق اللفظي فيما يؤخذ في متعلق الامر و قد عرفت ان هذا الاطلاق لا مجرى له في المقام.

و اخرى: يكون مجرى الاطلاق ما يتعلق بغرض المولى لا ما يتعلق بمتعلق امره، و هذا الاطلاق يسمى بالاطلاق المقامي، فانه بعد الفراغ عن عدم امكان التمسك بالاطلاق لنفي قيد القربة في متعلق الامر يمكن التمسك بالاطلاق المقامي لنفيها.

و حاصله: انه اذا احرزنا اما بالقطع او بالاصل ان المولى في مقام بيان جميع ما يتعلق بغرضه سواء امكن اخذه في متعلق امره ام لا، فان ما لا يمكن اخذه في متعلق الامر يمكن بيانه للمولى و الاشارة اليه: بان يقول: متعلق امري الصلاة، و لكن الغرض فيها لا يحصل الّا بقصد القربة، فاذا احرزنا ان المولى في مقام بيان جميع ما يتعلق بغرضه، و مع ذلك سكت و لم يبين دخالة قصد القربة في غرضه المترتب على ما تعلق به الامر نقول: لا بد و ان يكون الواجب الذي تعلق به الامر توصليا لا دخالة لقصد القربة فيه، و الّا لكان سكوت المولى مخلا بغرضه و منافيا للحكمة، فيمكن اثبات التوصلية و نفي العبادية بواسطة هذا الاطلاق المسمى بالاطلاق المقامي، و هذا الاطلاق كما عرفت يتوقف على احراز كون المولى في مقام بيان تمام ما له دخالة في ترتب غرضه، فاذا شككنا في دخالة قصد القربة و لم نستطع نفيها بواسطة هذا الاطلاق المقامي لانا لم نحرز لا بالقطع و لا بالاصل كونه في مقام بيان جميع ما له دخل في ترتب غرضه، و مع ذلك نحتمل قصد القربة في الغرض فلا بد من الرجوع

ص: 396

فاعلم: أنه لا مجال هاهنا إلا لاصالة الاشتغال، و لو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الامر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين، و ذلك لأن الشك هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب مع الشك و عدم إحراز الخروج عقابا بلا بيان، و المؤاخذة عليه بلا برهان، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة، و عدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة (1)، و هكذا الحال في كل ما

______________________________

الى ما تقتضيه الاصول و ما يستقل به العقل من انه هل هو مجرى البراءة عقلا او الاشتغال؟

(1) توضيح مرامه ان البراءة على قسمين: براءة عقلية: و هي قبح العقاب بلا بيان، و براءة شرعية: و هي رفع ما لا يعلمون، و كلامه فعلا في امكان جريان البراءة العقلية، و ياتي الكلام في امكان جريان البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع.

و مختاره عدم امكان جريان البراءة العقلية هنا، و ان قلنا بجريانها في الاقل و الاكثر الارتباطيين، و ان قاعدة الاشتغال عقلا هنا محكمة، و هي ان شغل الذمة اليقيني بالتكليف يستدعي الفراغ اليقيني عن عهدة التكليف.

و بيانه: انه لو قلنا بجريان البراءة العقلية في الاقل و الاكثر الارتباطيين فانما هو لأنا نقول: بانحلال التكليف هناك الى تكليف معلوم بالتفصيل و هو المتعلق بالاجزاء او الشرائط المعلومة، و الى تكليف مشكوك و هو المحتمل تعلقه بالاجزاء المشكوك في جزئيتها للمامور به، فيكون العقاب على الاجزاء المشكوكة عقابا بلا بيان، و لا حكم للعقل بوجوب الفراغ اليقيني عن التكليف المعلوم بالاجمال المردد بين الاقل و الاكثر، بعد انحلال هذا التكليف المعلوم بالاجمال الى معلوم تفصيلا و مشكوك بدوا فتجري البراءة، فلا شك في امتثال ما تعلق به الامر لغرض الاتيان به و لا موجب لامتثال الجزء المشكوك لعدم ثبوت الامر به، فالشك في الامتثال و عدمه في الاقل

ص: 397

.....

______________________________

و الاكثر الارتباطيين مسبب عن كون المامور به واسعا اكثر مما علمناه أو انه ضيق و هو خصوص الاجزاء المعلومة بالتفصيل، فالتكليف بالمامور به ينحل الى تكليف فعلي بالاجزاء المعلومة و الى تكليف غير فعلي على فرض ثبوته واقعا بالنسبة الى الاجزاء المشكوكة، فالقول بالبراءة انما هو لانحلال المامور به و ما هو متعلق التكليف الى معلوم بالتفصيل و مشكوك.

اما في مقامنا و هو الشك في دخالة قصد القربة فلا يعقل رجوعه الى الشك في سعة المامور به و ضيقه، لما عرفت من عدم امكان اخذ قصد القربة متعلقا للتكليف، فلا مجال للانحلال هنا بعد العلم بوجود تكليف فعلي تمام متعلقه و المامور به معلوم، و المشكوك دخالة شي ء فيه لا يعقل ان يكون متعلقا للتكليف، فلا معنى لأن يتاتى الانحلال و ان يقال: التكليف بما وصل معلوم، و التكليف بما لم يصل مشكوك فالعقاب عليه بلا بيان، لوضوح ان المشكوك هنا لا يعقل ان يكون متعلقا للتكليف فلا وجه للانحلال له حتى يتأتى مجرى البراءة، و هذا هو الفرق بين مقامنا و الشك في الاقل و الاكثر الارتباطيين، فحينئذ في المقام يتمحض الشك في الخروج عن عهدة التكليف الذي قامت الحجة عليه و المعلوم فيه جميع ما يمكن اخذه في متعلق الامر، و المشكوك دخالة شي ء في الغرض المترتب على هذا الذي قامت الحجة عليه و علم التكليف به، و ان الامر المتعلق بالصلاة- مثلا- بعد معلومية تمام اجزائها و شرائطها هل يسقط باتيان جميع هذه الاجزاء و الشرائط من دون قصد القربة ام لا؟ و بعد شغل الذمة يقينا بمثل هذا التكليف يحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني عن هذا التكليف، و لا يحصل الفراغ اليقيني الّا باتيانه بقصد القربة فلا بد من اتيانه للفراغ اليقيني.

و لا نقول: ان متعلق التكليف حقيقة هو تحصيل الغرض و المفروض انه لا يحصل إلّا بقصد القربة فلا بد من اتيانه، لوضوح فساد هذا المسلك، لأن الغرض ليس هو متعلق التكليف حتى يلزمنا العقل بالفراغ عنه، بل متعلق التكليف هو نفس هذه

ص: 398

.....

______________________________

الاجزاء و الشرائط، و الغرض انما هو سبب لتعلق التكليف بها، و نحن في مقام الامتثال ملزمون باتيان متعلق التكليف، لا بتحصيل الاسباب و الاغراض الداعية اليه، فلا تكليف به حتى نلزم بالفراغ منه، فما هو متعلق التكليف و يلزم العقل باتيانه قد اتي به و لا شك فيه، و ما ليس بمتعلق للتكليف لا يلزم العقل باتيانه و ان شككنا في حصوله.

و لا يرد هذا على ما ذكرنا فانا قلنا ان متعلق التكليف هو نفس هذه الاجزاء و الشرائط، و بعد الاتيان بها كما هي متعلقة للتكليف نشك في سقوط التكليف بها، لأن التكليف بالشي ء لا يسقط الّا اذا حصل الغرض المترتب عليه، و مع احتمال دخالة قصد القربة لا يترتب الغرض، اذ المفروض عدم اتيانها بقصد القربة، فيكون التكليف بنفس هذه الاجزاء غير ساقط و ان اتى بها، و شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني اما بالقطع او بالمؤمّن من ناحية التكليف، و لا قطع و لا مؤمّن لأن المؤمّن اما الاطلاق و المفروض لا اطلاق، و اما البراءة بانحلال متعلق التكليف و لا يتاتى الانحلال هنا، و حيث لا قطع بالفراغ و لا مؤمّن من ناحية التكليف فلا بد من الفراغ اليقيني باتيان قصد القربة، و لا يكون العقاب على هذا التكليف المعلوم بلا بيان مع عدم القطع بالفراغ منه، و لا مؤمّن يقتضي الاكتفاء بما اتى به من اجزائه و شرائطه و يؤمّن من تبعات هذا التكليف و العقاب عليه، فلا يقبح العقاب على مثل هذا التكليف المعلوم بعد عدم احراز الفراغ عنه و الخروج عن عهدته، و لذا قال (قدس سره): «لا مجال هاهنا الّا لاصالة الاشتغال و لو قيل بالبراءة فيما إذا دار الامر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين» لما عرفت من امكان الانحلال هناك دون المقام.

إلّا انه لا يخفى عليك ان هذا انما يتم حيث نقول بعدم امكان اخذ قصد القربة في الامر، لا بامر واحد و لا بامرين، اما لو قلنا بامكانه بامرين فانه يكون هنا مجال للانحلال و لجريان البراءة، لأن جريان البراءة لا يشترط فيها لزوم كون المشكوك مما يمكن اخذه في متعلق امر واحد، لوضوح انها مربوطة بامكان البيان، و اذا فرضنا

ص: 399

شك دخله في الطاعة، و الخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه و التمييز (1).

نعم: يمكن أن يقال إن كل ما يحتمل بدوا دخله في امتثال أمر، و كان مما يغفل عنه غالبا للعامة، كان على الآمر بيانه، و نصب قرينة على دخله واقعا، و إلا لاخل بما هو همّه و غرضه، و أما إذا لم ينصب دلالة على دخله، كشف عن عدم دخله، و بذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه و التمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين و لا أثر في الاخبار و الآثار، و كانا مما يغفل عنه العامة، و إن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جيدا (2).

______________________________

امكان دخالة قصد القربة بامرين فالبيان يكون ممكنا، و مع امكان البيان و لا بيان- كما هو المفروض- تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان و هي البراءة العقلية.

(1) بعد ما عرفت ان القاعدة تقتضي الاشتغال فيما شك في دخالته في موافقة الماتي به للمامور به بحيث يسقط التكليف به، و كان ذلك المشكوك مما لا يمكن اخذه في متعلق الامر، و لا ينحل الى تكليف معلوم بالتفصيل و تكليف مشكوك، فلا يمكن التمسك بالاطلاق و لا تجري فيه البراءة، بل قاعدة الاشتغال محكمة فيه كمثل قصد القربة- تعرف ايضا ان الحال كذلك في كل شي ء هو كقصد القربة مما له دخالة في الغرض و لا يمكن اخذه في متعلق التكليف، كقصد الوجه و هو قصد الوجوب و الاستحباب، او كقصد التمييز و هو قصد الادائية و القضائية مما يتفرع على الامر، و انه اذا شك في دخالتهما في ترتب الغرض و احتمل عدم سقوط التكليف الا بقصدهما كنفس قصد القربة، فلا بد من الاتيان بهما للزوم الفراغ اليقيني، و حكم العقل بلزوم الطاعة التي بها يسقط الامر و تحصيل الخروج عن عهدة التكليف بالقطع.

(2) قد تقدم ان الرجوع الى الاصول انما تصل اليه النوبة فيما اذا لم يجر الاطلاق المقامي، اما اذا جرى الاطلاق المقامي: بان احرز ان المولى في مقام بيان تمام ما له

ص: 400

.....

______________________________

دخل في الغرض، و لم يبين يجري الاطلاق و ينفي به دخالة قصد القربة. و مرحلة الرجوع الى الاصول انما هي فيما لم يحرز كون المولى في صدد البيان لكل ما له دخل في غرضه، و عطف عليه المصنف الشك في دخالة كل ما يتفرغ على الامر فلا يمكن اخذه في متعلق الامر، فلا يمكن التمسك بالاطلاق اللفظي اصلا، و الاطلاق المقامي لا بد من احرازه، و المفروض انه لم يحرز فيرجع الى الاصول، و الاصل هو الاشتغال.

و حاصل ما يريد بيانه في قوله: نعم، ان النوبة فيما عطفه على قصد القربة، و هو قصد الوجه و قصد التمييز لا تصل الى الرجوع الى الاصل، و انه فيهما بخصوصهما يجري الاطلاق المقامي على كل حال، و لا يتوقف إحراز كون المولى في مقام بيان كل ما له دخل في حصول غرضه، بل في مثل قصد الوجه و التمييز يلزم على المولى ان يكون بصدد البيان، و ان يبين دخالة الوجه و التمييز في حصول غرضه فيما اذا كان لهما دخالة في ذلك بالفرق بين مثل قصد القربة، و مثل قصد الوجه و التمييز، فان قصد الوجه و التمييز مما تغفل عنهما اذهان عامة الناس و لا تلتفت اليهما، فلا يحصل للناس شك في احتمال دخالتهما في الغرض، حتى يصح للشارع ان يعتمد على حكم العقل الملزم بالاشتغال و انه لا بد من اتيانهما، فلو كان لهما دخالة في الغرض واقعا و هما كما ذكرنا مما تغفل عنهما اذهان عامة الناس، و لا يحصل الشك لهم في احتمال دخالتهما، فلا شي ء هناك يعتمد عليه الشارع في حصول ما له دخالة في ترتب الغرض من حكم العقل بالاشتغال و لزوم الاتيان بهما، لأن العقل انما يحكم بالاتيان بهما فيما اذا حصل الشك في دخالتهما و التمس حكم العقل في هذا المشكوك، اما اذا لم يحصل الشك من رأس فلا يرجع الى العقل في حكمه، اذ لا مشكوك حتى يلتمس حكم العقل في حكمه فيه، فليس للشارع اهمال مثل الوجه و التمييز الذي يغفل عنهما اذهان العامة، و لو كان لهما الدخالة في الغرض لكان على الشارع ان ينصب نفسه للبيان من هذه الناحية، و اذا لم ينصب نفسه يكون قد

ص: 401

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم و تقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار، و إن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار، لوضوح أنه لا بد في عمومها من شي ء قابل للرفع و الوضع شرعا، و ليس هاهنا، فإن دخل قصد القربة و نحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي و دخل الجزء و الشرط فيه و إن كان كذلك، إلا أنهما قابلان للوضع و الرفع شرعا، فبدليل الرفع و لو كان أصلا يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الامر الفعلي كما عرفت (1)،

______________________________

فوت على نفسه غرضه، بخلاف القربة حيث انه مما يلتفت اليه اذهان العامة بدوا، فاذا لم ينصب المولى نفسه لمقام بيانه لا يكون مفوتا لغرضه، لامكان اعتماده على حكم العقل فيه الحاكم بالاشتغال، و انه لا بد من اتيانه فلا يفوت في مقام ترتب غرضه شي ء.

و بعبارة اخرى: في قصد القربة لا يجب على المولى بيانه لانه لا يفوت منه، و في مثل الوجه يجب على المولى بيانه، و إلّا لفات منه، و لا يعقل ان يكون المولى العالم و المحيط بجميع الاشياء مفوتا لغرضه.

و حيث انه لا اثر من ذكر قصد الوجه و التمييز في الروايات يقطع الشخص بعدم دخالتهما في ترتب الغرض، و الّا لكان لهما عين و اثر في مجموع اخبار آل البيت عليهم السّلام، و لا عبرة بالتفات بعض الناس و هم بعض العلماء المتبحرين الواسعي الاحتمالات، فان التكليف موجه للعامة، فلا بد و ان يكون العامة مما يلتفتون الى احتمال الدخالة فيحصل لهم الشك.

(1) لما فرغ من الكلام على البراءة العقلية شرع في الكلام على البراءة الشرعية.

و توضيح التوهم فيها: انه سيأتي في الاقل و الاكثر الارتباطيين انه يفكّك بين البراءة العقلية و البراءة الشرعية، فان المصنف يقول: بعدم جريان البراءة العقلية،(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 1 ؛ ص403

ص: 402


1- 60. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

لوجود التكليف و البيان المردد بين الاقل و الاكثر فلا تجري قاعدة العقاب بلا بيان، و لكنه يقول بجريان البراءة الشرعية، فان الجزئية المشكوكة مما لا يعلمون فتكون مرفوعة بواسطة البراءة الشرعية، و تفصيله في محلة- ان شاء اللّه- فاذا امكن التفكيك في الارتباطيين امكن هنا ايضا، لأن الجزئية او القيديّة مشكوكة فترفع بما لا يعلمون.

هذا حاصل التوهم.

و الجواب عنه: ان الجزئية و القيدية لها مقامان: مقام دخالتهما في الماهية التي يترتب عليها الغرض واقعا و هذه الدخالة تكوينية، و من المعلوم ان المرفوع بالبراءة الشرعية هو ما امكن رفعه و وضعه للشارع بما هو شارع، و لا دخل للشارع بما هو شارع في الرفع و الوضع في مقام التكوينيات، و انما له الدخل في الرفع و الوضع بما هو شارع في مقام كونه شارعا و مشرعا للاحكام، و هو مقام التكاليف و تشريع الاحكام.

و المقام الثاني: هو مقام الامر و تعلق التكاليف، و في هذا المقام تجري البراءة الشرعية، و قد عرفت عدم امكان دخالة الجزء المشكوك او القيد المشكوك في مقام تعلق الامر، لعدم امكان تعلق الامر بهما، ففي هذا المقام يقطع بعدم دخل هذا الجزء المشكوك فيه لعدم امكان اخذه، فما هو مقام جريان البراءة الشرعية لا شك فيه في دخالة الجزء، و المقام المشكوك دخالة الجزء فيه و هو مقام دخالته في الماهية التي يترتب عليها الغرض لا مجرى للبراءة الشرعية فيه، بخلاف الاقل و الاكثر الارتباطيين فان الجزء المشكوك فيه يمكن دخالته في كلا المقامين، و في المقام الثاني الذي هو مجرى البراءة العقلية و الشرعية لا تجري البراءة العقلية، و لكنه تجري البراءة الشرعية، و قد اشار (قدس سره) الى الجواب بقوله: «لوضوح»: أي انه لا ينبغي ان تتوهم هذا التوهم في مثل الشك في قصد القربة، لانه من الواضح «انه لا بد في عمومها»: أي في عموم ادلة البراءة الشرعية «من شي ء قابل للرفع و الوضع شرعا» و هو مقام تعلق الامر «و ليس هاهنا»: أي في مقام التشريع لأن قصد القربة لا يمكن اخذه في متعلق الامر فلا دخالة للجزء في مقام تشريع الاحكام «فان دخال قصد القربة

ص: 403

.....

______________________________

و نحوها» كالوجه و التمييز «في الغرض ليس بشرعي» لأن مقام الدخل الشرعي مقام تعلق الامر «بل واقعي» و هو ما ذكرنا من دخالته في مقام الماهية المترتب عليها الغرض، و هذا دخل واقعي تكويني لا تشريعي.

ثم قال (قدس سره): «و دخل الجزء و الشرط فيه و ان كان كذلك»: أي ان دخالة الجزء و الشرط في مقام تعلق الامر و ان كان ايضا دخالة واقعية، لوضوح انه ما لم يكن للجزء و الشرط دخالة في الواقع تكوينا لا يمكن ان يكون لهما دخالة في مقام التشريع، اذ لا يشرع الّا ما له دخل في ترتب الغرض واقعا، و مقام التشريع ايضا مقام واقعي، و لكنه في مقام التشريع، و تعلق الامر و في هذا المقام يكون الجزء قابلا للرفع و الوضع، فاذا جرت البراءة الشرعية في هذا المقام، و رفعت الجزء في هذا المقام كانت كاشفة عن ان الامر الفعلي محدود بما عدا المشكوك، و انه لا امر فعلي بالجزء المشكوك ليجب الخروج عن عهدته، الّا انها انما تنفع في مقام يمكن اخذ الجزء في مقام التشريع و تعلق الامر و هو الجزء المشكوك في الاقل و الاكثر الارتباطيين، لا في مثل قصد القربة، و لذا قال (قدس سره): «إلّا انهما قابلان للوضع و الرفع شرعا»: أي ان دخالة الجزء و الشرط التي هي دخالة واقعية في مقام التكوين و في مقام التشريع، إلّا ان البراءة الشرعية مختصة بما يكون قابلا للرفع و الوضع و هو مقام التشريع «فبدليل الرفع» الذي مقامه مقام التشريع، و لو كان هذا الدليل اصلا لا يحكى و لا يكشف عن الواقع، اذ ليس لسان الاصل لسان الكشف عن الواقع مثل الامارة التي لسانها لسان الكشف، لكنه حيث يرفع العهدة عن الجزئية في مقام التشريع يكشف عن ان الامر الفعلي محدود بما عدا الجزء المشكوك فعلا، فلا يكون امرا فعليا بالجزء المشكوك، و لذا قال (قدس سره): «و لو كان اصلا يكشف انه ليس هناك امر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك»: أي يكشف عن ان الامر الفعلي لا يعم المشكوك حتى «يجب الخروج عن عهدته عقلا» و هذا «بخلاف المقام» و هو ما اذا كان المشكوك قصد القربة، فانه انما ينفع في الجزء الذي يمكن ان

ص: 404

فافهم (1).

______________________________

يكون متعلقا للامر، فالامر الفعلي في هذا المقام: أي في مقام يكون المشكوك قصد القربة به معلوم بحدوده و قيوده و لا تعلق له بقصد القربة اصلا، لعدم امكان تعلقه به، فلا يكون مجرى للبراءة الشرعية، فما هو امر فعلي قد علم بجميع حدوده و قيوده و ليس له تعلق بقصد القربة، فليس قصد القربة مشكوك الجزئية في متعلق الامر، بل مقطوع بانه ليس بجزء في هذا المقام، و قد عرفت انه لا بد في مجرى البراءة الشرعية من ان يكون متعلق الشك هو الامر الفعلي، و لذا قال (قدس سره): «فانه»: أي في مقام الشك في قصد القربة «علم بثبوت الامر الفعلي كما عرفت» فان الامر الفعلي معلوم بجميع ما يمكن اخذه فيه.

و لا يخفى ايضا- كما مر- ان عدم جريان البراءة الشرعية في المشكوك و هو قصد القربة مبني على عدم امكان اخذه في متعلق الامر، لا بامر واحد و لا بامرين، و إلّا اذا امكن اخذه بامرين يتحقق مجرى البراءة الشرعية، لعدم اختصاص مجراها بما يمكن اخذه بأمر واحد، بل المدار في الجريان كون المشكوك مما يمكن للشارع بما هو شارع الامر به و لو بامر ثان.

(1) يمكن ان يكون اشارة الى ان الامر بالمشكوك بأمر ثان انما يكون لغوا فيما علم العقل ان متعلق التكليف مما لا يسقط الامر به باتيان نفس متعلقه لعدم حصول الغرض به، و ان الغرض لا يسقط الّا باتيانه بقصد القربة.

اما اذا لم يعلم العقل ذلك، فلا ارشاد له و لا الزام باتيان متعلق الامر بقصد الامر، فلا مناص للشارع من ان يدل على دخالة قصد القربة بامر آخر، و حينئذ يكون مجرى للبراءة العقلية و الشرعية، لأن انحلال التكليف لا يتوقف على ان يكون المشكوك مما يمكن اخذه في متعلق امر واحد، بل مجراها هو ان يكون مجموع هذا الشي ء الارتباطي مما ينحل الى معلوم بالتفصيل و الى مشكوك و لو بامر آخر، و كذلك البراءة الشرعية في مقام نفي الجزئية كما عرفت، و حيث لا علم بان متعلق التكليف

ص: 405

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة، كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيّا، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقيد الوجوب و تضيق دائرته، فإذا كان في مقام البيان، و لم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شي ء آخر أو لا، أتى بشي ء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا، كما هو واضح لا يخفى (1).

______________________________

من أي سنخ هو فلا بد للشارع ان يلحق الامر الاول بامر ثان ليتم البيان، و يحصل الغرض الداعي للامر، فان الغرض كما يدعو للامر الاول يدعو ايضا للامر الثاني حيث لا طريق للعقل الى ادراكه، بل يمكن ان يقال: انه لا يشترط في مجرى البراءة ان يدل الشارع على دخالة قصد القربة في متعلق الامر بأمر ثان، بل يكون مجرى البراءة العقلية و الشرعية متحققا اذا بيّن الشارع دخالة قصد القربة، و لو بنحو الاخبار و الارشاد الى دخالته في الغرض، و كونه جزءا في الواقع، لأن مجرى البراءة العقلية موضوعه البيان و لا اختصاص بخصوص البيان بنحو الامر، و البراءة الشرعية و ان كان مجراها لا بد فيه من امكان الوضع و الرفع، إلّا ان الوضع و الرفع ايضا لا يختص بالبيان بنحو الامر، بل بما هو مخبر و مرشد الى دخالة الشي ء في الواقع يمكنه ايضا ان يضع و يرفع، فان من جملة طرق امكان الرفع و الوضع الاخبار من الشارع بالدخالة و عدم الدخالة، فالشارع في هذا المقام و ان كان مخبرا الّا انه حيث لا طريق الى هذا الخبر الّا من ناحية الشارع، يكون هذا الطريق نحوا مما هو امره بيد الشارع أيضا. هذا، مضافا الى ما ذكرنا في التعليقة على هذا الشرح: من امكان اخذ قصد القربة في متعلق الامر الواحد، و انه لا يرد عليه شي ء من المحاذير التي ذكرت في امتناع اخذه فراجع.

(1)

مقتضى اطلاق الصيغة

لا يخفى ان الوجوب جامع بين جميع افراده: من الوجوب النفسي و الوجوب الغيري، و الوجوب التعييني و الوجوب التخييري، و الوجوب العيني و الوجوب

ص: 406

.....

______________________________

الكفائي. فلا بد فيما لم تقم قرينة خاصة على تعيين احد افراده من الرجوع الى القرينة العامة: و هي الاطلاق.

و الاطلاق في المقام يقتضي كون الوجوب نفسيا لا غيريا، و تعيينيا لا تخييريا، و عينيا لا كفائيا.

و توضيحه: ان مقدمات الحكمة الثلاث و هي: كون المتكلم في مقام البيان، و انتفاء القرينة الخاصة، و عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب، هذه المقدمات الثلاث لا تكفي في افادة الاطلاق في المقام كما تكفي في المقامات الأخر، بل لا بد من ضم مقدمة رابعة لتتضح دلالة الاطلاق، و انه بواسطة هذه المقدمة المنضمة الى تلك الثلاث يدل الاطلاق على ما افاده (قدس سره) من تعيين النفسية و التعيينية و العينية.

و هذه المقدمة الرابعة، هي ان ينظر الى كل واحدة من هذه الثلاث و ما يقابلها فيرى ان ايهما فيه قيد زائد لا تفي الصيغة الدالة على الوجوب به بل لا بد من بيانه، فذاك الذي يحتاج الى بيان هو المنفي بالاطلاق، مثلا النفسية يقابلها الغيريّة فانا اذا حلّلنا الوجوب الغيري نراه هو الواجب الذي يترشح وجوبه من واجب آخر، فما لم يكن وجوب لذي المقدمة لا يحصل وجوب المقدمة الذي وجوبها هو الوجوب الغيري، فاذا الوجوب الغيري هو الواجب المرتبط بوجوب آخر، فاذا امر المولى بشي ء و قال: افعله نشك في ان هذا الوجوب مربوط البعث له و طلبه بواجب آخر ام لا؟ و ليس الوجوب فيه مربوطا بشي ء آخر فيكون الوجوب النفسي هو الوجوب غير المقيد بشي ء، و لا شبهة ان الارتباط بشي ء آخر من الوجوب قيد يزيد على نفس الصيغة الدالة على اصل الوجوب، بخلاف الوجوب النفسي فان الوجوب فيه المستفاد من نفس الصيغة الدالة على الوجوب، لأن الوجوب النفسي هو الوجوب الذي لا قيد فيه و لا فيه ارتباط بالغير، فلو اراد المولى من هذا الوجوب المستفاد من الصيغة الوجوب الغيري لبينه، و حيث لم يبينه يكون ناقضا لغرضه و خلاف الحكمة.

ص: 407

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان المولى لم يرد صرف الجامع بين هذين الفردين، و مراده لا بد و ان يكون احد الفردين و هو المطلوب له، و الواجب النفسي هو الواجب لا لواجب آخر، و الواجب الغيري هو الواجب لواجب آخر.

فالنفسي و الغيري و ان كان كل واحد منهما مقيدا الّا ان القيد في الواجب النفسي عدمي و القيد في الغيري وجودي، و القيد العدمي- بحسب نظر العرف- كانه لا يزيد على نفس الطبيعة، بخلاف القيد الوجودي فانه يزيد عند العرف على نفس الطبيعة، و من الواضح ان ما يراه العرف زائدا هو الذي ينبغي بيانه و ذكره، اما ما لا يزيد على نفس الطبيعة عندهم لا يحتاج الى مزيد ذكر اذا دل الدليل على اصل الطبيعة، فاذا كان المولى في مقام البيان و انه لا بد و ان يكون مراده احد الفردين يكون لو اراد الفرد الذي يحتاج قيده الى ذكر بيان مع انه لم يذكره و لم يبينه هو المنفي، و ان العرف يحملون الكلام المطلق من المولى على الفرد الذي قيده عدمي، لأن القيد الوجودي هو المحتاج الى البيان عندهم و لم يبينه المولى، فلو اراده لكان ناقضا لغرضه، بخلاف المقيد بقيد عدمي فانه لو كان هو المراد للمولى لا يكون ملزما بذكر قيده العدمي، بل نفس الكلام غير المقيد كاف فيه.

و الحاصل: ان العرف يرون ان عدم القرينة على القيد الوجودي هي قرينة على عدم ارادته، و الّا لكان المولى ناقضا لغرضه، و القيد العدمي لا يحتاج المولى الى نصب قرينة عليه و حيث لم تذكر القرينة على الوجوب الغيري فلا يكون مرادا للمولى، و الّا كان المولى ناقضا لغرضه، فلا بد و ان يكون مراده هو الوجوب النفسي، لأن القيد فيه لا يحتاج الى التزام المولى ببيانه و نفس الكلام الدال على الوجوب الذي اراد المولى منه فردا خاصا كاف في ارادة هذا الفرد الخاص و هو الوجوب النفسي، لكون قيده عدميا لا يزيد- بحسب نظر العرف- على نفس الوجوب.

ص: 408

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال:

نسب إلى المشهور ظهورها في الاباحة. و إلى بعض العامة ظهورها في الوجوب، و إلى بعض تبعيّتها لما قبل النهي، إن علق الامر بزوال علة النهي، إلى غير ذلك (1).

______________________________

و الحال كما ذكرنا في التعييني و التخييري، لأن القيد في التخييري وجودي، لأن التخييري هو الواجب الذي يجوز تركه الى بدل، بخلاف التعييني فانه الواجب الذي لا يجوز تركه الى بدل.

و كذلك الحال في العيني و الكفائي، فان الواجب الكفائي هو الواجب الذي يجوز تركه اذا اتى به مكلف آخر، بخلاف الواجب العيني فانه الواجب الذي لا يجوز تركه أتى به مكلف آخر او لم يأت به.

فالقيود في النفسية و التعيينية و العينية كلها عدمية، و في مقابلها من الغيرية و التخييرية و الكفائية وجودية، و القيد الوجودي هو المحتاج الى البيان، و يلزم نقض الغرض و خلاف الحكمة من عدم ذكره لو كان هو المراد.

فاتضح: ان الاطلاق يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، و لذا قال (قدس سره): «فالحكمة تقتضي كونه مطلقا»: أي نفسيا غير مقيد بوجوب آخر، فهو واجب سواء «وجب» هناك «شي ء آخر أو لا» و الاطلاق يقتضي كونه تعيينيا:

أي ان وجوبه غير مربوط و مقيد بانه يجوز تركه اذا اتى بشي ء آخر و هو واجب سواء «اتى بشي ء آخر أو لا» و الاطلاق يقتضي العينية: أي ان الوجوب غير مربوط بانه يجوز تركه اذا أتى به مكلف آخر، بل هو واجب سواء «أتي به آخر اولا».

(1)

الامر عقيب الحظر

لا يخفى ان القائلين هنا بظهورها في الاباحة او في تبعيتها لما قبل النهي او غير ذلك من الاقوال لا يريدون انها تكون لها حقيقة اخرى في المعنى الذي يدعونه:

بمعنى ان للصيغة وضعين، بل مرادهم انها حقيقة في الوجوب لا غير، و ليس لها إلّا

ص: 409

.....

______________________________

وضع واحد، إلّا ان هذه القرينة العامة التي يدعونها و هي ورودها عقيب الحظر، او في مقام توهم الحظر، او الظن بالحظر قرينة على كون الصيغة مستعملة مجازا في غير الوجوب.

فمدعي الاباحة يدعي: ان هذه القرينة صارفة عن المعنى الحقيقي و معينة للاباحة من دون المعاني المجازية الأخر.

و القائل بالتوقف يقول: ان هذه القرينة تمنع عن ارادة المعنى الحقيقي، و اما كونها معينة لاحد المجازات فلا دلالة على ذلك.

و القائل بالندب يقول: ان هذه القرينة العامة صارفة عن المعنى الحقيقي لا غير، و استفادة الندب انما هو بعد عدم ارادة الوجوب يبقى الطلب الملازم للرجحان. نعم القائل بانكار هذه القرينة العامة و ان الصيغة دالة على الوجوب كالصيغة غير الواردة في مقام توهم الحظر أو عقيب الحظر لا يقول بالمجازية.

و كيف كان ففي ورود الامر عقيب الحظر او في مقام توهم الحظر أو الظن به اقوال:

ذهب المشهور: الى دلالته على الاباحة، و قد يستدل لهم: بان الحظر السابق على هذا الامر كان مانعا عن الاذن في فعل الشي ء، فاذا ورد الامر عقيبه أو في مقام توهمه فظاهر الحال فيه انه لا مانع من فعله، و ان الامر بداعي الاذن و الترخيص فالامر لا يدل على الوجوب، لأن الامر الذي يدل على الوجوب لا يكون بداعي الاذن و الترخيص، بل يكون بداعي الالزام فلا يكون دالا على الوجوب، و حيث انه بداعي الترخيص يكون دالا على الاباحة.

و يرد عليه: ان الامر لو لا وروده عقيب الحظر يكون ظاهرا في الوجوب، فللأمر بذاته لو لا وقوعه في تلو الحظر ظهور في الوجوب، و وقوعه في تلو الحظر لا يجعله ظاهرا في الوجوب، اما انه يجعله ظاهرا في انه بداعي الترخيص و الاذن فلا دلالة فيه على ذلك و لا ظهور له بذلك و لا اقل من الشك.

ص: 410

.....

______________________________

و ذهب بعض العامة: الى ظهوره في الوجوب و انه لا فرق في استفادة الوجوب من الصيغة بين كونها غير واردة عقيب الحظر أو واردة عقيبه لأن الصيغة لها معنى حقيقي تحمل عليه الّا اذا قامت القرينة على خلافه و ليس قرينة خاصة على خلافه، بل ليس هناك الّا وروده بعد الحظر، و وروده عقيب الحظر دليل على انتهاء امد المنع و الحظر بورود هذا الامر، اما انه له دلالة على ان الصيغة مستعملة بغير داعي الوجوب و في غير معناها الحقيقي فليس كذلك، و لا اقل من الشك في كون المراد منها المعنى الحقيقي او المعاني المجازية الأخر، و كلما دار الامر بين المعنى الحقيقي و المجازي فاصالة الحقيقة تعين الحمل على المعنى الحقيقي.

و يرد عليه: ان اصالة الحقيقة من الاصول العقلائية التي عمل بها العقلاء في مقام الشك في وجود القرينة في الكلام، و لم يظهر منهم العمل بها في الكلام المحتف بمحتمل القرينة، و ورود الامر عقيب الحظر مما يحتمل كونه قرينة، فلا مجال للعمل باصالة الحقيقة فلا ظهور للصيغة في الوجوب في المقام.

و ذهب جماعة: الى ان الامر في عقيب الحظر يدل على كون المراد بهذه الصيغة- فعلا- مثل المراد بها قبل ورود هذا الحظر، فهي تابعة لما قبل النهي، فان كان وجوبا فوجوب، و ان كان ندبا فندب، و ان كان اباحة فإباحة، و اشترطوا شيئا في هذه التبعية و هي ان هذه التبعية انما تكون في مقام يكون الامر الوارد عقيب الحظر معلقا على زوال العلة التي دعت الى الحظر و النهي مثل قوله تعالى:

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ 61] فانه بعد ان أمر بقتل المشركين مطلقا، ثم خصصه بالنهي عن قتل المشركين في الاشهر الحرم، ثم علق الامر بقتل المشركين على زوال العلة التي دعت الى تحريم قتل المشركين بقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فان العلة التي دعت الى تحريم قتل المشركين هي

ص: 411

و التحقيق: إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب، أو الاباحة، أو التبعية، و مع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه.

غاية الامر يكون موجبا لاجمالها، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى، كما أشرنا (1).

______________________________

حرمة الاشهر الحرم، فاذا انسلخ الاشهر الحرم فلا مانع فاقتلوا المشركين، فقتل المشركين واجب بعد الاشهر الحرم كما هو واجب قبل الاشهر الحرم، و مثله في الدلالة على التبعية ما ورد من امر الحائض و النفساء بالصلاة و الصوم بعد الحيض و النفاس فانه يجب عليهما الصوم و الصلاة بعد الحيض و النفاس كما كان يجب عليهما قبل الحيض و النفاس، لأن علة النهي عن الصوم و الصلاة هو الحيض و النفاس، و امرها بعد الحيض و النفاس قد علق على ذهاب علة التحريم و هو الحيض و النفاس.

و يرد على ذلك: ان وجوب الصلاة و الصوم، و قتل المشركين بعد الاشهر الحرم لم يستفد من هذا الامر الوارد قبل الحظر، بل من دليل آخر.

(1) و حاصله ان الاقوال التي تقدم ذكرها تشبث المدعون لها بموارد الاستعمال، فمدعي الدلالة على الاباحة ذكر امثلة كان الحكم فيها هو الاباحة، و المدعي للوجوب ذكر مثل ذلك، و المدعي للتبعية ذكر مثلهم، و الموارد التي ذكروها كلها غير خالية عن قرائن خاصة تدل على الحكم الذي يدعونه.

و الكلام انما هو في مورد يكون مجردا عن كل قرينة، و ليس فيه الّا امر ورد اما عقيب الحظر او عقيب توهمه. فينبغي ان يثبتوا كون ورود الامر عقيب الحظر أو في مقام توهمه دالا على مدعاهم.

ص: 412

.....

______________________________

فالحق: ان الصيغة اذ وردت عقيب الحظر ليس لها ظهور في غير الوجوب من المعاني التي ادعيت.

نعم، كما انها لا ظهور لها في غير الوجوب كذلك لا ظهور لها في الوجوب ايضا، لأن الوجوب سواء كان مستفادا منها لاجل وضعها له، او لأن الاطلاق و مقدمات الحكمة تدل عليه فانما يتم ظهورها فيه وضعيا كان او اطلاقيا في غير ما اذا كانت مشفوعة بما يحتمل القرينية على عدم الوجوب.

و بعبارة اخرى: ان المتبع في مقام دلالة الالفاظ هو الظهور المستفاد منها لحجية بناء العقلاء على الاخذ بالظهور، و القدر المتيقن من بناء العقلاء هو حجية ظهور الكلام غير المحفوف بما يحتمل القرينية. و العرف اما لا يفهمون من الكلام شيئا او ان المعاني التي تخطر لهم بالبال عند سماع الكلام المحفوف بما يحتمل القرينية لا عبرة بالاخذ بها، لعدم بناء العقلاء على الاخذ بها.

و على كل فالكلام المحفوف بما يحتمل القرينية اما مجمل من حيث الدلالة، أو مجمل من حيث الحجية، فانه ليس كلما يدل عليه اللفظ يؤخذ به ما لم يكن للعقلاء بناء على الاخذ به، فان السامع اذا سمع صيغة الامر من المولى النائم ينسبق الى ذهنه الطلب، إلّا انه لا حجية على لزوم امتثال الامر الصادر من المولى حال نومه، هذا اذا قلنا: ان الدلالة لا تتبع الارادة، و اما اذا قلنا بان الدلالة تتبع الارادة كما هو المنسوب الى العلمين فلمنع اصل الدلالة مجال واضح.

و على كل فالكلام المحفوف بمحتمل القرينية لا ظهور له بحيث يكون حجة عند العقلاء، لا في الوجوب و لا في غيره من المعاني التي ادعيت، و لذا قال (قدس سره):

«و مع فرض التجريد عنها»: أي عن القرائن الخاصة التي كانت في موارد الاستعمالات «لم يظهر بعد كونها عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه»: أي ان هذه الصيغة الواردة عقيب الحظر ليس لها ظهور في ما ادعوه

ص: 413

المبحث الثامن: الحق أن صيغة الامر مطلقا، لا دلالة لها على المرة و لا التكرار، فإن المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها و لا بمادتها، و الاكتفاء بالمرة، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة، كما لا يخفى (1).

______________________________

من المعاني المجازية غير المعنى الحقيقي، و ليس لورودها عقيب الحظر ما يوجب كون الصيغة ظاهرة فيما ادعوه من المعاني المجازية.

نعم القدر الذي يفعله ورودها عقيب الحظر هو انه يمنع من ظهورها في معناها الاصلي و هو الوجوب و تكون مجملة، و لذا قال (قدس سره): «غاية الامر يكون موجبا لاجمالها»: أي لاجمال الصيغة فليس لها ظهور في معناها، و لا في المعاني التي ادعوها و هي «غير ظاهرة في واحد منها»: أي من المعاني التي ادعوها من الاباحة و التبعية و غير ذلك، و لا تكون لها دلالة على هذه المعاني المدعاة «إلّا بقرينة اخرى» غير كونها واردة عقيب الحظر كما كانت القرينة دالة على المعاني التي ذكروها في موارد الاستعمالات «كما اشرنا» فيما سبق في ان موارد الاستعمالات لها قرائن خاصة تدل على الاحكام التي ادعيت دلالة الصيغة عليها.

(1)

في المرة و التكرار

مراد المصنف من الاطلاق في قوله: «الحق ان صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة و لا التكرار» هو ان الصيغة من حيث هيئتها و من حيث مادتها لا دلالة لها على المرة و لا على التكرار، لأن الهيئة موضوعة للطلب، و المادة موضوعة للطبيعة غير المقيدة بمرة و لا تكرار، فالمتحصل من الطلب المتعلق بالطبيعة هو اتيان الطبيعة غير مقيدة بعنوان المرة و لا بعنوان التكرار، و حيث كان اتيان الطبيعة يحصل باتيانها مرة واحدة فعنوان المرة ملازم لتحقق الاتيان بالطبيعة، لذلك كان في مقام الامتثال الاتيان بالمرة موجبا لحصول الامتثال، لكن لا لأن عنوان المرة دخيل في متعلق الطلب، بل لما عرفت: من ان المرة تلازم حصول متعلق الطلب و هو الطبيعة غير المقيدة بعنوان المرة و لا بعنوان التكرار.

ص: 414

ثم لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين، لا يدل إلا على الماهية على ما حكاه السكاكي لا يوجب كون النزاع هاهنا في الهيئة كما في الفصول فإنه غفلة و ذهول عن أن كون المصدر كذلك، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات، بل هو صيغة مثلها، كيف و قد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر و سائر المشتقات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى (1).

______________________________

لا يقال: ان الطبيعة غير المقيدة بمرة و لا تكرار هي الطبيعة المهملة و لا اهمال في الواقعيات.

فانه يقال: ليس الطبيعة غير المقيدة بمرة و لا تكرار هي الطبيعة المهملة، بل هي الطبيعة المطلقة من حيث عنوان المرة و عنوان التكرار: أي ان متعلقها هو اتيان الطبيعة، و ليس عنوان المرة دخيلا في المطلوب و لا عنوان التكرار دخيلا فيه ايضا.

(1) يتعرض المصنف في كلامه لما قاله في الفصول في تشخيص محل النزاع في المرة و التكرار.

و حاصله: ان النزاع في المرة و التكرار هو في هيئة الصيغة لا في مادتها: بمعنى ان القائل بالمرة يقول: ان الطلب واحد، و القائل بالتكرار يدعي: تكرار الطلب، و اما المادة فلا نزاع لهم فيها و انها هي الطبيعة لا بشرط.

و استدل على ما ذهب اليه في تشخيص النزاع بما حاصله: ان السكاكي ذكر اتفاق اللغويين و علماء العربية: على ان المصدر المجرد من اللام و التنوين موضوع للماهية لا بشرط، و الظاهر ان الاصوليين موافقون على هذا الراي، و الظاهر منهم- ايضا- الاتفاق: على ان المصدر هو المبدأ الساري في جميع المشتقات من الافعال و الصفات، و لا يعقل ان يكون ما به الاتفاق هو موقع الخلاف، فمع خلافهم

ص: 415

.....

______________________________

- في المقام- في القول بالمرة و التكرار، و اتفاقهم على ان المادة في الصيغة مفادها الماهية لا بشرط لا بد و ان يكون النزاع بينهم في هيئة الصيغة لا في مادتها.

و قد اجاب المصنف (قدس سره) بما يرجع الى المناقشة في ان اتفاق اللغويين و علماء العربية: على ان المصدر موضوع للماهية لا بشرط و موافقة الاصولين لهم في ذلك لا ينافي النزاع في المقام في مادة الصيغة لا في هيئتها.

بيان ذلك: ان المصدر الذي اتفق على انه موضوع للماهية لا بشرط و هو وزن فعل كمثل، ضرب و قتل في الثلاثي المتعدي، كما اشار اليه ابن مالك في ألفيته:

فعل قياس مصدر المعدى من ذي ثلاثة ك «ردّ ردّا»]

(1) ليس هو المبدأ الساري في جميع المشتقات، فان المبدأ الساري في المشتقات هو كالجنس بالنسبة إلى الفصل، فان الجنس هو اللامتحصل بذاته و انما يكون تحصله و تحققه في مقام الوجود بوجود فصله، فان الحيوان- مثلا- الذي هو جنس للناطق و غيره من انواعه ليس له تحصل و تحقق في مقام الوجود بذاته، بل الوجود و التحقق انما يكون له مع احد فصوله من الناطقية و البقرية و غيرها، و لذلك يقول اهل المعقول ان سير الوجود يمر من الفصل إلى الجنس، فليس للجنس بذاته تحقق منفصل في مقام الوجود عن تحقق فصوله، و انما يكون منفصلا عن الفصول في مقام النظر إلى ماهيته لاجل تعريفها، أو لاجل الحكم عليها باحكامها اللاحقة لها، اما في مقام الوجود فلا يعقل ذلك لانه اللامتحصل، و اذا كان له وجود منفصل عن فصله كان متحصلا و ليس لا متحصلا، و ايضا لا يعقل اذا كان للجنس وجود منفصل ان يكون بين الجنس و الفصل اتحاد في الوجود حقيقة و يكون لهما وجود واحد حقيقي مركب منهما، فان الوجودين المنفصل كل منهما عن وجود الآخر لا تركيب حقيقي بينهما و لا وحدة في الوجود، بل التركيب و الوحدة فيهما لا بد و ان تكون اعتبارية

ص: 416


1- 62. ( 1) شرح ابن عقيل: ج 3، ص 123.

.....

______________________________

لا حقيقية، و المادة بالنسبة إلى صورها التي بها تتنوع الى المشتقات كذلك، فان المادة التي لها صورة ضرب أو يضرب أو اضرب أو ضارب لا تحصل لها بذاتها و تحصلها يكون بهيئة مشتقاتها، و الذي نقل السكاكي الاتفاق على كونه موضوعا للماهية لا بشرط الذي يطلقون عليه لفظ المصدر كلفظ ضرب هو مادة له هيئة مخصوصة، و المادة التي لها هيئة مخصوصة لا يعقل ان يرد عليها هيئة اخرى، لأنها بورود الهيئة عليها تكون متحصلة، و متى تحصلت لا يعقل ان تكون مادة لهيئة اخرى، لأن الذي يكون مادة للهيئة هو اللامتحصل و الذي ليست له فعلية، و متى كانت له فعلية يابى- حينئذ- عن فعلية اخرى، مضافا الى ضرورة الوجدان: بان لفظ ضرب بما هو متهيأ بهذه الهيئة ليس هو مادة للفظ ضرب.

فاتضح: ان اتفاقهم على ان المسمى بالمصدر موضوع للماهية لا بشرط لا ينافي اختلافهم في المقام في المادة التي هي المبدأ لسائر المشتقات و ان النزاع فيها لا في الهيئة.

و لذا قال (قدس سره): «ان الاتفاق على ان المصدر المجرد عن اللام و التنوين» لأن ما فيه التنوين عندهم يدل على الوحدة، و ما فيه اللام يختلف فتارة تكون اللام فيه للتعريف فيدل على ما اريد من المعرف، و اخرى يكون مفاده مفاد اسم الجنس.

فالاتفاق المذكور على المصدر المجرد من اللام و التنوين «لا يدل الّا على الماهية على ما حكاه السكاكي لا يوجب»: أي الاتفاق المذكور «كون النزاع هاهنا في الهيئة» دون المادة «كما في الفصول فانه غفلة و ذهول» إلى آخر قوله «الا على الماهية» ثم قال (قدس سره): «ضرورة ان المصدر» المنقول الاتفاق على وضعه للماهية لا بشرط «ليست مادة لسائر المشتقات» إلى آخر كلامه، ثم اشار (قدس سره) إلى ان المصدر لا يعقل ان يكون هو المادة لسائر المشتقات، لأن المادة التي هي المبدأ الساري في جميع المشتقات لا بد و ان تكون لا بشرط من حيث الحمل و من حيث ساير الجهات. و قد عرفت ان المصدر الذي نقل الاتفاق على وضعه- كما عن السكاكي- هو ماخوذ بشرط لا، حيث عرفت في ما تقدم في ابحاث المشتق ان المصدر ماخوذ

ص: 417

.....

______________________________

بشرط الإباء عن الحمل على الذات، بخلاف الوصف فانه مأخوذ بحيث لا يأبى عن الحمل، فهو مباين للمشتقات فلا يعقل ان يكون هو المادة لها، لأن المبدأ الساري لا بد و ان يكون لا بشرط من حيث أي تعين من التعينات حتى يقبل ساير التقيدات و التعينات، فلا بد و ان لا يؤخذ في المادة تعين اصلا، و متى تقيدت المادة بشرط كمثل الإباء عن الحمل على الذات لا يعقل ان تكون مبدأ لمشتق من المشتقات، فان شرط الإباء عن الحمل يباين عدم الإباء عن الحمل كمثل المادة الماخوذة في الصفات فانها لا تأبى عن الحمل على الذات.

و من الواضح جليا ان المباين لا يقبل المباين، فكيف الماخوذ بشرط الإباء عن الحمل على الذات مبدأ للصفات التي لا تأبى عن الحمل على الذات، و الى هذه اشار بقوله: «كيف و قد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر و ساير المشتقات بحسب المعنى» لأن المصدر قد اخذ بشرط لا، و على هذا «فكيف بمعناه يكون مادة لها»:

أي يكون مادة للمشتقات.

و اذا قد عرفت: ان المصدر ليس هو المبدأ للمشتقات، و الاتفاق المنقول عن السكاكي انما هو على المصدر، و اتضح ان المادة التي هي المبدأ في المشتقات غير هذا الذي يسمونه بالمصدر، فلا مانع من ان يكون النزاع في المادة المأخوذة في صيغة الامر، و لذا قال (قدس سره): «فعليه»: أي فعلى ما بيناه من أن المبدأ غير المصدر المتفق على وضعه «يمكن دعوى اعتبار المرة و التكرار في مادتها»: أي في مادة الصيغة.

و محصل المناقشة ترجع الى امرين:

الاول: ان المصدر المقيد بالصورة لا يعقل ان يكون هو المبدأ للمشتقات، لأن المقيد بهيئة من الهيئات لا يعقل ان ترد عليه هيئة اخرى، بل هو صيغة كسائر الصيغ و مشتق كسائر المشتقات.

ص: 418

.....

______________________________

الثاني: ان المادة هي المبدأ التي لا شرط فيها و لا قيد اصلا من أي جهة من الجهات، و المصدر مقيد بالاباء عن الحمل فلا يعقل ان يكون مبدأ لما لا يابى عن الحمل.

و يمكن ان يناقش في ما ذكره صاحب الفصول بمناقشات اخرى:

الاولى: ان النزاع في المقام ليس في كون الطلب واحدا أو مكررا، بل في ان المطلوب و المتعلق للطلب هل هو واحد أو متعدد؟ و لا يقول القائل بالتكرار هنا ان للصيغة- في مثل اضرب- طلبا و طلبا، بل المطلوب في اضرب هو الضرب المتعدد.

الثانية: ان اتفاق اهل العربية لا يلازمه اتفاق الاصوليين.

الثالثة: ان الذي يظهر من ادلة القائلين بالتكرار ان التكرار مستفاد من قرائن، كمثل قياس ساير التكاليف الواردة بصيغة الامر على الامر المتعلق بالصلاة و الصوم، فانه لا شبهة في ان المطلوب فيهما التكرار، و مثل قياس طلب الوجود على النهي الذي هو طلب العدم، و هو يدل على ترك جميع الافراد ما دام العمر فطلب الوجود ايضا يفيد التكرار ما دام العمر.

الرابعة: ان كون الاتفاق المذكور ينافي الاختلاف في المقام فلا بد من حمل النزاع على الهيئة دون المادة انما يتم حيث ان اهل النزاع في المقام يقولون: بتعدد الوضع في الصيغة، و ان هيئتها لها وضع و مادتها لها وضع آخر.

أما اذا كانوا يقولون: بانه ليس في الصيغة تعدد في الوضع بل الصيغة لها وضع واحد قد لحظ فيها المادة المتقيدة بهذه الهيئة من حيث المجموع، و وضعت للدلالة على طلب الشي ء مرة واحدة او متكررا- فلا يتنافى قولهم هنا مع قولهم هناك: بان المصدر المجرد موضوع للماهية لا بشرط، لانه لا تكون المادة هنا هي المصدر الذي اتفقوا على وضعه للماهية لا بشرط.

ص: 419

إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (1).

قلت: مع أنه محل الخلاف، معناه (2) أن الذي وضع أولا بالوضع

______________________________

(1) حاصل إن قلت انه على ما ذكرت يكون المصدر بنفسه مشتقا من المشتقات، كما صرحت بكون المشتق بنفسه صيغة من الصيغ المشتقة.

فاذا ما معنى ما اشتهر بين القوم: من ان المصدر هو اصل المشتقات؟ فان لازم هذا ان لا يكون المصدر بنفسه صيغة من الصيغ و لا يكون مشتقا من المشتقات، فان ما كان اصلا لا يعقل ان يكون هو فرعا ايضا، فلا بد و ان يكون اصل المشتقات ليس هو مشتقا بل المشتقات مأخوذة منه، فحينئذ يكون هو المادة للمشتقات و يتم مطلب الفصول، و يظهر بطلان ما ذكرت: من ان المادة التي هي المبدأ الساري غير المصدر.

(2) حاصل ما ذكره يرجع الى جوابين عما ذكره في قوله: ان قلت:

الاول: انه ليس لاهل العربية اتفاق على ان المصدر هو اصل المشتقات، بل ادعى بعضهم: ان الفعل هو اصل المشتقات، و هو ما اشار اليه بقوله: «مع انه محل الخلاف» و هذا ايضا يكون مناقشة ثالثة في دعوى صاحب الفصول: من دعوى الاتفاق على كون المبدأ الساري في المشتقات هو المصدر الموضوع للماهية لا بشرط.

الجواب الثاني: ما ذكره بقوله: «معناه الى ... آخر كلامه» و حاصله: ان مرادهم من كون المصدر اصلا في المشتقات ليس كون المصدر هو المبدأ الساري فيها، بل حيث كان المصدر موضوعا للماهية لا بشرط عندهم و كانت ساير المشتقات المادة فيها مشروطة يكون المصدر هو آلة للحاظ المادة التي هي المبدأ في المشتقات و به يعبر عنها، لا انه هو حقيقة المبدأ الساري و المادة المأخوذة في المشتقات.

هذا حاصل مراده في هذا الجواب، و بقي الكلام في شرح بعض الفاظه.

ص: 420

الشخصي (1)، ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي

______________________________

(1) لا يخفى ان الوضع ينقسم عندهم الى شخصي و نوعي، و كل مادة لا معنى لهيئتها هي موضوعة بالوضع الشخصي، اما ما كانت هيئتها لها معنى ففيها وضعان: وضع نوعي للهيئة، و وضع شخصي للمادة.

و الحاصل: ان ظاهر القوم هو كون الهيئات موضوعة بالوضع النوعي، و المواد وضعها شخصي، و قد ذكر وجوه لكون الوضع في الهيئات نوعيا، و في المادة شخصيا و نقتصر على وجهين منها:

الاول: ان الهيئة حيث انه لا اختصاص لها بمادة من المواد فلها وحدة نوعية تعرض جميع افراد المواد فلا تلاحظ خصوص هيئة ضارب أو قاتل، بل تلاحظ هذه الهيئة بما لها من الوحدة النوعية، و بما هي عارضة لجميع المواد باختلافها، بخلاف المادة فان لها ضبطا خاصا و هو: الضاد و الراء و الباء- مثلا- فتلاحظ هذه المادة بشخصها، فلذلك كان وضعها شخصيا، و وضع الهيئة نوعيا.

الثاني: ان السبب في كون الوضع في الهيئات نوعيا من جهة ان الهيئة كيفية لاحقة للمادة و لا استقلال لها حتى في اللحاظ، بل لا بد في مقام تصورها و لحاظها من لحاظها لاحقة للمادة فينحصر الوضع لها بتصورها لاحقة، ففي مقام الوضع لها يتصور الواضع هيئة فاعل فيقول: وضعت ما كان على وزن فاعل لمعنى كذا، و هذا اللحاظ لحاظ عنواني للهيئة العارضة لمثل الضارب و القاتل، و هو عنوان و الهيئات الخاصة هي المعنون، فهي اذا كالمعنى الحرفي الذي لا يعقل لحاظه بذاته و ماهيته، فيكون الوضع له بتوسط لحاظ عنوانه لا لحاظ ذاته، بخلاف المادة فانه يمكن للواضع ان يتصور نفس ذات المادة، فالموضوع له في المادة بنفسه متصور و لذا كان وضعه شخصيا.

و بعبارة اخرى: ان الوضع الشخصي، هو ما كان نفس الموضوع له منظورا اليه و متصورا بنفسه و بذاته و ماهيته للواضع، و المواد بنفسها منظور اليها و متصورة

ص: 421

تناسبه (1)، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة (2) في كل منها و منه (3)،

______________________________

للواضع، و الوضع النوعي ما لم يكن كذلك و لا يكون بذاته و ماهيته متصورا في مقام الوضع فلا محالة يكون الوضع في الهيئات نوعيا، و الوضع في المواد شخصيا.

(1) يحتمل ان يريد بقوله: «نوعيا او شخصيا» الاشارة الى ان في الصيغة وضعين: نوعي و شخصي، و على هذا الاحتمال كان ينبغي ان يكون العطف بالواو لا بأو.

و يحتمل ان يريد ان المشتقات قيل بتعدد الوضع فيها: بان يكون للهيئة وضع، و للمادة وضع احدهما نوعي و الثاني شخصي، و قيل: بانه ليس في المشتقات تعدد وضع، بل الصيغ كلها لها وضع واحد، فان الواضع تصور وزن الصيغة بما لها من الصورة و المادة و بهيئتها و مادتها و وضعها بازاء معنى من المعاني، فالواضع حين تصور صيغة فعل وضعها بازاء المعنى المتحقق، و كذلك يفعل، و كذلك فاعل، فلا يكون للصيغ الّا وضع واحد شخصي هو مجموع هيئتها و مادتها، و على هذا الاحتمال يحسن العطف بأو.

(2) أي مما جمع هذا الموضوع من ساير المشتقات مع الملحوظ الذي بمناسبته وضع هذا المشتق، و هو الذي وضع اولا بالوضع الشخصي و هو اما المصدر على المشهور أو الفعل على ما ذهب اليه بعضهم، فانه لكل منهما من المصدر أو المشتق جامع و هو ان المصدر لفظ له هيئة، و الذي يراد وضعه من ساير الصيغ و المشتقات لفظ له هيئة ايضا.

(3) أي في كل من الصيغ التي يراد وضعها.

و ضمير منه راجع الى الذي وضع اولا بالوضع الشخصي و هو المصدر.

ص: 422

صورة و معنى كذلك (1)، هو المصدر أو الفعل (2)، فافهم (3). ثم المراد بالمرة و التكرار، هل هو الدفعة و الدفعات أو الفرد و الافراد و التحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع، و إن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (4)، و توهم أنه لو أريد بالمرة الفرد، لكان الانسب، بل اللازم أن

______________________________

(1) أي هيئة و مادة لها معنى.

(2) يشير الى ما ذكره: من انه ليس كون المصدر هو الاصل في المشتقات موضع اتفاق، فان بعضهم: ان الاصل هو الفعل، و من الواضح ان الفعل لم يوضع للماهية لا بشرط.

(3) لعله يشير في ان هذا التاويل الذي ذكره لكون المصدر هو الاصل خلاف الظاهر من كلامهم، فان ظاهر كلامهم كون المصدر بنفسه هو الاصل.

و حينئذ يرد عليهم ما ذكرنا: من امتناع كون المصدر بما هو المادة للمشتقات، أو يشير الى المناقشات الاخرى التي اوردناها على دعوى صاحب الفصول: من كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة.

(4)

المراد بالمرة و التكرار

لا يخفى انه هل مراد القائلين بالمرة أو التكرار هو الدفعة و الدفعات، أو الفرد و الافراد: أي مراد القائلين بالمرة هو ان المطلوب بالصيغة هو الدفعة الواحدة من هذه الطبيعة، و ان اشتملت هذه الدفعة الواحدة على افراد متعددة، و مراد القائلين بالتكرار هو تكرار هذه الدفعة و ان اشتملت كل دفعة على افراد؟

أو ان مراد اهل المرة هو الفرد الواحد من هذه الطبيعة، و مراد اهل التكرار هو الافراد من هذه الطبيعة؟ و على هذا فلو اشتملت دفعة واحدة على افراد كان التكرار حاصلا لفرض اشتمال هذه الدفعة على افراد، بخلافه على الاحتمال الاول فانه لا يحصل الامتثال على القول بالتكرار الّا بايجاد الطبيعة مرة اخرى و دفعة ثانية، و ان اشتملت الدفعة الاولى على افراد كثيرة.

ص: 423

.....

______________________________

و قد عرفت ان المختار هو عدم الدلالة على المرة و لا التكرار، و لكن القائلين بالمرة و التكرار يمكن ان يكون محل نزاعهم هو الاول: أي الدفعة و الدفعات، و يمكن النزاع بينهم في الثاني: و هو ان المطلوب هل فرد واحد أو افراد متعددة؟ فيكون المراد من التكرار تعدد الافراد.

إلّا ان الظاهر من كلماتهم: هو ان صيغة الامر هل تدل على ان المطلوب هو العمل مرة واحدة أو تدل على تكرار العمل؟ و ظاهر هذا الكلام ان الاحتمال الاول هو محل النزاع، لأن الدفعة و ان اشتملت على افراد دفعة واحدة الّا انه لا تكرار للعمل فيها، فاذا كان ظاهرهم تكرار العمل يكون محل نزاعهم هو الدفعة و الدفعات، لا الفرد و الافراد.

و لا يخفى عليك ان مراد المصنف من قوله: «و التحقيق ان يقعا بكلا المعنيين محل النزاع» ليس الامكان العقلي، فانه لم يتوهم احد عدم امكان النزاع في الفرد او الافراد، بل مراده ان كون هذه المسألة مسألة براسها و ليست من فروع مسألة اخرى، فان المسألة التي تفرد بالذكر او العنوان لا بد و ان تكون مسألة يجري الكلام فيها على جميع التقادير في المسائل الاخرى، بخلاف ما اذا كانت من فروع مسألة اخرى فانه لا ينبغي ان تفرد بالذكر، بل ينبغي ان تحرر في ذيل تلك المسألة و تكون من فروعها.

و الذي يظهر من صاحب الفصول انه ان كان النزاع هنا في ان متعلق الامر هو الطبيعة لا بشرط أو المرة و التكرار اذا اريد من المرة و التكرار الدفعة و الدفعات- تكون مسألة براسها يجري الكلام على جميع التقادير في المسائل الاخرى، و اما اذا كان مراد القائلين من المرة و التكرار الفرد و الافراد لا تكون هذه المسألة جارية على جميع التقادير، بل تكون من فروع المسألة الآتية في ان متعلق الامر هو الطبيعة أو الفرد، و سيأتي بيان ما اراده صاحب الفصول في قوله: «و توهم» و حيث كان رأي المصنف ان هذه المسألة على أي تقدير سواء اريد منها الدفعة و الدفعات أو الفرد و الافراد فهي مسألة برأسها يجري النزاع فيها على كل التقادير، و ليست من ذيول

ص: 424

يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي، من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد فيقال عند ذلك و على تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما و لم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، و أما لو أريد بها الدفعة، فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى (1)، فاسد لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد

______________________________

المسألة الآتية حتى لو اريد من المرة و التكرار هو الفرد و الافراد قال: «و التحقيق ان يقعا بكلا المعنيين» فمراده من هذا هو ان النزاع هنا يمكن ان يكون الدفعة و الدفعات، و يمكن ان يكون الفرد و الافراد. و على كل حال هي مسألة براسها.

(1) لقد ذهب صاحب الفصول الى ان النزاع بين القوم هنا في المرة و التكرار لا بد و ان يكون في الدفعة و الدفعات لا في الفرد و الافراد، و استدل على ذلك بامرين:

الاول: ان ظاهر كلامهم هو الدفعة و الدفعات، و ان مرادهم هل المطلوب هو العمل مرة واحدة، و ان اشتمل على افراد، أو ان المطلوب تكرار العمل؟ و لو كان المراد الفرد و الافراد لما كان يلزم في تحصيل الامتثال- بناء على ان المراد بالتكرار هو ايجاد افراد من الطبيعة- تكرار العمل، بل يمكن ان يحصل الامتثال بايجاد افراد من الطبيعة دفعة واحدة.

الثاني: انه لو كان النزاع هنا في الفرد و الافراد لما صح لهم عقد هذه المسألة على حدة، فان عقد المسألة على حدة لا بد و ان يكون جاريا على جميع التقادير في المسائل الاخرى، بل كان المتعين عليهم ان يحرروها في ذيل المسألة: من ان الامر متعلق بالطبيعة أو الفرد من الطبيعة، و بعد البناء على ان متعلق الامر هو الفرد يتاتى النزاع في ان المطلوب هل هو فرد واحد من الطبيعة او افراد؟ اما من قال: بان متعلق الامر هو الطبيعة فلا مجال لأن يتأتى النزاع عنده: في ان المطلوب هو فرد واحد من الطبيعة او افراد، اذ الفرد لا تعلق للطلب به حتى يكون المطلوب فردا واحدا او افرادا متعددة.

ص: 425

أيضا، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا مطلوبة

______________________________

و بعبارة اخرى: ان النزاع- هنا- في ان الامر هل ان متعلقه الطبيعة لا بشرط؟ أو ان متعلقه فرد واحد من الطبيعة أو متعلقه افراد من الطبيعة؟

فمن يقول- هنا- بالفرد الواحد أو الافراد لا يمكنه ان يكون من القائلين في المسألة الآتية: بان متعلق الامر هو الطبيعة دون الفرد. نعم، من يقول: بان متعلق الامر هو الفرد يمكنه ان يذهب الى ان المطلوب فرد واحد أو افراد متعددة، فتكون هذه المسألة بناء على النزاع فيها في الفرد أو الافراد من فروع المسألة الآتية، و لا ينبغي تحريرها مسألة على حدة لعدم صحة جريانها على جميع التقادير، بخلاف ما اذا كان في الدفعة و الدفعات، فان من قال هناك بالطبيعة يمكنه ان يقول هنا: ان متعلق الامر هو الطبيعة لا بشرط من الدفعة الواحدة و الدفعات، و يمكنه ان يقول: ان الامر المتعلق بالطبيعة المراد منه ايجاد الطبيعة دفعة واحدة او دفعات متعددة، و من قال هناك: بان متعلق الامر هو الفرد من الطبيعة يمكنه ان يقول هنا: بان متعلق الامر هو طبيعة الفرد لا بشرط من حيث الدفعة و الدفعات، و يمكنه ان يقول: ان متعلقه هو طبيعة الفرد دفعة واحدة او دفعات متعددة.

فتحريرهم لهذه المسألة براسها دليل على انها ليست من متفرعات المسألة الآتية و انها جارية على كل التقادير. و عليه فلا بد و ان يكون مرادهم هنا هو الدفعة و الدفعات، لا الفرد الواحد و الافراد، و هذه مراده من قوله: «و اما لو اريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين»: أي انه تكون مسألة براسها جارية على جميع التقادير، و ليست من فروع المسألة الآتية: و هي كون متعلق الامر هو الطبيعة او الفرد؟

ص: 426

و لا غير مطلوبة (1)، و بهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة و التكرار بكلا المعنيين، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة و التكرار بالمعنيين

______________________________

(1) و حاصل ما اجاب به المصنف عما ذكره صاحب الفصول- من لزوم كون النزاع هنا في الدفعة و الدفعات و الّا كانت المسألة من متفرعات المسألة الآتية- هو ان المراد بالفرد هنا غير المراد بالفرد في مسألة تعلق الامر بالطبيعة أو بالفرد، فان المراد بالفرد في المسألة الآتية هو ان لوازم تشخص الطبيعة هل هو داخل في المطلوب ام لا؟

و المراد بالفرد هنا هو ان المطلوب وجود واحد من الطبيعة.

و توضيح ذلك: ان الماهية مع الغض عن وجودها ليست الّا هي لا مطلوبة و لا لا مطلوبة، فان النظر الى الماهية من حيث هي هي هو قصر النظر على ذاتها و ذاتياتها، و ان لا يكون هناك نظر الى ما هو خارج عن ذاتها و ذاتياتها، و اذا كان النظر الى الماهية من حيث وجودها كان النظر الى الماهية غير مقصور على ذاتها و ذاتياتها، بل منظور اليها بالنسبة الى ما هو خارج عنها، فان وجود الماهية خارج عن حقيقة الماهية و لا اشكال ان الماهية الواقعة متعلقة للامر المنظور اليها هي الماهية من حيث وجودها، لوضوح ان الاغراض الداعية الى طلبها تترتب عليها بما هي موجودة لا بما هي هي.

و من الواضح المتحقق- في محله- ان تشخص الماهية بنفس وجودها، و ان ساير ما يطلقون عليها المشخصات كسائر الاعراض الملازمة للوجود هي من لوازم التشخص، و ان التشخص يكون بنفس الوجود لا بهذه اللوازم و هي خارجة عن ما به التشخص ملازمة له.

فالنزاع الواقع في تلك المسألة هو ان متعلق الامر هو نفس الطبيعة الموجودة أو انه الفرد؟: أي الطبيعة بما لها من لوازمها التي لا تنفك عن وجودها.

و المراد من الفرد في هذه المسألة هو ان المطلوب هل هو وجود واحد من الطبيعة او وجودات متعددة؟ فعلى فرض كون المختار في المسألة الآتية: هو ان متعلق الامر

ص: 427

و عدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، و أما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات (1)، و إنما عبر بالفرد

______________________________

هو الطبيعة يتاتى للقائل به ان يقول هنا بالمرة أو التكرار: بان يقول: ان الامر المتعلق بوجود الطبيعة لا بالطبيعة و لوازم تشخصها يراد منه وجود واحد أو وجودات متعددة.

فاتضح: ان النزاع هنا لو اريد به الدفعة أو الدفعات جار على كل تقدير، و كذلك لو اريد الفرد أو الافراد جار على كل تقدير، حتى لو قيل هناك: بان متعلق الامر هو الطبيعة. و ليس الفرد في المقامين بمعنى واحد حتى لا يكون مجال للنزاع في الفرد أو الافراد اذا كان القائل هناك يقول: بان متعلق الامر هو الطبيعة دون الفرد، اذ المراد من الفرد هنا وجود واحد او وجودات متعددة، و لا ربط للفرد بهذا المعنى بالفرد حيث يراد منه كون لوازم التشخص داخلة في الطبيعة المطلوبة ام لا.

بقي الكلام في شرح بعض عباراته (قدس سره).

(1) أي و باعتبار كون المطلوب بالطبيعة هو وجودها، لا من حيث هي هي تكون هنا مرددة بين المرة و التكرار: أي مع القول: بان متعلق الامر هو الطبيعة دون الفرد في تلك المسألة يتاتى النزاع في المرة و التكرار باعتبار الدفعة و الدفعات و هو واضح، كما اشار اليه بقوله: «اما بالمعنى الاول فواضح» فان المراد من المعنى الاول هو الدفعة و الدفعات، و كذلك اذا اريد بالمرة و التكرار هو الفرد و الافراد و هو مراده من قوله:

«و اما بالمعنى الثاني» فان القائل في تلك المسألة: بان متعلق الامر هو الطبيعة الموجودة من دون مشخصاتها يتاتى له ان يقول هنا بالمرة أو التكرار، اذ المراد من الفرد و الافراد هو وجود واحد و وجودات متعددة من تلك الطبيعة التي يتعلق الامر بها من دون مشخصاتها، و لذا قال (قدس سره): «فلوضوح ان المراد بالفرد او الافراد وجود واحد او وجودات».

ص: 428

لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد (1)، غاية الامر خصوصيته و تشخصه على القول بتعلق الامر بالطبائع يلازم المطلوب و خارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالافراد، فإنه مما يقومه (2).

تنبيه: لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال، و أنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا، على أن يكون أيضا به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال. و أما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة و لا على التكرار، فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الاهمال أو الاجمال، فالمرجع هو الاصل. و إما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال (3)، و إنما الاشكال في جواز أن لا يقتصر

______________________________

(1) أي ان تعبيرهم هنا بالفرد ليس غرضهم منه هو الفرد في تلك المسألة، بل انما عبروا بالفرد هنا باعتبار ان الطبيعة المطلوبة يراد بالطلب المتعلق بها وجودها، و وجودها هو الفرد المراد لهم في هذه المسألة، فتارة يقال: بان المراد منها وجود واحد، و اخرى وجودات متعددة، فالمراد من الفرد هو وجود الطبيعة، و بالطبع انه يحسن التعبير عن وجود الطبيعة بفرد من الطبيعة.

(2) أي انه انما عبروا بالفرد هنا لأن بالفرد يتحقق وجود الطبيعة، و ليس مرادهم من الفرد هنا دخول لوازم التشخص في المطلوب، كما ارادوا هذا المعنى من الفرد في مطلق تعلق الامر بالطبائع أو الافراد و هي المسألة الآتية، و بقوله (قدس سره):

«خصوصيته و تشخصه على القول بتعلق الامر بالطبائع ... الى آخره» اشار الى ما ذكرنا: من ان المراد بالفرد هناك هو كون لوازم الوجود داخلة في المطلوب، بخلاف القول بالطبائع فان لوازم الوجود خارجة عن المطلوب، فلوازم الوجود على القول بالفرد في تلك المسألة مقومة للمطلوب بخلاف القول بالطبائع.

(3)

فيما يحصل به الامتثال

حاصل هذا التنبيه: ان الاقوال في المقام ثلاثة:

ص: 429

.....

______________________________

- عدم دلالة الامر على المرة و التكرار، و ان كليهما خارجان عن متعلق الامر، لأن متعلق الامر هو نفس الطبيعة لا بشرط.

- و دلالة الامر على المرة.

- و دلالته على التكرار، و لا اشكال انه بناء على التكرار لا يحصل الامتثال باتيان متعلق الامر مرة واحدة، بل لا بد في تحقق الامتثال من تحقق المرات، و لذا لم يتعرض لذكره المصنف.

و اما بناء على القول بالمرة فمتعلق الامر هو ايجاد الطبيعة مرة واحدة، فلا ينبغي ان يشك في انه باتيان متعلق الامر مرة واحدة يحصل الامتثال، لأن المطلوب هو الطبيعة مع قيد كونها مرة واحدة، فبإتيانها مرة واحدة حصل كل ما تعلق الامر به، و لا شك انه بحصول متعلق الامر بجميع قيوده و ما اخذ فيه يوجب حصول الامتثال، و لازم حصول الامتثال سقوط الامر، و مع سقوط الامر لا وجه للامتثال مرة اخرى، لأن المرة الاخرى اما ان تكون امتثالا أولا، لا وجه لكونها امتثالا، لأن عنوان الامتثال لازمه وجود ما له الامتثال، و معناه وجود الامر فانه هو الذي يكون له الامتثال، و قد فرضنا سقوط الامر بالاتيان بمتعلق الامر بما له من قيوده، فلا يعقل الامتثال بعد الامتثال. و اما ان لا يكون امتثالا، و اذا لم يكن امتثالا فلا وجه للاتيان به و يكون لغوا، و لذا قال (قدس سره): «فانه من الامتثال بعد الامتثال» و هو محال.

و اما بناء على عدم دلالته على المرة و لا التكرار، و ان مدلوله هو الطبيعة لا بشرط المرة و التكرار، فحيث كان متعلق الامر هو وجود الطبيعة و وجود الطبيعة خارجا تكون مع المرة و مع التكرار فهناك مجال للاطلاق و عدمه.

فنقول: اما ان يكون المولى في مقام البيان، و اما ان لا يكون المولى في مقام البيان، و هو تارة يكون بحيث لم يتعلق له غرض بالبيان و هذا يسمى بالاهمال، و اخرى يكون قد تعلق له غرض بعدم البيان و الاخفاء و هذا يسمى بالاجمال، فبعد تعلق الامر بالطبيعة لا بشرط و لم يكن المولى في مقام البيان ليتعين ما به الامتثال فلا بد

ص: 430

عليها، فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الاتيان بها مرة أو مرارا، لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى (1).

______________________________

من الرجوع الى الاصل، و لذا قال (قدس سره): «فالمرجع هو الاصل» و يظهر من بعضهم ان الاصل يختلف، فتارة يكون هو البراءة قطعا فيما اذا كان الامر من المردد بين الاقل و الاكثر الاستقلاليين للانحلال الى طلب الطبيعة المتحقق في ضمن المرة، و قطعا و الشك في الزائد على ذلك فينفي بالبراءة، و ربما يكون الرجوع الى البراءة قطعيا و ذلك حيث يكون من الاقل و الاكثر الارتباطيين فانه على الخلاف في تلك المسألة، إلّا انه ربما يقال: بانه لا مجال للقول بالاحتياط، لأن المورد لا يعقل ان يكون من الارتباطيين حيث ان المفروض تعلق الامر بالطبيعة التي قيد المرة و التكرار خارج عنها، و انها تصدق مع المرة و مع التكرار، و مع الارتباطية فلا تكون المرة مصداقا لها، بل المرات مصداقها فلا مجال لاحتمال الارتباطية فلا مجرى للاحتياط.

نعم، اذا احتمل كون المرة بشرط عدم الانضمام تكون مصداقا للطبيعة المأمور بها، و الطبيعة بشرط الانضمام مصداقا آخر، و كون الطبيعة لا بشرط مصداقا ايضا، و احتمل التكرار ايضا كان مجال للارتباطية، إلّا ان الظاهر و خصوصا من القائلين بالتكرار هو تكرار المطلوب، لا ان المطلوب امر مركب من فرد و افراد أو من دفعة و دفعات، فتدبر.

و اما اذا كان المولى في مقام البيان فالاطلاق يقتضي الاكتفاء بالمرة في مقام الامتثال، لأن متعلق الامر هو الطبيعة غير المقيدة بمرة و لا تكرار، و لا اشكال في تحقق المطلوب المتعلق للامر و هو الطبيعة في ضمن المرة، فلو اراد وجوده في ضمن المتكرر لبينه، و المفروض عدم بيانه، و لذا قال (قدس سره): «فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال».

(1) حاصله انه قد عرفت انه اذا كان المولى في مقام البيان و قلنا: ان الامر لا دلالة له على مرة و لا على تكرار فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة، و انما الاشكال: في ان للعبد

ص: 431

و التحقيق: إن قضية الاطلاق إنما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الاتيان بها مرة و مرات، فإنه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال و يسقط به الامر، فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، و سقوط الغرض معها، و سقوط الامر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، و أما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو

______________________________

ان لا يقتصر على اتيان الطبيعة مرة واحدة و يأتي بها مرات على ان تكون المرات ايضا يكون بها الامتثال.

و غاية ما يمكن ان يقرب به جواز التكرار على ان يكون مصداقا للامتثال- ايضا- ان يقال: ان متعلق الامر هو الطبيعة التي لا قيد المرة داخل فيها و لا التكرار داخل فيها، و من الواضح ان الطبيعة تصدق مع المرة و تصدق مع التكرار، و كل قيد احتمل دخوله و نفاه الاطلاق لازمه انه لا يمنع عن الامتثال وجوده و عدمه، فاذا كانت المرة خارجا عن المطلوب ببركة الاطلاق فالمطلوب هو الطبيعة سواء كانت مع المرة أو لم تكن مع المرة، بل كانت مع غير المرة و هو التكرار، كما لو شككنا في دخول قيد المؤمنة في ما لو امر المولى بعتق رقبة، فان لازم الاطلاق عدم دخول قيد المؤمنة في المطلوب، فيصدق العتق مع الايمان و مع عدم الايمان و هو الرقبة الكافرة، و هذا مراده من قوله: «فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا، لا لزوم الاقتصار على المرة» اذ لا وجه للزوم الاقتصار على المرة بعد ان كان عنوان المرة خارجا عما هو المطلوب و قد نفاه الاطلاق، فالطبيعة المطلوبة تصدق معه و تصدق مع غيره و هو التكرار.

ص: 432

يتوضأ فأتي به، و لم يشرب أو لم يتوضأ فعلا (1)، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه، بل مطلقا، كما كان له ذلك قبله،

______________________________

(1) محصل هذا التحقيق ان الاطلاق لا يقتضي جواز الاتيان بالطبيعة المامور بها في ضمن المرة و في ضمن التكرار للزوم المحال في بعض الاوقات: و هو الامتثال عقيب الامتثال، بل الاطلاق غايته ان يدل على جواز الاتيان في ضمن الفرد الواحد، و جواز الاتيان بها في ضمن الافراد حيث توجد دفعة واحدة، فان الاطلاق يدل على ان متعلق الامر هو الطبيعة و انه يتحقق المامور به، و ان موافقة هذا المامور به تحصل بوجود الطبيعة. و من الواضح: انه بحصول المامور به يسقط الامر الداعي للامر به، اذ وجود الامر مع حصول المامور به مرجعه الى بقاء المعلول من غير علة، اذ العلة الداعية للامر بشي ء هو تحقق ما تعلق به الامر، و المفروض ان متعلق الامر هو الطبيعة غير المقيدة، و هي تحصل بالاتيان بها.

نعم، اذا حصلت في ضمن افراد دفعة واحدة كان هذا حصولا لها، كما انها تحصل في ضمن الفرد الواحد و بعد حصولها يسقط الامر فلا معنى للتكرار، اذ ما تقدم من مدعي الاطلاق: هو كون التكرار مصداقا للامتثال، و كون التكرار مصداقا للامتثال لازمه عدم سقوط الأمر، اذ صدق الامتثال يلزم وجود ما له الامتثال و هو الامر، و بقاء الامر مع حصول ما دعي اليه و هو وجود الطبيعة معناه بقاء المعلول من غير علة، و هذا معنى محالية الامتثال عقيب الامتثال.

نعم، حيث يكون الغرض الداعي الى الامر لا يحصل بمجرد وجود المامور به، كما مثلوا له برفع العطش الذي دعا المولى لأمر عبده باتيان الماء، فانه بمجرد اتيان العبد بالماء لا يرتفع عطش المولى، ففي مثل هذا النحو من المامور به يستطيع العبد ان يبدل امتثاله بامتثال آخر: بان يرفع الماء و يأتي بماء آخر مثل الماء الاول أو أحسن منه.

اما اذا كان الغرض يحصل بمجرد اتيان المامور به فيكون وجود المامور به علة تامة لحصول الغرض، كما اذا أمر المولى عبده: بان يشرب العبد الماء، فانه بشرب العبد

ص: 433

.....

______________________________

الماء يحصل الغرض الذي دعا المولى للامر و هو ارتفاع عطش العبد، و بشرب العبد الماء يرتفع العطش، فلا يعقل- حينئذ- بقاء الامر، و يلزم من بقائه بقاء المعلول بلا علة.

و الحاصل: ان اتيان المامور به تارة يكون مقتضيا لحصول الغرض الذي دعا لأمر المولى، و اخرى يكون علة تامة، فاذا كان مقتضيا امكن تبديل الامتثال بامتثال آخر، و اما اذا كان علة تامة فلا يعقل تبديل الامتثال بالامتثال، و سيأتي التعرض لمسألة جواز تبديل الامتثال بالامتثال مفصلا في مبحث الإجزاء.

بقي شي ء ينبغي التنبيه عليه، و هو قوله: «صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر» هل هذا منه تفنن في التعبير و هو عين قوله السابق الامتثال عقيب الامتثال الذي ارسل القول بمحاليته، ثم عقبه بهذا التحقيق و هو كون الماتي به علة تامة لحصول الغرض، فيكون تحقيقه في ان الامتثال عقيب الامتثال انما يكون محالا حيث يكون متعلق الامر علة تامة لحصول الغرض، اما اذا كان من قبيل المقتضي لحصول الغرض و بعد اتيان المامور به يتوقف حصول الغرض على امور أخر، فان الامتثال عقيب الامتثال لا محالية فيه.

أو أن عنوان تبديل الامتثال بالامتثال غير الامتثال عقيب الامتثال، و ان تبديل الامتثال في مقام يكون اتيان المامور به من قبيل المقتضي لازمه اعدام الامتثال الأول، اما برفع موضوعه: بان يعدم الماء- مثلا- الذي اتى به لرفع العطش، او برفعه بالاعراض عنه، او بعدم الاقتصار عليه.

و على كل فالفرق بين تبديل الامتثال و الامتثال عقيب الامتثال: هو انه في الثاني مع فرض البناء على ان ما اتى به امتثال و مع ذلك يمتثل مرة اخرى، و في الاول يبدل الامتثال الاول بالامتثال الثاني. و الذي يظهر منه (قدس سره): هو كون عنوان تبديل الامتثال غير عنوان الامتثال عقيب الامتثال، و قد اشار الى مثال امكان تبديل الامتثال بكون الغرض من الامر بالماء هو الاتيان به ليشرب او ليتوضأ و كان الآمر لم

ص: 434

على ما يأتي بيانه في الاجزاء (1).

المبحث التاسع: الحق أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور و لا على التراخي، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، و الدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدهما، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى (2)، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على

______________________________

يرفع عطشه و لم يشرب الماء، و لم يفعل طهارته: بان لم يتوضأ، و قوله بعد هذا المثال: «فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا»: أي و لو لم يكن احسن منه «كما كان له ذلك قبله»: أي كما كان له قبل ان يمتثل التخيير بين الافراد التي يقع بها الامتثال، كذلك له التخيير بعد ذلك، فله ان يختار فردا آخر ايضا.

(1) تعبيره بعدم البعد هنا و في الاجزاء لعله تمريض له، و احتمال ان يكون تبديل الامتثال محالا، لأن العبد انما يكلف بما يمكن معه استيفاء غرض المولى، و لا تكليف موجه للعبد بنفس الغرض المترتب على المامور به، فدائما يكون اتيان المامور به علة تامة للامتثال، و لا يعقل ان يكون من باب المقتضي.

و ما يقال: من انه لو اهريق الماء بعد الاتيان به و قبل شرب المولى فلا اشكال في ان العبد مكلف بالاتيان، و بقاء التكليف بالاتيان هنا كاشف عن ان سقوط الامر مراعى باستيفاء الغرض- فانه غير مسلم لعدم بقاء التكليف و ليس سقوط الامر مراعيا باستيفاء الغرض، بل حيث ان الغرض لم يستوف يتجدد امر ثان باتيان الماء و طلبه مرة اخرى من العبد، و ليس هذا هو الامر الاول.

(2)

في الفور و التراخي

هذا المبحث في الفور و التراخي، و قد اختلف في اقتضاء الامر للفور، او لجواز التراخي، او انه لا اقتضاء فيه لاحدهما و ان مدلوله صرف تعلق الطلب بالطبيعة من دون قيد الفورية او جواز التراخي.

ص: 435

.....

______________________________

و ظاهر المصنف، و غيره هو كون الخلاف في دلالة صيغة الامر على الفور او التراخي، او عدم دلالة الصيغة على شي ء منهما، و لذلك استدل المصنف بالتبادر على عدم دخل الفورية و جواز التراخي في مدلول الصيغة، لانها تشتمل على هيئة مدلولها الطلب، و على مادة مدلولها الطبيعة المتعلقة للامر، و ليست الفورية و لا التراخي جزءا من ماهية الطبيعة المتعلقة للامر، لكن ادلة القائلين بالفورية ظاهرة في ان الفورية مستفادة من ادلة خارجة عن ما وضع له لفظ الصيغة.

ثم لا يخفى انه فرق بين القول بالتراخي، و القول بعدم دلالة الصيغة الّا على طلب الطبيعة فقط مع انهما يشتركان في عدم المانع عن التراخي، لوضوح ان الصيغة اذا لم تدل على الفورية فلا مانع من التراخي، و مع دلالتها على التراخي فلا مانع من التراخي قطعا.

و حاصل الفرق بينهما: هو انه على القول بعدم دلالة الصيغة على الفور او التراخي لا بد من اثبات التراخي بمقدمات الحكمة، و اما على القول بدلالتها على التراخي فلا نحتاج في اثبات التراخي الى جريان مقدمات الحكمة، لأنه مع الدلالة اللفظية و الظهور اللفظي على التراخي لا مجال الى اثبات الظهور بمقدمات الحكمة، و الى هذا اشار بقوله: «نعم قضية اطلاقها جواز التراخي».

و اما ان مقدمات الحكمة تقتضي جواز التراخي، فلانه اذا كان المولى في مقام البيان و متعلق امره خال عن قيد الفورية، فلو اراد الفورية لبينها و الّا كان ناقضا لغرضه.

و لا يقال: انه ايضا لو أراد التراخي لبينه.

لانه يقال: انه اذا كان متعلق غرضه في امره نفس وجود الطبيعة من دون تقيّده باول ازمنة امكان وجوده، فمعناه ان نفس وجود الطبيعة متعلق الأمر من دون تقيّده بزمان خاص، و لازم هذا انه لا مانع من التراخي و هو معنى جواز التراخي.

ص: 436

الفورية (1). و فيه منع، ضرورة أن سياق آية وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ و كذا آية فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ* إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة و الاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب و الشر، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب و الشر، كان البعث بالتحذير

______________________________

(1) استدل القائلون بالفورية بادلة عمدتها الآيات: و هي آية فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ*(1)، و آية وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ 64] بتقريب دلالتهما على الامر بالسبق و الامر بالمسارعة، و الامر يدل على الوجوب.

اما آية الاستباق، فلان فعل المامور به من الخير فتدل آية الاستباق على وجوب السبق اليه، و ليس الفورية الّا وجوب السبق الى فعل المامور به.

و اما آية المسارعة فدلالتها على المطلوب: بان نقول: لا شبهة في ان فعل المغفرة من افعال اللّه تبارك فليست من مقدور العبد، فلا بد و ان يكون المتعلق للمسارعة هو فعل المكلف، و فعل المكلف الذي هو سبب المغفرة و رضى اللّه تعالى عنه هو فعل المامور به، فاتضح ايضا دلالة الآية على الفورية، اذ ليس الفور الّا المسارعة.

لا يقال: ان آية المسارعة الى المغفرة منحصرة في المسارعة الى التوبة و لا تشمل فعل المامور به، لانه لو كان فعل المامور به سببا للمغفرة للزم الاحباط الباطل عند الامامية، لأن المغفرة انما هي للذنوب التي فعلها العبد، و سقوط الذنوب اذا كانت بفعل الواجبات المامور به فمعناه ان فعل الواجب و الاتيان به يسقط الذنوب التي اقترفها، و ليس الاحباط إلا سقوط السيئة بفعل الحسنة.

فانه يقال: الاحباط الذي هو من المحال عند الامامية هو سقوط الاستحقاق لا فعل سبب المغفرة التي هي من افعال اللّه، و الّا فالامر في التوبة كذلك و لا اشكال في وجوب التوبة عند الامامية.

ص: 437


1- 63. ( 1) البقرة: الآية 148.

عنهما أنسب، كما لا يخفى (1) فافهم (2). مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، و كثير من الواجبات بل أكثرها، فلا بد من حمل الصيغة

______________________________

(1) و قد أجاب عن دلالتهما على الوجوب باجوبة ثلاثة:

الاول، ما اشار اليه بقوله: «و فيه منع ضرورة ... الى آخره».

و حاصله: ان الأمر في الآيتين لو كان دالا على وجوب الاستباق و المسارعة لكان لازم دلالتهما على ذلك كون ترك الاستباق الى الخير موجبا للشر، لوضوح ان ترك الواجب لازمه الوقوع في الشر و هو استحقاق العقاب، و كذلك آية المسارعة فانها لو دلت على وجوب المسارعة الى سبب المغفرة لكان ترك المسارعة ترك الواجب، و ترك الواجب مما يوقع في غضب اللّه، لأن غضب اللّه على عبده لا يكون الّا لفعله الحرام و ترك الواجب، فكان الانسب ان يكون البعث في هاتين الآيتين ليس بنحو البعث الى المسارعة و الاستباق، بل ينبغي ان يكون بنحو التحذير عن الوقوع في الغضب الذي تقتضيه آية المسارعة لو كانت للالزام و بنحو التحذير عن الوقوع في الشر الذي تقتضيه آية الاستباق لو كانت لها دلالة على الوجوب.

(2) لعله يشير الى دفع ما يرد عليه في بادئ النظر.

و حاصل الايراد: انه لا خصوصية للدلالة على الوجوب في هاتين الآيتين، و انه يلزم ان يكون كلما اراد المولى بيان الوجوب يقتضي ان يبعث بنحو التحذير عن الوقوع في ترك الواجب، و هو ظاهر البطلان و لا يلتزم به احد، فان الوجوب يستفاد من نفس صيغة الامر كما مر و لازم الوجوب ان يكون تركه مستلزما للشر و للغضب.

و الجواب عنه: ان نقول: انه لا ندعي ان كل وجوب يقتضي البعث اليه بنحو التحذير حتى يرد ما ذكرت، بل المراد انه اذا كان الداعي الى الوجوب هو ما يترتب على المامور به من المصلحة لا داعي الى البعث اليه بنحو التحذير، و اما اذا كان الداعي اليه هو التحرز عن الوقوع في المفسدة ينبغي ان يكون بنحو التحذير، و في المقام من قبيل الثاني، فان الداعي الى المسارعة الى المغفرة انما هو لاجل ان لا يقع في

ص: 438

فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب (1)، و لا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة و الاستباق، و كان ما ورد من الآيات و الروايات

______________________________

الغضب الذي استحقه، و الامر كذلك في آية الاستباق، فان الظاهر ان الذي يترتب عليه الخير هو نفس فعل المامور به و ليس في الاستباق خير آخر في قبال الخير الذي في المامور به، و الّا لكان شيئا آخر لا استباق الى ما هو الواجب و الخير، فحينئذ يكون الغرض ان ترك الاستباق الى الخير شر، فلذا ناسب ان يكون الامر فيه بنحو التحذير.

(1) هذا هو الجواب الثاني، و حاصله: انه لا بد من تخصيص هاتين الآيتين بعد البناء على دلالتهما على الوجوب، لوضوح انه كما انه بالاستباق الى فعل الوجوب تحصل المغفرة كذلك تحصل بالاستباق الى فعل المستحب، و لا يعقل ان يكون الاستباق الى المستحب واجبا بحيث يكون تركه موجبا للعقاب، فلا بد من التخصيص بالمستحبات و كذلك من تخصيصها بالواجبات التي دلت الادلة على جواز التراخي فيها، فان الاستباق و المسارعة اليها لا تجب قطعا بعد دلالة الادلة على جواز التراخي فيها، و خروج المستحبات باجمعها و كثير من الواجبات التي يجوز التراخي فيها يلزم اختصاص الآيتين بالفرد القليل النادر، و لا تكون آية الاستباق و المسارعة شاملة للاستباق الى فعل المستحبات و هذه الواجبات التي دل الدليل على عدم وجوب المسارعة فيها، و من الواضح ايضا ان الاستباق و المسارعة الى فعل المستحبات و هذه الواجبات التي يجوز التراخي فيها حسن و محبوب، و هو استباق الى ما يقتضي المغفرة و الخير، و لا بد من التماس دليل آخر للدلالة على استحباب المسارعة فيهما.

فالاولى ان يحمل الامر في الآيتين على استحباب المسارعة و الاستباق ليشمل الجميع، و لا داعي الى التماس دليل آخر لاستحباب المسارعة و الاستباق الى المستحبات و الواجبات التي يجوز التراخي فيها، و لذا قال (قدس سره): «فلا بد من

ص: 439

الواردة في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك، كالآيات و الروايات الواردة في الحث على أصل الاطاعة (1)، فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها، و لو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الاوامر الارشادية (2)،

______________________________

حمل الصيغة فيهما»: أي في آية الاستباق و المسارعة «على خصوص الندب» فتكون المسارعة مستحبة في الواجبات التي لم يدل الدليل بالخصوص على جواز التراخي فيها، و في المستحبات باجمعها، و في الواجبات التي دل الدليل على جواز التراخي فيها «أو» يحمل الاتيان على «مطلق الطلب» و هو مطلق الرجحان الجامع بين الوجوب و الاستحباب.

(1) هذا هو الجواب الثالث، و حاصله: انه لا اشكال في حسن المسارعة الى امتثال أمر المولى عند العقل، كما يحكم العقل بلزوم اطاعة المولى، و متى حكم العقل بشي ء كان غنيا عن حكم الشارع به، فاذا ورد امر به من الشارع كان ارشاديا لا مولويا، و الوجوب انما يكون في الامر المولوي دون الارشادي، فالامر في الآيتين كالامر في الآيات الدالة على الاطاعة.

و بعبارة اخرى: انه كما ان الاوامر في اصل الاطاعة و الامتثال ارشادية، كذلك الاوامر في المسارعة الى الاطاعة و الامتثال ايضا ارشادية.

(2) هذا التفريع لبيان الفرق بين الاوامر الارشادية و الاوامر المولوية الواردين في لسان الشارع.

و حاصله: ان الاوامر الارشادية الواردة في لسان الشارع انما هي بداعي ما ادرك العقل فيما يترتب على متعلقها من الغاية، و بعد ان ادرك العقل تلك الغاية و دعا لها دعوة عقلية يكون امر الشارع فيها ارشادا الى ما دعا له العقل، فليس امر الشارع في الاوامر الارشادية بما هو شارع و مولى، بل بما هو مرشد الى ما ارشد له العقل و دعا اليه، مثلا: امر الشارع بالاطاعة انما هو لما يترتب على نفس الاطاعة من حسن فعلها و قبح تركها التي ادركها العقل و دعا اليها، فالغاية التي دعت الشارع الى الامر هي

ص: 440

فافهم (1).

تتمة: بناء على القول بالفور، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا، في الزمان الثاني، أو لا؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة

______________________________

التي ادركها العقل، و هذا مراده من قوله: «فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة»: أي ان الامر المتعلق بالاطاعة لا داعي له سوى ما في الطاعة نفسها التي ادرك العقل ما يترتب عليها من حسن فعلها و قبح تركها و هذا مما يترتب على الاطاعة «و لو لم يكن هناك امر بها» من الشارع.

(1)

الاتيان فورا ففورا

لعله يشير الى ان ادراك العقل لحسن الفعل مختلف.

فتارة: يدرك حسنه و قبح تركه باستحقاق العقوبة عليه، كما في الاطاعة، فان العقل يدرك حسنها و ان فعلها قيام بمراسم العدل في العبودية، و يدرك قبح تركها و ان تركها ظلم في سلطان المولى و خروج عن رسم العبودية و الرقية، و مثل هذا لا بد و ان يكون امر الشارع فيه ارشاديا، بل في خصوص الاطاعة قالوا: بلزوم التسلسل اذا كان الامر مولويا، لوجوب اطاعة الامر المولوي، فيكون للاطاعة اطاعة و هلم جرا.

و اخرى: يدرك العقل حسن الفعل، و لا يدرك قبح تركه و استحقاق العقاب عليها، و في مثل هذا مجال واضح للامر بها امرا الزاميا مولويا، اذ لا غناء عن الامر المولوي بالامر الارشادي، فانه ما لم يكن للعقل حكم بترتب استحقاق العقاب على ترك الفعل يكون مجال لتركه، و يكون حينئذ مجال لحكم الشارع و امره به امرا مولويا، و مقامنا من قبيل الثاني، لأن العقل و ان ادرك حسن المسارعة الّا انه لا يدرك أن في ترك نفس المسارعة ظلما من العبد في سلطان المولى، بل الظلم في ترك الاطاعة اصلا، لا في ترك المسارعة اليها فيبقى مجال لامر الشارع بالاسراع الى الطاعة مولويا.

ص: 441

المطلوب أو تعدده (1) و لا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيدا (2).

______________________________

(1) حاصل هذه التتمة انه لو قيل بدلالة الصيغة على الفورية، فهل مفادها فورا ففورا؟: بمعنى ان المطلوب الذي دلت الصيغة على طلبه في وقته الذي يمكن اتيانه به تدل الصيغة على طلب اتيانه في ذلك الوقت فورا ففورا، فاذا لم يأت به في اول ازمنة امكانه ففي الزمان الذي بعده ايضا السرعة اليه مطلوبة، و هلم جرا الى ان يبلغ الى حد بحيث لو اتى به لا تصدق الفورية و المسارعة و هو آخر ازمنة امكان الاتيان به، و لازم كون الطلب بهذا النحو انه له عصيانات متعددة، فانه لو عصى الفورية في اول زمانها يمكنه اطاعتها في الزمان الثاني، و هكذا في الزمان الثالث.

او ان مفادها الفورية من دون دلالتها على كونها فورا ففورا؟ و لازم ذلك انه لو عصى الفورية و لم يات بالمطلوب في اول ازمنة امكان الاتيان به يسقط الطلب، فيرجع القول بها إلى ان المطلوب مضيق دائما الّا ان يدل الدليل على التوسعة.

و المبنى في كون المستفاد من الصيغة هو النحو الاول أو النحو الثاني- ان المستفاد من الصيغة تعدد المطلوب او وحدته.

و توضيحه: ان الامر المتعلق بالطبيعة على نحو الفور هل يرجع الى طلب متعلق بالطبيعة، و طلب متعلق بالفور؟ فهناك طلبان و مطلوبان، و مفاد هذا هو فورا ففورا، لأن طبيعة الفور لها طلب خاص بها، و لطبيعة الفور مصاديق متعددة اول الازمنة، ثم ثاني الازمنة، و هكذا، او ان المستفاد من الصيغة هو وحدة المطلوب، و ان المطلوب واحد و هو الطبيعة المقيدة بكونها عن فور و مسارعة، و على هذا فلو لم يات بها في اول الازمنة، لما امكن ان يأتي بها في الزمان الثاني، اذ ليست الطبيعة في الزمان الثاني هي الطبيعة المقيدة بالفورية.

(2) و حاصله: لو امكن ان يقال: بدلالة الصيغة على الفورية فلا دلالة لها على نحو كون الفورية مطلوبة في قبال الطبيعة المطلوبة لينتج تعدد المطلوب، كما انه لا دلالة

ص: 442

الفصل الثالث: فى الاجزاء

اشارة

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة بلا شبهة، و قبل الخوض في تفصيل المقام و بيان النقض و الابرام، ينبغي تقديم أمور (1):

أحدها: الظاهر أن المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا و عقلا، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا، فإنه عليه يكون على وجهه قيدا توضيحيا، و هو بعيد، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناء على المختار، كما تقدم من أن قصد

______________________________

لها على كون الفورية قيدا للمطلوب لينتج وحدة المطلوب، فغاية دلالة الصيغة ان متعلق هيئتها لا بد و ان يأتي به فورا، اما كون الفورية فيه على أي النحوين من تعدد المطلوب او وحدته فلا يستفاد ذلك من الصيغة.

(1) عنون المصنف (قدس سره) مبحث الاجزاء بغير العنوان المعروف، فإن عنوانه في الفصول يقتضي كونه من مباحث الامر، لانه قال: اختلفوا في ان الامر بالشي ء هل يقتضي الاجزاء الى آخر كلامه، و قال في القوانين: قانون الحق ان الامر يقتضي الاجزاء.

و المصنف لم يجعله بمقتضى عنوانه من مباحث الامر، بل جعل الاجزاء و عدمه من لواحق نفس الاتيان، لأن الاجزاء مما يتسبب عن اتيان المامور به على الوجه الذي يحصل به تمام الغرض الذي دعا الى الأمر به، و لا ربط للاجزاء بالامر، فهو من لواحق نفس الاتيان، و مثله ما في تقريرات الشيخ (قدس سره) قال فيها: اختلفوا في ان اتيان المامور به على وجهه يقتضي الاجزاء أو لا.

و على هذا فلا ينبغي عد الاجزاء من مباحث صيغة الامر، بل هو من مسائل الاصول العقلية، و لعلّه انما ذكرها في مباحث الصيغة لأن دليل الاجزاء في مرحلة اثباته انما هو اطلاق الامر، فلذا ناسب ان تذكر في مباحث صيغة الامر.

ص: 443

القربة من كيفيات الاطاعة عقلا، لا من قيود المأمور به شرعا، و لا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب، فإنه مع عدم اعتباره عند المعظم، و عدم اعتباره عند من اعتبره، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، و هو ما ذكرناه، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) المحتملات بدوا في لفظ «وجهه» الماخوذ في العنوان ثلاثة:

الأول: كونه قيدا توضيحيا فيكون عبارة عن نفس المامور به، فيكون المراد من قولهم: الاتيان بالمامور به على وجهه: أي بنفسه: فهو كما لو قالوا: الاتيان بالمامور به بنفسه.

و يرد عليه اولا: انه بعيد لأن الاصل في القيود الماخوذة في عناوين المباحث ان تكون تاسيسية لغرض يتوقف على ذلك القيد، لا توضيحيّة.

و ثانيا: انه لو كان توضيحيا للزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على مختار المصنف و جماعة من المحققين: من عدم امكان اخذ قصد القربة في المامور به، فالمأمور به فيها مما لا بد في كونه سببا للاجزاء من الحاقه بقصد القربة، و قصد القربة الذي يتوقف اجزاء المامور به عليه مما لا يمكن اخذه في المامور به لما تقدم من المحاذير، فلا يكون اتيان المامور به مما يوجب الاجزاء مع اتيانه بجميع شرائطه و قيوده التي اخذت فيه شرعا، و قصد القربة مما اخذ فيه عقلا لا شرعا، لعدم امكان اخذه شرعا، و لا وجه لخروجها عن حريم النزاع اذا امكن دخولها فيه، و اذا كان قيد على وجهه قيدا تاسيسيا لا توضيحيا تكون التعبديات داخلة في المبحث كما ستعرف ذلك.

الثاني: ان يكون المراد بعلى وجهه هو قصد الوجه الذي هو اتيان الفعل بداعي وجوبه او استحبابه.

و يرد عليه- ايضا- اولا: ان المعروف عند معظم الاصحاب الذين بحثوا في عنوان الاجزاء و حرّروه هو عدم اعتبار قصد الوجه، اذ لا دليل عليه كما تقدم بيانه في

ص: 444

.....

______________________________

التعبدي و التوصلي، فلا وجه لاخذه في عنوان هو محل البحث و النزاع عند الكل، الى هذا اشار بقوله: «مع عدم اعتباره عند المعظم».

و ثانيا: انه لو كان المراد منه هو قصد الوجه لاختص مبحث الاجزاء بخصوص التعبديات لا مطلق الواجبات، لوضوح انه لم يعتبر قصد الوجه عند من اعتبره الّا في خصوص العبادات، و الى هذا اشار بقوله: «و عدم اعتباره» الى آخر قوله «لا مطلق الواجبات».

و ثالثا: انه للعبادات و غيرها من الواجبات شروط و اجزاء كثيرة، فلا وجه لاختصاص قصد الوجه من دون ساير شرائطها و اجزائها لو كان قصد الوجه مما يعتبر في شرائط العبادة، فاللازم انه لو كان قصد الوجه مما يعتبر في اتيان المامور به وافيا بتمام الغرض- ان يكون داخلا في عنوان يعمه و غيره، و الى هذا اشار بقوله (قدس سره): «لا وجه لاختصاصه ... الى آخره».

الثالث: من الاحتمالات ان يكون المراد بعلى وجهه هو اتيان المامور به بجميع ما له دخل في ترتب الغرض الداعي الى الامر به عليه، سواء كان مما اخذ فيه من الاجزاء و الشرائط في لسان الشارع، او كان مما اعتبر فيه عقلا من دون اخذه شرعا فيه كقصد القربة او الوجه بناء على القول به، فانه على هذا لا يكون القيد توضيحيا كما في الاحتمال الاول، و لا يكون مختصا بالتعبديات كما هو مقتضى الاحتمال الثاني. اما عدم كونه توضيحيا فلشموله لقصد القربة التي لا يمكن اخذها في المامور به، فليس على وجهه هو نفس المامور به، فليس النزاع في هذا المبحث في اتيان نفس ما امر به، بل في اتيان ما امر به و ما اعتبره العقل فيه: بان يكون الماتي به مشتملا على جميع ما له دخل في الغرض الداعي للامر به، و ان كان ذلك الشي ء مما لا يمكن اخذه متعلقا للامر و اما عدم اختصاصه بالتعبديات و بخصوص قصد الوجه فيها فواضح.

ص: 445

ثانيها: الظاهر أن المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية و التأثير، لا بنحو الكشف و الدلالة، و لذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان عنوان هذا المبحث اشتمل على الفاظ لا بد من تفسيرها ليتضح العنوان المبحوث عنه، و قد تقدم الكلام في لفظ (على وجهه) و ما المراد منه.

و في هذا الثاني يتكلم في لفظ الاقتضاء و ما هو المراد منه، و لفظ الاقتضاء قد يطلق و يراد منه العلية و التاثير، كما يقال: النار تقتضي الاحراق، و قد يطلق و يراد منه الدلالة و الكشف، فيقال: البرهان الفلاني يقتضي كذا، او الاطلاق في مقام يقتضي كذا.

فهل المراد من الاقتضاء في هذا العنوان هو التاثير و العلية، أو الكشف و الدلالة؟

و الذي نسبه إلى نفس الاتيان كالمصنف لا بد و ان يريد منه- حينئذ- هو العلية و التاثير، لأن معنى كون الإتيان مقتضيا للاجزاء هو كون الماتي به المشتمل على كل ما له في تحقق الغرض الداعي الى الامر لا بد و ان يسقط الامر عند الاتيان به، لحصول الغرض الذي دعا اليه، فالاتيان له التاثير بنفسه الى انتهاء امد الامر و سقوطه، لحصول تمام الغرض الداعي الى الامر عن الاتيان بالمامور به على وجهه، و لذا قال (قدس سره): «الظاهر ان المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية و التاثير» و اشار الى ان الدليل على كون المراد منه هو العلية و التاثير نسبته الى نفس الاتيان في العنوان.

و اما من نسبه الى الامر فقال هل الامر بشي ء يقتضي الاجزاء؟ لا بد و ان يريد منه الدلالة و الكشف، فانه لا معنى لأن يكون نفس الامر بشي ء موجبا للتاثير في سقوط نفسه، بل المراد منه انه يدل و يكشف على انه اذا اتى بالمامور به على وجهه يسقط حينئذ.

ص: 446

إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، و أما بالنسبة إلى أمر آخر، كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره، بنحو يفيد الاجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده (1).

______________________________

(1) حاصل ان قلت: ان الاقتضاء بمعنى التاثير و العلية في السقوط، لا بمعنى الدلالة و الكشف انما يتم في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره، كاجزاء الاتيان بالمامور به الواقعي عن نفس امره، و كذلك الاتيان بالمامور به الاضطراري عن امره الاضطراري، و مثلهما الاتيان بالمامور به الظاهري عن الامر الظاهري، فان الداعي للامر بشي ء هو ذلك الغرض الذي دعا الى الامر به، فيكون الاتيان بالمامور به موجبا لانتهاء الامر به فيسقط، و اما كون الاتيان بمأمور به بامر علة و موجبا لسقوط امر آخر متعلق بشي ء آخر فلا معنى له، كاسقاط الاتيان بالمامور به الاضطراري او الظاهري للامر المتعلق بالمامور به الواقعي، و انما يكون الاتيان بهما مسقطا للامر الواقعي لاجل دلالة دليلهما على ان متعلقهما واف بالغرض الذي في المامور به الواقعي، أو بهما يتدارك الغرض فيه فيسقط الامر به حينئذ، فاذا يكون الامر بهما هو الذي يدل على سقوط الامر الواقعي، فالاقتضاء يكون بمعنى الكشف و الدلالة في اسقاطهما للامر الواقعي لا بنحو التاثير و العلية.

فان قيل بدلالة الامر بهما على ذلك سقط الامر الواقعي باتيانهما، و ان لم نقل بدلالة دليلهما على ذلك لا يسقط الامر الواقعي، بل لا بد من اتيان المامور به بالامر الواقعي بعد ارتفاع الاضطرار او ارتفاع الجهل، اما في الوقت او خارجه: أي اما اعادة او قضاء، و هذا مراده من قوله: «فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره»: أي ان دليل الامر الاضطراري و الظاهري هل يدل على كون الاتيان بمتعلقهما وافيا بتمام الغرض في المامور به الواقعي، او يتدارك بهما الغرض الذي فيه اولا. فان دل دليلهما على ان متعلقهما معتبر على نحو يكون وافيا بالغرض مثلا

ص: 447

قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما، إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء و يؤثر فيه، و عدم دلالته و يكون النزاع فيه صغرويا أيضا، بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلا كبرويا، لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض (1)

______________________________

افاد الاجزاء، و ان لم يدل دليلهما على ذلك لم يفد الاجزاء، و هذا مراده من قوله:

«بنحو يفيد الاجزاء او بنحو آخر لا يفيده».

(1) توضيحه ان النزاع: هو في ان ما تحمل لغرض الداعي للامر بشي ء اذا اتى به المكلف فهل يسقط الامر به ام لا؟

و هذا النزاع بالنسبة الى اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره دليله العقل، و بالنسبة الى كون الاتيان بالمامور به الاضطراري أو الظاهري مجزيا عن الامر المتعلق بالواقع دليله هو اطلاق الامر الاضطراري أو الظاهري، فان كان لهما اطلاق في اجزاء المأمور به فيهما عن الامر الواقعي: بان يدل الاطلاق فيهما على كون متعلقهما متحملا لغرض المامور به الواقعي، كما انه متحمل لغرض الامر بهما فيسقط الامر الواقعي بهما، لاستيفاء الغرض او لتدارك الغرض باتيانهما عن الغرض الذي في المأمور به الواقعي، و اذا لم يكن للامر الاضطراري او الظاهري هذا الاطلاق لم يكن اتيانهما مجزيا عن الامر الواقعي و موجبا لانتهاء امده و سقوطه، فالنزاع على كل حال في الاقتضاء بمعنى التاثير.

غاية الامر ان الدال على التاثير بالنسبة الى اسقاط الامر المتعلق بنفس المامور به هو العقل في مرحلة اجزاء الاتيان بالمامور به الواقعي عن امره و اتيان المامور به الاضطراري و الظاهري عن امرهما، و الدال على تاثير الاتيان في اسقاط الامر الواقعي في الاتيان بالمأمور به الاضطراري و الظاهري هو اطلاق دليلهما، و اختلاف الدليل الدال على كون المجزئ هو الاتيان و عدمه لا يوجب كون الاقتضاء في إجزاء

ص: 448

.....

______________________________

الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي هو بمعنى الكشف و الدلالة، لا بنحو التاثير و العلية، بل الاقتضاء في كلا المقامين بمعنى التاثير و العلية.

هذا هو الفرق الاول بين اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره، و بين اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري او الظاهري عن الامر الواقعي، و قد اشار بقوله: «غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما ... الى قوله و يكون النزاع».

و الفرق الثاني: هو ما اشار اليه بقوله: «و يكون ... الى آخره».

و حاصله: ان الفرق بينهما ايضا: بان النزاع في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره نزاع كبروي، و النزاع في اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي نزاع صغروي، لوضوح ان النزاع في وجود اطلاق في الامر الاضطراري يدل على اجزاء الاتيان بمتعلقه عن الامر الواقعي انما هو بعد الفراغ عن كون الاتيان بما فيه الغرض الداعي الى الامر موجبا لانتهاء أمد الامر و سقوطه، فبعد تمامية هذه الكبرى يصح النزاع: في ان الامر الاضطراري و الظاهري هل لهما اطلاق في كون متعلقهما باتيانه يحصل الغرض من المامور به الواقعي، او يكون بحيث لا يبقى مجال لاستيفائه فيسقط الامر الواقعي، او ليس لهما هذا الاطلاق؟

فالنزاع في اجزائهما عن الامر الواقعي صغروي بعد تمامية الكلام في الكبرى، و الّا فلو قلنا: بان الاتيان بنفس المامور به الواقعي لا يجزئ و لا يوجب سقوط امره- كما قال به ابو هاشم و من تبعه- فلا يصح النزاع في اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي، إلّا ان قول ابي هاشم و اتباعه في عدم اجزاء الاتيان بالمامور به عن نفس امره شاذ، و قد اشار (قدس سره) الى هذه الندرة و الشذوذ بقوله: «لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض».

ص: 449

فافهم (1).

ثالثها: الظاهر أن الاجزاء هاهنا بمعناه لغة، و هو الكفاية، و إن كان يختلف ما يكفي عنه، فإن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي، فيسقط به التعبد به ثانيا، و بالامر الاضطراري أو الظاهري (2) الجعلي،

______________________________

(1) لعله يشير الى ما يمكن ان يقال: ان كون النزاع في اجزاء الاضطراري و الظاهري عن الواقعي صغرويا لا ينبغي ان يعد من المسائل الاصولية، فان المسألة الاصولية هي المسألة التي تكون نتيجتها امرا كليا يقع في طريق الاستنباط، و النزاع في وجود اطلاق في دلالة الدليل الخاص و عدمه نتيجته امر جزئي فينبغي ان يكون من مسائل الفقه لا الاصول.

و الجواب عنه: ان المدار في كون المسألة من مسائل الاصول هو كون نتيجتها امرا كليا، و دلالة اطلاق الدليل- مثلا- على اجزاء المامور به الظاهري او الاضطراري عن الواقعي نتيجته امر كلي يقع في طريق الاستنباط.

(2) لفظ الاجزاء من جملة ما اشتمل عليه العنوان، و معناه لغة و عرفا هو الكفاية، و حيث ان البحث في موضعين: موضع اجزاء الاتيان بالمامور به على وجهه عن امره، و موضع اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي، فحينئذ تكون الكفاية التي هي معنى لفظ الاجزاء مختلفة بحسب ما تضاف اليه.

فتارة: يضاف اجزاء الإتيان بالمامور به الواقعي- مثلا- الى امره فيفيد سقوط التعبد بالامر الواقعي ثانيا.

و اخرى: يضاف إجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري و الظاهري الى الامر الواقعي فيفيد سقوط القضاء في خارج الوقت، فلا ينبغي ان يكون لهم اصطلاح جديد في لفظ الاجزاء بعد ان كان بما له من المعنى اللغوي، و موارد استعماله في العرف يفيد الغرض المطلوب به في هذا المبحث، فلا بد و ان يكون تفسير القوم للفظ الاجزاء بغير الكفاية تفسيرا له باللازم.

ص: 450

فيسقط به (1) القضاء، لا أنه يكون هاهنا اصطلاح، بمعنى إسقاط التعبد

______________________________

و على كل فقد فسر بعضهم لفظ الاجزاء بما يسقط التعبد بالمامور به ثانيا، و هذا التفسير بظاهره لا يشمل اجزاء الاضطراري و الظاهري عن الواقعي، بل هو ظاهر في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امر نفسه، فان ظاهر قوله: «ثانيا» ان الاول الذي اتى به هو عين الثاني الذي يسقط الامر به بعد اتيان الاول، و لا معنى للاقتصار في هذا البحث على اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره.

و بعضهم فسر الاجزاء بما يسقط به القضاء، و لا بد و ان لا يريد من القضاء معناه المعروف: و هو الاتيان في خارج الوقت، اذ لا معنى لاهمال الاعادة في الوقت، فلا بد و ان يريد من القضاء هو الاتيان مطلقا سواء كان في الوقت او خارجه، و على هذا يكون عاما للموضعين: اجزاء المامور به عن امره، و اجزاء المامور به الظاهري و الاضطراري عن الواقعي، إلّا أنّك قد عرفت ان معنى الاجزاء لغة هو الكفاية و هي تختلف بحسب ما تضاف اليه، فان اضيفت الى نفس الامر المتعلق بالمامور به افادت سقوطه، و ان اضيفت الى امر متعلق بغيره افادت سقوط ذلك الغير ايضا فتعم الموضعين: اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره، و اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي، فلا داعي لاصطلاح جديد و نقله الى معنى: و هو سقوط القضاء- كما بيناه- فلا بد و ان يراد من هذا التفسير باللازم الذي هو المهم للقضية في هذا البحث.

(1) يمكن ان يكون الجعلي راجعا الى الاضطراري و الظاهري، فيكون معناه: ان الاتيان بالاضطراري و الظاهري الذي جعل في حال عدم تنجز الامر الواقعي، إما لعدم القدرة عليه كما في الاضطرار عليه او للجهل به، كما في موارد الاوامر الظاهرية و يمكن ان يكون الجعلي راجعا لخصوص الظاهري فيكون معناه: ان سبب اجزاء الظاهري عن الواقعي انما هو بسبب التوسع في الجعل في الأوامر الظاهرية:

ص: 451

أو القضاء (1)، فإنه بعيد جدا (2).

رابعها: الفرق بين هذه المسألة، و مسألة المرة و التكرار، لا يكاد يخفى، فإن البحث هاهنا في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا، بخلافه في تلك المسألة، فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بدلالة أخرى. نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، و هكذا الفرق بينها و بين مسألة تبعية القضاء للاداء، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية و عدمها، بخلاف هذه المسألة، فانه كما عرفت في أن الاتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء، أو لا يجزي، فلا علقة بين المسألة و المسألتين أصلا. إذا عرفت هذه الامور، فتحقيق المقام يستدعي البحث و الكلام في موضعين (3):

______________________________

باعتبار الشرطية- مثلا- اعم من الطهارة الواقعية او الظاهرية، كما سيأتي قريبا- إن شاء اللّه-.

(1) يشير به الى التفسير الثاني.

(2) قد عرفت سبب البعد.

(3) لا يخفى انه لا وجه لتوهم عدم الفرق بين هذه المسألة و مسألتي المرة و التكرار، و تبعية القضاء للاداء، لاختلاف العناوين اختلافا تاما، إلّا انه حيث كان الغرض من البحث في هذه العناوين هو النتيجة المترتبة على البحث، و نتيجة البحث في المرة و التكرار هو الاجتزاء بالاتيان مرة واحدة على القول بالمرة، و تكرار العمل ثانيا على القول بالتكرار، و البحث في مسألة الاجزاء ايضا نتيجته على القول بالاجزاء هو اتيان العمل مرة واحدة، و على القول بعدم الاجزاء تكرار العمل ثانيا، فلذلك توهم عدم الفرق بين المسألتين.

ص: 452

.....

______________________________

و مثله وجه توهم عدم الفرق بين مسألة تبعية القضاء للاداء، و مسألة الاجزاء، فان القول بتبعية القضاء للاداء نتيجته انه لم يات بالمامور به في وقته فالامر يدل على اتيانه في خارجه، و اذا لم نقل بالتبعية فاذا لم يات بالمامور به في وقته فلا دليل لنفس الامر على اتيانه في خارجه، و في مسألة الاجزاء في اجزاء الامر الاضطراري و الظاهري عن الواقعي ايضا النتيجة كذلك، فان قلنا: باجزاء الامر الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي معناه: انه مع عدم الاتيان بالامر الواقعي في وقته لا يؤتى به في خارجه، و ان قلنا: بعدم اجزائهما عن الامر الواقعي معناه: انه مع عدم اتيانه في وقته يؤتى به في خارجه.

و اما البحث في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره فلا وجه لتوهم الربط بينها و بين مسألة تبعية القضاء للاداء، لأن موضوع مسألة التبعية هو عدم اتيان المامور به في وقته، و في مسألة الاجزاء عن امره الموضوع للبحث هو فرض اتيان المامور به في وقته، فلا وجه للتوهم اصلا.

و على كل فالفرق بين مسألة الاجزاء و مسألة المرة و التكرار: هو ان البحث في مسألة الإجزاء في ان الاتيان بالمامور به بعد معرفة ما هو المامور به بجميع شئونه هل يسقط الامر بالاتيان به ام لا؟ و اما البحث في المرة و التكرار ففي ان المامور به ما هو هل المرة أو التكرار؟ و هل ان الصيغة تدل بنفسها على المرة أو التكرار، أو تدل بواسطة القرائن العامة على المرة و التكرار؟ و هذا مراده من قوله: «أو بدلالة اخرى» لوضوح ان القرائن الخاصة لو دلت على المرة أو التكرار فلا كلام لاحد في ذلك و لا نزاع، و قد اشار (قدس سره) الى هذا الفرق بقوله: «فان البحث هاهنا في ان الاتيان ... الى آخره».

الفرق الثاني انه لا ملازمة في النتيجة بين القول بالمرة و القول بالاجزاء، فانه يمكن ان يقال- هناك- بدلالة الصيغة على ان المامور به و المطلوب هو المرة من الطبيعة، و ان يقال- هنا- بعدم اجزاء الاتيان بالطبيعة مرة واحدة. نعم القول بالتكرار الدائمي في

ص: 453

.....

______________________________

تلك المسألة، و القول بعدم الاجزاء هنا متوافقان في مقام العمل لا في الملاك، فان الملاك في تلك المسألة للتكرار هو ان المطلوب المدلول عليه بالصيغة متكرر، و في هذه المسألة التكرار انما هو لعدم اجزاء الاتيان بما هو المطلوب في سقوط الامر.

و بعبارة اخرى: ان التكرار هناك لتعدد الاوامر فكل مامور به يسقط امره، و في هذه المسألة التكرار انما هو لعدم سقوط الامر الواحد، فالامر الاول بنفسه باق، لا ان هناك اوامر متعددة يسقط بكل مامور به اتى به امره المتعلق به، و يكرر العمل لاسقاط الامر الثاني، و هلم جرا، و الى هذا اشار بقوله: «نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه».

و اما الفرق بين مسألة تبعية القضاء للاداء، و مسألة الاجزاء:

فأولا: ما عرفت من انه لا موجب للتشابه في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره، و عدم اجزائه عنه، لاختلاف الموضوع، فان الموضوع في تلك المسألة هو عدم الاتيان بالمامور به في وقته، و الموضوع في هذه المسألة هو الاتيان به في وقته. نعم، في مسألة اجزاء الاضطراري و الظاهري عن الامر الواقعي و عدمه لو انكشف الخلاف بعد مضي الوقت مجال لدعوى التشابه.

و ثانيا: ان البحث في مسألة تبعية القضاء للاداء انما هو في ان المدلول عليه بالصيغة هل هو الطبيعة المقيدة بالوقت فالمطلوب واحد؟ أو ان المدلول عليه فيها متعدد و ان الطبيعة بنفسها مطلوبة، و كونها في الوقت مطلوبا آخر؟ فالنزاع في دلالة الصيغة، و البحث في هذه المسألة ليس في دلالة الصيغة، بل في ان الاتيان بما دلت عليه الصيغة هل يسقط الامر الواقعي فيجزي؟ او لا يسقطه فلا يجزي؟ فلا ربط و لا علقة بين المسألتين.

ص: 454

الاول: إن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزي عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه، لاقتضاء التعبد به ثانيا (1).

نعم لا يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال و التعبد به ثانيا، بدلا عن التعبد به أولا، لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة، و ذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض، و إن كان وافيا به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعد، فإن الامر بحقيقته و ملاكه لم يسقط بعد، و لذا لو أهرق الماء و اطلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، و إلا لما أوجب

______________________________

(1) يحكم العقل حكما جزميا بسقوط الامر المتعلق بالمامور به الواقعي، و كذلك الامر الاضطراري المتعلق بالمامور به الاضطراري، و مثلهما الامر الظاهري المتعلق بالمامور به الظاهري اذا اتى بالمامور به بجميع ما له دخالة في حصول الغرض به، لانه لو لم يسقط مع تحقق الغرض الداعي له فبقاؤه يكون من بقاء المعلول بلا علة، و اما ان يكون بقاؤه لعدم تحقق الغرض و هو خلف، لأن المفروض انه قد اتى بالمامور به المتحمل للغرض بجميع ما له دخالة في تحقق الغرض، و لا ينبغي التعليل لبقاء الامر بلزوم تحصيل الحاصل، لأن الكلام في امكان بقائه و عدمه، لا في مقام انه لو بقى للزم ان يكون الطلب للغرض الحاصل من تحصيل الحاصل، و لان تحصيل الحاصل المحال هو ايجاد الموجود لا ايجاد مثل الموجود.

و على كل فالعقل يحكم بلزوم سقوط الامر، و لذا قال (قدس سره): «لا مجال مع موافقة الامر باتيان المامور به على وجهه»: أي بجميع ما له دخالة في تحقق الغرض منه «لاقتضاء التعبد به ثانيا» لأن المفروض ان الداعي للطلب هو الغرض، و قد فرض حصوله باتيان المامور به.

ص: 455

حدوثه، فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر، كما كان له قبل إتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل (1).

______________________________

(1) قد مر بيانه في مبحث المرة و التكرار.

و حاصله: ان الغرض المترتب على اتيان المامور به مختلف، فتارة يكون المامور به علة تامة لحصوله، كما مثل له باهراق الماء في فم المولى، فان الغرض الداعي الى طلب الماء هو رفع العطش بشربه، فاذا امر المولى عبده باهراق الماء في فمه فاهرق العبد الماء في فم المولى لا بد و ان يسقط الامر الداعي لطلب اهراق الماء في فمه، لانه باهراقه في فمه يرتفع العطش الداعي للطلب، فلا محالة يسقط الامر، و لا مجال لبقائه لانه من بقاء المعلول بلا علة، و اما اذا كان المامور به هو احضار الماء و الغرض منه رفع عطش المولى: بان يشربه المولى بنفسه، فلا يكون احضار الماء الذي هو المامور به علة تامة لحصول الغرض، بل يتوسط بينه و بين الغرض الذي هو رفع العطش ارادة المولى للشرب و شربه له، فيكون المامور به له اقتضاء في رفع العطش، و لا يكون علة تامة اذا احضر العبد الماء، فلا يسقط الامر بمجرد احضار الماء، اذ المقتضى بنفسه ما لم يحصل له معه تمام شرائط التأثير لا يؤثر، و ما لم يشرب المولى الماء لا يؤثر احضار الماء في رفع العطش، و لكن حيث كان المامور به نفس احضار الماء فللعبد ان يقتصر على هذا الاحضار، لانه يمكن ان يرتفع به عطش المولى لو شربه، و حيث ان الغرض بعد لم يحصل فللعبد ان يبدل الماء الذي احضره بماء آخر غيره.

و الدليل على ان له التبديل هو انه لو اهريق الماء قبل ان يستعمله المولى، فان العقل يلزم العبد باحضار ماء غيره من دون ان يامر المولى مرة اخرى باحضار الماء،

ص: 456

.....

______________________________

و لو كان الامر يسقط بمجرد الاحضار لما الزم العقل العبد باحضار ماء ثان من دون ان يامر المولى بالاحضار ثانيا.

و بعبارة اخرى: ان الغرض الداعي الى الامر ما لم يحصل لا يعقل سقوط الامر الذي كان العلة له الغرض، و لو امكن سقوطه قبل حصول الغرض الذي هو العلة له لما امكن ان يحدث الامر من رأس، لأن المفروض ان العلة للامر هو تحصيل غرضه بما امر به، فلو جاز ان يسقط الامر من دون تحصيل غرضه و حال عدم تحقق الغرض الذي هو العلة للامر لما جاز ان يحدث الامر من أصله، لأن مرجع ذلك الى كون تحصيل الغرض ليس هو العلة للامر و هو خلف. فهذا برهان على ان الامر الأول لم يسقط، لا انه امر آخر حدث باهراق الماء، و الى هذا اشار بقوله:

«ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي اليه و الّا لما اوجب حدوثه» فدل ما ذكرناه على أن للعبد تبديل ما أتى به بفرد آخر، و يكون الحال في جواز تبديل ما اتى به بفرد آخر كالحال في جواز التبديل قبل الاتيان به و احضاره، فكما ان للعبد بضرورة العقل جواز ان يبدل الماء بماء آخر قبل ان يحضره عند مولاه، كذلك له ان يبدله بماء آخر بعد احضاره، و المناط في ذلك هو كون المامور به ليس بعلة تامة لحصول الغرض، و الى هذا اشار بقوله: «كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه».

اذا عرفت هذا فان دل الدليل على انه بنحو العلة التامة فلا معنى لتبديل الامتثال، و ان دل الدليل على انه بنحو الاقتضاء فله تبديل الامتثال، و ان لم يعرف من الدليل انه على أي نحو فله التبديل برجاء و احتمال ان يكون من قبيل الثاني، لوضوح القطع: بانه لا مانع عن التبديل، لانه اذا كان الاتيان علة تامة فقد سقط الامر و يقع ما اتى به لغوا، و ربما يحصل له ثواب الانقياد حيث يكون التبديل لانه احسن من الفرد الاول، و اذا كان الاتيان بالمامور به له رتبة الاقتضاء في ترتب الغرض فيقع الفرد الثاني امتثالا للامر، لعدم سقوطه بالاتيان الأول، و الى هذا

ص: 457

.....

______________________________

اشار بقوله: «بل لو لم يعلم انه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله اليه سبيل»: أي فله الى التبديل و وقوع ما أتى به امتثالا للامر سبيل، هذا.

و لكن قول المصنف: لا يبعد ان يقال، لا بنحو الجزم ربما يكون اشارة الى عدم معقولية التبديل، و انه لا بد و ان يكون المامور به دائما علة تامة للغرض الداعي الى الامر، اذ لا يعقل ان يكون الغرض الداعي الى الامر بشي ء غرضا لا يترتب على اتيانه، بل على شي ء آخر، و ما ذكره من المثالين: الامر باحضار الماء، و الامر باهراق الماء في الفم و ان الغرض في كليهما واحد و هو رفع العطش فغير مسلم، بل هناك غرضان، و الغرض من الامر باحضار الماء غرض غير الغرض من الامر باهراق الماء في الفم، فان الغرض من الامر باحضار الماء ليس هو رفع العطش، بل تمكن المولى مما يرفع به العطش، و التمكن قد ترتب على نفس الاحضار فلا بد من سقوط الامر بالاحضار، بخلاف الامر باهراق الماء في الفم فان الغرض منه ايصال الماء الى الحلق، و كل امر تعلق بشي ء لا بد و ان يكون الداعي الى الامر بذلك الشي ء هو ما يتحمله ذلك الشي ء من الغرض الذي هو الداعي لتعلق الامر به، و اما الغرض الذي لا يتحمله ذلك الشي ء فلا يعقل ان يكون هو الداعي للامر به، اذ العلة الغائية للشي ء ما ترتبت على نفس ذلك الشي ء، لا ما ترتبت على غيره، فان المترتبة على غيره علة غائية لغيره لا له.

نعم ربما يكون الغرض المترتب على المامور به له مقدمية الى غرض آخر، و لكن المفروض ان ما به يقوم الغرض الآخر لم يؤمر به العبد، و ما امر به العبد هو المتحمل للغرض الداعي للامر به، و كونه شيئا مقدميا لغرض آخر لا يكون فارقا، فان الكلام في سقوط الامر المتعلق بالمامور به، و حيث ترتب عليه الغرض الداعي للامر به فلا بد من سقوطه، و الّا كان من بقاء المعلول بلا علة، و اما التبديل قبل الاحضار فلوضوح انه إنما جاز لأن الغرض الداعي للامر لم يحصل و هو تمكن المولى، و لا يحصل التمكن الّا بعد الاحضار، ففرق بين التبديل قبل الاحضار، و التبديل بعد الاحضار.

ص: 458

و يؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة، و أن اللّه تعالى يختار أحبهما إليه (1).

______________________________

و أما حكم العقل بلزوم إحضار الماء لو اهريق الماء قبل استعمال المولى فلتجدد الامر بالاحضار، لأن المفروض علم العبد: بان امر المولى بالاحضار للتمكن من استعماله في رفع العطش، و حيث لم يستعمله و العطش موجود فيعلم العبد بتجدد الامر بالاحضار.

(1) ورد في جملة من الاخبار استحباب اعادة الصلاة جماعة لمن صلى اولا منفردا، و في هذه الاخبار فقرات تدل بظاهرها على عدم سقوط الامر بمجرد اتيان الصلاة للمنفرد، فانه ورد فيها (انه يعيدها و يجعلها الفريضة و يختار اللّه احبهما اليه)، و في بعضها: (يحسب له افضلهما و اتمهما)، فان ظاهر قوله عليه السّلام: (يجعلها الفريضة(1)): أي يقصد بها امتثال الامر الوجوبي، و لازمه عدم سقوط الامر بمجرد الاتيان منفردا، و ايضا ظاهر قوله عليه السّلام: (يختار اللّه احبهما اليه) ان الذي يقع به الامتثال هو الاحب، و لو كان الامتثال واقعا بمجرد الاتيان الاول لما كان مجال لاختيار الاحب، و مثله قوله عليه السّلام: (يحسب له افضلهما و اتمهما)، فان الظاهر ان المحسوب للعبد واحد منهما لا كلاهما، و لو كان الامر يسقط بمجرد الاتيان الاول لما كان مجال لامكان ان يحسب له الاتيان الثاني، مع ان الظاهر امكان حساب الاتيان الثاني، فامكان احتسابه دليل على عدم سقوط الامر بمجرد الاتيان الاول، فهذه الفقرات تدل على امكان تبديل الامتثال بالامتثال.

و حيث عرفت عدم امكان تبديل الامتثال بالامتثال، فلا بد و ان يكون المراد بقوله عليه السّلام: (يجعلها الفريضة) هو جعل عنوانها عنوان الظهر أو العصر، لا جعل عنوانها عنوان النافلة و ان كانت هي مستحبة لا واجبة.

ص: 459


1- 65. ( 1) الوسائل ج 5: 455/ 1 باب 54 من أبواب صلاة الجماعة.

الموضع الثاني: و فيه مقامان:

المقام الاول: في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة، و في خارجه قضاء، أو لا يجزي تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء، و بيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء و عدمه، و أخرى في تعيين ما وقع عليه (1).

فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار، وافيا بتمام المصلحة، و كافيا

______________________________

و ان المراد من اختيار احبهما اليه هو ان اللّه يعطيه ثواب افضلهما، و حيث ان المعادة هي الصلاة التي وقعت على نحو الانفراد فالثانية تزيد عليها بفضل الجماعة، فالثانية تشتمل على الاولى و زيادة فلا معنى لاختيار ما به الاشتراك بينهما، بل الاختيار لما فيه الفضيلة و الزيادة.

و ان المراد بحساب افضلهما و اتمهما انه للاولى الانفرادية درجة من الثواب، و حيث ان هذه الدرجة تزيد و تنتقل من حدها الى الحد القوي باتيان الصلاة ثانيا جماعة، فقد زاد الحد الاول و اندمج في الحد الاعلى، فلذا يحسب له افضلهما و اتمهما، و هذا الوجه يمكن ان يكون وجها ايضا لاختيار الأحب اليه تعالى.

(1) اجزاء المامور به الاضطراري عن الامر الواقعي حيث انه شي ء آخر غير المامور به الواقعي، و اجزاء شي ء عن شي ء لا بد من التكلم فيه في مرحلتين: في مرحلة الثبوت، و الاثبات: بان يكون المامور به الاضطراري قابلا لأن يكون مجزيا عن المأمور به الواقعي، و ان يدل دليل على كونه مجزيا، و الاولى مرحلة الثبوت، و الثانية مرحلة الاثبات، و اشار الى الاولى بقوله: «في بيان ما يمكن ان يقع عليه ... الخ» و اشار الى الثانية بقوله: «و اخرى في تعيين ما وقع عليه».

ص: 460

فيما هو المهم و الغرض، و يمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شي ء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن. و ما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب، و لا يخفى أنه إن كان وافيا به فيجزي، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، لا قضاء و لا إعادة (1)، و كذا لو لم يكن وافيا، و لكن

______________________________

(1) لا يخفى ان الاوامر الاضطرارية و الظاهرية ورودها بنحو كونها ابدالا عن الامر الواقعي، و لا بد في البدل و المبدل من نحو مسانخة بين الغرض المترقب منها، و لو كانت المصالح فيهما مباينة للمصلحة الواقعية فلا معنى للبدلية، و الّا جاز أن يكون كل شي ء بدلا عن كل شي ء، و بعد كونها ابدالا عن الواقع يكون مجال لتقسيمها من ناحية وفائها بالغرض الواقعي و عدم وفائها به تماما، و لذا قسمها الى ذلك فقال (قدس سره): «انه يمكن ان يكون التكليف ... الخ» و هذا هو القسم الاول و هو كون الاضطراري وافيا بتمام الغرض المترتب على المامور به الواقعي الاختياري.

و انما قيده بقوله: «في حال الاضطرار» لدفع توهم ان يقال: انه اذا كان المامور به الاضطراري وافيا بتمام ما للمأمور به الاختياري من الغرض لا معنى لجعله في حال الاضطرار، بل ينبغي ان يكون الامر به في عرض المامور به الاختياري، فدفع هذا التوهم بقوله: ان الاضطراري انما يكون وافيا بتمام الغرض بشرط الاضطرار.

و ايضا لا يقال: انه اذا كان بشرط الاضطرار وافيا بتمام الغرض فيجوز للمكلف ان يحدث الاضطرار و لا يلتزم به احد.

فانه يقال: انه يجوز ايضا ان يكون الاضطرار الحاصل من طبعه و من غير احداث المكلف له هو الشرط في الوفاء بتمام الغرض، لا مطلق الاضطرار، و هذا القسم لا اشكال في اجزائه عن الامر الواقعي، و سقوط الامر الواقعي عند اتيان المامور به بالامر الاضطراري، لحصول الغرض الداعي الى الامر الواقعي كما مر بيانه في سقوطه باتيان المامور به الواقعي الاختياري عينا، و الّا كان بقاؤه من بقاء المعلول بلا علة فلا اعادة و لا قضاء.

ص: 461

لا يمكن تداركه و لا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض، و تفويت مقدار من المصلحة، لو لا مراعاة ما هو فيه من الاهم (1).

______________________________

و اما حكم هذا القسم من ناحية جواز البدار اليه في اول الوقت، او مع اليأس، أو وجوب الانتظار الى آخر الوقت: أي كون المامور به الاضطراري مجزيا عن الاختياري بمجرد عروض الاضطرار، او مع اليأس من التمكن من الاختياري، و على هذين الفرضين يجوز البدار و لا مانع منه و لا اعادة و لا قضاء، او انه لا يكون الاضطراري كذلك، بل انما يكون وافيا بالغرض حيث يقع في آخر الوقت و لا مجال في هذا الفرض للاعادة، لكونه في آخر الوقت، و لا مجال للقضاء لفرض وفائه بتمام الغرض، و قد اشار المصنف الى اجزائه بقوله: «فيجزي فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء و لا اعادة» و اشار الى حكم البدار فيه بقوله: «و اما تسويغ البدار او ايجاب الانتظار في الصورة الاولى» و اراد بالصورة الاولى هو القسم الأول، و حيث تعرض اولا لحكم البدار في الصورة الثانية ثم عطف عليها حكم البدار بهذه الصورة قال:

«في الصورة الاولى» قال (قدس سره): «فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا»: أي بمجرد حصول الاضطرار من غير شرط الانتظار أو شرط حصول اليأس يكون المامور به الاضطراري وافيا بتمام الغرض في المامور به الاختياري، أولا يكون كذلك، بل يكون وفاؤه بتمام الغرض مقيدا اما بالانتظار و الاتيان به في آخر الوقت أو بشرط اليأس، فلا يجوز البدار بمجرد الاضطرار، اما في ما كان الانتظار شرطا فلا موضوع لجواز البدار، و اما في الثاني فيجوز بشرط اليأس من التمكن من المامور به الاختياري، و كون الحال في المامور به الاضطراري في وفائه بتمام الغرض على أي نحو موكولا الى ما يستفاد من دليله الدال على بدليته و وفائه بتمام الغرض.

(1) لا يخفى ان هذا القسم هو الثالث في تقسيمه، لانه بعد ما ذكر القسم الاول: و هو كون المامور به الاضطراري وافيا بتمام الغرض في المامور به الاختياري قال:

ص: 462

.....

______________________________

«و يمكن ان لا يكون وافيا كذلك بل يبقى منه شي ء امكن استيفاؤه او لا يمكن» ثم قسم ما يمكن استيفاؤه الى ما يجب تداركه او يستحب، فما لا يمكن استيفاؤه هو القسم الثالث في كلامه، و لكنه قدمه في مقام ذكر حكمه من الاجزاء و جواز البدار، و انما قدمه لمساواته للقسم الاول من حيث لزوم سقوط الامر الواقعي بعد اتيان الاضطراري، لأن المفروض كون الاضطراري يستوفي مقدارا من الغرض الواقعي و الباقي منه لا يمكن تداركه، فلا معنى لبقاء الامر الواقعي بعد عدم امكان حصول الغرض منه، لأن المقدار الذي حصل منه في اتيان الاضطراري لا معنى لتحصيله و الباقي لا يمكن تداركه فلا معنى لبقائه، فهذا القسم في سقوط الامر الواقعي به مساو للقسم الاول، و لذا قال: «و كذا لو لم يكن وافيا و لكن لا يمكن تداركه».

ثم لا يخفى ان هذا القسم و ان انقسم عقلا الى ما يجب تداركه لو امكن اتيان الامر الواقعي، و الى ما كان الباقي مستحبا غير لازم التدارك في حد ذاته، إلّا ان ما كان الباقي منه مستحبا في حد ذاته لا يفترق حكمه عن حكم القسم الاول: و هو ما كان وافيا بتمام الغرض، لانه مثله في سقوط الامر الواقعي به، و مثله في جواز البدار لو كان وفاؤه بمجرد حصول الاضطرار، اذ لا بأس بتفويت الغرض المستحب.

نعم يفترق عنه في الفرض المذكور انه يكون الانتظار فيه مستحبا، و اما ما كان الغرض الباقي منه لازم الاستيفاء و باتيان المامور به الاضطراري يفوت تداركه فان هذا القسم و ان كان كالقسم الاول في انه باتيانه يسقط الامر الواقعي لعدم معنى لبقائه بعد عدم امكان تداركه، إلّا انه يختلف عنه في جواز البدار، فانه لا بد و ان لا يجوز البدار في هذا القسم، لأن اللازم من جواز البدار في هذا القسم ارتكاب المولى لما ينقض غرضه، لأن المفروض ان الباقي لازم الاستيفاء، و اذا اجاز البدار فبادر المكلف في اتيان المامور به الاضطراري لا يمكن استيفاء الغرض الباقي اللازم استيفاؤه، مع انه يمكن ان لا يجوز البدار و يرتفع الاضطرار في آخر الوقت فيستوفي الغرض الواقعي بتمامه، فتجويز البدار من الحكيم في هذا الفرض نقض لغرضه،

ص: 463

فافهم (1).

______________________________

و يلزم منه ان يكون المولى باختياره في تجويزه البدار قد فوت على نفسه، او على عبده الغرض اللازم الاستيفاء، و فوت مقدارا من المصلحة يلزم المحافظة عليها مهما امكن، اما لو لم يجز البدار فان ارتفع الاضطرار في الوقت فيحصل الغرض بتمامه باتيان المامور به الواقعي، و ان استمر الاضطرار فلا بأس باتيان الاضطراري لئلا يفوت الغرض بتمامه.

نعم اذا كان في نفس تجويز البدار مصلحة اهم من المصلحة الفائتة من الامر الواقعي، كمصلحة التسهيل و جعل المكلف في فسحة بعدم التضييق عليه- مثلا- يسوغ للمولى تجويز البدار و الى هذا اشار بقوله: «و لا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة»: أي في صورة كون الامر الاضطراري غير واف بتمام المصلحة، و كان الباقي من المصلحة لازم الاستيفاء، و لا يمكن تداركه بعد اتيان الاضطراري فلا يسوغ البدار «الا لمصلحة كانت فيه»: أي في نفس تجويز البدار و لو لا هذه المصلحة لا يسوغ البدار «لما فيه من نقض الغرض و تفويت مقدار من المصلحة» اما اذا كان في تجويز البدار مصلحة اهم من المصلحة الفائتة فيسوغ، و لذا قال (قدس سره):

«لو لا مراعاة ما هو فيه من الاهم»: أي ما في نفس تجويز البدار من المصلحة التي هي اهم من المصلحة الفائتة.

(1) يمكن ان يكون اشارة الى انه لا داعي الى التزام كون مصلحة جواز البدار اهم من المصلحة الفائتة، بل يجوز لو كانت مصلحة البدار مساوية للمصلحة الفائتة ايضا، و يمكن ان يكون اشارة الى ان نقض الغرض و تفويت مقدار من المصلحة اللازمة ليس مسببا عن تجويز البدار و الامر بالمامور به الاضطراري في اول الوقت، لانه على الفرض المذكور-: و هو كون المامور به الاضطراري اذا اتى به لا يمكن معه تدارك المامور به الواقعي الاختياري- يكون بينهما التضاد، و ليس لاحد الضدين

ص: 464

لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه و لو بشرط الانتظار، لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (1).

______________________________

مقدمية، لعدم الضد الآخر فلا يكون الامر به مسببا لعدم الامر الآخر، فلا يلزم من نفس الامر باحد الضدين نقض الغرض اللازم و تفويته.

نعم، لازم الامر بالاضطراري و تجويز البدار اليه الاذن في ترك المصلحة اللازمة التي تفوت من المامور به الواقعي، و الاذن في ترك المصلحة اللازمة يلزمه نقض الغرض و تفويت المصلحة اللازمة، فنقض الغرض و تفويت المصلحة اللازمة لازم تجويز البدار و هو الاذن في تركها، و ليس سببه نفس تجويز البدار، بل لازمه، و ربما اشار الى هذه الدقة بقوله: «فافهم».

(1) حاصل لا يقال انه اذا كان المامور به الاضطراري يفي ببعض الغرض في المامور به الواقعي، و يبقى منه شي ء لازم الاستيفاء و لا يمكن تداركه بعد اتيان الاضطراري فالعقل يمنع من تشريع الامر الاضطراري و لو في آخر الوقت، لانه لو لم يشرع و ينتهي الوقت فيفوت الامر الواقعي في الوقت يمكن ان يؤتى به في خارج الوقت و لا ينقص من الغرض المترتب على طبيعة المامور به شي ء، لأن دليل القضاء لازمه امكان استيفاء الغرض المترتب على نفس طبيعة المأمور به الواقعي في خارج الوقت بعد ارتفاع الاضطرار، و انما تفوت مصلحة الوقت فقط، اما مصلحة نفس الطبيعة المامور به فلا تفوت، و الّا لما كان للقضاء مجال، و قد عرفت ان في تشريع الامر الاضطراري لزوم نقص المصلحة المترتبة على نفس المامور به، فاذا لا بد من عدم تشريع الامر الاضطراري حفظا على مصلحة نفس طبيعة المامور به الواقعي التي يمكن استيفاؤها كاملة في خارج الوقت، و لذا قال (قدس سره): «فلا مجال لتشريعه و لو بشرط الانتظار لا مكان استيفاء الغرض بالقضاء».

ص: 465

فإنه يقال: هذا كذلك، لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت (1)، و أما تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاولى، فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار ذا مصلحة و وافيا بالغرض (2) و إن لم يكن وافيا، و قد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقا و لو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي، بل لا بد من إيجاب الاعادة أو القضاء، و إلا فيجزي، و لا مانع عن البدار في الصورتين، غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار و الاتيان بعملين: العمل الاضطراري في هذا الحال، و العمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار، و الاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار، و في الصورة الثانية يتعين عليه البدار و يستحب الإعادة بعد طرو الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء (3)، و أما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله،

______________________________

(1) و حاصل الجواب انه بعد ما عرفت ان لازم تشريع القضاء انه هناك مصلحتان مصلحة لذات الطبيعة المامور بها، و مصلحة اخرى لاتيانها في الوقت، و اذا كانت مصلحة الوقت اهم لما ينقص و يفوت من المصلحة في المامور به الواقعي بعد اتيان المامور به الاضطراري فلا بد من تشريع الامر الاضطراري، و ان كان يفوت من المامور به شي ء، لأن ما يحصل من مصلحة الوقت اهم مما يفوت منه فلا بد من تشريعه، و الى هذا اشار بقوله: «فانه يقال هذا كذلك»: أي صحيح ينبغي ان لا يشرع، لكن السبب في تشريعه هو فوات مصلحة الوقت التي هي اهم و لذا قال:

«لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت» و لا بد و انها اهم، و لذا شرع الامر الاضطراري.

(2) قد ذكرنا توضيحه فيما تقدم فلا نعيد.

(3) هذا هو القسم الثاني في تقسيمه السابق، و حاصله: انه اذا لم يكن المامور به الاضطراري وافيا بتمام مصلحة المامور به الواقعي الاختياري، و كان يمكن تداركه

ص: 466

مثل قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً* و قوله عليه السّلام «التراب أحد الطهورين و يكفيك عشر سنين» هو الاجزاء، و عدم وجوب الاعادة أو القضاء، و لا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.

______________________________

بعد فعل الاضطراري، فان كان الباقي مما يجب تداركه: بان كان له مصلحة ملزمة فلا اجزاء، لوضوح عدم سقوط الامر الواقعي بعد اتيان الاضطراري لوجود المصلحة الملزمة و المفروض امكان تداركها و اما من حيث البدار فلا اشكال في تجويزه، غاية الامر انه بعد رفع الاضطراري ياتي بالمأمور به الواقعي الاختياري ايضا، فالمكلف يكون مخيرا بنحو التخيير بين الاقل و الاكثر، اما ان ينتظر إلى حال رفع الاضطرار فياتي بصلاة واحدة و هي صلاة المختار، أو يبادر لفعل الاضطراري فيستوفي به مقدارا من المصلحة و بعد رفع الاضطرار ياتي بما هو صلاة المختار، لاستيفاء بقية المصلحة هذا اذا كانت المصلحة الباقية مصلحة ملزمة، و اما اذا كانت المصلحة الباقية مستحبة، فأما حكمه من حيث الاجزاء فلا اشكال في الاجزاء، لسقوط الامر الواقعي الوجوبي بفعل المامور به الاضطراري، لاستيفاء الغرض اللازم في الاختياري بالمامور به الاضطراري، و لذا قال (قدس سره): «و إلّا فيجزي»: أي و ان كان الباقي مما لا يجب تداركه فيجزي، و لا إشكال في هذه ايضا من جواز البدار لا مكان استيفاء المصلحة الواجبة به.

نعم حيث انه يبقى شي ء يستحب تداركه يستحب له الاعادة بعد ارتفاع الاضطرار، و لذا قال (قدس سره): «و لا مانع من البدار في الصورتين» و ان كان فرق بين نحوى البدار في الصورة الاولى و الصورة الثانية، فانه في الصورة الاولى و هي ما يجب تداركه يكون تجويز البدار بنحو التخيير بين الاقل و الاكثر، و في الصورة الثانية يكون تجويز البدار بنحو التعيين لغرض وفائه بالواجب و الباقي يستحب تداركه، فلا مانع من تعيين البدار في اول الوقت.

ص: 467

و بالجملة: فالمتبع هو الاطلاق لو كان (1)، و إلا فالاصل، و هو يقتضي

______________________________

(1) شروع في الكلام في مرحلة الاثبات و لا يخفى عليك ان كون البدل وافيا بتمام ما للمبدل من الغرض فلا اعادة، و حيث لا اعادة فلا فوت فلا قضاء انما يتم اذا كان للبدل اطلاق من جهتين: الجهة الاولى جواز البدار الى المامور به الاضطراري بمجرد حصول الاضطرار، الثانية كون الامر الاضطراري تعيينيا لا تخييريا، لوضوح انه اذا جاز البدار فانه لا يدل الّا على انه بفعل الاضطراري لا يفوت من المبدل شي ء لا يمكن تداركه، لانه لو كان يفوت به ما لا يمكن تداركه لما جاز البدار، اما على كونه وافيا بتمام الغرض فلا دلالة لجواز البدار عليه، لا مكان جواز البدار مع بقاء شي ء يمكن تداركه باتيان المأمور به الواقعي عند ارتفاع الاضطرار، و اذا دل الامر الاضطراري على كونه تعيينيا لا تخييريا دل على انه لم يبق شي ء من المبدل ينبغي تداركه لو رفع الاضطرار.

فاذا تمت هاتان الجهتان بتوسط الاطلاق لزم كون البدل وافيا بتمام المبدل، و إلّا لما جاز البدار، و لو كان يبقى من المبدل شي ء ينبغي تداركه لكان الامر في الاضطراري تخييريا، و حيث ان الاطلاق دل على تعيينيته فليس هناك شي ء ينبغي تداركه، فيكون الاضطراري وافيا بتمام المبدل فلا اعادة، و حيث لا اعادة فلا يكون قضاء، اما اذا دل الامر الاضطراري على احدى الجهتين فقط فلا يلازم الاجزاء، لوضوح انه لو دل على جواز البدار فقط من دون احراز التعيينية بالاطلاق فلا ملازمة للبدار وحده للاجزاء، لما عرفت: من انه اذا كان البدل و هو الامر الاضطراري وافيا ببعض المبدل، و كان هناك شي ء يمكن تداركه بالاعادة عند رفع الاضطرار فلا يكون الامر الواقعي الاختياري ساقطا بمجرد الاتيان بالاضطراري، لا مكان بقائه لاستيفاء ما تبقى من الغرض، و كذلك اذا كان الامر الاضطراري دالا على التعيينية فقط من دون جواز البدار، كما لو كان يجب الانتظار و عند آخر الوقت يتعين الامر الاضطراري، و لا دلالة له على الاجزاء لا مكان كون التعيينية لئلا تفوت مصلحة

ص: 468

.....

______________________________

الوقت و يجوز انه قد بقى من المبدل شي ء ملزم يتدارك بالقضاء في خارج الوقت فلا ملازمة للتعيينية وحدها للاجزاء.

و اذا عرفت نقول: ان الظاهر من قوله عليه السّلام: (التراب احد الطهورين)(1) هو ان للطهارة الترابية جميع ما للطهارة المائية من الآثار، فكما انه مع الطهارة المائية يسوغ البدار كذلك مع الطهارة الترابية، و كما ان الامر مع الطهارة المائية تعييني كذلك الامر مع الطهارة الترابية تعييني لا تخييري، و متى تمت بالاطلاق هاتان الجهتان دلتا على كون البدل وافيا بتمام المبدل، و كذلك الحال في قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً*(2) فانه يدل اطلاق الامر بالتيمم على توجهه بمجرد حصول عدم الوجدان للماء و هو معنى جواز البدار، و يدل ايضا على ان الامر بالصلاة عند التيمم امر تعييني، فان قوله: فتيمموا معناه: انه تيمموا لاجل ان تصلوا و تمتثلوا امر اقم الصلاة، و الامر بالصلاة تعييني ما لم يدل دليل على تخييريته، فعند عروض الاضطرار تيمموا و صلوا فعلا سواء ارتفع الاضطرار بعد ذلك ام لم يرتفع، و هذا الامر تعييني، و الّا لقال: و ان وجدتم بعد ذلك فصلوا ايضا، و حيث لم يقل فهو تعييني فلا اعادة، و حيث لا اعادة فلا معنى للقضاء، فيدل الاطلاق على الاجزاء و يلزمه عدم الاعادة في الوقت و عدم القضاء في خارجه، فالاطلاق من الجهتين المذكورتين يدل على الاجزاء، فتحتاج الاعادة او القضاء الى دليل يدل عليهما بخصوصه و به يرفع اليد عن الاطلاق، و لذا قال (قدس سره): «فظاهر اطلاق دليله»: أي دليل الامر الاضطراري الذي هو دليل البدل «و هو مثل قوله تعالى:

فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً* و قوله عليه السّلام: التراب احد الطهورين و يكفيك» التيمم «عشر سنين- هو الاجزاء و عدم وجوب الإعادة أو القضاء» هذه

ص: 469


1- 66. ( 1) الوسائل ج 2: 995/ 5 باب 23 من أبواب التيمم، بتفاوت يسير.
2- 67. ( 2) النساء: الآية 43.

البراءة من إيجاب الاعادة، لكونه شكا في أصل التكليف (1)، و كذا عن

______________________________

الجملة خبر قوله: فظاهر اطلاق دليله، «و لا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص و بالجملة فالمتبع هو الاطلاق»: أي اطلاق الدليل و هو الامر الاضطراري الذي هو دليل البدل «لو كان».

(1) توضيحه: انه اذا لم يكن لدليل الامر الاضطراري اطلاق من الجهتين، فتارة لا يكون له اطلاق من جهة جواز البدار فلا بد من ايقاع المامور به الاضطراري في آخر الوقت، لانه لو اوقعه في اول الوقت و ارتفع الاضطرار في آخر الوقت فلا بد من الاعادة، لاحتمال كون ما اوقعه ليس به امر و هو كالصلاة قبل الوقت، و اذا لم يرتفع الاضطرار في آخر الوقت فان احتملنا ان للاضطرار في آخر الوقت خصوصية فلا بد من القضاء، و الّا فالاصل يقتضي الاجزاء كما سيأتي بيانه فيما اذا كان للدليل اطلاق من ناحية جواز البدار، و على كل فاذا اتى بالمامور به الاضطراري في آخر الوقت، فحينئذ لا مجال للاعادة لعدم الوقت، فيتمحض الشك في القضاء و هو امر آخر غير الامر في الوقت، و المفروض انه مشكوك فيه لاحتمال الاجزاء فينفى بالبراءة لانه شك في اصل التكليف، و اما اذا دل دليل على جواز البدار و لم يكن اطلاق للتعيينية و ارتفع العذر في الوقت فحينئذ يشك- ايضا- في ان دليل الامر الاضطراري هل هو من التخيير بين الاقل و الاكثر؟ بان يكون المامور به الاضطراري الذي يستوفى به مقدار من المصلحة، و المامور به الواقعي الذي يستوفى به بقية المصلحة كلاهما يكونان فردا واحدا، و المامور به الواقعي الاختياري اذا لم يؤت بالاضطراري اولا فرد آخر، و هذا هو التخيير بين الاقل و لاكثر، او ان الدليل الاضطراري تعييني؟ و حيث كان بدلا فالتخيير بينهما قبل ان يرتفع العذر هو من التخيير بين المتباينين و لازمه الاجزاء، لوفائه بتمام المصلحة لفرض البدلية و المسانخة بينهما، لا ان المصلحة فيه اجنبية عن الامر الواقعي، و مع فرض المسانخة و البدلية و كون التخيير بينه و بين الامر بالمبدل و هو الامر الواقعي بنحو التخيير بين المتباينين

ص: 470

إيجاب القضاء بطريق أولى (1)، نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع، و لو لم يكن هو فريضة، كان القضاء واجبا عليه، لتحقق سببه، و إن أتى بالغرض لكنه مجرد الفرض (2).

______________________________

فلا بد من كون كل منهما وافيا بتمام المصلحة، و لازم ذلك هو الاجزاء، فينتهي الشك في ان الامر الاضطراري هل هو من التخيير بين المتباينين، او التخيير بين الاقل و الاكثر، فحينئذ يكون التكليف بالامر الاضطراري معلوما قطعا، لانه اما ان يكون له تتمة امر آخر و هو الامر بالمبدل أو لا يكون له تتمة و لا يكون أمرا آخر بالمبدل، و على كلا الاحتمالين فالمأمور به الاضطراري التكليف به معلوم، و بعد اتيانه نشك في توجه التكليف بالامر بالمبدل و ان ارتفع العذر، و هو من الشك في اصل التكليف و مجراه البراءة، و لذا قال (قدس سره): «و الّا فالاصل و هو يقتضي البراءة من ايجاب الاعادة لكونه شكا في اصل التكليف».

(1) الظاهر ان مراده من الاولوية في القضاء: انه اذا كان الاصل جاريا في عدم الاعادة في الوقت مع ارتفاع العذر فلا تجب الاعادة، و حيث لا تجب الاعادة لا معنى لوجوب القضاء، و ليس مراده الاولوية بالنسبة الى مجرى البراءة في القضاء، و ان مجرى نفس البراءة في الاعادة اشد اشكالا من مجراها في القضاء، اذ ليس بين الاعادة و القضاء فرق من ناحية مجرى البراءة، لأن كلا منهما شك في اصل التكليف، و هما سواء من ناحية مجرى البراءة.

(2) لا اشكال في كون الامر بالقضاء موضوعه هو فوت الفريضة لقوله عليه السّلام: (من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته)(1) و ليس المراد من فوت الفريضة الذي موضوع الامر بالقضاء فوت الفريضة التي كان امرها فعليا، لوضوح ثبوت القضاء فيمن اغمى عليه

ص: 471


1- 68. ( 1) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 5: 359/ 1 باب 6 من أبواب قضاء الصلوات.

.....

______________________________

في تمام الوقت، و مع الاغماء في تمام الوقت لا يكون الامر بالفريضة فعليا، لأن الامر الفعلي هو ما امكن ان يكون باعثا و زاجرا، و مع فرض الاغماء في تمام الوقت لا يترقب من الامر بالفريضة الباعثية و الزاجرية. و حيث انه لا وجه لكون المراد بفوت الفريضة هو مجرد عدم الاتيان بالمأمور به الواقعي و ان استوفيت مصلحته كما سيأتي، فلا بد و ان يكون المراد من فوت الفريضة فوتها بما لها من المصلحة و الاثر المترتب عليها، و اذا كان المراد من الفوت هذا المعنى فلا مورد للقضاء، للشك في موضوعه و هو فوت الفريضة بما لها من المصلحة و الاثر، لاحتمال استيفاء مصلحتها بالمامور به الاضطراري، و مع الشك في الفوت الذي هو الموضوع في القضاء يشك في وجود الامر بالقضاء فيكون مجرى البراءة.

نعم، لو كان موضوع القضاء هو فوت الفريضة و ان احتمل استيفاء مصلحتها لكان مجال لحصول موضوع القضاء، فلا مجرى للبراءة، إذ مع تحقق موضوع القضاء و هو الفوت و لو مع الاستيفاء لا معنى لجريان البراءة، اذ مجراها الشك في التكليف، و مع احراز موضوع التكليف و تحققه لا شك في التكليف، بل هو مقطوع به، فلا معنى لجريان البراءة، و لكن كون الفوت الذي هو موضوع القضاء هو الفوت بهذا المعنى لا وجه له، لأن لازمه انه لو دل الدليل بالخصوص على ان الامر الاضطراري واف بتمام مصلحة الأمر الواقعي لوجب القضاء ايضا، لتحقق موضوعه و هو فوت الفريضة، لأن المراد من فوت الفريضة على هذا هو عدم الاتيان بالفريضة و ان استوفيت مصلحتها ببدلها و هذا لا يلتزم به احد، و لذا قال (قدس سره): «نعم لو دل دليله»: أي دليل القضاء «على ان سببه فوت الواقع و لو لم يكن هو فريضة» اذ كون الواقع فريضة لازمه انما هو حيث لم يستوف غرضه و مصلحته، فاذا استوفيت مصلحته لا يكون الامر به فريضة، فاذا كان الفوت بهذا المعنى «كان القضاء واجبا عليه لتحقق سببه» و هو عدم الاتيان بالمامور به الواقعي «و ان اتى بالغرض» و المصلحة المترتبة عليه «لكنه مجرد الفرض» اذ لازمه ما ذكرنا: من انه

ص: 472

المقام الثاني: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري و عدمه (1).

______________________________

مع العلم و قيام الدليل على استيفاء مصلحة الواقع بالمامور به الاضطراري مع ذلك يجب القضاء، لكن هذا لا يقول به احد فهو مجرد فرض.

(1) لا يخفى ان المراد بالامر الظاهري الذي هو المقسم لهذا المقام ما هو اعم مما دل على ثبوت حكم ظاهري، كاصالة الطهارة و اصالة الحلية، أو دل على نفي حكم كدليل الرفع الجاري في رفع الجزء أو الشرط المشكوك فيهما، أو كان دلالته جعل المنجزية و المعذرية كالامارات بناء على الطريقية. و هذا الامر الظاهري يكون: تارة مدلوله اثبات شي ء للمامور به كقاعدة الطهارة المثبتة لشرطية مشكوك الطهارة، و اخرى يكون مدلوله اثبات جميع المامور به المشكوك، كالادلة المثبتة لصلاة الجمعة في زمان الغيبة في مقام الشك في كون الفريضة في يوم الجمعة في زمان الغيبة هل هي الظهر أو الجمعة؟

و يتكلم المصنف فعلا في ما يثبت شيئا للمامور به، ثم في آخر المبحث يتكلم فيما يثبت نفس المامور به.

ثم لا يخفى ايضا ان حكومة دليل الحاكم على المحكوم تارة توجب توسيع دائرة المحكوم، كحكومة قاعدة الطهارة و الحلية على الطهارة الواقعية و الحلية الواقعية اللتين يثبتان شرطيتهما للصلاة، مثلا: بقوله عليه السّلام: (لا صلاة إلّا بطهور)(1) و قوله عليه السّلام في موثقة ابن بكير: (لا يقبل اللّه تلك الصلاة الّا فيما أحل اللّه اكله)(2) فان حكومة قاعدة الطهارة في مشكوك الطهارة، و قاعدة الحل في

ص: 473


1- 69. ( 1) الوسائل ج 1: 256/ 6 باب 1 من أبواب الوضوء.
2- 70. ( 2) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 3: 250/ 1 باب 2 من أبواب لباس المصلي.

و التحقيق: إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف و تحقيق متعلقه، و كان بلسان تحقق (1) ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة

______________________________

مشكوك الحلية يثبتان الشرطية للمشكوك، و يوسعان دائرة الشرط لما هو اعم من الطهارة الواقعية و الطهارة المشكوكة، و الحلية لما هو اعم من الحلال واقعا و مشكوك الحلية.

و اخرى يكون دليل الحاكم مضيقا لدائرة المحكوم، كقوله: (لا شك لكثير الشك)(1) الحاكمة على الادلة المثبتة لاحكام الشك، و كدليل الرفع الرافع لجزئية المشكوك او شرطيته.

(1) و حاصله: ان لسان قاعدة الطهارة و قاعدة الحلية هو جعل الطهارة في مقام الشك، و جعل الحلية كذلك: أي جعل الطهارة الظاهرية و الحلية الظاهرية في مقام الشك، و لازم اطلاق هذا الجعل و هو قوله: مشكوك الطهارة طاهر و مشكوك الحلية حلال هو ترتيب جميع ما للطهارة الواقعية من الآثار على الطهارة في حال الشك، و ترتب جميع ما للحلية الواقعية على ما هو حلال في مقام الشك: أي الحلية الظاهرية، و معنى هذا توسيع الشرطية الى ما هو اعم من الواقعية و الظاهرية الذي هو احد قسمي الحكومة، فللطهارة الظاهرية جميع ما للطهارة الواقعية من ما له دخل في ترتب الاثر و الغرض المقصود من الصلاة، فالصلاة عن طهارة في ماء مشكوك الطهارة يترتب عليها جميع ما يترتب على الصلاة عن طهارة في ماء طاهر واقعا، و لازم هذا هو الاجزاء، لما عرفت: من ان اشتمال البدل على تمام الغرض في المبدل يلزمه سقوط الامر الواقعي، لاستيفاء الغرض الداعي اليه.

و لا يخفى انه ليس للطهارة الظاهرية انكشاف الخلاف، لأن لسان جعلها يقول:

انها بما هي مشكوكة يترتب عليها جميع الآثار، و ليس لهذا المعنى انكشاف الخلاف،

ص: 474


1- 71. ( 1) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 5: 329/ 2 باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

الطهارة أو الحلية (1)، بل و استصحابهما في وجه قوي، و نحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجري، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط، و مبينا لدائرة الشرط، و أنه أعم من الطهارة الواقعية و الظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل،

______________________________

بل انكشاف الخلاف انما يتاتى فيما كان لسانه لسان انه هو الواقع، فحينئذ تارة يكون هو الواقع، و اخرى ينكشف انه خلاف الواقع، اما ما كان لسانه انه بما هو مشكوك له جميع ما للواقع من الآثار فلا يكون له انكشاف الخلاف، فان مرجع الاطلاق الى انه لو كان هذا المشكوك خلاف الواقع فجميع الآثار تترتب عليه كما تترتب على الواقع فيؤول الى ضم غير ما هو الواقع، الى الواقع و ليس لغير ما هو الواقع انكشاف الخلاف.

و بعبارة اخرى: انه يكون واقعا ثانويا في حال الشك، و ليس للواقع انكشاف الخلاف، و هذا الكلام في الطهارة الظاهرية جار بعينه في الحلية الظاهرية، و لذا قال (قدس سره): «ان ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف» فان لسان قاعدة الطهارة تنقيح ما هو الموضوع لشرطية الصلاة، و ان الشرطية كما تحصل بالطهارة في الماء الطاهر واقعا تحصل ايضا في الطهارة بالماء المشكوك طهارته، فالشرط الذي هو الدخيل في ترتب الاثر على الصلاة يحصل بالطهارة الظاهرية كما يحصل بالطهارة الواقعية.

(1) الاول: كشرطية الطهارة بالماء المشكوك للصلاة.

و الثاني: كجواز شرب الماء المشكوك الطهارة، فان جواز الشرب كما ان موضوعه يكون مركبا من الماء و طهارته الواقعية، كذلك يكون مركبا من الماء و طهارته الظاهرية فانه يجوز شرب كل منهما.

ص: 475

و هذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا (1)، كما هو لسان الامارات، فلا يجزي، فإن دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقدا هذا على ما هو الاظهر الاقوى في الطرق و الامارات، من

______________________________

(1) اختلف في مفاد دليل الاستصحاب.

فقيل: ان مفاده جعل الحكم في مقام اليقين السابق و الشك اللاحق، كمفاد قاعدتي الطهارة و الحلية.

و قيل: ان مفاده جعل المنجزية و المعذرية، كمفاد الامارة بناء على الطريقية.

و المختار للمصنف في الاستصحاب هو القول الأول، فشأنه عنده (قدس سره) شأن قاعدة الطهارة، و لذا قال: «و استصحابهما في وجه قوي» فالماء المسبوق باليقين بالطهارة، و اللباس المسبوق باليقين بالحلية الملحوقان بالشك فعلا قد جعلت فيهما الشرطية، فليس لهما انكشاف الخلاف، و الامر فيهما كما بيناه في قاعدتي الطهارة و الحلية: ان لازم ذلك الاجزاء، فلا اعادة و ان انكشف الخلاف في الوقت، و اذا لم تكن اعادة في الوقت فلا قضاء في خارجه، و لذا قال (قدس سره):

«فانكشاف الخلاف فيه»: أي في الشرط الذي هو اعم من الواقع و الظاهر، بل الشرط في الحكم الظاهري واقعي ايضا من ناحية ترتب الاثر عليه فحينئذ «لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه» لانه اذا كان مفاده ان مشكوك الطهارة المسبوق باليقين له جميع ما للماء الطاهر واقعا من الآثار بالنسبة الى صحة الصلاة لا يكون لهذا المعنى انكشاف الخلاف، فانه ليس لضم غير الواقع الى الواقع في جميع الآثار انكشاف الخلاف، بل يكون انكشاف الخلاف فيه من قبيل تبدل الموضوع، كالمسافر يكون حاضرا او الحاضر يكون مسافرا، و مثل هذا ليس له انكشاف الخلاف، و لذا قال (قدس سره): «بالنسبة اليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل».

ص: 476

أن حجيتها ليست بنحو السببية (1)، و أما بناء عليها، و أن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد

______________________________

(1) وقع الخلاف بين القوم في جعل الامارات، فذهب المصنف و جماعة من المحققين الى ان المجعول في الامارات هو طريقية الامارة لا غير بمعنى: كونها منجزة لو اصابت، و معذرة لو خالفت، و على هذا فليس فيها حكم مجعول ظاهري اصلا، فليس هناك توسعة في الشرطية، فالشرط الواقعي على واقعيته، فلو دل الخبر الواحد على ان الثعالب- مثلا- من ماكول اللحم أو قامت الامارة على طهارة الماء، ثم انكشف الخلاف، فالقاعدة تقتضي الاعادة في الوقت و القضاء في خارجه، لعدم إتيان الصلاة الصحيحة المشروط وقوعها عن الطهارة، أو التي يكون وقوعها في غير الماكول مانعا عن صحتها و قد وقعت في غير الماكول، و دليل حجية الامارة لا يتكفل جعل الشرطية في مقام الشك، لأن المفروض انه ينجز الشرطية ان صادفها، و هو عذر لو خالفها، و العذرية عن المخالفة تدور مدار انكشاف الخلاف، و مع انكشاف الخلاف لا عذرية، فلم يحصل شي ء يوجب سقوط الامر الواقعي، لعدم اتيان متعلقه و لا اتيان بدل له واف بتمام مصلحته لأن الامارة انما دلت على ان ما اتى به هو الشرط الواقعي و قد انكشف الخلاف، و انه ليس هو الشرط الواقعي، فلم تقع الصلاة عن طهارة واقعية، و انها وقعت مع المانع عن الصحة، و لم يتضمن دليل حجية الامارة جعل حكم يوجب التوسعة حتى يكون حاكما كما ذكرنا في قاعدة الطهارة فلا اجزاء، و لا بد من الاعادة في الوقت و القضاء في خارجه، لتحقق موضوع القضاء و هو الفوت، و الى هذا اشار بقوله: «فلا يجزي فان دليل حجيته» الامارة «حيث كان بلسان انه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف انه لم يكن» فلم يؤت بالمامور به الواقعي و لا ببدله.

ص: 477

له، مع كونه فاقده (1)، فيجزي لو كان الفاقد معه في هذا الحال كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض، و لا يجزي لو لم يكن كذلك، و يجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب و إلا لاستحب. هذا مع إمكان استيفائه، و إلا فلا مجال لاتيانه، كما عرفت في الامر الاضطراري (2).

______________________________

(1) أي بناء على السببية في الامارات، كما هو ظاهر قولهم: ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم، فمتى قامت الامارة على شي ء ينشأ حكم على طبق ما قامت عليه الامارة، ما دام الخلاف لم ينكشف، فالامارة اذا قامت على طهارة شي ء- مثلا- ينشا حكم الطهارة لذلك الشي ء سواء أ كان حكمه الواقعي الطهارة، ام لا.

غايته ان هذا الحكم المنشأ على طبق مؤدى الامارة مدته عدم انكشاف الخلاف، فيحدث بسبب قيام الامارة حكم على طبق ما أدّت اليه، و على هذا فالحكم المنشأ على طبقها واقعي ثانوي حدث بسبب قيام الامارة، و هذا معنى السببية و الموضوعية في جعل الامارات في قبال الطريقية، و الى هذا اشار بقوله (قدس سره): «و اما بناء عليها»: أي على السببية «و ان العمل بسبب اداء امارة الى وجدان شرطه» كقيامها على طهارة الماء «أو شطره» كقيامها على ان القراءة الواجبة- مثلا- هي الحمد فقط، فحينئذ «يصير»: أي العمل الواجد للشرط او الشطر «حقيقة صحيحا كانه واجد له»: أي كانه واجد لما هو الشرط الواقعي و الشطر كذلك «مع كونه فاقده» في الواقع الّا انه بسبب قيام الامارة صار واجدا له.

(2) قد عرفت ان الامارات على السببية تكون من الواقعي الثانوي كالامر الاضطراري، غايته ان العنوان الثانوي في الامارات طرأ لاجل الجهل، و في الاوامر الاضطرارية طرأ لاجل العجز، فالحال في الامارات على السببية كالحال في الاوامر الاضطرارية له مرحلتان: مرحلة الثبوت و مرحلة الاثبات.

و لا يخفى انه لا بد من استفادة عنوان البدلية في الامارات على السببية للاوامر الواقعية، و يمكن استفادة البدلية فيها: من انها واردة بلسان انها هي الواقع، فان

ص: 478

و لا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجتزاء بموافقته أيضا (1)، هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف و الطريقية، أو

______________________________

الامارة القائمة على شي ء تقوم عليه بعنوان انه هو الواقع، فاذا كان دليل الحجية فيها يدل على جعل الحكم على طبق مؤداها و ضممنا دليل الحجية الى لسان الامارة يستفاد من مجموعهما ان الحكم المجعول بنحو البدل عن الواقع.

و بعبارة اخرى: ان دليل الحجية يقول: بجعل الحكم على طبق ما قامت عليه، و لسان الامارة يقول: ان المودى هو الواقع، فيدل مجموع هذين الامرين على ان المجعول بنحو البدل، فاذا استفدنا البدلية نقول حينئذ: ان البدل اما ان يكون وافيا بتمام مصلحة المبدل فيفيد الاجزاء، و الّا فلا يكون مجزيا بنحو ما ذكرناه في الامر الاضطراري عينا، و لذا قال (قدس سره): «فيجزي لو كان الفاقد معه في هذا الحال ...- إلى قوله- و لا يجزي لو لم يكن كذلك» ثم قال (قدس سره): «و يجب الاتيان».

لا يخفى انه اراد في كلامه ان يستطرد مجموع ما ذكره في الاضطراري، و ليس كل من وجوب الاتيان- عند انكشاف الخلاف- و استحباب الاتيان مترتبا على عدم الاجزاء، بل قد عرفت ان لازم استحباب الاتيان الاجزاء، ثم اشار الى امكان الاستيفاء و عدم امكانه، ثم ختم كلامه في مرحلة الثبوت بقوله: «كما عرفت في الامر الاضطراري».

فاتضح: ان مرحلة الثبوت في الامارات على السببية كمرحلة الثبوت في الاوامر الاضطرارية.

(1) هذا بيان لمرحلة الاثبات.

لا يخفى ان الاطلاق في الاوامر الاضطرارية يستفاد- على ما مر بيانه- من نفس دليل الامر الاضطراري المثبت لحكم قد طرأ لاجل العجز عن اداء الواقع، و اما في الامارات على السببية فلا يستفاد من نفس دليل الامارة اطلاق، لأن لسانها لسان انه

ص: 479

بنحو الموضوعية و السببية (1)، و أما إذا شك فيها و لم يحرز أنها على أي الوجهين (2)، فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للاعادة

______________________________

هو الواقع، لا انه حكم في قبال الواقع، و انما يستفاد ان لها حكما في قبال الواقع من دليل حجيتها و جعلها، و لذا تمسك باطلاق دليل الحجية، فدليل الحجية يدل على وجود حكم على طبق الامارة في حال الجهل بالواقع، و اطلاقه يدل على جواز البدار في حال الجهل و انه ليس احد فردى التخيير، بل ظاهره التعيينية و مجموع هذين الامرين يلزمهما كون الحكم المجعول على طبق مؤدى الامارة وافيا بتمام مصلحة الواقع، و معنى ذلك هو الاجزاء، و لذا قال (قدس سره): «و لا يخفى ان قضية اطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجتزاء بموافقته ايضا» كما بيناه في الامر الاضطراري.

(1) بعد ما ذكر ان اطلاق دليل الحجية بناء على السببية يدل على الاجزاء، و اما على الطريقية فلا اجزاء، فاذا قلنا: بان دليل الحجية في الامارات يدل على السبيبة و مفادها جعل الحكم البدلي الوافي بتمام المصلحة فنقول بالاجزاء و لا اعادة، و اذا قلنا: بان دليل حجية الامارات يدل على الطريقية و جعل المنجزية و المعذرية، و ليس على طبق مؤدى الامارة حكم مجعول اصلا و قد انكشف الخلاف في الوقت- مثلا- فلا بد من الاعادة.

(2) حاصله: انه اذا لم نعرف ما هو المجعول في الامارات و هل هو الطريقية فلا اجزاء؟ أو انه السببية فلازمها الاجزاء؟ و لم يتضح لنا المفاد من دليل حجية الامارة فنحتمل ان يكون مفادها الطريقية و نحتمل السببية، فتارة ينكشف الخلاف في الوقت فهل تجب الاعادة أو لا تجب؟ و اخرى ينكشف الخلاف في خارج الوقت فهل يجب القضاء ام لا يجب؟ و حيث قد فرض الشك في دلالة دليل الحجية فلا بد من الرجوع الى ما تقتضيه الاصول العملية، و الكلام اولا في الاعادة: و هي ما اذا انكشف الخلاف في الوقت.

ص: 480

في الوقت (1)، و استصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، و لا يثبت كون ما أتى به مسقطا، إلا على القول بالاصل

______________________________

(1) و توضيحه: ان الاصل الذي يرجع اليه في الفرض المذكور: و هو ما اذا شك في ان مفاد دليل الحجية الطريقية او السببية هو اصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف: أي استصحاب عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف و تبرأ به الذمة. و حيث ان المستصحب لا بد اما ان يكون مجعولا شرعيا او موضوعا ذا اثر مجعول، و نفس عدم الاتيان ليس بمجعول شرعي، لوضوح انه من الامور التكوينية، و لم يظهر من الاخبار انه موضوع لاثر مجعول، فلا بد و ان يكون مراده من استصحاب عدم الاتيان هو استصحاب شغل الذمة بالتكليف، لانه قبل انكشاف الخلاف و قبل الاتيان بما قامت عليه الامارة يقطع باشتغال الذمة بالتكليف، و بعد الاتيان بما قامت عليه الامارة و انكشاف الخلاف نشك في سقوط التكليف الذي كانت الذمة مشغولة به يقينا، لأن الامارة ان كان مفادها الطريقية فما شغلت الذمة به لم يسقط، لعدم الاتيان به و لا ببدله، لانه على الطريقية لا بدل له، و ان كان مفادها السببية فقد سقط، و حيث كان لنا يقين بشغل الذمة، و الآن نشك في فراغها فنستصحب شغل الذمة، فثبت بسبب الاستصحاب تكليف بالفعل بالاعادة في الوقت.

و يظهر من بعض مشايخنا(1)- طاب ثراه- في حاشيته في المقام: ان المستصحب هو كلي التكليف من القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلي المردد بين الفرد الطويل و الفرد القصير، و ان المستصحب هو المردد بين التكليف الفعلي الواقعي على الطريقية، و بين التكليف الفعلي البدلي على السببية، فان كان هو الفرد الواقعي فهو باق و الذمة مشغولة به بعد انكشاف الخلاف، و ان كان هو البدلي فقد ارتفع التكليف و برئت الذمة. و يمكن ان يناقش فيما ذكره (قدس سره).

ص: 481


1- 72. ( 1) و هو العلامة المحقق المشكيني( قدس سره)، راجع حاشيته على كفاية الاصول: ج 1، ص 134.

.....

______________________________

اولا: بان الظاهر من المصنف ان المستصحب عنده شخصي لا كلي، و هو استصحاب شغل الذمة بالتكليف الواقعي، و لذا اورد على استصحاب شغل الذمة به: بانه تكليف لا فعلية له فتستصحب عدم فعليته، و اجاب عنه: بانه من المثبت و سيأتي بيانه- ان شاء اللّه-.

و ثانيا: ان القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلي: و هو ما اذا كان الفرد المردد بين كونه هو الطويل او القصير مشكوك الحدوث من اول الامر: بان نقطع في وجود كلي، و لكن نشك في كونه وجد في ضمن الفرد الطويل فيكون باقيا، أو أنه وجد في ضمن الفرد القصير فيكون مرتفعا، و لم يكن مقطوعا في زمن من الازمنة بوجوده في ضمن الفرد الطويل. و مقامنا ليس كذلك، لانا نقطع بتحقق التكليف الواقعي قبل قيام الامارة، و لكنا نشك بعد قيام الامارة في انه هل هو باق، و ان الامارة جعلها طريقي، او انه ارتفع و انقلب الى البدل فيما اذا كان الجعل في الامارة على نحو السببية؟

ثالثا: ان انقلاب التكليف الى البدل مبني على انه بقيام الامارة يرتفع التكليف الواقعي، و اما اذا قلنا: ببقاء التكليف الواقعي فإنا نحتاج الى الجمع بين التكليف الواقعي و الظاهري بعد قيام التكليف الظاهري، و انما يسقط التكليف الواقعي بناء على السببية بعد الاتيان بما قامت عليه الامارة لوفائه بالغرض الواقعي.

و رابعا: ان الداعي لجعل المستصحب في المقام من الكلي هو لزوم كون المستصحب حكما فعليا له رتبة الباعثية و الزاجرية، دون المنجزية لانها منوطة بالعلم به، و الفعلية التي بمعنى الباعثية و الزاجرية مرددة بين التكليف الواقعي على الطريقية، و بين التكليف الظاهري على السببية، و اما اذا قلنا: بان المستصحب هو التكليف لا برتبة كونه باعثا و زاجرا بالفعل، بل كونه بحيث لو وصل بنحو من الوصول لكان باعثا و زاجرا، فالمستصحب على هذا هو التكليف الواقعي، فانه كان قبل ذلك بمرتبة لو وصل الينا بنحو من الوصول لكان حكما فعليا باعثا و زاجرا،

ص: 482

المثبت، و قد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي (1).

و هذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، و شك في أنه يجزي عما هو

______________________________

و بعد انكشاف الخلاف قد وصل الينا بنحو من الوصول و هو الوصول بتوسط الاستصحاب، فالمستصحب شخصي و هو التكليف الواقعي الذي نشك في براءة الذمة منه، و يسوغ ان يطلق على الحكم بهذه المرتبة انه الفعلي من جهة المولى، لا الفعلي من كل جهة، فان الفعلي من كل جهة عند المصنف هو ما وصل الى مرتبة الباعثية و الزاجرية. و قد اطلق المصنف في بعض الموارد على الحكم بالمعنى الاول لفظ الفعلي، و مراده من فعليته هو كونه الفعلي من قبل المولى و من جهته، و في اغلب الموارد يطلق عليه لفظ الشأني أو الانشائي.

و على كل حال فالمستصحب في المقام هو الحكم بمرتبة بحيث لو وصل بنحو من الوصول لكان حكما بعثيا فعليا، و قد وصل ببركة الاستصحاب بعد انكشاف الخلاف في الوقت فلا بد من الاعادة.

(1) حاصل هذا الاشكال ان التكليف الواقعي قبل انكشاف الخلاف لم يكن فعليا بالغا لمرتبة الباعثية و الزاجرية، و بعد انكشاف الخلاف يستصحب عدم فعليته، و لازم عدم فعليته بعد انكشاف الخلاف في الوقت عدم الاعادة فيعارض استصحاب عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف المقتضي للاعادة بعد انكشاف الخلاف في الوقت، و التعارض موجب لتساقط الاستصحابين فلا دليل على الاعادة في الوقت.

و الجواب عنه: ان استصحاب عدم فعلية التكليف الواقعي بعد انكشاف الخلاف انما يدل على عدم الاعادة في الوقت بناء على حجية الاصل المثبت، و هو ليس بحجة كما سيأتي بيانه في مبحث الاستصحاب- ان شاء اللّه- لأن عدم الاعادة ليست من الآثار المترتبة على نفس عدم كون الحكم الواقعي فعليا، بل هي من آثار كون المأتي به وافيا بتمام غرض التكليف الواقعي، و كون الماتي به وافيا بتمام الغرض هو كون الامارة سببية موجبة لجعل الحكم البدلي على طبق مؤداها، و لازم الاتيان بالبدل

ص: 483

المأمور به الواقعي الاولي كما في الاوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية، فقضية الاصل فيها كما أشرنا إليه عدم وجوب الاعادة، للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، و أصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار و كشف الخلاف (1).

______________________________

الوافي بغرض المبدل سقوط التكليف بالمبدل، و هذا يلازم عدم فعلية التكليف الواقعي بعد انكشاف الخلاف، فلا يثبت الّا بحجية الاصل المثبت، بخلاف استصحاب عدم الاتيان بالمسقط، فانه على ما عرفت يرجع الى استصحاب التكليف الواقعي، و هو مشكوك السقوط بعد انكشاف الخلاف، و شغل الذمة اليقيني به يستدعي الفراغ اليقيني، و حيث لا فراغ يقيني لفرض الشك في كون ما اتى به متحملا للغرض فلا بد من الاعادة تحصيلا للفراغ اليقيني، و قد اشار (قدس سره) الى ما ذكرنا من الجواب بقوله: «لا يجدي و لا يثبت ... الى آخر كلامه».

(1) هذا جواب عن اشكال يمكن ان يورد، و حاصله: انه قد مر في الاوامر الاضطرارية: انه لو شككنا في الاطلاق و ارتفع الاضطرار في الوقت فالمرجع الى الاصول، و الاصل هو البراءة من التكليف بعد ارتفاع الاضطرار.

فلقائل ان يقول: لما ذا لا يجري استصحاب عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف الواقعي للشك، في كون المامور به الاضطراري المأتي به وافيا بتمام المصلحة، او غير واف الّا ببعضها، و يكون الباقي مما يلزم تداركه فنستصحب عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف الواقعي، و هذا الاصل اما حاكم على البراءة او انه معارض لها فيتساقطان فنحتاج الى ما يثبت به براءة الذمة عن التكليف الواقعي، و شغل الذمة به يستدعي الفراغ اليقيني عنه، و المفروض انه ليس لنا ما يحكم بفراغ الذمة عنه، فلا بد من اتيانه و الاعادة في الوقت بعد ارتفاع الاضطرار.

و الجواب عنه: انه لا اشكال في حال الاضطرار بعدم اشتغال الذمة بالتكليف الواقعي بوجه من الوجوه، و الشك فيه بعد ارتفاع الاضطرار شك في تكليف جديد

ص: 484

.....

______________________________

و الاصل البراءة منه، و لا مجرى لاستصحاب عدم الاتيان لانه انما يجري في مقام كان هناك تعلق بذمة المكلف يشك في سقوطه و عدمه، اما اذا لم يكن تكليف متعلقا بذمة المكلف فلا مجال لجريان اصالة عدم الاتيان، و هذا الجواب واضح في الاوامر الاضطرارية.

و اما في الاوامر الظاهرية: أي في موارد الامارات بناء على السببية فانه قد تقدم منه: ان الحال فيها كالحال في الاوامر الاضطرارية فيتمسك فيها بالاطلاق للدلالة على الاجزاء لو كان، و الّا فالمرجع فيها الى البراءة فيما اذا شك في الاطلاق.

و يمكن ان يقال: انه اذا كان لها اطلاق فلا اشكال في ان الحال فيها كالحال في الاوامر الاضطرارية في الدلالة على الاجزاء، و اما اذا لم يكن لها اطلاق ففرق بينها و بين الاوامر الاضطرارية، فانه في الاوامر الاضطرارية لم تشتغل الذمة بالتكليف الواقعي في حال الاضطرار و بعد ارتفاع الاضطرار نشك في حدوثه فهو مجرى البراءة، و لا مجال لاصالة عدم الاتيان كما ذكرنا، و اما في الاوامر الظاهرية: أي الامارات على السببية فانه لا شك في شغل الذمة بالتكليف الواقعي و يشك في سقوطه بعد انكشاف الخلاف، لاحتمال كون البدل الظاهري وافيا بتمام المصلحة أو انه غير واف بها، و يكون الباقي مما يجب تداركه، و على كل حال نشك في سقوطه بعد شغل الذمة به فلاصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مجال في الامارات على السببية.

و الجواب عنه: ان الامارات على السببية لا شك في كونها بدلا عن الحكم الواقعي، و لكن يشك في كونها بدلا وافيا بتمام المصلحة أو غير واف بتمام المصلحة، و التكليف الواقعي الذي انشغلت الذمة به قبل اتيان المامور به الظاهري قد كان بداعي تمام المصلحة التي في المامور به الواقعي، و لا اشكال في سقوط شغل الذمة به بالنحو الذي كان قبل اتيان المامور به الظاهري، لأن المفروض ان المامور به الظاهري واف بمقدار من مصلحة الامر الواقعي، و الشك انما هو في انه واف بتمام المصلحة أو ببعضها، فلا اشكال في انه لم يبق في الذمة على النحو الذي كان قبل اتيان المامور به

ص: 485

.....

______________________________

الظاهري، و بعد انكشاف الخلاف نحتمل سقوطه تماما لاحتمال وفاء المامور به الظاهري بتمام مصلحته، و نحتمل عودته لاجل تدارك بعض المصلحة الملزمة. و على كل فهو بعد انكشاف الخلاف غيره قبل انكشاف الخلاف فيكون موردا للبراءة، لانه شي ء غير الذي كان اولا، فهو كتكليف جديد فينفى بالبراءة.

و في كلا الموردين الاوامر الاضطرارية و الامارات على السببية لا اشكال في ان الذمة في حال العجز قد انشغلت بالامر الاضطراري يقينا، و في الامارات على السببية في حال الجهل ايضا انشغلت الذمة بما قامت عليه الامارة، لأن الامارات على السببية موجبة لجعل الحكم على طبق مؤداها، فهذا الحكم المجعول بواسطة قيام الامارة قد انشغلت الذمة به في حال الجهل و عدم انكشاف الخلاف، و بعد ارتفاع العجز و انكشاف الخلاف نشك في شغل للذمة جديد، و الاصل البراءة منه و الاصل ايضا عدم فعلية التكليف الواقعي. اما في الاضطراري فواضح لعدم فعليته بجهة من الجهات في حال العجز، و الآن بعد ارتفاع العجز نشك في فعليته و الاصل عدمها، و في الامارات على السببية ايضا يقطع بعدم فعليته بالنحو الذي كان قبل اتيان المامور به الظاهري، و بعد انكشاف الخلاف يشك في فعلية له جديدة، و الاصل عدمها و الى هذا اشار بقوله: «فقضية الاصل فيها كما اشرنا اليه عدم وجوب الاعادة»: أي قد اشرنا إلى ان الاصل في الاوامر الاضطرارية و الاوامر الظاهرية: أي الامارات على السببية هو البراءة و عدم الاعادة «للاتيان بما انشغلت به الذمة يقينا» و هو المامور به الاضطراري في حال العجز و الحكم المجعول في المامور به الظاهري، لانه على السببية هناك مجعول على طبق مؤدى الامارة قد انشغلت الذمة به في حال الجهل و عدم انكشاف الخلاف، و هذان الحكمان مما لا شك في شغل الذمة بهما يقينا في حال العجز و حال عدم انكشاف الخلاف، و بعد ارتفاع العجز و بعد انكشاف الخلاف نشك في فعلية جديدة للتكليف الواقعي، و الاصل عدمها، و لذا قال (قدس سره):

ص: 486

و أما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد، و كان الفوت المعلق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الاتيان، إلا على القول بالاصل المثبت، و إلا فهو واجب، كما لا يخفى على المتأمل (1)

______________________________

«و اصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار و كشف الخلاف» كما عرفته مفصلا.

(1) قد ذكرنا ان الكلام فيما اذا شك في كون الامارة بنحو الطريقية و السببية في مقامين:

المقام الاول: في الاعادة و هو ما اذا انكشف الخلاف في الوقت و قد عرفت: ان الاصل يقتضي الاعادة.

و المقام الثاني: في القضاء و هو ما اذا انكشف في خارج الوقت، و هو الذي تعرض له بقوله: «و اما القضاء».

و حاصل القول فيه: انه بعد ما عرفت في ان القاعدة في الوقت تقتضي الاعادة لاصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف فهل القاعدة بالنسبة الى القضاء ايضا كذلك، ام انها ليست كذلك فلا يجب القضاء؟

و توضيح الكلام: فيما تقتضيه القاعدة بالنسبة إلى القضاء انه.

اما ان نقول: بان القضاء تابع للاداء: بمعنى ان الامر بالموقت ينحل الى امر بنفس الطبيعة، و امر آخر بها في الوقت، و على هذا فيجب القضاء لاستصحاب بقاء الامر بنفس الطبيعة الى خارج الوقت.

و اما ان نقول بعدم تبعية القضاء للاداء، و انه بامر جديد، لأن الامر بالموقت لا ينحل الى امرين، بل هو امر واحد بالمقيد بالوقت و قد سقط بانتهاء الوقت، فايجاب القضاء في خارج الوقت لا بد و ان يكون لامر جديد بالطبيعة في خارج الوقت، و حينئذ حيث كان لهذا الامر الجديد موضوع و هو عنوان الفوت فلا بد من اثبات موضوعه و هو عنوان الفوت، فان كان الفوت معناه عدم الاتيان بالمامور به في

ص: 487

فتأمل جيدا (1).

______________________________

الوقت فلا بد من القضاء ايضا، لأن المفروض عدم الاتيان بما هو المامور به واقعا في الوقت و الشك في سقوطه لبدله، اذ المفروض انه لم يتحقق كون الامارة على نحو السببية لتثبت البدلية، فلا بد من القضاء لتحقق موضوعه و هو عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف، اذ قد فرضنا ان المراد من الفوت هو عدم الاتيان.

و اما اذا قلنا: بان الفوت هو عنوان ثبوتي ملازم لعدم الاتيان فلا يجب القضاء، لانه بفرض جديد معلق على عنوان ثبوتي مشكوك فيه، و لا مجرى للاستصحاب فيه لعدم اليقين السابق بتحقق عنوان الفوت، و لا ينفع استصحاب عدم الاتيان في اثباته، لانه ملازم لعنوان الفوت، فاثباته له مبني على حجية الاصل المثبت، و الى هذا اشار بقوله: «فلا يجب بناء على انه فرض جديد» لا انه تابع للاداء «و كان الفوت المعلق عليه وجوبه»: أي وجوب القضاء معلق على عنوان الفوت و هو امر ثبوتي لا عدمي، و لذلك «لا يثبت» هذا العنوان الثبوتي «باصالة عدم الاتيان الا على القول بالاصل المثبت و الّا فهو واجب»: أي و ان لم نقل: بان القضاء بفرض جديد: بان نقول بتبعية القضاء للاداء نقول: بان عنوان موضوع القضاء ليس ثبوتيا، بل امر عدمي و هو عدم الاتيان، او نقول: انه ثبوتي و لكن نقول بحجية الاصل المثبت فيجب القضاء.

(1) المعروف عنه (قدس سره) انه لا يشير الى شي ء بقوله: فتامل جيدا، و اشارته الى شي ء تكون بقوله: فافهم او فتامل وحدها من دون الحاقها بشي ء، إلّا انه من الممكن ان يكون هنا قد اشار الى شي ء و هو- انه بعد البناء على ان القضاء بفرض جديد و ان الفوت عنوان ثبوتي- ان المنسوب اليه الفوت اما ان يكون هو التكليف الواقعي الفعلي بقيد الفعلية و على هذا لا فوت، لوضوح ان التكليف الواقعي لم يكن فعليا لاستمرار الجهل به في تمام الوقت، و ان كان المنسوب اليه الفوت هو التكليف الواقعي الذي لو انكشف خلافه في الوقت لكان فعليا، و مثل هذا قد فات من

ص: 488

ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف، من الامارات الشرعية و الاصول العملية، و أما ما يجري في إثبات أصل التكليف، كما إذا قام الطريق أو الاصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لاجزائها مطلقا، غاية الامر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضا ذات مصلحة، كما لا يخفى (1)، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب

______________________________

المكلف، فاذا كان هذا هو موضوع القضاء فيجب القضاء في خارج الوقت لتحقق موضوعه و هو الفوت بالعنوان الثبوتي.

(1) قد عرفت في اول الكلام في الامر الظاهري ان الكلام فيه في مقامين:

الاول: فيما اذا قامت الامارات و الاصول العملية على اثبات متعلق للتكليف، كاثبات جزء او شرط لمتعلق التكليف او نفي جزء او شرط عن متعلق التكليف، و قد مر الكلام فيه.

و المقام الثاني: ان تقوم الامارات او الاصول على اثبات تكليف مستقل غير التكليف الواقعي، كما لو قامت الامارات على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة، او دل استصحاب وجوبها في زمن الحضور على وجوبها في زمن الغيبة فانكشف الخلاف.

و لا يخفى انه اما ان ينكشف الخلاف في الوقت او ينكشف خارج الوقت، فالكلام تارة في الإعادة و اخرى في القضاء.

اما الكلام في الاعادة فنقول: القاعدة تقتضي عدم الاجزاء فلا بد من الاعادة، لأن وجوب صلاة الجمعة اما ان يثبت بالامارة و قلنا بالطريقية في جعل الامارة فلا يتوهم الاجزاء، لعدم حكم على طبق مؤدى الامارة حتى نحتمل كونه وافيا بتمام المصلحة او ببعضها، و شغل الذمة بالظهر يقينا بعد انكشاف الخلاف في الوقت يقتضي الاتيان بمتعلقه.

ص: 489

.....

______________________________

و اما اذا ثبت بالامارة على السببية او بالاصل فانهما و ان دلا على وجود حكم على طبق مؤداهما و هو ذو مصلحة، إلّا انه لا دليل على اجزائه عن صلاة الظهر، لأن الاجزاء انما يكون حيث يكون الحكم الثابت بالامارة السببية أو الاصل بعنوان كونه بدلا عن المامور به الواقعي.

و غاية دلالة الامارة على السببية أو دلالة الأصل كون ما قاما عليه ذا مصلحة و هو صلاة الجمعة، اما كون هذه المصلحة بدلا عن مصلحة الواقع فلا دلالة للامارة و لا للاصل على ذلك بعد كون صلاة الجمعة ماهية اخرى غير ماهية صلاة الظهر، و كون ماهية ذات مصلحة لا يلازمه كون مصلحتها بدلا عن مصلحة ماهية اخرى.

و اما اذا انكشف الخلاف في خارج الوقت، فان قلنا: ان القضاء تابع للاداء فحكمه حكم الاداء، و كما تجب الاعادة في الوقت يجب القضاء في خارجه لاشتغال الذمة بالظهر يقينا و بقاء هذا الامر بعد انقضاء الوقت فلا بد من امتثاله قضاء.

و ان قلنا: القضاء بفرض جديد فالقضاء ايضا يجب، لأن موضوعه محقق و هو فوت الامر المتعلق بالظهر الذي لم تستوف مصلحته لا بتمامها و لا ببعضها، فموضوع القضاء محقق و هو فوت الامر المتعلق بالظهر فلا بد من القضاء، و لذا قال (قدس سره):

«فلا وجه لا جزائها مطلقا»: أي و ان قلنا بالسببية في جعل الامارات او كان القائم على وجوب الجمعة هو الاصل فانه «غاية الامر ان تصير صلاة الجمعة فيها»: أي في يوم الجمعة «ايضا ذات مصلحة لذلك»: أي بقيام الامارة عليها على السببية او قيام الاصل على وجوبها، و كونها صارت صلاة الجمعة ذات مصلحة لقيام الامارة على وجوبها على السببية، او قيام الاصل على وجوبها «لا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة» التي لم تستوف لا باتيان الظهر نفسه و لا باتيان بدله، لما عرفت: من عدم الدليل على كون مصلحة الجمعة بدلا عن صلاة الظهر فلا دليل على الاجزاء و لا بد من الاعادة في الوقت و القضاء في خارجه كما لا يخفى.

ص: 490

صلاتين في يوم واحد (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان الدليل الدال على عدم وجوبين لصلاتين في يوم واحد.

تارة: يكون دالا على عدم وجوبين واقعيين عرضيين: بمعنى ان الشارع لا يشرع- مثلا- وجوب الظهر تامة للحاضر، و وجوب ظهر قصرا لمسافر سافر بعد اداء الظهر التامة، او لا يشرع وجوب ظهر واقعا و وجوب جمعة واقعا، و مثل هذا لا ينفع في الدلالة على الاجزاء، لأن المفروض ان وجوب الجمعة- مثلا- كان ظاهريا و ان كان بناء على السببية هو واقعيا ثانويا الّا انه ليس في عرض وجوب الظهر.

و اخرى: يكون دلالة الدليل على عدم اجتماع وجوبين: بان لا يجتمع وجوبان مطلقا و ان كان احدهما واقعيا و الآخر ظاهريا، و هذا ايضا على نحوين:

لانه تارة: تكون دلالته انه اذا قام عندك دليلان في يوم واحد على وجوب الظهر واقعا، و دليل ظاهري على وجوب الجمعة فان احدهما مرتفع، فهو كعلم اجمالي بعدم وجوب احدهما فتقع بين الدليل الواقعي و الظاهري معارضة او مزاحمة، فلا بد من الرجوع الى ما تقتضيه قواعد المعارضة او المزاحمة.

و اخرى: يكون الدليل الدال على عدم اجتماع وجوبين واردا بنحو المنة و يكون مورده من اتى بالمامور به الظاهري، لوضوح ان من اتى بالمامور به الواقعي لا يقوم له دليل على وجوب ظاهري، و حينئذ لا بد من الاجزاء بمعنى سقوط الامر الواقعي، و عدم لزوم امتثاله لتدارك مصلحته بمصلحة الامر الظاهري، و مراد المصنف (قدس سره) لا بد و ان يكون هذا الاخير لانه استثنى من حكمه بعدم الاجزاء مطلقا في مقام اتى المكلف بالمامور به الظاهري على السببية ثم انكشف الخلاف، لانه قال (قدس سره): «كما اذا قام الطريق او الاصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة فانكشف الخلاف بعد ادائها» ثم حكم بعدم الاجزاء مطلقا ثم قال:

«إلّا أن يقوم دليل بالخصوص ... الى آخر كلامه» فمقتضى كلامه هو الاخير، و قد عرفت انه يدل على الاجزاء.

ص: 491

تذنيبان الاول: لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ، فإنه لا يكون موافقة للامر فيها، و بقي الامر بلا موافقة أصلا، و هو أوضح من أن يخفى (1)، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، و لو في غير الحال، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منه، و معه لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي (2)، و هكذا الحال في الطرق، فالاجزاء ليس لاجل اقتضاء امتثال 73]

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 1 ؛ ص492

______________________________

(1)

تذنيبان

لا يخفى ان القطع حجيته غير مجعولة، لأن ذاته و حقيقته عين الانكشاف، فلا يعقل جعل الانكشاف له، و لا يعقل ايضا جعل لوازمه من المنجزية لو اصاب، و المعذرية لو خالف، لما سيأتي في مباحث القطع: من عدم امكان ذلك، و على فرض جعل حجيته بمعنى منجزيته و معذريته فليس على طبقه حكم مجعول حتى يمكن ان يكون بدلا عن الواقع، فاذا انكشف الخلاف فلا بد من الاعادة في الوقت لشغل الذمة بالحكم الواقعي، و لم يسقط لا باتيان المامور به و لا باتيان بدله، و كذلك القضاء لفوت المامور به في الوقت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء، فالقاعدة تقتضي عدم الاجزاء و لذا قال (قدس سره): «لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ فانه»: أي في صورة الخطأ لم يات بما هو المامور به واقعا و حينئذ «لا يكون موافقة للامر فيها»: أي في صورة الخطا «و بقي الامر بلا موافقة اصلا».

(2) لا يخفى انه قد دل الدليل الخاص في موردين على اجزاء ما اتى به غير العامد، مع كون ما اتى به مخالفا للواقع: و هما مورد الاتيان بالتمام للمسافر الذي حكمه القصر، و الاتيان بالصلاة الجهرية لمن حكمه الاخفات او بالعكس: أي الاتيان بالصلاة الاخفاتية لمن حكمه الجهر، كقراءة العصر جهرا، او قراءة المغرب اخفاتا.

و قد دل الدليل ايضا على عدم الاجزاء فيما لو فعل ذلك عمدا لا خطأ، لوضوح انه لا يجوز للمسافر ان يصلي تماما عمدا، و لا يجوز للمكلف ان يجهر و يخفت عمدا،

ص: 492

.....

______________________________

اما لو فعل ذلك خطأ فأتى بالمخالف للواقع فقد دل الدليل على اجزائه في مرحلة الاثبات.

و اما في مرحلة الثبوت و تصوير امكان الاجزاء مع اتيانه بغير ما هو المامور به الذي عرفت سابقا انه لا وجه لاجزائه.

فنقول: ان الاجزاء ليس لحجية القطع و انما هو لكون ذات ما اتى به في حال كون المكلف قاطعا: بان امره هو التمام او الجهر أو الاخفات مشتملا على تمام مصلحة المامور به الواقعي، و الى هذا اشار بقوله: «نعم ربما يكون ما قطع بكونه مامورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال»: أي في حال كونه قاطعا مشتملا على تمام المصلحة، و يعلم ان مراده تمام المصلحة من قوله بعد هذا: «او على مقدار منها».

لا يقال: انه من البعيد ان يكون ذات ما اتى به الناقص عن المامور به الواقعي يكون المتمم لنقصانه صفة القطع.

فانه يقال: لا يلزم ان يكون المتمم لنقصانه هو صفة القطع، بل المتمم هو المنة و مصلحة التسهيل، او انه يكون هذا الناقص بذاته مشتملا على بعض مصلحة الواقع، و يكون المتروك مشتملا على مصلحة ملزمة، إلّا ان هذه المصلحة في المتروك لا يمكن استيفاؤها اذا اتى المكلف بالناقص و لو لم يكن قاطعا، بل كان ظانا او محتملا و اهمل الفحص و تاتي منه قصد القربة و لو غفلة، و لا يعقل ان يكون في حال عدم القطع ذات ما اتى به مشتملا على تمام المصلحة، لوضوح انه لو كان كذلك لما كان الامر في حال العلم تعيينيا في الاتيان بما هو تام و غير ناقص، بل لا بد و ان يكون تخييريا، لانه اذا فرض كون ذات ما ياتي به الذي هو الناقص مشتملا على تمام المصلحة سواء كان قاطعا انه هو التام او كان غير قاطع فيكون ذات هذا الناقص مشتملا على تمام المصلحة مثل التام، و اذا كان كذلك لا بد من الامر بالتخيير بين هذا الناقص و التام، و لا يكون الامر تعيينيا بالتام في حال من الاحوال اصلا، و لذا قال (قدس سره): «او على مقدار منها»: أي من المصلحة «و لو في غير الحال»: أي

ص: 493

الامر القطعي أو الطريقي للاجزاء بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الاتمام و القصر، و الاخفات و الجهر (1).

______________________________

و لو في غير حال القطع، إلّا ان هذا المقدار من المصلحة يكون «غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منه»: أي يكون الباقي غير ممكن الاستيفاء مع الاتيان بالناقص، و الامر انما كان تعيينيا بما هو تام في حال العلم لاجل ان لا تفوت هذه المصلحة اللازمة. و لا في هذين التصويرين من الاجزاء.

لكونه على الاول و هو ما اذا اتى به قاطعا انه هو الواقع مشتملا على تمام مصلحة الواقع، و ان كان ما اتى به ناقصا و مخالفا للواقع، لفرض تتميم مصلحة الواقع بمصلحة التسهيل، او غيرها من المصالح فيسقط المامور به الواقعي لاستيفاء تمام مصلحته.

و اما على التصوير الثاني فيسقط الامر الواقعي لكون الباقي من مصلحته غير ممكنة الاستيفاء بعد الاتيان بالناقص المخالف له، و لذا قال (قدس سره): «و معه»:

أي و مع ما ذكره من هذين التصويرين «لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي».

(1) أي ان الحال في الامارات على الطريقية حالها حال القطع، لأن المجعول فيها هو المنجزية و المعذرية، و ليس على طبقها حكم مجعول، فالقاعدة تقتضي عدم الاجزاء عند انكشاف الخلاف فلا بد من الاعادة و القضاء، فاذا قام عند المكلف طريق معتبر في ان المسافة ثمانية فراسخ امتدادية لا ملفقة فاتى بالتمام بعد تجاوز الاربعة، ثم انكشف له ان المسافة الملفقة توجب القصر، أو قام عنده الطريق على وجوب الجهر في ظهر الجمعة ثم انكشف له الخلاف، و انه لا بد فيها من الاخفات- مثلا- فالقاعدة تقتضي عدم الاجزاء، إلّا انه قام الدليل الخاص على الاجزاء فلا بد و ان يكون ما أتى به مشتملا على تمام المصلحة بتتميم ما فات من مصلحة الواقع بمصلحة التسهيل فيما اذا انكشف له الخلاف بالعلم: بان ما أتى به ليس هو الواقع، و لم يكن له طريق آخر من الشارع قد اخطأه، و انما حصل له العلم من باب الصدفة الشاذة

ص: 494

الثاني لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الاصول و الطرق و الامارات، على ما عرفت تفصيله، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها، فإن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل، ليس إلا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، و هو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات، و إنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي، و هو منفي في غير موارد الاصابة، و إن لم نقل

______________________________

النادرة الوقوع، و اما على المعتاد فلا ينكشف له الخلاف و يكون دائما يأتي بما هو الناقص استنادا الى جعل الطريق، و مع هذا دل الدليل على الاجزاء فحينئذ لا بد و ان يكون الناقص المستند في اثباته الى الطريق المعتبر متمما لما فات من مصلحة الواقع لمصلحة التسهيل- مثلا- لئلا يلزم على الحكيم تفويت المصلحة اللازمة، و اما اذا كان له طريق آخر قد جعله له الشارع، و لكنه هو قد اخطأه و توهم ان الطريق غيره، و مع ذلك قد دل الدليل على الاجزاء، فهنا لا بأس: بان يكون ما أتى به مشتملا على بعض المصلحة و تكون المصلحة الباقية من الواقع غير ممكنة الاستيفاء بعد الاتيان بالناقص.

فاتضح مما ذكرنا: ان الاجزاء في ما ذكرنا من القطع و الامارات على الطريقية ليس للحجية الذاتية او المجعولة، بل الاجزاء لكون ما اتى به بذاته من باب الصدفة و الاتفاق مشتملا على تمام المصلحة تارة، و على بعضها اخرى، و ليس لنفس حجية القطع او الامارات على الطريقية اقتضاء للاجزاء، و لذا قال (قدس سره): «فالاجزاء ليس لاجل اقتضاء الامر القطعي» التخيلي «او الطريقي» التخيلي تارة و غير التخيلي اخرى «للاجزاء بل انما هو»: أي الاجزاء «لخصوصية اتفاقية في متعلقها» أي ذات ما أتى به.

ص: 495

بالاجزاء، فلا فرق بين الاجزاء و عدمه، إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري، و عدم سقوطه بعد انكشاف عدم الاصابة، و سقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه، و هو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الامارة (1)، كيف و كان الجهل بها بخصوصيتها أو بحكمها مأخوذا

______________________________

(1) قد عرفت ان الاجزاء في الامر الاضطراري في موارد الاصول و في الامارات على السببية هو سقوط الامر الواقعي ببدله، لوفاء البدل بتمام المصلحة او لكون الباقي من مصلحة الواقع لا يمكن تداركها، و في القطع و الامارات على الطريقية فيما اذا دل الدليل على الاجزاء فلا بد من كون متعلقها من باب الاتفاق كذلك، اما وافيا بتمام المصلحة في الامر الواقعي او بمقدار لا يمكن معه التدارك، ففي جميع موارد الاجزاء هناك حكم واقعي، غايته انه في غير القطع و الامارات على الطريقية الدال على وفاء المأتي به بمصلحة المامور به الواقعي هو الامر بالبدل، و في القطع و الطرق دلالة دليل خارجي على كون متعلقهما من باب الاتفاق موجبا لسقوط الامر الواقعي، ففي جميع موارد الاجزاء الحكم الواقعي متحقق، و بعد الاتيان بما يقتضي سقوطه به لتحمله لمصلحته يسقط.

و يظهر من رسائل الشيخ الانصاري تبعا لتمهيد قواعد الشهيد: ان الاجزاء لازم مساو للتصويب الباطل، و لم يتضح مراد هذين العلمين، لأن التصويب الباطل اما عقلا او إجماعا هو:

- اما ان لا يكون حكم واقعي اصلا يشترك فيه العالم و الجاهل، و انما الحكم الواقعي ما ادى اليه رأي المجتهد.

- و اما ان يكون هناك احكام واقعية بعدد آراء المجتهدين.

- و اما ان يكون هناك حكم واقعي واحد، و لكنه بقيام الامارة على خلافه يضمحل و يفنى، و يكون الحكم الواقعي هو مؤدى الامارة.

ص: 496

.....

______________________________

و لا يلزم من الاجزاء التصويب بالمعنى الاول، و لا بالمعنى الثاني، لوضوح ان المفروض في موارد الاجزاء وجود حكم واقعي واحد يسقط باتيان بدله، و ذلك الحكم الواقعي الواحد هو الذي يشترك فيه العالم و الجاهل، و في التصويب بالمعنى الاول لا حكم واقعي اصلا حتى يشترك فيه العالم و الجاهل، و في التصويب بالمعنى الثاني الاحكام الواقعية متعددة، و المفروض في موارد الاجزاء حكم واقعي واحد يشترك فيه العالم و الجاهل و لكنه يسقط باتيان بدله.

و في التصويب بالمعنى الثالث ان الحكم الواقعي يضمحل بمجرد قيام الامارة على خلافه، و في موارد الاجزاء لا يضمحل و لا يفنى بمجرد قيام الامارة، بل يبقى الى زمان الاتيان بمتعلق الامارة و انما يسقط لحصول مصلحته ببدله.

و يمكن ان يكون مراد هذين العلمين من التصويب اللازم في الاجزاء هو عدم وجود حكم واقعي فعلي بعثي او زجري في موارد الاجزاء.

و يرد عليه اولا: بعد تسليم تسمية هذا تصويبا انه ليس من التصويب الباطل لا عقلا و لا اجماعا.

و ثانيا: ان عدم كون الحكم الواقعي بمرتبة البعث و الزجر لا يختص بمورد الاجزاء، بل هو لازم حتى على القول بعدم الاجزاء، لوضوح ان الحكم الواقعي في مقام القطع بخلافه او قيام الامارة على خلافه بناء على الطريقية لا يكون الحكم الواقعي بمرتبة البعث و الزجر، اذ لا يعقل ان يصل الى هذه المرتبة الّا حيث يمكن ان يكون باعثا و زاجرا، و في قيام القطع و الامارات على خلافه لا يمكن ان تتأتى منه الباعثية و الزاجرية، و الحكم الموجود على القول بالاجزاء و عدمه هو الحكم الانشائي الذي بنوع من انواع الوصول يكون باعثا و زاجرا، و الحكم بهذه المرتبة الانشائية هو الفعلي من قبل المولى، و لذا قال (قدس سره): «فان الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها»: أي في موارد الاجزاء و هو مورد بعض الاصول كقاعدة الطهارة و الحلية و الاستصحاب على وجه، و موارد الطرق و الامارات على السببية أو على الطريقية،

ص: 497

.....

______________________________

و كان ما قامت عليه الامارة وافيا بالمصلحة من باب الاتفاق على ما تقدم مفصلا «فان الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل» ليس هو الحكم الفعلي البعثي، و انما الحكم المشترك بين العالم و الجاهل «ليس الّا الحكم الانشائي» الذي هو الفعلي من قبل المولى «المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية بحسب ما يكون فيها من المقتضيات»: أي بحسب ما يكون في تلك الموضوعات من المصالح التي هي المقتضيات لتلك الاحكام بعناوينها الواقعية «و هو ثابت»: أي الحكم الانشائي الذي هو الفعلي من قبل المولى ثابت «في تلك الموارد»: أي في موارد الاصول و الامارات على السببية «كسائر موارد الامارات» على الطريقية لا فرق بينهما، و المنفي في موارد الاجزاء هو الحكم الفعلي البعثي و لذا قال: «و انما المنفي فيها ليس الّا الحكم الفعلي البعثي» و هذا الحكم الفعلي البعثي كما انه منفي في موارد الاجزاء، كذلك هو منفي في الامارات على الطريقية و لذا قال: «و هو منفي في غير موارد الاصابة و ان لم نقل بالاجزاء» لانه في موارد الاصابة على الطريقية تنجز الحكم الواقعي فيكون الحكم الانشائي فعليا بعثيا منجزا.

فاتضح مما ذكرنا: انه لا فرق بين القول بالاجزاء و عدمه في كون في كل منهما الحكم الانشائي الذي هو الفعلي من قبل المولى موجودا، و انما الفرق بين القول بالاجزاء و عدم الاجزاء هو سقوط هذا التكليف الواقعي بعد الاتيان بما قامت عليه الامارة او اقتضته الاصول على القول بالاجزاء، و عدم سقوطه على القول بعدم الاجزاء، و لذا قال (قدس سره): «فلا فرق بين الاجزاء و عدمه الّا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري و عدم سقوطه بعد انكشاف عدم الاصابة».

و اتضح ايضا مما ذكرنا: ان «سقوط التكليف» الواقعي الانشائي «بحصول غرضه» في الاتيان ببدله «أو» سقوطه «لعدم امكان تحصيله»: أي تحصيل الباقي من غرضه بعد اتيان ما يفي ببعض الغرض هو «غير التصويب المجمع على

ص: 498

في موضوعها، فلا بد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها كما لا يخفى (1).

______________________________

بطلانه و هو خلو الواقعة عن الحكم» اصلا، و ان لا يكون هناك حكم «غير ما أدّت اليه الامارة» و ايضا لا يلزم التصويب بالمعنى الثاني و هو تعدد الاحكام الواقعية، و ايضا لا يلزم التصويب بالمعنى الثالث و هو اضمحلال الحكم الواقعي بمجرد قيام الامارة، بل الحكم الواقعي موجود في حال قيام الامارة على خلافه، و انما يسقط على الاجزاء لاستيفاء تمام الغرض ببدله، او يبقى منه ما لا يمكن استيفاؤه.

(1) هذا الرد الذي اشار اليه بقوله: «كيف» على من يقول: بان القول بالاجزاء لازم مساو للتصويب مربوط بالتصويب بالمعنى الاول، و هو الذي ذكره بقوله (قدس سره): «و هو خلو الواقعة عن الحكم».

و اما التصويب بالمعنى الثاني فلا ينفيه الّا كون الموضوع في الامارة هو الجهل بالحكم الواقعي الواحد المشترك.

و اما التصويب بالمعنى الثالث فلا ينفيه الّا ان كون الموضوع في الامارة هو الجهل بالحكم الواقعي الواحد المشترك موضوعا لها حدوثا و بقاء.

و على كل فحاصله: انه كيف يمكن القول بلزوم التصويب على القول بالاجزاء في موارد قيام الامارة أو الاصول على الخلاف، و الحال ان الموضوع في الاصول هو الجهل بالحكم الواقعي، اما بخصوصيته كما في موارد الشبهة الموضوعية، أو الجهل بنفس الحكم الواقعي كلية و هو موارد الشبهة الحكمية، فانه في الأول الحكم الواقعي كلية ليس بمجهول، بل المجهول خصوصية تحققه و انطباقه بالفعل، و في الثاني نفس الحكم بكليته مجهول، فان الموضوع في موارد الاصول هو الشك بالحكم الواقعي، كقوله عليه السّلام: (مشكوك الطهارة طاهر)(1)

ص: 499


1- 74. ( 1) قد أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 2: 1054/ 1 باب 37 من أبواب النجاسات.

.....

______________________________

و قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)(1) فان الشك الذي هو الموضوع في الاصول هو الشك في الحكم الواقعي اما بخصوصيته أو بنفسه.

و اما في مورد الامارات فان لسانها و ان كان لسان صدق العادل، و لم يؤخذ الشك في الحكم الواقعي في لسان دليلها، إلّا انه من المعلوم انه لا معنى لجعل الامارات في مورد العلم بالحكم الواقعي، فالامر بتصديق العادل انما هو في مقام الشك في الحكم الواقعي و عدم تحقق العلم به.

فتبين ان في موارد الاصول و الامارات الجهل بالحكم الواقعي مأخوذا في موضوعها، و اذا كان ماخوذا في موضوعها فلا بد من ان يكون الحكم الواقعي بمرتبته الانشائية التي هي تمام ما هو فعلي من قبل المولى موجودا و محفوظا في موارد الاصول و الامارات. فكيف؟ يلزم من القول بالاجزاء التصويب الذي هو خلو الواقعة عن الحكم الواقعي، و لذا قال (قدس سره): «كيف»: أي يلزم التصويب من القول بالاجزاء «و كان الجهل بها»: أي الجهل بحكم الواقعة «بخصوصيتها» كما في موارد الشبهة الموضوعية «أو بحكمها» كما في موارد الشبهة الحكمية «ماخوذا في موضوعها»: أي في موضوع الاصول و الامارات، و اذا كان الشك بالحكم الواقعي ماخوذا في «موضوعها فلا بد من ان يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها» نعم اللازم من تحققه في موارد الامارات هو اجتماع الحكم الظاهري و الواقعي، و سيأتي الكلام فيه، و في كيفية الجمع بينهما في مباحث الظن- ان شاء اللّه تعالى-.

ص: 500


1- 75. ( 1) الوسائل ج 1: 174/ 1 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.

الفهرس

ص: 501

ص: 502

الفهرس

موضوع العلم 1

تمايز العلوم 11

موضوع علم الاصول 14

تعريف علم الاصول 22

في الوضع 24

أقسام الوضع 26

تحقيق المعنى الحرفي 29

الخبر و الانشاء 36

اسماء الاشارة 38

في كيفية المجاز 40

استعمال اللفظ في اللفظ 41

الدلالة هل تتبع الارادة ام لا؟ 48

هل للمركبات وضع مستقل؟ 54

علامات الحقيقة و المجاز 56

التبادر 57

صحة السلب 59

الاطراد و عدمه 63

تعارض الاحوال 65

ثبوت الحقيقة الشرعية و عدمه 68

في الصحيح و الاعم 81

وضع الفاظ العبادات 105

ص: 503

في الاشتراك 143

استعمال اللفظ في اكثر من معنى 149

في المشتق 163

اسم الزمان 175

الافعال و المصادر 178

دلالة الفعل على الزمان 179

امتياز الحرف عن الامر و الفعل 188

اختلاف مبادئ المشتقات 193

المراد بالحال 196

تأسيس الاصل 204

الخلاف في المشتق 207

تبادر التلبس 209

صحة السلب عن المنقضي 210

المضادة دليل الاشتراط 211

اشكال على صحة السلب 222

ادلة كون المشتق حقيقة في المنقضي 227

مفهوم المشتق 242

الفرق بين المشتق و المبدأ 268

دفع اشتباه الفصول 274

كيفية جري الصفات على اللّه تعالى 278

كيفية قيام المبادئ بالذات 280

ص: 504

معاني لفظ الامر 295

اعتبار العلو في الامر 302

افادة الامر الوجوب 305

الطلب و الارادة 314

معاني صيغة الامر 351

في ان الصيغة حقيقة في أي معنى 358

الجمل الخبرية المستعملة في الطلب 363

دلالة صيغة الامر على الوجوب 369

في التعبدي و التوصلي 373

مقتضى اطلاق الصيغة 406

الامر عقيب الحظر 409

في المرة و التكرار 414

المراد بالمرة و التكرار 423

فيما يحصل به الامتثال 429

في الفور و التراخي 435

الاتيان فورا ففورا 441

في الاجزاء 443

الفهرس 503

ص: 505

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.